نهاية الإقدام في علم الكلام

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

نهاية الإقدام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4174-0
الصفحات: ٤٠٨

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

الحمد لله حمدا كثيرا كما ينبغي لجلال وجهه الكريم ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى عترته الصالحين ، وصحبه السادة البررة المقربين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد ... فإني آثرت تحقيق هذا الكتاب النافع العظيم ، لما حواه من فوائد عقدية ، وتفريقات مللية ، وأصول كلامية ، وهو من المصنفات الأصولية في نوعه ، ومن أهميته القصوى ، قام العلامة شيخ المتكلمين ، سيف الدين الآمدي بأخذه أصلا لكتابه «غاية المرام في علم الكلام» فقد اعتمد عليه اعتمادا بالغا في مصنفه هذا ، وقد نقل جمع كثير من أهل العلم عن الشهرستاني في كتبهم وحواشيهم.

فلذلك قمت بالتوثيق والعزو والتخريج والتعليق عليه ، مع ضبط نصه وإصلاحه ، وقد طبع الكتاب من قبل في أوروبا ، ثم صور في مصر ، وكان ذلك بتحرير وتصحيح المستشرق ألفريد جيوم ، وقد نسبه لعبد الكريم الشهرستاني ، فأصلحنا ذلك عنوانا ومضمونا.

وإليك نقدم الكتاب في ثوبه الجديد ، بتحقيق علمي قدر المستطاع ، وموافقا لما عليه الطباعة الحديثة الممتازة ، وإتماما للفائدة ألحقنا بنهاية الإقدام ، «لباب المحصل في أصول الدين» للرحالة العلامة الحكيم ابن خلدون ، والمخطوط كتبه بيده رحمه‌الله ، وهو من محفوظات مكتبة اسكوريال بأسبانيا ، وقد طبع قديما ، فجزى الله كل من ساهم في إخراج العلم ونشره خير الجزاء.

وأخيرا نسأل توفيقه وقبوله لما يحبه ويرضاه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

كما نشير إلى أننا ألحقنا بالكتاب أيضا «الإشارة إلى مذهب أهل الحق» لأبي إسحاق الشيرازي ؛ وهو من تحقيق الأخ محمد حسن محمد حسن إسماعيل.

كتبه

أحمد فريد المزيدي

كلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر

القاهرة

٣
٤

ترجمة المصنف

هو الإمام الفقيه الحكيم المتكلم : أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني ، الشافعي ، الأشعري ، ولد بشهرستان بين نيسابور وخوارزم.

أخذ علم النظر والأصول عن أبي القاسم الأنصاري ، وأبي نصر القشيري ، وأبي المظفر الخوافي.

ووعظ ببغداد وظهر له القبول التام.

وقال ابن خلكان : كان إماما مبرزا ، فقيها متكلما واعظا ، وقال ابن قاضي شهبة : صنف كتبا كثيرة منها : نهاية الإقدام في علم الكلام ، والملل والنحل ...

وقال ابن الأهدل : سمع الحديث من ابن المديني ، وكتب عنه ابن السمعاني ، وعظم صيته في الدنيا.

وشهرستان اسم لثلاث مدن ، الأولى : بين نيسابور وخوارزم ، والثانية : قصية ناحية نيسابور ، والثالثة : مدينة على نحو ميلين من أصبهان.

وتوفي بشهرستان في شعبان سنة ٥٤٨ ه‍ ، وقيل : ٤٧٩ ه‍.

مصنفاته :

١ ـ نهاية الإقدام في علم الكلام.

٢ ـ الملل والنحل.

٣ ـ المنهاج والبيان.

٤ ـ تلخيص الأقسام لمذاهب الأنام.

٥ ـ تاريخ الحكماء.

وانظر : سير أعلام النبلاء للذهبي (٢٠ / ٢٥٣) ، وأبجد العلوم للقنوجي (٣ / ١١٢) ، وطبقات الشافعية للإسنوي (٢ / ٣٢٣) ، وطبقات الشافعية لابن الصلاح (١٦ / ٢ ، ١١٧ / ١) ، ومعجم البلدان للحموي (٣ / ٣٧٧) ، وتاريخ حكماء الإسلام

٥

للبيهقي (١٤١ ، ١٤٤) ووفيات الأعيان لابن خلكان (٢ / ١٦١) ، تذكرة الحفاظ للذهبي (٤ / ١٠٤) ، والوافي بالوفيات للصفدي (٣ / ٢٧٨) ، ولسان الميزان للحافظ (٥ / ٢٦٣) ، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء (٣ / ٢٩) ، مرآة الجنان لليافعي (٣ / ٢٨٩) ، شذرات الذهب لابن العماد (٤ / ١٤٩) ، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (١ / ٢٦٤ ، ٢٦٥) ، روضات الجنان للخوانساري (١٨٦ ، ١٨٨) ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (٤ / ٦٧) ، والكامل لابن الأثير (١ / ٢٥٥) ، والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردى (٥ / ٣٠٥) ، والأعلام للزركلي (٧ / ٨٣) ، ومعجم المؤلفين لكحالة (٣ / ٤٢٢).

