الفرقة الناجية

الشيخ ابراهيم القطيفي

الفرقة الناجية

المؤلف:

الشيخ ابراهيم القطيفي


المحقق: حبيب آل جميع
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٣

١
٢

٣

٤

الإهداء

إلى الذين يسهرون ويتعبون في سبيل إنقاذ المخطوطات الإسلامية من الضياع والاندثار .. ويعملون على تحقيقها وإخراجها الى النور.

٥
٦

هذه السلسلة

ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا بأن الحضارة الإسلامية كانت من أهم الحضارات التي اهتمت بالنشاط الفكري والعلمي ، وساهمت بفاعلية في تقدم البشرية وتطورها الروحي والفكري. نجد مصداق ذلك في هذا التراث الفكري الضخم ، المتوزع في أغلب مناطق العالم الاسلامي ، حيث تنتشر المكتبات الخاصة والعامة. محتفظة بكم هائل من المخطوطات التي استطاعت أن تقاوم الزمن والتحديات الطبيعية والإنسانية.

فرغم الحروب السياسية والطائفية التي أتت على قسم كبير من هذا التراث المكتوب في الماضي ، والانتباه المبكر للاستعمار الغربي للقيمة المعرفية والعلمية التي يتضمنها هذا التراث المخطوط ، ومن ثم الشروع في عملية نهب واسعة النطاق ، اسفرت عن نقل وتجميع آلاف المخطوطات الاسلامية ، ونقلها الى مراكز البحث في الغرب ، لتتم الاستفادة منها. وفعلا قد تمت الاستفادة من هذا المخزون المعرفي في جميع المجالات ، سواء اعترف الغرب بذلك أم لم يعترف. لكن تحقيق بعض المخطوطات العلمية ، المهمة وطباعتها لم يترك مجالا للشك بأن الاستفادة قد تمت بشكل واضح وكبير. ليس فقط على مستوى الحقائق العلمية ، ولكن على مستوى النظريات والآراء والمذاهب الفلسفية كذلك.

وحركة النهب الاستعماري لتراث الأمة الاسلامية لا تحتاج الى مزيد من الادلة ، لأنه يندر ألا يوجد داخل أية مكتبة مهمة في الحواضر الغربية قسم للمخطوطات العربية والاسلامية.

٧

ففي المكتبة الأهلية بباريس توجد (٦٨٥٣) مخطوطة اسلامية حسب فهرس جورج وجده ، الذي وضعه للمخطوطات الاسلامية العربية سنة ١٩٥٦ م ، نفس الكلام يمكن أن يقال عن مكتبات ومراكز البحث في ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وايطاليا واسبانيا.

وهذه المخطوطات التي أصبحت من ممتلكات الحضارة الغربية المعاصرة تشمل جميع المجالات العلمية والثقافية واللغوية والأدبية والفكرية العامة ، وتنتمي من حيث المصدر الجغرافي والمذهبي للعالم الإسلامي بكل فرقه الدينية والسياسية ، وتياراته الفكرية والمعرفية. اما مساحة الزمن التي تحيط بها هذه المخطوطات فتبتدئ من ظهور الاسلام والى بدايات الطباعة العصرية الحديثة.

ان حجم التراث الإسلامي المخطوط ، والذي اصبح بحوزة الغرب ليس قليلا ، لكن البعض يجد العزاء في اهتمام الدارسين والمستشرقين بهذا التراث ، وعدم اهماله وتضييعه. بل تمت معالجة عدد لا بأس به من المخطوطات بالتحقيق والإخراج والطباعة. وعولج القسم الآخر بتقنيات المحافظة المتقدمة ، والتي انتشلته من يد الاندثار والضياع المحتوم.

وإذا أضفنا الكمّ الهائل من المخطوطات التي هي بحوزة المكتبات الوطنية الى ما تحتويه مكتبات الغرب ، فإن الكم والحجم سيكون ضخما جدا ، قد يصل الى أربعة ملايين مخطوط ، على أن هذا الرقم ليس جردا دقيقا أو شاملا ، وانما «هو هذا المعروف» كما يقول الدكتور عبد الحميد الرفاعي خبير المخطوطات والمصورات في دار الكتب الوطنية (ابو ظبي).

