نظريّة المعرفة

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

نظريّة المعرفة

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: المركز العالمي للدّراسات الإسلامية
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

١
٢

تصدير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«نظرية المعرفة» ، علم يبحث عن حقيقة المعرفة الإنسانية وقيمتها وأدواتها ، وما يرتبط بتلك من العوارض كمراحل المعرفة وحدودها وموانعها وغير ذلك ، وهو من العلوم التي عكف عليها الغربيون في القرون الأخيرة ، واضافوا عليه صبغة علم مستقل.

وقد بحث عنها الفلاسفة الإسلاميون في مختلف فصول علمي المنطق والفلسفة ، ولكنهم لم يفردوها بالبحث المستقل. ولذا فقد طلب مني عدّة من أفاضل الجامعة الإسلامية ، قديماً وحديثاً ، أن أُقدّم لهم محاضرات تشتمل على أكثر مسائلها ، مع التركيز على ما هو المحقّق في الفلسفة الإسلامية ، والتطرق إلى آراء الغربيين فيها ، فكانت تلك المحاضرات ، ثمّ كانت ثمرتها هذا الكتاب الماثل بين يديك ، وهو نتيجة جهود ولدنا الفاضل المحقق العلامة الشيخ حسن محمد مكي العاملي ـ أدام الله توفيقه ـ وهو ممن يشار إليه بالأنامل ، بين الأماثل والأفاضل.

وقد بذل ـ أيّده الله تعالى ـ مساعيه وجهوده في ضبط بحوث هذا العلم ، وترصيف فصوله ، والرجوع إلى المصادر التي نقلت عنها ، وقد أبدع في كل ذلك وأجاد ، ببيان فائق خال عن الإيجاز المخل ، والإطناب المملّ ، وبعين الله ، فلقد أتحف المكتبة العربية والإسلامية بهذا الأثر ، وسدّ الفراغ الهائل الذي كانت تعانيه

٣

في هذا المجال. فأسأله سبحانه أن يرفعه في سماء الكمال ، بجناحي المعرفة والعمل ، ويبلغ به المدارج العالية ، إنّه على ذلك قدير ، وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

٢٥ شهر رمضان المبارك

١٤١٠ ه‍ ق.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كلمة المؤلف

الحمد الله المتفرّد في كماله ، والمتعالي في جلاله ، والمتجلي ببهائه وجماله ، الذي أغرق الكائنات بفيض نعمه ، وكفى بوجودها بعد عدم نعمةً وكرامةً. ثمّ خصّ منها الإنسان بوافر عطائه ، (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (١) ، حتى عادت ألطف الموجودات له خاضعة ، (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) (٢).

ولم يكن امتياز الإنسان عن سائر الكائنات إلّا بعلمه ومعرفته ، (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٣) ، وإنّما سجدت له الملائكة لذلك ، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(٤).

وكرامة العالم والمعرفة التي بها كمال الإنسان وشرافته ، إنّما هي ثمرة جهود الأدوات التي جهّزه خالقه بها في ظاهره وباطنه ، (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (٥) : الحسّ

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٧٠.

(٢) سورة البقرة : الآية ٣٤ والإسراء : ٦١. الكهف : ٥. طه : ١١٦.

(٣) سورة العلق : الآيتان ٤ و ٥.

(٤) سورة البقرة : الآية ٣١.

(٥) سورة النحل : الآية ٧٨.

٥

والعقل ، وما يتركب منهما. وبها يكتسب ما لا يعلمه إطلاقاً ، أو يُخرج إلى الفعلية ما يعلمه بالقوة من الإدراكات الفطرية الأولية. وانكار واحدةٍ من تلك الأدوات ، نتيجته شلُّ الفكر الإنساني عن إدراك ما يحيط به من كونٍ ووجود ، غائب ومشهود. كما أنَّ إثباتها مع إنكار كاشفيتها أو القول بنسبيتها أو الشك فيها ، نتيجته تخطئة المعارف والعلوم البشرية ، وسلب الإنسان ذلك الكمال.