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الله عونك وتيسيرك الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة على رسوله المصطفى وآله الطيبين الطاهرين أجمعين أما بعد ، فقد أشار إليّ من إشارته غنم وطاعته حتم أن أجمع له مشكلات الأصول وأحل له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهايات النظر وفزت بغايات مطارح الفكر ولعله استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم لعمري :

لقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

فلكل عقل ونظر مسرى ومسرح هو سدرة المنتهى ولكل قدم مخطى ومجال هو غايته القصوى إذا وصل إليها ووقف دونها فيظن الناظر أولا أن ليس وراء مرتبته مطاف لطيف الخاطر ولا فوق درجته مطرح لشعاع الناظر ويتيقن آخرا أن مطار الأفكار بذات المقدار وجناب العزة (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] ، (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] ، لعله أشار إلى الحالتين (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] ، لعله أشار إلى العجز عن الإدراك (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤] ، فعليكم بدين العجائز فهو من أسنى الجوائز وإذا كان لا طريق إلى المطلوب من المعرفة إلا الاستشهاد بالأفعال ولا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة فحيثما كان العجز أشد كان اليقين أوفر وآكد (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] لا جرم (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل: ٦٢] ، والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخا في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حال الاختيار ومن دعاء الأبرار إلهي فكم من بلاء جاهد صرفت عني وكم من نعمة سابغة أقررت بها عيني وكم من صنيعة كريمة لك عندي أنت الذي أجبت عند الاضطرار دعوتي وأقلت عند العثار زلتي وأخذت لي من الأعداء بظلامتي الكلمات إلى آخرها وكان القلم يعبر عن حالتي بأواخرها (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ

٧

نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف : ١٥] ، هذا وقد أوردت المسائل على تشعث خاطري وتشعب فكري ممتثلا أمره في معرض المباحثات ترتيبا وتمهيدا وسؤالا وجوابا وجعلتها عشرين قاعدة تشتمل على جميع مسائل الكلام وسميت الكتاب «نهاية الإقدام في علم الكلام» والله الموفق والمعين وبه الحول والقوة.

٨

القاعدة الأولى (١)

في حدث العالم وبيان استحالة حوادث لا أول لها

واستحالة وجود أجسام لا تتناهى مكانا

مذهب أهل الحق من أهل الملل كلها أن العالم محدث ومخلوق أحدثه الباري تعالى وأبدعه وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء ووافقتهم على ذلك جماعة من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة مثل ثاليس وانكساغورس وانكسمانس ، ومن تابعهم من أهل ملطية ، ومثل فيثاغورث وانبدقلس وسقراط وأفلاطون من أثينية ويونان وجماعة من الشعراء والنساك ولهم تفصيل مذهب في كيفية الإبداع واختلاف رأي في المبادئ الأولى شرحناها في كتابنا الموسوم بالملل والنحل ومذهب أرسطاطاليس ومن شايعه مثل برقلس والإسكندر والأفروديسي وثامسطيوس ، ومن نصر مذهبه من المتأخرين مثل أبي نصر الفارابي وأبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا وغيرهما من فلاسفة الإسلام أن للعالم صانعا مبدعا وهو واجب الوجود بذاته والعالم ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بالواجب بذاته غير محدث حدوثا يسبقه عدم بل معنى حدوثه وجوبه به وصدوره عنه واحتياجه إليه فهو دائم الوجود لم يزل ولا يزال ، فالباري تعالى أوجب بذاته عقلا وهو جوهر مجرد قائم بذاته مجرد عن المادة وبتوسط ذلك أوجب عقلا آخر ونفسا وجرما سماويا وبتوسطهما وجدت العناصر والمركبات وليس يجوز أن يصدر عن الواحد إلا واحد ومعنى الصدور عنه وجوبه به ولا يتصور موجب بغير موجب فالعالم سرمدي وحركات الأفلاك سرمدية لا أول لها تنتهي إليه فلا تكون حركة إلا وحركة قبلها فهي لا تتناهى مدة وعدة واتفقوا على استحالة وجود علل ومعلولات لا تتناهى واتفقوا أيضا على استحالة وجود أجسام لا تنتهي بالفعل والضابط لمذهبهم فيما يتناهى وما لا يتناهى أن كل عدد فرضت آحاده موجودة معا وله ترتيب وضعي أو فرضت آحاده متعاقبة في الوجود وله ترتيب طبيعي فإن وجود ما لا نهاية له فيه مستحيل.

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٢٣٨) ، وأقاويل الثقات (ص ٩٧ ، ١٠٦) ، والتبصير في الدين (ص ٧٢) ، وتمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (ص ٢٤ ، ٤١ ، ٥٦ ، ٤٣٤) ، ورسالة الأشعري إلى أهل الثغر (ص ١٩١).

٩

مثال القسم الأول جسم أو بعد لا يتناهى.

ومثال القسم الثاني علل ومعلولات لا تتناهى وما عدا ذلك كله جملة وعدد فرضت آحاده معا أو متعاقبة لا ترتيب لها وضعا ولا طبعا فإن وجود ما لا نهاية له فيه غير مستحيل.

مثال القسم الأول : نفوس إنسانية لا تتناهى وهي معا في الوجود بعد مفارقة الأبدان.

