لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كلمة المحقّق

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل بريّته ، وأشرف خليقته ، محمد خاتم أنبيائه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، عيبة علمه وحفظة سننه وخلفائه في أمّته.

أمّا بعد : فإنّ مسألة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي دام النزاع والبحث فيها عبر قرون ، فاختارت كل طائفة مذهبا.

فمن قائل إنّه ليس للإنسان أيّ دور في فعله وعمله وإنّه مكتوف اليدين ، مسيّر في حياته يسير على ما خطّ له من قبل.

إلى تفويضي يثبت له قدرة وإرادة مستقلة ، وكأنّه إله آخر في الأرض ، مستغن عن ربّه في فعله. ولكن مذهب الحق هو المذهب الوسط بين الجبر والتفويض ، الذي تبناه القرآن الكريم والسنّة النبوية ، وركّز عليه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وهو

٣

الموافق للعقل والبرهان.

وقد ألّفت حول المسألة رسائل وكتب كثيرة متوفرة بين السنة والشيعة لا مجال لذكر أسمائها وعناوينها.

وقد عثرت في هذا الموضوع على رسالتين كريمتين ، وكنزين ثمينين.

إحداهما : للسيد القائد آية الله العظمى الامام الخميني قدس سرّه وقد اسماها ب «لب الأثر في الجبر والقدر» وهي بقلم سيّدي الوالد تقريرا لدروس استاذه الامام ، وقد القاها عام ١٣٧١ ه‍ ق ، فكانت كنزا مستورا ، فقمت بإعدادها للنشر وتخريج احاديثها ومصادرها.

ثانيتهما : ما حرّرها الوالد بقلمه الشريف في هذا المجال في دوراته الأصولية ، وقد أكملها دورة بعد دورة حتى بلغت في الدورة الرابعة الكمال المطلوب ، فقمت أيضا بإعدادها وتنسيقها.

فها أنا أنشر تينك الرسالتين. وأرجو من الله سبحانه أن يتقبّل عملي ويجعله خالصا لوجهه الكريم ، انّه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

سعيد السبحاني

١٤ شهر ذي القعدة الحرام

من شهور عام ١٤١٨ ه

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي تقدّس عن وسمة الحدوث والعوارض ، وعظم سلطانه عن الشريك والمعارض ، فله الشكر الأوفى وله العظمة والعلى.

والصلاة والسلام على صاحب الآيات البيّنات ، والمعجزات الباهرات ، الذي أكمل به الدين وأتمّ به النعمة ، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

أمّا بعد :

فلمّا انتهى بحث سيدنا الأستاذ ـ علم العلم وتيّاره ، وكعبة الفضل ومناره ، من انتهت إليه رئاسة التدريس في العصر الحاضر ـ سيدنا وأستاذنا الكبير آية الله العظمى الحاج السيد «روح الله الموسوي الخميني» ـ دام ظلّه الوارف ـ إلى مسألة اتّحاد الطلب

٥

والإرادة وانجرّ البحث إلى مسألة الجبر والتفويض ، ألحّ عليه روّاد العلم وطلّاب الحقيقة أن يغور في بحارها ، ويخوض في عبابها ، فلبّى دعوتهم ، وأجاب مسئولهم ، فأتى في بحوثه بأفكار أبكار ، وآراء ناضجة ، وطرح المسألة بشكل لم يسبق إليه سابق.

وقد اغتنمت الفرصة فأوردت ما أفاده في قالب التأليف ، وأفرزته عن سائر المسائل الأصولية لغزارة مطالبه وكثرة مباحثه ، وقد عرضته عليه (دام ظله) فاستحسنه وأسماه «لبّ الأثر في الجبر والقدر». وأرجو من الله سبحانه أن يكون مصباحا ينير الطريق لروّاد العلم وبغاة الفضيلة. (١)

قم

جعفر السبحاني

تحريرا في جمادى الأخرى

من شهور عام ١٣٧١ ه‍ ق

__________________

(١). وقد قدمته للطبع بعد مضي سبع وأربعين سنة من تاريخ تحريره ولم أتصرف فيه إلّا اليسير مما يرجع الى اصلاح العبارة وتبيين المقصود.