وفي هاتين المرتبتين زلّت أقدام الكثيرين ، فأنكرت جماعة أداة العقل كلية ، وحصرها آخرون في بعض المدركات الفطرية. وأنكر قوم كاشفية أدوات المعرفة ، وقال بعض بنسبيتها ، وشك آخرون في مطابقة معطياتها للواقع. وقد كانت هذه وخزات ، لا بل طعنات في صميم قلب المعرفة البشرية ، فأسدل الكثيرون الستار على الغيب ، وحجزوا مواهب الإنسان بين جدران ضيّقة ، فابتعدوا عن الحق جلّ شأنه ، وسقطوا بالتالي في الهاوية ، (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (١).

فما أحوج كلّ عالِمٍ إلى التحقيق في قيمة المعرفة وأدواتها ، ليدرك حدودها ، ويَعِيَ أُطُرَها ، فلا يحجز نفسه عن علم وكمال ، ولا يسوقها إلى مهلكة وضياع.

وبين هذه وتلك ، مسائل على جانب كبير من الأهمية ، تَصُبّ بأجمعها ضمن المحيط المرسوم أعلاه. ولئلا نُجْمِل ونبهم ، نُلمع إلى بعضٍ منها :

فبعد أن نذعن بأنّا ندرك حقائق وقضايا ما ، كيف يمكننا أن نحكم بصدقها وخطئها؟ وبعبارة ثانية : ما هو الملاك الذي يكون به الشيء حقاً أو باطلاً؟.

وبعد أن نعرف ذلك الملاك ، كيف نعرف بأنّ هذه القضية العلمية أو الفلسفية المطروحة أمامنا ، متصفة به؟ وما هي الوسيلة التي بها نستكشف وجود ملاك الحقيقة أو الوهم في قضية من القضايا؟.

وفي البابين آراء وأنظار ، وللغربيّين زلّات وشطحات :

ففي الباب الأول : جعل بعضهم الحقيقة والبطلان دائرين مدار قبول المجتمع له ورفضه ، ويلاحظ ذلك لدى الفيلسوف الفرنسي «أوغست كونت» (٢)

__________________

(١) سورة الحشر : الآية ٥٩.

(٢)etmoC etsuguA ، (١٧٩٨ ـ ١٨٥٧ م).

٦

في فلسفته الوضعية (١). وجعلهما آخرون دائرين مدار النفع والضرر ، كما هو ملاحظ لدى الفيلسوف الأميركي «ويليام جيمس» (٢) في فلسفته البراجماتية (٣) وأخضعتهما النسبية الفلسفية (٤) وأصحابها للظروف الزمانية والمكانية المحيطة بالمدرك وللجهاز العصبي المسيطر على المدارك. وفي مقابل ذلك كلّه ، جعل الفلاسفة الإسلاميون لكل قضية واقعاً ، تصدق إذا طابقته ، وتبطل إذا خالفته.

وفي الباب الثاني يرى الإسلاميون أن المعارف البديهية هي الحجر الأساس لتشخيص وجود ملاك الحقيقة والوهم في كل قضية ، وتعيين المعرفة الصحيحة من الزائفة ، بينما يري «بيكون» (٥) في فلسفته الحسّية (٦) أنّ التجربة هي المعيار. وبديهي ـ حينئذٍ ـ أنّ كل ما لا يمكن تجربته ، لا يمكن معرفة صدقه أو بطلانه!. وجعلت الماركسية (٧) ومَنْ تأثّر بها ، الغلبة علامة الحق وآيته ، والهزيمة ملاك الباطل وعَلَمه.

وبعد هذا كلّه ، ألا ترى لكل راغب في ولوج ديار العلوم والمعرفة ، ضرورة طرق هذه الأبواب ، وحلّ هذه المسائل ، وتأسيس رأي قاطع فيها ، واتّخاذ موضع حاسم من الآراء الأُخرى المطروحة فيها؟.