ومثال القسم الثاني : حركات دورية وهي متعاقبة في الوجود ومدار المسألة على الفرق بين الإيجاد والإيجاب وبين التقدم والتأخر وإن ما حصره الوجود فهو متناه من غير فرق بين الأقسام ، وما لا يتناهى قط لا يتصور إلا في الوهم والتخيل دون الحس والعقل ولا بد من بحث على محل النزاع حتى يتخلص فيكون التوارد بالنفي والإثبات على محل واحد من وجه واحد فيصبح انقسام الصدق والكذب والحق والباطل ولا يتبين محل النزاع إلا بالبحث عن أقسام التقدم والتأخر فقال القوم : التقدم والتأخر يطلق ويراد به التقدم بالزمان كتقدم الوالد على الولد ويطلق ويراد به التقدم بالمكان والتأخر به كتقدم الإمام على المأموم وقد يسمى هذا القسم متقدما بالرتبة وقد يطلق ويراد به الفضيلة كتقدم العالم على الجاهل وقد يطلق ويراد به التقدم بالذات والتأخر بها كتقدم العلة على المعلول وهؤلاء قصدوا في إطلاق لفظ الذات فإنهم أرادوا به العلية والذات أعم من العلية فكان من حقهم أن يقولوا التقدم بالعلية ثم العلة الغائية تتقدم على المعلول في الذهن والتصور لا في الوجود فهي متأخرة في الوجود متقدمة في الذهن بخلاف العلة الفاعلية والعلل الصورية فإنها لا تكون مقارنة في الوجود فافهم هذا فإنه ينفعك في نفس المسألة حيث يستشهدون بشعاع الشمس مع الشمس وحركة الكم مع حركة اليد فإنهما وإن تقارنا في الزمان أنهما إذا أخذا على أن أحدهما سبب والثاني مسبب لم يتقارنا في الوجود لأن وجود أحدهما مستفاد من وجود الآخر ، فوجود المفيد كيف يقارن وجود المستفيد لكن إذا أخذا على أن وجودهما مستفاد من وجود واهب الصور فحينئذ يتقارنان في الوجود وهناك لا يكون أحدهما سببا والثاني مسببا ومنهم من زاد قسما خامسا : وهو التقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين ولو طالبهم مطالب لم حصرتم الأقسام في أربعة أو خمسة لم يجدوا على الحصر دليلا سوى الاستقراء حتى لو قيل لهم ما الذي أنكرتم على من زاد قسما سادسا وهو التقدم والتأخر في الوجود من غير التفات إلى الإيجاب بالذات ، ولا التفات إلى الزمان والمكان والتقدم للواحد على الاثنين شديد الشبه بهذا القبيل ، فإن الواحد ليس بعلة

١٠

يلزم منه وجود الاثنين ضرورة بل يمكن أن يتصور شيئان : أحدهما وجوده بذاته ، والثاني وجوده مستفاد من غيره ثم بعده ، ذلك يقع البحث في أنه يستفيد وجوده منه اختيارا أو طبعا أو ذاتا ، هذا معقول بالضرورة ثم يجب أن يفرض تقدم وجود المفيد على وجود المستفيد من حيث الوجود فقط من غير أن يخطر بالبال كون المفيد علة لذاته أو موجد له بصفة ثم يقع بعد ذلك التفات إلى أن الوجود المستفيد وجود واجب به لأنه علته أو لا يجب به ، وذلك لأن الوجوب بالغير لازم به فإنه يحسن أن يقال هذا قد وجد عنه ، فوجب به ولا يجوز أن يقال : وجب به فوجد عنه ولكل معنى من معاني التقدم والتأخر معية في مرتبته لا يجامع التقدم والتأخر في تلك المرتبة ، ويجامع في مرتبة أخرى مثاله تقدم السبب على المسبب ذاتا ووجودا أو مقارنته معا وزمانا أو مكانا ، ولكن لا يجوز أن تطلق معية ما على الباري تعالى والعالم فإذا ثبت هذا قلنا أما التقدم والتأخر الزماني فيجب نفيهما عن الباري تعالى وكما لا يجوز أن يتقدم على العالم زمانا لم يجز أن يكون مع العالم زمانا فإنّا كما نفينا التقدم الزماني نفينا المعية الزمانية ومثار الشبهة ومجال الخيال هاهنا فإن فازت سفينة النظر عن هذه الغمرة فاز أهل الحق بقصب السبق في المسألة ، فإن ما لا يقبل الزمان ولم يكن وجوده زمانيا لم يجز عليه التقدم والتأخر والمعية الزمانية كما أن ما لا يقبل المكان ولم يكن وجوده وجودا مكانيا لم يجز عليه التقدم والتأخر والمعية المكانية فقول الخصم إن العالم معه دائم الوجود إيهام بالزمان فيقال : يجوز أن يكون موجودان أحدهما متقدم بالذات والآخر متأخر بالذات ويكونان معا في الزمان فإن التقدم بالذات لا ينافي المعية في الزمان كتقدم السبب على المسبب وحركة اليد على حركة المفتاح في الكم لكن إذا كان وجودهما زمانين فأما وجود لا يقبل الزمان أصلا كيف يطلق عليه معية بالزمان وذلك كالتقدم بالمكان والمعية به ، فإن السبب والمسبب قد يكونان معا في المكان ويسبق أحدهما الآخر بالذات ، لكن إذا كان وجودهما مكانين فإما وجود لا يقبل المكان أصلا فكيف يطلق عليه معية بالمكان ونحن لا ننكر أن الوهم يرتمي إلى مدة مقدرة قبل العالم كما يرتمي إلى فضاء مقدر فوق العالم وذلك وهم مجرد وخيال محض فلا قضاء ولا بينونة كما يقدره الكرامي (١) ولا زمان ولا مدة كما يقدره الوهمي (٢) ولو قدر تقديرا عالم آخر فوق هذا العالم لم يؤد ذلك إلى تجويز عوالم هي

__________________

(١) نسبة إلى الكرامية.

(٢) نسبة إلى الطائفة الوهمية.

١١

أجسام لا تتناهى إذ قد تبين بالبرهان استحالة بعد لا يتناهى في الملا والخلاء وكذلك لو قدر تقديرا عالم آخر قبل هذا العالم لم يؤد ذلك إلى تجويز عوالم هي متحركات لا تتناهى إذ تبين بالبرهان استحالة مدة وعدة لا تتناهى ، فرجع الخلاف إذا إلى استحالة وجود جسم لا يتناهى بعدا وبيان استحالة وجود أجسام لا تتناهى زمانا فإن الخصم يسلم التقدم والتأخر في المعية فإذا سلم التقدم نقول : لا يلزم من تقدير جسم لا يتناهى بعدا وإن كان مستحيلا أن يكون مع الباري تعالى بالمكان كذلك لم يلزم من تقدير حركات لا تتناهى زمانا أن تكون مع الباري تعالى بالزمان فإنه تعالى غير قابل للزمان والمكان وكان الله ولم يكن معه شيء إذ لم تكن معية بالذات ولا بالوجود ولا بالرتبة المكانية والزمانية ولم يلزم من إطلاق كونه موجدا أن يكون الموجد معه في الوجود ولا لزم من إطلاق كونه موجبا أن يكون الموجب معه في الوجود ، فإن الوجود المستفاد لا يكون مع الوجود المفيد وكان المعية من كل وجه وعلى كل معنى من الأقسام منفيا عنه سواء أطلقناها في قسم واحد أو في قسمين مركبين ، ونحن نبدأ بطرق المتكلمين ثم نعود إلى ما ذكرناه من الكلام على محل النزاع.