٦

الفصل الأوّل

مقدمة البحث

٧
٨

وقد ذكر (دام ظله) قبل الخوض في المقصود أمورا نأتي بها واحدا تلو الآخر.

الأوّل : السير التاريخي للمسألة

إنّ مسألة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي شغلت بال الحكماء والفلاسفة منذ عصور قديمة ، وكانت مطروحة على بساط البحث بين حكماء الإغريق (١) إلى أن طلعت شمس الإسلام وبزغ نوره ، فتداولت المسألة بين حكماء الإسلام ومتكلّميه ، نجم عنها فيما بعد ، آراء ونظريات بين الإفراط والتفريط.

فمن ذاهب إلى الجبر وأنّ أفعال العباد مخلوقة لله تبارك وتعالى ، كخلق أجسامهم وطبائعهم ، وليس للعباد فيها صنع حتى قيل بعدم الفرق بين حركة يد الكاتب والمرتعش ؛ إلى آخر

__________________

(١). يطلق الإغريق ويراد منه ـ اليونان ـ والنسبة الإغريقي ، جمعه الأغارقة.

٩

ذاهب إلى التفويض وأنّ أفعال العباد مفوّضة إليهم مخلوقة لهم ، لا صلة لها بالله سبحانه سوى انّه أقدر العبد على العمل ، وليس له تعالى إرادة ومشيئة متعلّقة بأفعالهم بل هي خارجة عن نطاق إرادته ومشيئته.

وقد أقام كلّ من الطائفتين دلائل وبراهين على مذهبه سوف نقوم باستقصائها إن شاء الله تعالى.

والمذهب الحق هو مذهب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من نفي الجبر والقدر (١) ، وأنّ الحقيقة في أفعال العباد هو الأخذ بالأمر بين الأمرين ، فلا جبر حتى تسلب المسئوليّة عن الإنسان ليكون بعث الأنبياء سدى ، وجهود علماء التربية وزعماء الإصلاح عبثا ، ولا تفويض حتى يقوّض أصل التوحيد في الخالقية ويؤلّه الإنسان ويكون خالقا ثانيا في مجال أفعاله ، يخرج بذلك بعض ما في الكون عن إطار إرادة الله ومشيئته.

الثاني : صفاته تعالى عين ذاته

اتّفق الحكماء والمتكلّمون على أنّ له سبحانه صفات جمال

__________________

(١). المراد من القدر هنا التفويض ، وقد استعمل القدر على لسان أئمة أهل الحديث في المفوضة ، وقد ذكرنا ما يفيدك حول هذا اللفظ في الجزء الأوّل من كتابنا بحوث في الملل والنحل. لاحظ ص ١١١ ـ ١١٧.

١٠

وكمال ، ويعبّر عنها بالصفات الجمالية والكمالية والثبوتية ، كالعلم والقدرة والحياة وغيرها ، ولكن اختلفوا في كيفية وصفه سبحانه بها ، وملاك الاختلاف هو :

إنّ بساطة الذات وعدم تركّبها عقلا وخارجا تأبى عن وصفها بأوصاف كثيرة في مرتبة الذات ، فإنّ حيثية العلم غير حيثية القدرة كما أنّهما غير حيثية الحياة ، فكيف يمكن أن يجتمع وصف الذات بالبساطة مع وصفها بالعلم والقدرة والحياة في مقام الذات؟

وقد تخلّصت كلّ من الأشاعرة والمعتزلة عن هذا المأزق بنحو خاص.

فذهبت الأشاعرة إلى أنّ هذه الصفات ليست صفات ذاتية وإنّما هي من لوازم الذات ، ففي مقام الذات لا علم ولا قدرة ولا حياة ، وإنّما تلازمها هذه الأوصاف دون أن يكون بينهما وحدة في الوجود والتحقّق.

