الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الفصل الأول :

المعارف القرآنية

٥

٦

٦٦

مفهوم الوحي في القرآن

سؤال : من المفاهيم التي لها دور فعّال في حركة الرسالة وقد ركّزت عليها الأديان التوحيدية عامة والإسلام خاصة ، مفهوم الوحي ، فما هي حقيقة الوحي ، وما هو المراد منه؟

الجواب : من المصطلحات والمفاهيم التي وردت في القرآن الكريم مصطلح «الوحي» ، وقبل أن نسلّط الأضواء على هذا المفهوم من رواية الرؤية القرآنية وما هي المجالات والأُطر التي استعمل فيها القرآن هذا المصطلح ، نرى من اللازم أن نسلّط الأضواء على المعنى اللغوي لهذا المصطلح :

قال ابن فارس : «الوحي أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء». (١)

وقال الراغب : «أصل الوحي الإشارة السريعة ، ولتضمن السرعة قيل «أمر وحي» ، وقد يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض». (٢)

وقال ابن منظور : «الوحي : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام ، والكلام

__________________

(١). مقاييس اللغة : ٦ / ٩٣ ، مادة «وحى».

(٢). مفردات الراغب : ٥١٥ ، مادة «وحى».

٧

الخفي ، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك». (١)

وبالأخذ بعين الاعتبار ، الكلمات التي نقلناها من كبار أصحاب الاختصاص من اللغويين العرب ، يمكن القول حينئذٍ : إنّ الوحي هو ذلك الإلقاء إلى الغير الذي يكمن فيه عنصران : الأوّل : الخفاء ، والثاني : السرعة. وإذا ما أُطلق على الارتباط بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين الله سبحانه وعلى عملية تلقّي الأحكام والتعاليم الإلهية مصطلح «الوحي» فإنّ هذا الإطلاق في الواقع ينطلق من هذه الحيثية ، وذلك باعتبار أنّ ذلك نوع من التعليم غير الاعتيادي الخفي المقترن بالسرعة.

والذي يظهر من الشيخ المفيد قدس‌سره أنّ المقوّم لإطلاق الوحي والعنصر اللازم له هو «الخفاء في التعليم» حيث ذهب إلى أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء ، بطريق من الطرق. (٢)

والحال انّ عنصر السرعة أيضاً يعدّ من مقوّمات الوحي بالإضافة إلى الخفاء.

بعد أن تعرّفنا على المعنى اللغوي لمصطلح «الوحي» ننتقل إلى الحديث عن تحليل وتحقيق المراد من الوحي في القرآن الكريم ، وهنا يمكن الإشارة إلى مجموعة من المعاني التي استخدم فيها هذا المصطلح ، ومنها :

الف : الإدراك الغريزي

لقد كشفت العلوم الحديثة كعلم الأحياء ـ وخاصة في مجال دراسة

__________________

(١). لسان العرب : ١٥ / ٣٧٩.

(٢). انظر تصحيح الاعتقاد : ١٢٠ ، فصل في كيفية نزول الوحي.

٨

الحيوانات التي تقوم على أساس غريزي ـ انّ هذه الحيوانات تقوم بفعّاليات وحركات وأعمال حيّرت العقول وأدهشت الفكر الإنساني ، فعلى سبيل المثال زنابير النحل وما تقوم به من الأعمال المدهشة التي تتسم بالدقة والإتقان والتنظيم وتوزيع المهام والأدوار. وكذلك العنكبوت وما ينسجه من البيوت رغم وصفها في القرآن الكريم بأنّها أوهن البيوت فإنّها مع ذلك تتّصف بالدقة والإتقان ، فإنّ كلّ هذه الأعمال نابعة من عامل داخلي ونداء غريزي.

وبعبارة أُخرى : أنّها تقوم بذلك بصورة أُتوماتيكية ومن دون الحاجة إلى تعليم خارجي ، وأنّها تطوي مسيرة حياتها اعتماداً على العنصر الأوّل وهو العنصر الداخلي الغريزي.