فنقول للمتكلمين طريقان في المسألة أحدهما إثبات حدث العالم ، والثاني إبطال القول بالقدم.

أما الأول : فقد سلك عامتهم طريق الإثبات الأعراض أولا ، وإثبات حدثها ثانيا وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ، ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها ، رابعا ويترتب على هذه الأصول أن ما لا يسبقه الحوادث فهو حادث وقد أوردوا هذه الطريقة في كتبهم أحسن إيراد.

وأما الثاني : فقد سلك شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه طريق الإبطال وقال : لو قدّرنا قدم الجواهر لم يخل من أحد أمرين : إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق (١) ، وبالجملة ليست تخلو عن اجتماع وافتراق أو جواز طريان الاجتماع والافتراق وتبدل أحدهما بالثاني وهي بذواتها لا تجتمع ولا تفترق لأن حكم الذات لا يتبدل وهي قد تبدلت فإذا لا بدّ من جامع فارق فيترتب على هذه الأصول أن ما لا يسبق الحادث فهو حادث ، وقد أخذ الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني هذه الطريقة وكساها عبارة أخرى ، وربما سلك أبو الحسنرحمه‌الله طريقا في إثبات حدوث الإنسان وتكونه من نطفة أمشاج وتقلبه

__________________

(١) انظر : غاية المرام للآمدي (ص ٢٤٨) نقلا عن المصنف.

١٢

في أطوار الخلقة وأكوار الفطرة ، ولسنا نشك في أنه ما غير ذاته ولا بدل صفاته ولا الأبوان ولا الطبيعة فيتعين احتياجه إلى صانع أول قديم قادر عليم قال وما ثبت من الأحكام لشخص واحد أو لجسم واحد ثبت في الكل في الجسمية وهذه الطريقة تجمع الإثبات والإبطال واعتمد إمام الحرمين رضي الله عنه طريقة أخرى فقال الأرض عند خصومنا محفوفة بالماء والماء بالهواء والهواء بالنار والنار بالأفلاك وهي أجرام متحيزة شاغلة جوا وحيزا وبالاضطرار نعلم أن فرض هذه الأجسام متيامنة عن مقرها أو متياسرة أو أكبر مما وجدت شكلا وعظما أو أصغر من ذلك ليس من المستحيلات وكل مختص بوجه من وجوه الجواز دون سائر الوجوه مع استواء الجائزات وتماثل الممكنات احتاج إلى مخصص بضرورة العقل ، وستعلم فيما بعد أن العالم ممكن الوجود باعتبار ذاته سواء قدر كونه متناهيا في ذاته مكانا أو زمانا أو غير متناه فإن الخصم يقضي عليه بالإمكان على أنه في ذاته غير متناهي الزمان وهو متناهي المكان ، فالأولى أن يجعل للتناهي المكاني مسألة ويجعل للتناهي الزماني من حيث الحركات والمتحركات مسألة أخرى ، ونأخذ احتياجه إلى المخصص كالمسلم أو كالضروري أو كالقريب من الضروري.

فإن قيل فما الدليل على تطرق وجوه الجائزات إلى العالم بأسره.

قلنا : العقل الصريح يقضي بالإمكان في كل واحد من أجزاء العالم والمجموع إذا كان مركبا من الأجزاء كان الإمكان واجبا له ضرورة.

فإن قيل : فما الدليل على أن الأجسام متناهية من حيث الذات.

قلنا : لو قدرنا جسما لا يتناهى أو بعدا لا يتناهى ، فإما أن يكون ذلك الجسم غير متناه من جميع الجهات أو من جهة واحدة وعلى أي وجه قدر فيمكن أن يفرض فيه نقطة متناهية يتصل بها خط لا يتناهى ويمكن أن تفرض نقطة أخرى على خط هو أنقص من الأول بذراع ، ونصل بين النقطتين بحيث يطبق الخط الأصغر على الخط الأطول فإن كان كل واحد من الخطين تمادى إلى غير نهاية فيكون الخط الأصغر مساويا للخط الأطول وهو محال ، وإن قصر الأقصر عن الأطول بمتناه فقد تناهى الأقصر وتناهى الأطول إذ قصر عنه الأقصر بمتناه ، وزاد الأطول عليه بمتناه وما زاد على الشيء بمتناه كان متناهيا وعلى كل حال فإن كل أحدهما أكبر من الثاني كان فيما لا يتناهى ما هو أصغر وأكبر وأكثر وأقل ، وذلك محال فعلم أن جسما لا يتناهى محال وجوده وأن بعدا لا يتناهى في خلاء أو ملأ محال ، ويمكن أن ينقل هذا البرهان بعينه إلى أعداد وأشخاص لا تتناهى حتى يتبين أن فرض ذلك محال ، فإذا قضينا على الجسم