ولمّا استلزم ذلك القول بوجود القدماء الثمانية المركبة من الذات والأوصاف الثبوتية السبعة ، ذهبت المعتزلة إلى نفي الصفات عنه تعالى بتاتا لا في مرتبة الذات ولا في مرتبة الفعل ،

١١

بل قالوا إنّ ذاته نائبة مناب الصفات ، بمعنى أنّ خاصية العلم تترتّب على الذات دون أن يكون هناك علم وراءها ، كما أنّ أثر القدرة التي هي إتقان الفعل يترتّب على ذاته دون أن يكون هناك قدرة وراءها ، فما يتوقع من الصفات كالكشف في العلم وإتقان الفعل في القدرة يترتّب على ذاته من دون أن يكون لتلك الأوصاف وجود وتحقّق في مرتبتها ، وقد اشتهر عنهم قولهم : «خذ الغايات واترك المبادئ».

لنذكر شيئا حول النظريتين وإن كانتا خارجتين عن محطّ البحث.

أمّا الأشاعرة ، فقد حاولوا الحفاظ على بساطة الذات بإخراج الصفات الثبوتية عن حدّ الذات وجعلها في مرتبة تالية لازمة لها قديمة مثلها إلا أنّهم وقعوا في ورطة القول بالقدماء الثمانية ، فصار الإله الواحد تسعة آلهة ، وهو أشبه بالفرار من محذور إلى آخر أفسد منه.

أضف إليه أنّ لهذا القول مضاعفات نشير إلى اثنين منها :

١. لو كانت زائدة على الذات كانت مرتبة الذات خالية عنها وإلّا لكانت مرتبة الذات عين تلك السلوب لهذه الكمالات ،

١٢

والخلو إن كان موضوعه الماهية كان إمكانا ذاتيا ، لكن لا ماهية للواجب تعالى ، فموضوع ذلك الخلو وجود صرف هو حاق الواقع وعين الأعيان ، وإن كان موضوعه هو الإمكان الاستعدادي القائم بالمادّة ، والمادة لا بدلها من صورة والمركّب منهما جسم ، يلزم كونه سبحانه جسما تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. (١)

٢. ما اعتمد عليه سيدنا الأستاذ (دام ظله) وحاصل ما أفاد أنّ الوجود في أيّ مرتبة من المراتب فضلا عن المرتبة العليا لا ينفكّ عن الكمال ، أي العلم والشعور والقدرة والإرادة ، فكلّ مرتبة من مراتب الوجود ، تلازم مرتبة من مراتب الكمال ، فإذا كانت الذات في مرتبة تامّة من الوجود يستحيل انفكاك الكمال التام عنها.

برهانه : أنّ الكمالات المتصوّرة من العلم والإرادة والقدرة والحياة إمّا من آثار الوجود أو من آثار الماهية أو من آثار العدم ، ولا شك في بطلان الثالث ، فدار الأمر بين رجوعه إلى الماهية أو الوجود ، وحيث إنّ الماهية أمر اعتباري لا تتأصّل إلّا بالوجود ، فتنحصر الواقعية بالوجود.

__________________

(١). لاحظ تعليقة المحقق السبزواري على الأسفار : ٦ / ١٣٣.

١٣

وعلى صعيد آخر : إنّ الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة ، فكل مرتبة من مراتب الوجود غير خالية عن أصل الحقيقة (الوجود) وإنّما تختلف فيه شدّة وضعفا ؛ فيستنتج من هذين الأمرين :

١. أصالة الوجود واعتبارية الماهيات.

٢. أنّ الوجود حقيقة واحدة سارية في جميع المراتب.

عدم انفكاك الكمالات عن حقيقة الوجود في عامة المراتب خصوصا في المرتبة التامّة ، أعني : صرف الوجود وبحته. (١)

وبذلك يظهر وهن نظرية المعتزلة أيضا حيث أنكروا صفاته تعالى من رأس تخلّصا من ورطة القدماء الثمانية ، بيد أنّهم وقعوا في محذور آخر وهو : خلوّ الذات عن الصفات وقيامها مناب الصفات ، إذ يردها كلا الأمرين أيضا :

أ. إنّ موضوع الخلو إمّا الإمكان الماهوي أو الإمكان الاستعدادي.