وهذه الاشارة من الدكتور الرفاعي لها أهميتها البالغة ، وذلك لأن المؤسسات الثقافية الوطنية التي اتخذت على عاتقها جمع التراث الإسلامي المخطوط والاهتمام به ، لم تكن لديها الخطة الشاملة المتكاملة لجمع التراث الإسلامي والاحاطة بكل اتجاهاته وتياراته المعرفية والدينية ، وانما كان الاهتمام منصبا على المعروف ، مثل مكتبات بعض العلماء المشهورين الذين سلمت مكتباتهم بعد وفاتهم. أو محتويات

٨

بعض المكتبات القديمة المتواجدة في المساجد أو الزوايا وبعض دور العبادة الخاصة. وهذا التراث المخطوط يكاد يستوعب مجمل التراث الفكري والديني لمذاهب أهل السنة والجماعة بالخصوص ، على اعتبار التواؤم السياسي المستمر منذ قرون خلت بين أصحاب هذه المذاهب وبين السلطات المتعاقبة على الحكم في العالم الإسلامي بشكل عام. لذلك يمكن الحديث عن تراث منسي لم يلتفت إليه الا نزرا ، أو بالصدفة دون قصد أو تخطيط. هذا التراث هو الانتاج الفكري العام لباقي الفرق الاسلامية ، وعلى رأسها فرقة الشيعة الامامية الاثني عشرية.

طبعا ظهرت عدة محاولات قام بها مستشرقون وكذلك باحثون مختصون ينتمون لهذه الفرق للاهتمام بتراثهم الفكري والديني المخطوط ، ومحاولة البحث عنه واخراجه الى النور. لكن هذه المحاولات ظلت محدودة مقارنة بالحجم والكم الهائل الذي ما زال ينتظر دوره ، خصوصا تراث الشيعة الإمامية. لأن نتاج هذه الفرقة الاسلامية جاء متميزا من حيث الكم والمضمون.

على أن الحصار الذي كان مضروبا على المجتمعات الشيعية الصغيرة ساهم في الحيلولة دون التعرف على هذا التراث أو الاهتمام به ، خصوصا في المناطق ذات النفوذ السياسي السني.

في هذا الإطار يأتي الكلام حول التراث الفكري الامامي المخطوط في الجزيرة العربية ، وبالخصوص داخل المنطقة الشرقية ، حيث يتمركز المجتمع الشيعي الإمامي منذ قرون والحديث عن مخطوطات الامامية في المنطقة الشرقية حديث ذو شجون ، وذلك للاهمال الكبير الذي تعرضت له هذه المنطقة التي اعتبرت في الماضي منطقة حيوية جدا ، ليس فقط كتقاطع طرقي تجاري ، ولكن كمركز تلاق حضاري استقطب الكثير من النشاطات الفكرية والعلمية ، كان لعلماء الامامية النصيب الاكبر فيها. لكن المنطقة تعرضت للإهمال والاقصاء بسبب بعض الصراعات التي افرزتها مراحل معينة من التاريخ نجم عنها اضطهاد فكري ديني عز نظيره في تاريخ الإسلام. لذا لم يتسن لاصحابه المحافظة عليه الى حد ما.

٩

لذلك لم تعرف المنطقة ظهور مؤسسة رسمية مثلا تهتم بجمع التراث الشيعي ، ضمن الاساليب العلمية والمكتبية المتعارف عليه في باقي الدول. وانما غاية ما استطاع المجتمع الامامي فعله هو قيام بعض الأفراد والأسر بمجهودات شخصية محدودة ، كان الغرض منها التخفيف من حجم هذا الاهمال ، الذي بدأ ينذر بالكارثة.

فعلى سبيل المثال قامت (دار المكارم لاحياء التراث) وهي دار متخصصة بإحياء تراث أسرة أبي المكارم ، إحدى أبرز الأسر العلمية في منطقة القطيف ، بتجميع وتحقيق عدد لا بأس به من مخطوطات علماء هذه الأسرة. وقد صدر مؤخرا كتاب «ارصاد الأدلة في معرفة الوقت والقبلة» للشيخ جعفر أبو المكارم (١٢٨١ ـ ١٣٤٤ ه‍) تحقيق عبد الأمير المؤمن ، ومراجعة محمد أمين أبو المكارم.