١٣

بالتناهي وجاز أن يكون أكبر منه وأصغر وإذا تخصص أحد الجائزين احتاج إلى المخصص ، وكما يمكن فرض الجواز في الصغر والكبر يمكن فرضه في التيامن والتياسر ، فإن الجواز العقلي لا يقف في الجائزات ثم المخصص لا يخلو إما أن يكون موجبا بالذات مقتضيا بالطبع وإما أن يكون موجدا بالقدرة والاختيار والأول باطل فإن الموجب بالذات لا يخصص مثلا عن مثل إذ الأحياز والجهات والأقدار والأشكال ، وسائر الصفات بالنسبة إليه واحدة وهي في ذواتها متماثلة إذ لا طريق لنا إلى إثبات الصانع إلا بهذه الأفعال ، وقد ظهر فيما آثار الاختيار لتخصيصها ببعض الجائزات دون البعض فعلمنا قطعا ويقينا أن الصانع ليس ذاتا موجبا بل موجدا عالما قادرا (١) ، وهذه الطريقة في غاية الحسن والكمال ، إلا أنها محتاجة إلى تصحيح مقدمات ليحصل بها العلم بحدث العالم واحتياجه إلى الصانع منها إثبات نهاية الأجرام في ذواتها ومقاديرها ومنها إثبات خلاء وراء العالم حتى يمكن فرض التيامن والتياسر فيه ومنها نفي حوادث لا أول لها ، فإن الخصم ربما يقول بموجب الدليل كله ويسلم أن العالم ممكن الوجود في ذاته وأنه محتاج إلى مخصص مرجح لجانب الوجود على العدم ومع ذلك يقول هو دائم الوجود به ، ومنها حصر المحدثات في الأجرام والقائم بالأجرام ، وقد أثبت الخصم موجودات خارجة عن القسمين هي دائمة الوجود بالغير دواما ذاتيا لا زمانيا ووجودا جوهريا لا مكانيا بحيث لا يمكن فرض التيامن والتياسر والصغر والكبر فيها ولا تتطرق الأشكال والمقادير إليها ومنها إثبات أن الموجب بالذات كالمقتضي بالطبع ، فإن الخصم لا يسلم ذلك ويفرق بين القسمين ، والأولى أن تفرض المسألة على قضية عقلية ، يوصل إلى العلم بها بتقسيم دائر بين النفي والإثبات.

فنقول : القسمة العقلية حصرت المعلومات في ثلاثة أقسام واجب ومستحيل وجائز ، فالواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال والمستحيل هو ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال والجائز ما لا ضروري في وجوده ولا عدمه والعالم بما فيه من الجواهر العقلية والأجسام الحسية والأعراض القائمة بما قدّرناه متناهيا وغير متناه ، وكذلك لو قدرنا أنه شخص واحد أو أشخاص وأنواع كثيرة : إما أن يكون ضروري الوجود أو ضروري العدم ، وذلك محال لأن

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام للآمدي (ص ٤٥ ، ٧٥ ، ٧٧ ، ١٥٥ ، ٢٥١ ، ٢٥٣ ، ٢٧٧) ، والملل والنحل للشهرستاني (ص ٩٦ ، ١٩٦) ، المواقف للإيجي (١ / ٦١) (٢ / ٥٣٠) ، والغنية في أصول الدين (٥٨ ، ١١٨).

١٤

أجزاءه متغيرة الأحوال عيانا ، وضروري الوجود على كل حال لا يتغير بحال.

فوجد تركيب البرهان منه : أن نقول كل متغير أو متكثر فهو ممكن الوجود باعتبار ذاته وكل ممكن الوجود باعتبار ذاته فوجوده بإيجاد غيره فكل متغير أو متكثر فوجوده بإيجاد غيره ، وأيضا فإن الكل متركب من الآحاد ، والآحاد إذا كان كل واحد منها ممكن الوجود فالكل واجب أن يكون ممكن الوجود وكل ممكن فهو باعتبار ذاته جائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد وإذا ترجح جانب الوجود على العدم احتاج إلى مرجح ، والمرجح يستحيل أن يكون مرجحا باعتبار ذاته ، ومن حيث وجوده فقط لأمور أحدها أن الوجود من حيث هو وجود أمر يعم الواجب ، والجائز وهو فيهما بمعنى واحد لا يختلف فلو أوجد من حيث أنه وجود أو من حيث أنه ذات لما كان أحد الموجودين أولى بالإيجاد من الثاني ، فيتعين أنه يوجد لكونه وجودا على صفة أو ذاتا على صفة ويدل على ذلك الأمر الثاني ، وهو أن وجوه الجواز قد تطرقت إلى الأفعال وتلك الوجوه متماثلة ، والموجب لا يخصص مثلا عن مثل فإن نسبة أحد المثلين إليه كنسبته إلى المثل الثاني فإذا خصص أحد المثلين دون الثاني علم أن الإيجاب الذاتي باطل ، فإن منعوا تلك الوجوه فلا شك أن الجائز بنفسه يتساوى طرفاه ونسبة الذات من حيث هو ذات إلى أحد طرفيه كنسبته إلى الطرف الثاني ، فإذا تخصص بالوجود دون العدم فلا بد من مخصص وراء كونه ذاتا وبطل الإيجاب بالذات ، والثالث أن الموجب بالذات ما لم يناسب الموجب بوجه من وجوه المناسبة لم يحصل الموجب ، وذلك أنا إذا تصورنا ذاتين أو أمرين معلومين لا اتصال لأحدهما بالآخر ولا مناسبة بينهما ولا تعلق ولا أشعار بل اختص كل واحد منهما بحقيقته وخاصيته لم يقض العقل بصدور أحدهما عن الثاني.