هذا ما أخذناه على عاتقنا في هذا الكتاب إذ قمنا بتدوين مباحث حضرة الأُستاذ الكبير ، علّامة الفلسفة والكلام والإلهيات ، والتفسير والفقه وعلومه ، الشيخ الجليل جعفر السبحاني التبريزي وهو أشهر من أن أعرِّفه ، وآثاره تمخر شرق العالم وغربه. ولقد سعيت قدر المستطاع إلى صياغة المعاني بعبارات تقرّبها إلى الأفهام ،

__________________

(١)msivitisoP.

(٢)semaJ mailliW ، (١٨٤٢ ـ ١٩١٥ م).

(٣)msitamgarP.

(٤)msivitaleR.

(٥)mocaB sicnarF ، (١٥٦١ ـ ١٦٢٦ م).

(٦)msilausneS.

(٧)msixraM.

٧

وتُسهّل إدراكها ، لأنّ المطلوب أولاً وأخيراً هو النفع والبيان لا الإلغاز والإبهام. وأشرت إلى مصادره ، وبينت أعلامه ومذاهبه ، وعلقت عليه بما يسعه ظرف الكتاب. ولم تمض مسألة من مسائل هذا الكتاب إلّا وقد ناقشت حضرة الأستاذ أو استوضحته فيها ، حتى خرج لك في هذا الثوب المتقن المرصّع المتناسق.

فأسأل الله سبحانه خلوص النية في أعمالي ، (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (١) ، وأن يتقبل هذا المجهود بأحسن قبوله ، ويعمّ به النفع في محافل العلم والمعرفة ، ويطيل عمر سماحة الأُستاذ ليبقى نوراً يُشع الضياء على دروب المهتدين ، بنبيّه محمد وآله الطاهرين ، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

حسن مكي العاملي

الجمعة ، السابع من شهر ذي القعدة الحرام

١٤١٠ للهجرة

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٣٧.

٨

المقدمة

نظرية المعرفة والمعارف البشرية

٩
١٠

مقدّمة

نظرية المعرفة والمعارف البشرية

«نظرية المعرفة» (١) علمٌ حديث أُسِّس في الغرب منذ ثلاثة قرون ، واهتم به الفلاسفة الغربيون اهتماماً بالغاً ، حتى خصّ البعض منهم فلسفته بتبيين ما يرجع إلى المعرفة وأدواتها(٢).

والغاية المطلوبة من هذا العلم هي الوقوف على حقيقة المعرفة وأدواتها وحدودها.

ونظرية المعرفة ، وإن لم تُطرح في الفلسفة الإسلامية بصورة مستقلة ، غير أن إمعان النظر في مختلف أبواب الفلسفة الإسلامية وفصولها ، يوقف الباحث على أنهم طرحوا مسائلها متفرقة مبثوثة فيها ، ولم ينظروا إليها كعلم مستقلّ ، وسيظهر

__________________

(١) إنّ تعبيرنا ب «المعرفة» في هذا الكتاب ، لا يراد منه ما هو الرائج عند الفلاسفة ، فإنّ المعرفة عندهم ـ تبعاً للغة ـ تطلق على إدراك الجزئيات ، فيقال : «عرفت زيداً» ، و «عرفت الله» ، ولا يقال : «عرفت الإنسان». بل المراد هنا ما يرادف «العلم» ، الّذي يتعلق بالجزئيّ والكلي على حدّ سواء. ولعلّ استخدامهم لفظ «المعرفة» في مباحث هذا العلم ، إنّما كان متابعة للأوروبيين ، حيث يستعملون لفظة : «إپستمولوجيا» (ygolometsipE (المرادف ل «مبحث المعرفة». ولذلك ربما استعملنا نحن في بعض المواضع لفظة العلم» بدل «المعرفة» ، لاقتضاء المناسبة ، ولا ضَير في ذلك ، كما عرفت.

(٢) نظير الفيلسوف الألماني «كانت» (tnaK) (٤٢٧١ ـ ٤٠٨١ م) ، فإنّ معظم فلسفته كانت تتلخص في هذا المجال.