ولا ريب أنّ هذه الأعمال ـ التي تقوم بها تلك الحيوانات والتي يعجز الإنسان عن القيام بها ـ لا يمكن أن تصدر من دون علّة ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية لا يمكن القول إنّ هذه الحيوانات إنّما تقوم بهذه الأعمال بعد إعمال فكر وطي سلسلة من الحسابات العقلية وإجالة الفكر بين حسابات الربح والخسارة.

إذاً لا بدّ من الإذعان انّ ذلك لا يكون إلّا وليد نوع من التعليم الخفي والرمزي الذي أُلقي إلى تلك الحيوانات ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله سبحانه :

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ...). (١)

__________________

(١). النحل : ٦٨ ـ ٦٩.

٩

وعلى هذا الأساس تكون الأعمال المدهشة للنحل كالتنظيم الهندسي للخلية وتوزيع الأدوار والحراسة ومنع الزنابير المريضة من دخول الخلية والتجول بين الأزهار ومص رحيقها ، وتحويلها إلى شهد لذيذ و ... كلّ ذلك إنّما هو وليد العامل الغريزي.

ب : الإلهام والإلقاء في القلب

لقد استعمل مصطلح الوحي في القرآن بمعنى آخر وهو : الإلقاء إلى القلب ، بمعنى أنّ الملقى إليه يصل إلى تلقّي الشيء ومعرفته من دون أن يرى الملقي أو يخضع إلى تعليمه المباشر له ، وهذا التلقّي في الحقيقة معلول لعاملين ، هما :

١. طهارة النفس : فقد تصل النفس في بعض الأحيان وبسبب الطهر المعنوي والسمو الروحي والمعنوي والنورانية التي تتحلّى بها ، إلى مقام تكتمل فيه لياقاتها وقدراتها بحيث تكون على استعداد لتلقّي الحقائق من الموجودات النورانية والشخصيات الكاملة ، بل تصل إلى درجة تلقي تلك الحقائق من الذات المقدّسة لله سبحانه.

٢. وتارة أُخرى قد تنحط النفس بحيث تصل إلى درجة من الدناءة والخسّة والوقوع في الظلمة ، بحيث ترتبط حينئذ بما يسانخها من الأرواح الخبيثة وتتلقّى منها التعاليم الفاسدة والأفكار المنحطّة والمخادعة التي لا أساس لها أبداً.

وإذا ما استعملت كلمة «الوحي» في الحالتين فما ذلك إلّا بسبب وجود ملاك الإطلاق وهو توفّر صفتي : الخفاء ، والسرعة ، في تلك التعاليم ، والأفضل أن نطلق على القسم الأوّل عبارة «الإلهام والإشراق» وعلى القسم الثاني «الوسوسة الشيطانية».

١٠

ج : وحي الشريعة

إنّ الإنسان العادي قد يتوصّل إلى النتائج التي يتوخّاها من خلال الحسّ والتجربة ، أو إجالة الفكر والتدبّر والاستدلال ، ولكن ذلك لا يعني انحصار طرق المعرفة وسبلها بهذين الطريقين ، بل هناك طريق ثالث للمعرفة يفاض على النفس من العالم العلوي يكون الهدف منه هداية المجتمع الإنساني وسوقه إلى الكمال والرقي والتعالي ، وهذا ما يطلق عليه اسم «الوحي التشريعي».

والحقيقة أنّ هذا الوحي التشريعي لا يختلف من جهة الماهية والحقيقة عن القسمين السابقين ، نعم النكتة الكامنة في هذا القسم هي مسألة الهداية وإرشاد الناس إلى المبدأ والمعاد. وهذه الخصيصة أخذت باعتبارها قيداً لازماً لهذا النوع من الوحي حيث قال تعالى :

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ).(١)

وعلى هذا الأساس فإنّ الأنبياء وإن كانوا يمتلكون وسائل المعرفة كالحس والعقل ولكن شريعتهم لا تكون نتاج تلك الوسائل المعرفية ، بل أنّها جميعاً تتعلّق بالعالم العلوي حيث ينزل الوحي على نفوسهم وأرواحهم وبأمر من الله سبحانه حاملاً رسالته وتشريعاته سبحانه ، ولذلك لا يخطئون أدنى خطأ في ضبط وحفظ وإبلاغ وبيان الأحكام الإلهية.