أما (مؤسسة أم القرى لإحياء التراث) والتي أخذت على عاتقها إحياء تراث الشيعة في الجزيرة العربية ، فقد قامت بتحقيق جملة من المخطوطات وطباعتها. إلا أن جهود هذه المؤسسة تجاوزت المنطقة ، وذلك عند ما اهتمت بالتراث الشيعي بشكل عام. وهذا العمل وإن كان مفيدا لكنه قلص الجهود التي من الواجب تخصيصها لتراث الشيعة داخل الجزيرة العربية. ومن الكتب التي قامت هذه المؤسسة بتحقيقها : «زاد المسافرين في أصول الدين» و «كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال» ، للشيخ محمد بن علي بن أبي جمهور الأحسائي المتوفى أوائل القرن العاشر ، وحققهما أحمد الكناني ، وطبعا في ايران سنة ١٤١٤ ه‍. و «قصيدة خير الوصية» في الوعظ والارشاد والنصيحة ، للشيخ محمد بن عبد الله بن رمضان الأحسائي المتوفى سنة ١٢٤٠ ه‍ ، تحقيق السيد هاشم بن السيد محمد الشخص.

يمكن الكلام كذلك عن مؤسسة (الهداية للطباعة والنشر) التي تقوم حاليا بتحقيق كتاب «هدى العقول في شرح أحاديث الاصول ـ خمسة عشر مجلدا مخطوطا) للشيخ محمد بن عبد علي آل عبد الجبار القطيفي المتوفّى حدود سنة ١٢٦٠ ه‍ ، ويعد هذا الكتاب من أفضل الشروح وأكبرها على «أصول الكافي». وقد تهيأ للطبع وبلغ عدد أجزائه عشرين جزءا تقريبا.

١٠

كما قامت [دار المصطفى (ص) لإحياء التراث (قم ـ ايران)] بتحقيق عدة مخطوطات من بينها : الصحيفة الصادقية ، للشيخ أحمد آل طعان (طبع في قم سنة ١٤١٩ ه‍) ، وشرح تردّدات المختصر النافع ، للشيخ علي بن الشيخ ابراهيم القطيفي (طبع في قم سنة ١٤١٩ ه‍) ، وغيرها من المخطوطات.

الى جانب هذه الجهود المؤسساتية هناك جهود فردية ، نذكر على سبيل المثال ما قام به الشيخ عبد الله الخنيزي من جهد لتحقيق تراث اسرته العلمي خصوصا كتب ومخطوطات والده الإمام أبي الحسن الخنيزي.

فقد قام بالتحقيق والتعليق على كتاب «تراث لب الألباب في إبطال شبه أهل الكتاب» للحجة المقدس الشيخ علي آل عبد الجبار (١٢٠٠ ـ ١٢٨٧ ه‍) وقد طبع في بيروت سنة ١٤٠٨ م.

كما حقق وعلّق على كتاب «دلائل الأحكام في شرح شرائع الإسلام» [دورة فقهية] لوالده الشيخ علي أبو الحسن بن حسن الخنيزي (١٢٩١ ـ ١٣٦٣ ه‍) ، وطبعت بعض أجزائه المحققة في النجف الاشرف.

كذلك يمكن التنويه بالجهود المهمة التي قامت بها اسرة آل أبي خمسين في الأحساء ، وهي من الأسر العلمية المهمة ، لتحقيق تراث هذه الأسرة ، وقد تم تحقيق مجموعة من المخطوطات وإخراجها الى عالم الطباعة ، ومن بينها : تبصرة المهتدي والنص الجلي في إمامة أبي الحسن عليه‌السلام ، لآية الله الشيخ موسى بوخمسين (١٢٩٦ ـ ١٣٥٣ ه‍) ، تحقيق حفيده الشيخ حسن بن الشيخ باقر بوخمسين (طبع في بيروت سنة ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م)

ومن الجهود الفردية أيضا ما قام به بعض رجال العلم بتحقيق بعض المخطوطات ، نذكر على سبيل المثال «بداية الهداية في التجويد» للشيخ عبد المحسن اللويمي المتوفى في حدود ١٢٥٠ ه‍ ، وقد حققه وعلق عليه الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي وطبع في لبنان سنة ١٤٠٢ ه‍. و «ديوان شاعر الخليج الشيخ أبي البحر جعفر الخطي المتوفى عام ١٢٠٩ ه‍» قدم له وحققه وعلق عليه الأديب الشاعر عدنان السيد محمد