١١

لك ذلك من مباحث هذا الكتاب ، فتقف في كل فصل على آراء ونصوص من الإسلامين في مواضيعه المختلفة. وهذا يدلّ على أنّهم لم يكونوا غافلين عن الأهمية البالغة والأساسية ل «أبحاث المعرفة» ، في بناء صرح المعارف البشرية.

وقبل الخوض في المقصود ، وتقليب فصول النظرية ، لا بدّ من الإشارة ـ ولو إجمالاً إلى العلاقة القوية ، والصلة الوثيقة القائمة بين أبحاث نظرية المعرفة ومجمل المعارف البشرية ، فنقول :

إنّ من البواعث الحافزة على البحث في نظرية المعرفة ، أنّ تقييم جميع المناهج الفلسفية والعلمية يتوقف على المنحى والاتجاه المتخذ في هذا العلم. فما لم يتخذ العالم رأياً حاسماً في المسائل المطروحة في العلم ، لا يصح له الإذعان بأيِّ قانون فلسفي أو علمي.

توضيح ذلك : لا شك في أنّ هناك مناهج فلسفية مختلفة ، لكلٍّ منها نظرية كونية خاصة ، ولها أُصول وقواعد. كما أنّ هناك علوماً تكوينية مدوّنة ، يبحث كل منها عن جانب وناحية من الكون ، كعلم الفلك ، وعلم الحيوان ، وعلم النبات ، وعلم الفيزياء ، وعلم الكيمياء ، وغير ذلك من أبواب العلوم التي أسسها البشر بجهود متوالية عبر القرون. وكلّ هذه المعارف تتصدر بالمعرفة بها ، فيقال معرفة الكون والوجود ، معرفة الأفلاك ، معرفة الحيوان ، معرفة النبات ... الخ. فلا بد قبل الخوض في أي مجال فلسفي أو علمي من الوقوف على واقعية المعرفة الإنسانية ، ورفع الستار عن حقيقتها وبيان حدودها ، وطرق الوصول إليها ، وإلّا فلن يعود شيء من تلك المناهج والعلوم بثمرة. مثلاً :

١ ـ إنّ من المباحث الدارجة في نظرية المعرفة ، البحث عن واقعية ما يريه الذهن ، وأنّه هل هناك وراء الذهن والصور الموجودة فيه عالم فسيح تحكي عنه تلك الصور ، أو أنّ دائرة الوجود منحصرة بالذهن والذهنيات وليس وراءها شيء؟

فالواقعيون على الأول ، والمثاليون على الثاني ، على اختلاف الفريقين في مراتب الإثبات والإنكار.

١٢

فما لم تُحَقَّق هذه المسألة ، ويتكوّن فيها رأي قاطع ، لن تكون المناهج الفلسفية أولاً ، ولا العلوم ثانياً ، منتجةً ولا مثمرة.

٢ ـ إنّ من المسائل المهمة في هذا العلم تقييم ما يريه الذهن بصُوَرِه وإدراكاته. فَبَعْدَ الإذعان بأنَّ هناك عالماً واقعياً وراء الذهن ، والإنسان جزء منه ، يقع الكلام في مدى صحة ما يعكسه الذهن عن ذلك العالم ، وأنّ الإدراكات الذهنية هل هي مطابقة للواقع مطابقة تامة ، أو أنّ ما يدركه الذهن شبح وطيف من الحقيقة ، وليس هو نسخة مطابقة للأصل ، بل هناك فروق ماهوية بين العلوم الذهنية والكونيات الخارجية؟

ولا شك أنّه ما لم يثبت إمكان صلة الإنسان بالواقع الخارجي ، وما لم يتقرر مدى إراءة الذهن وصوره للواقع الخارجي ، فلن يقدر الإنسان على اتّخاذ أي رأي في مجال المعارف الكلّية الفلسفية أولاً ، والكونية الطبيعية ثانياً.