ولذلك فكلّ محاولة لتفسير ووضع حركة الأنبياء في إطار الهداية ، بأنّها وليدة الحس والعقل ، أو هي نتاج الاستعداد والنبوغ الذاتي للأنبياء ، لا تبعد ه عن كونها محاولة انحرافية يسير صاحبها في طريق أعوج ، ومن المستحيل أن توصله محاولته تلك إلى الهدف الذي يرومه ، والحقيقة أنّ السبب الذي دعا أصحاب هذا

__________________

(١). الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

١١

التفكير الخاطئ إلى مثل هذه المحاولات هو عدم اعتقادهم بوجود عالم خارج عالم المادة والطبيعة ، فلذلك اضطروا إلى أن يضفوا على جميع الحوادث صبغة مادية وانّها نتاجات بشرية نابعة من علل مادية لا غير.

وقد وصف الله سبحانه وتعالى طائفة من الأنبياء بقوله :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ). (١)

وحينئذٍ لا بدّ من معرفة المراد من الوحي في هذه الآية.

إنّ أغلب المفسّرين قالوا : إنّ المراد من الوحي هنا هو الوحي التشريعي الذي ينزل على جميع الأنبياء ليبيّن لهم وظائفهم ووظائف العباد والمهام التي لا بدّ من القيام بها والتي تنظم حياتهم ، وعلى هذا فالآية ناظرة إلى نوع خاص من أنواع الوحي لا إلى جميعها.

نعم ، بالالتفات إلى المباحث السابقة يمكن القول : إنّ للوحي معنىً واحداً لا غير ، وانّه قد استعمل في القرآن الكريم في هذا المعنى الواحد ، وانّ الاختلاف وقع في المتعلّق. ثمّ إنّ الملاك المجوّز لهذا الاستعمال موجود في جميع أنواع الوحي وهو : انّ الجميع تشترك في كونها نوعاً من التعليم الخفي المقترن بالسرعة ، سواء كان الطرف المتلقّي هو الإنسان أو سائر الحيوانات والجمادات ، وسواء كان التعليم يتعلّق بهداية الناس وإرشادهم أو لا ، وسواء كان المعلم الله سبحانه أو غيره. (٢)

__________________

(١). الأنبياء : ٧٣.

(٢). منشور جاويد : ١٠ / ٧٩ ـ ٩٥.

١٢

٦٧

الله ومسألة الهداية والضلالة

سؤال : حينما نراجع القرآن الكريم نجد أنّ هناك طائفة من الآيات تصفه بأنّه تعالى هو الهادي وانّ أمر الهداية بيده سبحانه ، وفي المقابل توجد طائفة أُخرى من الآيات الكريمة تصفه سبحانه بأنّه هو المضلّ ، بمعنى أنّه هو الذي يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، وحينئذٍ يطرح السؤال التالي : كيف يتسنّى لنا توجيه تلك الآيات بحيث نصفه سبحانه بالهادي تارة والمضل تارة أُخرى؟

الجواب : انّ تحليل هذا التساؤل المهم وبيان أمر الهداية والضلالة المنسوبين إليه سبحانه لا يمكن أن يتمّ من دون جمع الآيات ودراستها بإمعان وتحليلها تحليلاً علمياً محكماً ، ولكن يمكن من خلال التفريق بين نوعين من الهداية : الهداية العامة ، والهداية الخاصة ، ومن خلال الإمعان في معنى الهداية الخاصة يتّضح جلياً معنى الإضلال والخذلان الإلهي.