وواجب الوجود لذاته ذات قد تعالى وتقدس عن جميع وجوه المناسبات والتعلق والاتصال ، بل هو منفرد بحقيقته التي هي له وهي وجوب وجوده ولا صفة له ثانية تزيد على ذاته الواجبة فلا يلزم أن يوجد عنه شيء بحكم الذات ، فإيجاب الذات غير معقول أصلا بعد رفع النسب والعلائق ، وعن هذا قلتم : إن الموجب لما كان واحدا استحال أن يصدر عنه شيئان معا ، ولما كان عقلا أي مجردا عن المادة أوجب عقلا بالفعل مجردا عن المادة ، ولما اقتضى الإيجاب مناسبة والمناسبة تقتضي المماثلة حتى ينوب أحد المثلين مناب الثاني ، ثبت لواجب الوجود ، مثل ثبوت مناب واجب الوجود في الإيجاب فعرف أن الإيجاب الذاتي باطل فتعين الإيجاد الاختياري وذلك ما أردنا أن نورده.

فإن قيل أما كون العالم جائز الوجود واحتياجه إلى واجب الوجود فمسلّم لكن

١٥

لم قلتم : إن كونه موجودا بغيره يستدعي حدوثه عن عدم فإن وجود الشيء بالشيء لا ينافي كونه دائم الوجود به ، وإنما يتبين هذا بأن نبحث في الموضع المتفق أنه إذا أحدثه عن عدم هل كان سبق العدم شرطا في تحقق الأحداث؟.

قلنا : لا يجوز أن يكون شرطا فإن المحدث ما استند إلى المحدث إلا من حيث وجوده فقط والعدم لا تأثير له في صحة الإيجاد فيجوز أن يكون دائم الوجود بغيره.

والجواب : قلنا : الواجب أن نزيل عن الكلام ما يوقعه الوهم حتى يتجرد المعقول الصرف عن العقل فقول القائل وجد عن عدم أو بعد العدم أو سبقه العدم إن كان يعني به أن العدم شيء يتحقق له سبق وتقدم وتأخر واستمرار أو انقطاع أو شيء يوجد عنه شيء ، فذلك كله من إيهام الخيال حيث لم يمكنه تصور الأولية في الشيء الحادث إلا مستندا إلى شيء موهوم كالزمان والمدة كما لم يمكنه تصور النهاية في العالم إلا مستندا إلى شيء موهوم كالخلاء والفضاء وكما لم يمكن فرض خلاء بين وجود الباري تعالى وبين العالم لا يمكن أيضا فرض زمان وتقدير زمان بين وجود الباري تعالى وبين العالم ، فإن ذلك من عمل الوهم فقط ولا يلزم منه المعية بالزمان كما لا يلزم المعية من المكان فافهم ذلك (١) ، فيجب أن تزيل هذا الإيهام عن فكرك فيتصور أن وجود شيء لا من شيء هو المعني بحدوث الشيء عن العدم ، فإن قولنا له أول المعنى بحدوثه ، وإن قولنا لم يكن فكان هو المعنى بسبق العدم إذ لا بدّ من عبارة وتوسع في الكلام ليطلق لفظ السبق والتأخر والاستمرار والانقطاع وإذا ثبتت هذه القاعدة ، فنقول : إذا كان العالم ممكن الوجود باعتبار ذاته والممكن معناه أنه جائز الوجود وجائز العدم فيستوي طرفاه أعني الوجود والعدم باعتبار ذاته ، فإذا وجد فإنما يوجد باعتبار موجده ولو لا موجده لما استحق إلا العدم ، فهو إذا مستحق الوجود والعدم بالاعتبارين المذكورين فكان واجب الوجود سابقا عليه بالذات والوجود إذ لولاه لما وجد ، ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود بالذات والوجود جميعا لأن قبل ومع بالذات والوجود لا يجتمعان في شيء واحد فهو إذا متأخر الوجود ولا يجوز أن يكون مع واجب الوجود بالزمان لأنه يوجب أن يكون واجب الوجود زمانيا لأن قولنا مع من جملة المتضايفات كالأخوة والأبوة فأحد الشيئين إذا كان مع الثاني بالزمان كان الثاني معه أيضا بالزمان وبكل اعتبار أثبت المعية في أحد الشيئين وجب عليك أن تثبتها في الشيء الثاني ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (٢ / ١٨٧).

١٦

بالرتبة والفضيلة لأن رتبة الواجب بذاته لا يكون كرتبة الواجب بغيره وظهر أن جائز الوجود وواجب الوجود لا يكونان معا بوجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات وصح القول كان الله ولم يكن معه شيء ، فما معنى قولكم الجائز دائم الوجود بالواجب أو مع الواجب ، أو قدرتم دوام وجود الباري تعالى زمانيا ممتدا مع الأزمنة غير المتناهية ، كما توهمتم وجود العالم زمانيا ممتدا في أزمنة لا تتناهى وبئس الوهم وهمكم في الدوامين فكأنكم أخذتم لفظ الدوام بالاشتراك المحض أما دوام وجود الباري تعالى ، فمعناه أنه واجب لذاته وبذاته ولا يتطرق إليه جواز ولا عدم بوجه من الوجه ، فهو الأول بلا أول كان قبله والآخر بلا آخر كان بعده وأوله آخره وآخره أوله أي ليس وجوده زمانيا ، وأما العالم فله أول ودوامه دوام زماني يتطرق إليه الجواز والعدم والقلة والكثرة والاستمرار والانقطاع فلو كان دائم الوجود بدوام الباري كان الباري دائم الوجود بدوام العالم ، فلو كان الدوامان بمعنى واحد فيلزم أن يكون وجود الباري تعالى زمانيا أو وجود العالم ذاتيا وكلا الوجهين باطل فبطل قولكم إن العالم دائم الوجود بالواجب ، وإنما يتضح هذا البطلان كل الوضوح إذا أثبتنا استحالة حوادث لا أول لها ووجود موجودات لا تتناهى.