ب. الوجود لا ينفك عن العلم وسائر الكمالات.

ثم إنّ المراد من عينية الصفات للذات ليس اتّحاد مفاهيمها

__________________

(١). ثمّة براهين أخرى لاتّحاد الصفات مع الذات ذكرها صدر المتألّهين في أسفاره : ٦ / ١٣٣ ـ ١٣٦.

١٤

مع الذات أو اتّحاد مفاهيم بعضها مع الآخر ، لأنّ المفاهيم من مقولة الماهيات وهي مثار الكثرة ، كما أنّ الوجود مدار الوحدة ، بل المراد وحدة واقعية هذه الصفات مع واقعية الذات ، وانّ الذات بوحدتها كافية في انتزاع هذه الصفات عنها وأنّها بصرافتها وخلوّها عن أيّ شيء غير الوجود ، كاف في الحكم عليها بالعلم والقدرة والحياة.

الثالث : الإرادة الذاتية لله سبحانه

اتّفق أهل الحديث على نفي الإرادة الذاتية وأنّ إرادته سبحانه هي إحداثه وإيجاده تمسّكا بالروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

ولكن سلب الإرادة الذاتية عنه سبحانه يستلزم خلوّ الذات عن الكمال المطلق للموجود بما هو موجود ، وتصوّر ما هو أكمل منه ژ تعالى ، لأنّ الفاعل المريد ، أفضل وأكمل من الفاعل غير المريد ، فيكون سبحانه كالفواعل الطبيعية غير المريدة التي تعد من مبادئ الآثار.

وأمّا موقف الروايات التي رويت عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فالإمعان فيها يعرب عن أنّها بصدد نفي الإرادة الحادثة

١٥

المتدرّجة عنه سبحانه.

روى صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال : «الإرادة من الخلق : الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله : الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له» (١).

ترى أنّ الراوي يسأل الإمام عن واقع الإرادة في الواجب والممكن ، فبما أنّ واقعها في الممكن هي الإرادة الحادثة ، فنفاها الإمام عن الله سبحانه وفسّرها بالإحداث والإيجاد ، فلو أثبّت الإمام في هذا المجال إرادة ذاتية له سبحانه مقام الذات ، لأوهم ذلك إنّ أرادتها كإرادة الإنسان الحادثة ، مثلا إنّه سبحانه كالإنسان يروّي ويهمّ ويتفكّر ، فمثل هذه الرواية وأضرابها ليست بصدد نفي الإرادة الذاتية بتاتا ، بل بصدد نفي الإرادة الحادثة ـ كالإرادة البشرية ـ في مقام الذات.

__________________

(١). الكافي : ١ / ١٠٩ ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل.

١٦

شبهة نفاة الإرادة الذاتيّة

ثم إنّ نفاة الإرادة في ذاته سبحانه تمسّكوا ببرهان عقلي مفاده أنّ القائلين بالإرادة الذاتية لله سبحانه يفسّرونها بعلمه المحيط ، ولكن إرادته لا تصحّ أن تكون عين علمه ، لأنّه يعلم كلّ شيء ولا يريد كل شيء ، إذ لا يريد شرا ولا ظلما ولا كفرا ولا شيئا من القبائح والآثام ، فعلمه متعلّق بكل شيء وإرادته ليست كذلك ، فعلمه عين ذاته ، أمّا إرادته فهي صفة زائدة على ذاته.

فهذه شبهة قد احتجّ بها بعض مشايخنا الإمامية (رضوان الله عليهم) على إثبات أنّ الإرادة زائدة على ذاته تعالى.

وقد أجاب عنها صدر المتألّهين وأوضحها سيدنا الأستاذ بما حاصله :

إنّ في القبائح والآثام كالشرّ والظلم والكفر جهتين : جهة وجود ، وجهة عدم ؛ وإن شئت قلت : جهة كمال وجهة نقص ؛

١٧

وإرادته كعلمه يتعلّق بجهة الوجود والكمال ، ويستحيل أن يتعلّق بجهة العدم والنقص ، فذاته سبحانه كشف تام عن الجهة الأولى وهي أيضا مراده ، ويستحيل أن تكون ذاته كشفا تامّا عن العدم والنقص ، فإنّ الأعدام والنقائص ليست بشيء ، لأنها بطلان محض.