الهداية العامّة

والمراد منها أنّه سبحانه من خلال نداء الفطرة الإنسانية ودعوة العقل ، وبعث الرسل والأنبياء ، يمهد طريق الهداية والسعادة أمام جميع الناس ، وكذلك

١٣

يبيّن لهم طريق الشقاء والانحراف ، وقد تعلّقت الإرادة والمشيئة الإلهية بأن يقع جميع أفراد البشر تحت هذا النوع من الهداية والإرشاد ، ويشهد على ذلك الكثير من الآيات المباركة كقوله تعالى :

(... قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ). (١)

فقد أشار القرآن الكريم في الآية المذكورة إلى الهداية العامة وشموليتها بقوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وانّ هذه الهداية شاملة للجميع بحيث يتسنّى للكلّ أن يستفيدوا من تلك الوسائل الموصلة إلى الهداية ، والتي تتمثل في «الفطرة والعقل وبعث الرسل» فانّه سبحانه جهّز الجميع بتلك الطاقات والإمكانات ولم يحرم منها أحداً من الناس.

الهداية الخاصة

والمراد من هذا النوع من الهداية هو الإمداد الغيبي الذي يوصل الإنسان إلى مراده بصورة أسرع ، وهذا النوع خارج عن قدرات الإنسان وإمكاناته ، وانّه يختص بجملة من الأفراد الذين استضاءُوا بنور الهداية العامة واستفادوا منها ، الذين لم يخالفوا نداء الفطرة ودليل العقل ودعوة الرسل ، وهكذا استطاعوا وضع أنفسهم تحت مصب الرحمة الإلهية ، وفي طريق نسيم الهداية الربانية لينالوا السعادة القصوى والكمال المطلق ، يقول سبحانه في حقّ هذه الطائفة : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). (٢)

__________________

(١). يونس : ١٠٨.

(٢). محمد : ١٧.

١٤

وقال سبحانه أيضاً : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). (١)

فإذا اتّضح انّ المراد من الهداية هو تهيئة وتوفير سبل السعادة ووسائل الرشاد لمن استفاد من الهداية العامة وتثبيتهم وتسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة. وانّ المراد من الضلالة هو منعهم وحرمانهم من هذه المواهب وخذلانهم في الحياة وإيكالهم إلى أنفسهم ، من هنا نجد أنّ طائفة من آيات الذكر الحكيم التي تتعلّق بالضلالة تقول :

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ...) (٢)

و (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ). (٣)

(... كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ). (٤)

فهذه الآيات ونظائرها في القرآن الكريم كثيرة جداً حيث تبيّن وبوضوح تام العلّة والسبب في ضلال هؤلاء إذ تقول : لأنّهم ظالمون ومسرفون وكافرون ومرتابون و ... فلذلك فهم ضالّون ، وهذا يعني وبوضوح أنّهم لم يستفيدوا من تلك الإمكانات والمواهب التي منحهم الله سبحانه إيّاها في مرحلة الهداية العامة ، فلذلك لم يقعوا مورداً للعناية الإلهية الخاصة ولم يشملهم ذلك اللطف وتلك الرحمة الإلهية حيث منعهم سبحانه من تلك المواهب التي أفاضها في مرحلة الهداية الخاصة ، لأنّهم ـ وبسبب فسقهم وظلمهم وإسرافهم ـ لم يكونوا جديرين بهذا اللطف الإلهي الخارج عن العادة.

__________________

(١). العنكبوت : ٦٩.

(٢). إبراهيم : ٢٧.

(٣). غافر : ٣٤.

(٤). غافر : ٧٤.

١٥

وحال هؤلاء كحال من يسأل عن الطريق فيرشد إليه ويقال له : اسلك هذا الطريق ، فإذا وصلت إلى المكان الفلاني فإنّك ستجد هناك علامة كذا ، حينها تكون قد وصلت إلى مرادك ومقصودك.

فلا ريب انّ هذا الفرد إنّما يستفيد من هذا الإرشاد في حالة واحدة وهي فيما إذا سلك ذلك الطريق ووصل إلى العلامة التي أُشير إليها ، وهذا يعني أنّ الوصول إلى المقصد الثاني والاستفادة من العلامة التي هي دليله لا تتمّ إلّا بعد الاستفادة من الدليل الأوّل ، وهو طي ذلك الطريق الذي وصف له. وأمّا إذا لم يستفد من الدليل الأوّل ولم يسلك ذلك الطريق ، أو أنّه سار على عكس الطريق الذي رسم ووصف له ، فلا ريب أنّه لا يمكن له أن يستفيد من الدليل الثاني (العلامة) ثمّ الوصول إلى مراده.