وأما قولكم : إن العالم في المحل المتفق عليه إنما يستند إلى الموجد من حيث وجوده فقط والعدم لا تأثير له في صحة الإيجاد ، قلنا ولو استند إلى الموجد من حيث وجوده فقط لاستند كل موجود وتسلسل القول إلى ما لا يتناهى ولم يستند إلى واجب وجوده بل إنما استند إليه من حيث جوازه فقط والجواز قضية أخرى وراء الوجود والعدم ثم جواز الوجود سابق على الوجود بالذات فنقول إنما وجد به لأنه كان جائز الوجود ولا نقول : إنما كان جائز الوجود لأنه وجد فجواز وجوده ذاتي له والوجود عرضي والذاتي سابق على العرضي سبقا ذاتيا ، ثم بينا أن الجائز مستحق العدم باعتبار ذاته لو لا موجده فكان مسبوقا بوجوده ومسبوقا بعدم ذاته لو لا موجده ، لأن استحقاق وجوده عرضي مأخوذ من الغير واستحقاق عدمه ذاتي مأخوذ من ذاته فهو إذا مسبوق بوجود واجب ومسبوق بعدم جائز فتحقق له أول والجمع بين ما له أول وبين ما لا أول له محال.

فإن قيل : فما الفرق بين وجوب العالم بإيجاب الباري تعالى وبين وجوده بإيجاد الباري تعالى ، فإن العالم إذا كان ممكنا في ذاته ووجد بغيره فقد وجب به وهذا حكم كل علة ومعلول وسبب ومسبب ، فإن المسبب أبدا يجب بالسبب فيكون جائزا باعتبار ذاته واجبا باعتبار سببه ثم السبب يتقدم المسبب بالذات ، وإن كانا معا في

١٧

الوجود كما تقول تحركت يدي فتحرك المفتاح في كمي ولا يمكنك أن نقول تحرك المفتاح في كمي فتحركت يدي وإن كانت الحركتان معا في الوجود.

والجواب : قلنا : وجود الشيء بإيجاد موجده صواب من حيث اللفظ والمعنى بخلاف وجوب الشيء بإيجاب الموجب وذلك أن الممكن معناه أنه جائز وجوده وجائز عدمه لا جائز وجوبه وجائز امتناعه ، وإنما استفاد من المرجح وجوده لا وجوبه نعم لو وجد عرض له الوجوب عند ملاحظة السبب ، لأن السبب أفاده الوجوب حتى يقال : وجب بإيجابه ثم عرض له الوجوب بل أفاده الوجود فصح أن يقال : وجد بإيجاده وعرض له الوجوب فانتسب إليه وجوده إذ كان ممكن الوجود لا ممكن الوجوب ، وهذه دقيقة لطيفة لا بدّ من مراعاتها والذي نثبته أن الواجب والممتنع طرفان والممكن واسطة إذ ليس بواجب ولا ممتنع فهو جائز الوجود وجائز العدم والوجود والعدم متقابلان لا واسطة بينهما ، والذي يستند إلى الموجد من وجهين الوجود والعدم في الممكن وجوده فقط حتى يصح أن يقال أوجده أي أعطاه الوجود ثم لزمه الوجوب لزوم العرضيات ، فالأمر اللازم العرضي لا يستند إلى الموجد ، فأنتم إذا قلتم وجب وجوده بإيجابه فقد أخذتم العرضي ونحن إذا قلنا وجد بإيجاده فقد أخذنا عين المستفاد الذاتي فاستقام كلامنا لفظا ومعنى وانحرف كلامكم عن سنن الجادة (١) ، ولربما نقول : إن الممكن إذا وجد في وقت معين أو على شكل مخصوص يجب وجوده على ذلك الوجه لأن الموجد إذا علم حصوله في ذلك الوقت على ذلك الشكل وأراد ذلك ، فهو واجب الوقوع لأن خلاف المعلوم مستحيل الوقوع والحصول ، وإذا كان ممكن الجنس جائز الذات لكن لم يكن وجوب ذلك إلا بإيجاب العلم والإرادة ، فإذا تحقق أن الوجود هو المستفاد في الحوادث لا الوجوب بطل الإيجاب الذاتي الذي يحتجون به حين بنوا عليه مقارنة وجود العالم بوجود الباري تعالى ولم يبق لهم إلا التمثيل بمثال ، وذلك من سخف المقال لأن الخصم ربما لا يسلم أن حركة اليد سبب حركة الكم والمفتاح ، ولا يقول بالتولد يبقى مجرد فاء التعقيب والتسبيب لفظا في قوله تحركت يدي فتحرك المفتاح ، وهذا كما أن المادة عند الخصم سبب ما لوجود الصورة حتى يصح أن يقال : لو لا المادة لما وجدت الصورة وهما معا في الوجود ، وليس في وجود الصورة بإيجاد المادة بل بإيجاب واهب الصور ثم إن سلم ذلك فيجوز أن يسبق السبب المسبب ذاتا ويقارنه زمانا ، فيكون زمان وجودهما

__________________

(١) انظر : الجواب الصحيح لابن تيمية (٣ / ٢٩٢).

١٨

واحدا ، وأحدهما سبب والثاني مسبب كما يقال في الاستطاعة مع الفعل لكن الممتنع وجود ما له أول مع وجود ما لا أول له وقد بينا أن هذه المعية ممتنعة على الوجود كلها أعني بالذات والوجود والزمان والرتبة والفضيلة فإن التقدم والتأخر ، والمع يطلق على الشيئين إذا كانا متناسبين نوعا من المناسبة ولا نسبة بين الباري تعالى وبين العالم إلا بوجه الفعل والفاعلية والفاعل على كل حال متقدم والمفعول متأخر يبقى أن يقال : هل كان يجوز أن يخلق العالم قبل ما خلقه بحيث يكون نسبة بدوه إلى وقتنا أكثر زمانا فيجاب عنه أن إثبات الأولية والتناهي للعالم واجب تصوره عقلا إذ البرهان قد دل عليه وما وراء ذلك تقدير وهمي يسمى تجويزا عقليا والتقديرات والتجويزات لا تقف ولا تتناهى ، وهو كما إذا سألتم هل كان يجوز أن يحدث العالم أكبر مما خلقه بحيث يكون نسبة نهايته إلى مكاننا أكبر مسافة فيجاب عنه أن إثبات الحد والتناهي للعالم واجب تصوره عقلا إذ البرهان قد دل عليه ما وراء ذلك فتقدير ذهني يسمى تجويزا عقليا والتقديرات والتجويزات لا تتناهى فتقدير مكان وراء العالم مكانا كتقدير زمان وراء العالم زمانا وبالجملة حدث العالم حيث يتصور الحدوث والحادث ما له أول والقديم ما لا أول له ، والجمع بين ما له أول وبين ما لا أول له محال هذا ما نعقله من الحدوث ضرورة وهو كتناهي العالم من الحجمية والجسمية حذو القدة بالقدة.