ومُجْمَل القول : إنّ المعارف الكليّة والعلمية التي تحتل مكانة عالية عند البشر ، سواءٌ أقلنا إنّ للعلم شرافة ذاتية بها ترتفع قيمة الإنسان كما بالجهل تنخفض ، أم قلنا إنّ شرافة العلوم وقيمتها ناشئة من إعانتها الإنسان في رفاه حياته المادية ـ على كل تقدير إن تلك المعارف والعلوم ومجمل الأفكار البشرية ، لا يقام لها وزن ولا اعتبار ما لم تعلم قيمة نفس المعرفة بأبعادها المختلفة ، وبالدرجة الأولى اتّخاذ موقف حاسم فيها يرجع إلى وجود عالم واقعي وراء الذهن أولا ، ثمّ على فرض وجوده ، بيان مدى قدرة الذهن وأدواته التي تجهّز بها ، على كشف ما وراءها ، هل تكشفه كشفاً تامّاً ، أو أنّها لا تكشف إلّا عن صورة ناقصة له؟

٣ ـ إنّ أدوات المعرفة العادية تتلخص في : العقل والحسّ. وهما وسيلتا اتّصال الإنسان بخارجه. وما يقف عليه الإنسان من المعارف والعلوم إنّما يقف عليه من طريقهما. فلزم لذلك معرفة تلك الأدوات والقوانين السائدة عليها معرفة تامّة ، إذ بدون ذلك لا يمكن أن نستنتج بواسطتها معارف كلّية أو علوماً كونية.

إنّ مَثَلَ الذهن ـ الذي هو ـ بأدواته ـ الآلة الوحيدة للإدراك ، وكيفية عمله ، مَثَلُ آلة التصوير الّتي هي الآلة الوحيدة للمصور ، فكما أنّ المصوَّر الماهر إِنّما يقدر على التصوير المتقن المُعْرِب عن الواقع ، إذا كان عالماً بنظرية آلة

١٣

التصوير وكيفية تركيبها وصنعها وإعمالها والتحكم فيها ، وبدون ذلك يختل عمل التصوير ، ويفشل بالتالي في إخراج صور مطابقة للواقع ، فكذلك الحكيم والعالم الباحثان عن الحقائق ، يلزمهما التعرّف على الذهن ، وأدواته ، وقدرة عمله ، وسائر خصوصياته.

فإذا كنّا نرى أنّ الباحثين في الفلسفة منقسمين إلى طائفتين : إلهيةٍ ترى نطاق الوجود أوسع من المادة ، وماديةٍ تنظر إلى عالم الوجود بمنظار ضيق ، فتحصره في المادة والطاقة ، فما هذا إلّا لاختلافهم في أدوات المعرفة. فمن يرى أنّ كلاً من العقل والحسّ أداة للمعرفة ، يقول بالطبيعة وما وراءها ، ومن يلغي العقل ويحصر أداة المعرفة في الحسّ ، يجنح إلى المادة وينكر ما وراءها.

إنّ هذه الوجوه ، وغيرها مما ستقف عليه في ثنايا الكتاب ، تُظْهر المكانة المرموقة التي تحتلها «نظرية المعرفة» بين العلوم البشرية ، وأنّها أساس كل معرفة ونظرية يتبناها الإنسان ، سواء أكان إلهياً أم ماديّاً ، وفيلسوفاً أم عالماً طبيعياً.

فلما لم يتخذ الباحث موقفاً حاسماً في مسائل نظرية المعرفة ، لن يمكنه الإذعان بشيء من سائر المعارف ، فكأنّ نظريةَ المعرفة ، أبجدُ العلوم وألف باؤها ، فهي الحجر الأساس لكل رأي ونظر يتبناه العالم في كل من مجالَيْ الفلسفة والعلم الطبيعي.

* * *

١٤

الفصل الأوّل

تعريف المعرفة

١٥
١٦

الفصل الأول :

تعريف «المعرفة» (١)

هل «العلم» بحاجة إلى تعريف؟

الهدف من كل تعريف ، رفع الإبهام في المعرَّف ، وهو يتحقق بصورٍ مختلفة :

فتارة بوضع مفهومٍ واضحٍ مكان آخر مبهم ، كما إذا سُئلنا عن حقيقة الأورانيوم ، فنقول : إنّه أحد العناصر المشعّة.