إذاً ومن خلال هذا المثال الحسّي يتّضح لنا جلياً مفاد قوله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، فإنّ الآية تشير وبلا ريب إلى الهداية الخاصة ، وانّ المراد من الهداية هو توفير مقدّمات السعادة والهداية الخاصة ، والمراد من الضلالة قطع تلك العناية الإلهية ، ولا علاقة للآية أبداً بمسألة الجبر لا من بعيد ولا من قريب.

إذا اتّضح هذا الجانب من البحث ، لا بدّ من الإشارة إلى عامل آخر من عوامل الضلالة الذي يتعلّق بانحراف وضلال الإنسان فقط وهو :

العامل الثاني من عوامل الضلال

إنّ القرآن الكريم يذكر ـ وفي مناسبات مختلفة ـ مجموعة من العوامل التي لا تكون نتيجتها إلّا الانحراف والضلال وإخراج الإنسان عن الصراط المستقيم

١٦

والطريق القويم ، وإنّ معرفة هذه العوامل لمن أراد السعادة والتكامل والفوز بالرضوان تكون سبباً للصلاح والفلاح والتكامل ، لأنّه صحيح أنّ تلك العوامل مهلكة وانّها سبب الانحطاط والانحراف لمن استسلم لها وأسلس لها العنان بحريته وإرادته فأهوت به في درك المهالك ، إلّا أنّ نفس تلك العوامل تكون سبباً لنجاة وهداية وتكامل المؤمنين الواعين والمنتبهين إلى خطورة الطريق ووعورة المسلك وتكون سبباً لثبات واستحكام أُسسهم الدينية والأخلاقية.

وذلك لأنّ الإنسان عند ما يدرك انّ له رقيباً وعدواً يرصد حركاته وسكناته ، فلا ريب أنّ هذا الإدراك وهذا الوعي لا يخلو من نفع وفائدة ، لأنّ العدو سيكون السبب في معرفة الإنسان بنقاط الضعف والخلل الموجودة فيه ثمّ السعي لمعالجتها وإصلاحها.

وهكذا الكلام في المجتمع فإنّ المجتمع الذي تنتفي فيه الرقابة والمنافسة الشريفة ، والمعقولة ، فإنّه سيصاب لا محالة بحالة من الركود والخمول والتراجع إلى الوراء ثمّ تكون عاقبة ذلك كلّه الاندثار والإبادة.

إنّ «الشيطان» هو العدو اللدود للإنسان ، وإنّ هذا العدو الذي أقسم على غواية الإنسان وإضلاله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١) فهذا العدو الخطير ـ نفسه ـ يُعدّ سبباً لتكامل عباد الله المخلصين الذين عرفوه وأدركوا خططه ومكره وحبائله ، وصمّموا على مواجهته وإفشال وإحباط جميع خططه وتمزيق جميع مصائده وتقطيع حبائله. وذلك لأنّ الإنسان عند ما يدرك أنّ هناك عدواً خفياً يتحيّن الفرص للانقضاض عليه وإلقائه في الهلكة ، حينئذٍ يبقى هذا الإنسان يقظاً منتبهاً يرصد ما حوله ويحاول الاستفادة

__________________

(١). ص : ٨٢ ـ ٨٣.

١٧

من كلّ إمكاناته واستعدادته للخلاص من هذا العدو الماكر ، وحينئذٍ سوف تتكامل قدراته وتترسّخ أُسسه وتقوى إرادته و ....