فإن قيل : قد دل البرهان العقلي على أن جسما ما لا يتناهى ذاته بالفعل مستحيل وجوده فبينوا أن حركات متعاقبة وحوادث متتالية لا تتناهى مستحيل وجودها فإن عندنا التناهي واللاتناهي إنما يتطرق إلى أربعة أقسام اثنان منها لا يجوز أن يوجدا غير متناهيين الذات وهو ما له ترتيب وضعي كالجسم أو طبيعي كالعلل فجسم لا تتناهى ذاته مستحيل وجوده وعلل ومعلولات لا تتناهى بالعدد مستحيل وجودها أيضا ولكل واحد من القسمين ترتيب في الوجود أما الجسم فله ترتيب وضعي ولأجزائه اتصال ، ولكل جزء منه إلى جزء نسبة فلا يجوز وجود جسم غير متناه في زمان واحد ، وأما العلل فلها ترتيب طبيعي ، فإن المعلول يتعلق بعلته ولكل معلول إلى علته نسبة فلا يجوز وجود جسم وعلل ومعلولات لا تتناهى ، وأما القسمان اللذان يوجدان غير متناهي الذات فإن أحدهما الحوادث والحركات التي لا تترتب بعضها على بعض لضرورة ذاتها بل تتعاقب وتتوالى شيء بعد شيء في أزمنة غير متناهية فإن ذلك جائز عقلا والثاني النفوس الإنسانية فإنها موجودات لم تتعاقب بل هي مجتمعة في الوجود ولكن لا ترتيب لها وضعا كالجسم ولا طبعا كالعلل فيجوز أن توجد غير متناهية.

١٩

والجواب قلنا : كل ما حصره الوجود وكان قابلا للنهاية فهو متناه ضرورة وما لا يتناهى لا يتصور وجوده سواء كان له ترتيب وضعي أو طبيعي أو لم يكن.

والبرهان على ذلك بحيث يعمّ الأقسام الأربعة أن كل كثرة لا تتناهى فلا تخلو إما أن تكون غير متناهية من وجه أو غير متناهية من جميع الوجوه والجهات ، وعلى القسمين جميعا فإنا يمكننا أن نفصل منهما جزءا بالوهم ، أو بالعقل فنأخذ تلك الكثرة مع ذلك الجزء شيئا على حدة ونأخذها بانفرادها شيئا على حدة فلا يخلو إما أن تكون تلك الكثرة مع تلك الزيادة مساوية للكثرة من غير الزيادة عددا أو مساحة فيلزم أن يكون الزائد مثل الناقص ومساويا له وهذا محال وإما أن لا يكون مساويا له فيلزم أن يكون كثرتان غير متناهيتين وإحداهما أكبر والثانية أنقص وهو أيضا محال ، وهذا البرهان إن فرضته في جسم غير متناه من جميع الجهات أو من جهة واحدة فالعبارة عنه أن نقول لك أن تفرض نقطة من ذلك الجسم وتفصل منه مقدارا فتأخذ ذلك الجسم مع ذلك المقدار شيئا على حدة وبانفراده شيئا على حدة ثم نطبق بين النقطتين المتناهيتين في الوهم ، فلا يخلو إما أن يكونا بحيث يمتدان معا مطابقين في الامتداد إلى ما لا يتناهى فيكون الزائد والناقص متساويين ، وإما أن لا يمتدا بل يقصر أحدهما عنه فيكون متناهيا والقدر المفضول كان متناهيا أيضا ، فيكون المجموع متناهيا أيضا وقد فرضه غير متناه هذا خلف ، وكذلك إن فرضته في حركات غير متناهية أو أشخاص غير متناهية متعاقبة أو مجتمعة أو تفرض نفوسا غير متناهية معا أو مجتمعة في الوجود فالعبارة عنه أن يقول لك أن تفرض حركة واحدة أو شخصا واحدا وتفصل من الحركات أو الأشخاص مقدارا بالتوهم وتنسب الحركات الزائدة إلى الحركات الناقصة وتم البرهان من غير تفاوت بين الصورتين.

قال أبو علي بن سينا (١) : هاهنا فرق وهو أن الجسم له ترتيب وضعي أمكنك أن تعين فيه نقطة ثم ترتب عليها جواز الانطباق والامتداد إلى ما لا يتناهى وليس للحركات المتتالية ترتيب وضعي فإنها ليست معا في زمان واحد فلا يمكنك أن تعين فيها حركة واحدة وترتب عليها جواز الانطباق لأن ما لا يترتب في الوضع أو الطبع فلا يحتمل الانطباق.

قيل له : جوابك عن هذا الفرق من وجهين أحدهما أنك فرضت النقطة في الجسم والامتداد إلى ما لا يتناهى بالوهم وقدّرت التطبيق أيضا بالوهم فقدر وهما أن

__________________

(١) انظر : كتاب النجاة (ص ٣٠٢).

٢٠