وأُخرى ببيان آثاره وخواصه ، كما لو سئلنا عن الياسمين ، فنقول : إنّه زهر ذو عطر.

وثالثة ببيان العناصر التي تكوّن الشيء وتؤلفه ، كما في تعريف الماء بأنّه : المركب من عنصرين : الأوكسجين والهيدروجين. أو الملح بأنّه المركب من : الكلور والصوديوم.

ورابعة ببيان ماهية الشيء. كما تقول : الإنسان حيوان ناطق.

فعلى كل تقدير ، أنّ الهدف من التعريف هو رفع الإبهام. ومنه يعلم أنّه متى لم يكن حول الشيء إبهام أو إجمال ، فهو غني عن التعريف. ولعلّ المعرفة

__________________

(١) تقدّم أنّ المراد من المعرفة ، المعرفة بالمعنى الأعم ، وهو ما يرادف العلم.

١٧

والعلم من هذا القبيل ، لأنّها من الأُمور التي يعايشها الإنسان في جميع لحظات وفترات عمره إلى أن تفارق روحُه بَدَنَه. وهي من الآمال التي يطمح إليها كل إنسان في يومه وساعته. فلذلك لم نكن في حاجة مُبرمة إلى تعريفها.

وإلى ما ذكرنا ذهب الإمام الرازي (٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه‍) ، فقال بأنّ العلم أمر ضروري ، وهو مستغنٍ عن التعريف ، واستدلّ على ذلك بوجهين :

الأول : إنّ عِلْم كُلِّ أَحَدٍ بأنّه موجود ، ضروري ، أي حاصل له بلا اكتساب ونظر ، وهذا علم خاص ، متعلّق بمعلوم خاص وهو وجوده ، والعلم المطلق جزء منه ، لأنّ المطلق ذاتي للمقيّد ، والعلم بالجزء ، سابقٌ على العلم بالكلّ. فإذا حصل العلم الخاص ـ الذي هو حاصل لكلّ أحد بالضرورة كان العلم المطلق ـ الذي هو جزؤه ـ سابقاً عليه ، والسابق على الضروري أولى أن يكون ضرورياً ، فالعلم المطلق ضروري ، وهو المطلوب.

الثاني : لو كان العلم كسبياً معرَّفاً ، فإمّا أن يُعرف بنفسه ، وهو باطل. أو بغيره ، وهو باطل أيضاً ، لأنّ غير العلم إنّما يعلم بالعلم ، فلو علم العلم بغيره لزم الدور ، لتوقف معلوميّة كل منهما على معلومية الآخر(١).

وفي مقابل ما ذكرناه من ضرورية العلم وعدم احتياجه إلى التعريف ، رأيان آخران نشير إليهما :

١ ـ إنّ تعريف العلم ليس ضرورياً ، بل هو نظري ، ولكن يعسر تحديده. وإليه ذهب إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (٤٧٨ ه‍) (٢).

وتبعه الغزالي (٤٥٠ ـ ٥٠٥ ه‍) في ذلك ، قال : يعسر تحديد العلم بعبارة محرّرة جامعة للجنس والفصل الذاتيين ، فإن ذلك متعسّر في أكثر الأشياء ، بل في أكثر المدركات الحسّية ، فكيف لا يعسر في الإدراكات الخفية (٣).

__________________

(١) شرح المواقف ، ج ١ ، ص ٦٢ ـ ٦٦ ، بتصرّف وتلخيص. وكان على الرازي الاكتفاء بما ذكرناه من دون إقامة البرهان على كونه بديهياً ، لعدم حاجته إليه.

(٢) شرح المواقف ، ج ١ ، ص ٦٧.

(٣) المستصفى ، ج ١ ، ص ٢٥ ، بتصرف.