ثمّ إنّ وجود العدو بالنسبة إلى الإنسان ـ فرداً أو جماعة ـ كوجود الميكروبات التي تحفّز في داخل الإنسان عوامل المقاومة والمواجهة ثمّ توفر له عوامل الاستقامة والثبات ، ولذلك فإنّ الإنسان الذي يسعى للعيش في فضاء خال من كلّ أنواع الميكروبات ولا يتناول من الطعام والفواكه إلّا المعقم ، فلا ريب سوف يسقط أمام أيّ حالة يتعرض فيها لهجوم الميكروبات الخفية التي لم يلتفت إليها ، مثله مثل الرواتع الخضرة (١) التي تسقط أمام النسيم فضلاً عن الأعاصير ، ولذلك نجد الأطباء ـ اليوم ـ ينصحون بانتهاج طريق وسط بالنسبة إلى الميكروبات للحفاظ على سلامة البدن في مقابل تعرضه لهجوم تلك الموجودات الخفية.(٢)

__________________

(١). الأشجار والأعشاب الغضّة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.

(٢). منشور جاويد : ٣ / ١٥٣ ـ ١٥٦.

١٨

٦٨

وصف القرآن بأنّه عربي مبين

سؤال : هناك بعض الآيات التي تصف القرآن الكريم بأنّه عربي مبين ، وحينئذٍ يطرح التساؤل التالي : إذا كان القرآن عربياً وواضحاً فما هي الحاجة يا ترى إلى تفسيره وبيانه؟

الجواب : حينما أدرك المشركون عجزهم أمام القرآن الذي تحدّاهم ـ وهم سادة البلاغة ورجال الأدب في ذلك الوقت ، فكّروا في الخروج من هذا المأزق الذي وقعوا فيه ، ولذلك أخذوا بالبحث عن مبدأ ومنشأ القرآن الكريم ، ولذلك ذكروا مجموعة من التفسيرات التي هي من وحي خيالهم الباطل حيث قالوا : إنّ محمداً قد أخذ القرآن من غلامين روميّين هما «جبر» و «يسار» (١) ومن غيرهما ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله سبحانه:

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). (٢)

__________________

(١). انظر الكشاف : ٢ / ٢١٨.

(٢). النحل : ١٠٣.

١٩

«العجم» في اللغة هو «الإبهام» ، و «الأعجمي» هو الإنسان الذي لا يفصح وإن كان عربياً ، وبما أنّ العرب يجهلون اللغات الأُخرى غير العربية لذلك أطلقوا على غير العربي لفظ «العجمي» ، لأنّه لا يفهم اللغة العربية بصورة صحيحة ، أو أنّه لا يستطيع النطق ، بصورة جيدة وصحيحة.

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار سبب النزول هذا والذي نقله بعض المفسّرين ، حينئذٍ يمكن القول : إنّ الهدف والغاية من هذه الآية هو الرد على هذا التوهم الباطل حيث تبيّن الآية الحقيقة التالية :

كيف يتلقّى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا القرآن الذي هو في قمة الفصاحة والبلاغة ، والبيان، والمرونة والسلاسة والعذوبة وبلسان عربي مبين وواضح ، من أُناس يجهلون اللغة ولا يعرفون من أسرارها وفنونها شيئاً ، لأنّهما روميان؟!! ولو فرضنا انّهما يعرفان اللغة العربية فلا شكّ انّهما ليسا بهذا المستوى من الإدراك البلاغي وهذه القوة من الفصاحة.

وعلى هذا الأساس يكون مفاد الآية بيان انّ القرآن الكريم كلام صحيح وخطاب بليغ منزه عن أدنى خلل أو تحريف ، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون وليد فكر الغلامين «يسار» و «جبر» أو غيرهما.

ولكن النكتة الجديرة بالالتفات إليها هي انّ كون القرآن بليغاً أو فصيحاً وعارياً من التحريف والخطأ لا يلازم عدم الحاجة إلى توفير بعض المقدّمات للوصول إلى تفسيره ، وانّ الحاجة إلى تلك المقدّمات التفسيرية لا تنافي كونه (عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

وها نحن نجد في جميع أرجاء العالم أنّهم يدوّنون كتبهم الدراسية والعلمية بأُسلوب سلس وبعبارات واضحة بعيدة عن التعقيد والإبهام. ومع ذلك نجد أنّهم بحاجة في الكثير من الأحيان إلى وجود المعلم والأُستاذ.

٢٠