وبعبارة أخرى : إنّ العلم يكشف عن المعلوم بما هو موجود ولا يكشف عن الأعدام وما في وزانها من النقائص والشرور ، بل يكون كشفه عنها بالتبعيّة والعرض ، فصرف الوجود ـ الذي هو كل الأشياء ، وبسيط الحقيقة التي بوحدتها وبساطتها جامعة لكلّ الأشياء ـ إنّما يكشف في مقام الذات عن الأشياء والموجودات دون الأعدام والنقائص المحضة ، وقد ثبت في محلّه أنّ واقع القبائح من الشرّ والظلم والكفر ، عدم وبطلان محض ، فلا يتعلّق بها العلم ولا الإرادة إلّا تبعا وعرضا.

أقول : قد أشار إلى هذا الجواب صدر المتألّهين ، وقال : إنّ فيض وجوده يتعلّق بكل ما يعلمه خيرا في نظام الوجود ، فليس في العالم الإمكاني شيء مناف لذاته ولا لعلمه الذي هو عين ذاته ولا أمر غير مرضيّ به ، فذاته بذاته كما أنّها علم تام بكل خير موجود ، فهي أيضا إرادة ورضاء لكل خير ، إلّا أنّ أصناف الخير

١٨

متفاوته وجميعها مرادة له ـ إلى أن قال : ـ فالخيرات كلّها مرادة بالذات ، والشرور القليلة اللازمة للخيرات الكثيرة أيضا إنّما يريدها بما هي لوازم تلك الخيرات لا بما هي شرور ، فالشرور الطفيفة النادرة داخلة في قضاء الله بالعرض ، وهي مرضيّ بها كذلك ، فقوله تعالى: (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (١) وما يجري مجراها من الآيات معناه أنّ الكفر وغيره من القبائح غير مرضى بها له في أنفسها وبما هي شرور ولا ينافي ذلك كونها مرضيا بها بالتبعية والاستجرار. (٢)

فتلخّص من ذلك : أنّ علمه تعالى إنّما يتعلّق بالموجود بما هو موجود الذي يساوق الخير والكمال ، فلا بدّ أن يكون كشفه عن نقيضه الموسوم بالعدم والشرّ بالتبع والعرض فيكون وزان العلم وزان الإرادة ، وبالعكس يتعلّق كل بما يتعلق به الآخر بالذات وبالعرض.

إلى هنا تبيّن أنّ الشبهة غير مجدية في سلب الإرادة عن مقام الذات.

نعم لا نشاطر القوم الرأي في إرجاع الإرادة إلى العلم بالمصالح ، وذلك لأنّ أصل الإرادة كمال ، وإرجاعه إلى العلم

__________________

(١). الزمر / ٧.

(٢). الأسفار : ٦ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥.

١٩

الذي هو من مقولة الكيف ، يستلزم سلب كمال عن ذاته وتصوّر أكمل منه.

وبه يظهر عدم تمامية القولين في باب الإرادة :

أ ـ إرجاع إرادته إلى الفعل والإحداث ، كما عليه أهل الحديث.

ب ـ إرجاع إرادته إلى العلم بالمصالح.

فإنّ القولين يشتركان في سلب كمال عنه.

وأمّا ما هي حقيقة إرادته ، فهذا خارج عن موضوع البحث موكول إلى أبحاث عليا.

الرابع : في كلامه سبحانه

اتّفق المسلمون تبعا للذكر الحكيم على كونه سبحانه متكلّما ، قال سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١) وقال سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢).

ولكنّهم اختلفوا في تفسير كلامه.

فذهبت المعتزلة والإمامية إلى أنّه من صفات الفعل وأنّ

__________________

(١). النساء / ١٦٤.

(٢). الشورى / ٥١.

٢٠