١٨

٢ ـ إنّ العلم نظري ، ولا يعسر تحديده. وقد ذكر له المتقدمون والمتأخرون من الحكماء والمتكلمين والعلماء ، تعاريف شتّى أكثرها باطل أو رديء ، نذكر بعضاً منها فيما يلي.

التعاريف التي ذكرت للعلم

أما ذكره المتكلمون

١. نقل عن المعتزلة تعريفهم العلم بأنّه : اعتقاد الشيء على ما هو عليه. وأضاف أبو هاشم الجبّائي (٣٢١ ه‍) : مع سكون النفس إليه(١).

وهذا التعريف رديء من جهات :

أمّا أوّلاً ، فلخروج التصوّر عنه ، لعدم اندراجه في الاعتقاد.

أمّا ثانياً ، فلخروج العلم بالمستحيل ، عنه ، لأنّه ليس شيئاً. والقول بأنّ العلم لا يتعلّق بالمستحيل مكابرة ، اللهم إلّا أن يقال بأنّ الشيء يَعُمُّ المعدوم والموجود ، والممكن والمستحيل ، كما هو المعروف من مذهب المعتزلة ، وهو باطل.

وأمّا ثالثاً ، فلد خول الظن الحاصل عن ضرورة أو دليل ظني ، فيه. ولأجل ذلك خصّ بعضهم الاعتقاد بالجازم.

وأمّا رابعاً ، فلد خول التقليد فيه ، إذا طابق. ولأجل ذلك زاد بعضهم لفظ : «عن ضرورة أو دليل».

٢. عرّف القاضي أبو بكر الباقلاني (٤٠٣ ه‍) العلم بأنّه : «معرفة المعلوم على ما هو عليه».

وهو أيضاً ضعيف ، من جهتين.

الأُولى : أنّه مشتمل على الدور ، لأخذ المعلوم المشتق ، من العلم ، في

__________________

(١) أصول الدين ، للبغدادي ، ص ٥.

١٩

تعريف. اللهم إلّا إن يعتذر عنه بأنّه تعريف بشرح الاسم ، لا بالحد والرسم.

الثانية : أنه لا يصدق على علمه سبحانه ، لأنّه لا يطلق عليه «المعرفة» ، لأنّها العلم بعد الجهالة.

٣ ـ نسب إلى الشيخ الأشعري (٢٦٠ ـ ٣٢٤ ه‍) تعريف العلم بنحوين :

تارة بقوله : العلم هو الذي يوجب كون من قام به عالماً ، أو هو الذي يوجب أن يطلق على من قام به اسم العالم.

وأُخرى أن العلم هو إدراك المعلوم على ما هو عليه.

أمّا التعريف الأول فإنّه كما ترى ، لا يفيد تصوراً زائداً.

وأمّا التعريف الثاني ، فلا يفيد أمراً زائداً على ما قبل التعريف.

٤ ـ عرّف ابن فورك الأشعري (٤٠٦ ه‍) العلم بأنّه : ما يصح ممن قام به اتقان الفعل ، أي إحكامه وتخليته عن وجوه الخلل (١).

ولكن هذا ليس تعريفاً للعلم ، إذ ليس كل علم يصح أن يقع مبدأً للفعل ، كالعلوم النظرية البحتة.

ب ـ ما ذكره الحكماء

عرّف قدماء الحكماء العلم بأنّه حصول صورة الشيء لدى العقل ، أو انطباع صورته في الذهن ، سواء أكان الشيء كلّياً أم جزئياً ، موجوداً أم معدوماً.

وهذا التعريف أشهر ما ذكر للعلم ، ومع ذلك فهو ناقص من جهات عدّة نذكرها فيها يلي ، وعلى ضوء ملاحظتها يمكن إعطاء تعريف جامع للعلم.

الجهة الأُولى ـ التعريف لا يشمل العلم الحضوري

إنّ هذا التعريف لا يشمل إلّا قسماً من العلم هو العلم الحصولي. وأمّا

__________________

(١) لاحظ فيما نقلناه من تعاريف المتكلمين : شرح المواقف ، ج ١ ، ص ٦٩ ـ ٧٦.

٢٠