١١

العوامي ، وثلاث رسائل وهي «الخلسة الملكوتية في أحاديث الطينية» و «غاية المراد في تحقيق المعاد» و «الرسالة الرضاعية» تأليف الشيخ محمد بن الشيخ عبد علي آل عبد الجبار القطيفي المتوفى حدود سنة ١٢٦٠ ه‍ ، تحقيق الشيخ حلمي بن عبد الرءوف السنان ، وطبعوا في ايران (قم) سنة ١٤١٦ ه‍ ، وكتاب «زاد المجتهدين في شرح بلغة المحدثين ـ جزءان» تأليف الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طعان القديحي (١٢٥١ ـ ١٣١٥ ه‍) تحقيق الشيخ ضياء بدر آل سنبل ، طبع في ايران (قم) سنة ١٤١٤ ه‍.

وكتاب بشرى المذنبين وانذار الصديقين للشيخ ناصر بن محمد الجارودي المتوفى سنة ١١٦٤ ه‍ ، تحقيق الشيخ مهدي العوازم ، طبع في ايران (قم) سنة ١٤١٧ ه‍.

كذلك قام المحقق العراقي الكبير الأستاذ شاكر هادي شكر بتحقيق «أنوار الربيع في أنواع البديع» للسيد علي خان المدني (١٠٥٢ ـ ١١٢٠ ه‍) وقد طبع بمطبعة النعمان في النجف الأشرف سنة ١٣٨٨ ه‍. وهو في سبعة أجزاء.

بالإضافة الى مجموعة أخرى من المخطوطات المهمة التي أدركتها يد العناية فعرفت طريقها نحو التحقيق والطباعة. لكن ومهما يقال عن حجم المخطوطات التي اعتني بها ، فان الكمّ الهائل للتراث الشيعي الامامي داخل الجزيرة العربية ما زال ينتظر الجهود المضاعفة ، ليس لتحقيقه فقط ، بل لجمعه أولا ، ووضعه في المكان المناسب الذي يحفظه من الاندثار ويسهل عملية التعرف عليه ثانيا ، ومن ثم يتشجع الباحثون والدارسون لمعالجة كنوزه وذخائره.

فما زال الكمّ الهائل من المخطوطات تتوزعه المكتبات الشخصية ، مثل مكتبة الشيخ سعيد أبو المكارم ، ومكتبة الحاج عبد الكريم الشيخ ، ومكتبة الملا عبد المهدي الجشي ، ومكتبة الشيخ علي المرهون ، ومكتبة الاديب الحاج جواد الرمضان. فضلا عما نقل الى مكتبات ايران. فقد ذكر الشيخ مهدي العوازم القطيفي عددا كبيرا من المخطوطات التي عرفت طريقها الى مكتبات ايران الرسمية والأهلية. انظر «من المخطوطات القطيفية والأحسائية في مكتبات ايران» مقال منشور في مجلة الموسم العدد ٩ ـ ١٠ سنة ١٩٩١ م ـ ١٤١١ ه‍.

١٢

إن قضية جمع التراث الشيعي الامامي داخل الجزيرة العربية ليس بالأمر الهين ، لكن تضافر الجهود واخلاص العزم لخدمة هذا التراث المعرفي كفيلان بتحقيق النتائج المرجوة.

إن مهمة التحقيق والطباعة غاية في الصعوبة ، لأن الباحث المختص بالتحقيق يقوم بوظيفتين في نفس الوقت. البحث عن المخطوط في أنحاء البلاد ، ثم الاشتغال بعد ذلك بتحقيقه. لذلك فقيام المؤسسات المختصة أو دور النشر التي لديها اهتمام بالتراث بجمع المخطوطات والبحث عنها يسهل مهمة المحقق والدارس. وبذلك تتكاثف الجهود وتثمر.

فالحديث عن تحقيق التراث كما يقول الدكتور مرزوق ـ الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الاسلامية بالقاهرة : «ذو صلة وثيقة بتأصيل وجود ، لأنه في زمن التحولات المعاصرة التي تلف العالم وتطيح بكثير من الهويات التي كانت لكثير من الشعوب ، يصبح من أبرز موجبات الحفاظ على هويتنا العربية والاسلامية أن نربط واقعنا بجذورنا وأن نحافظ على هذا التراث الذي نثبت به أصالتنا».

وعليه فكل مخطوط يحقق ويطبع ويخرج للوجود هو دليل على أصالتنا ، وتعميق لهويتنا الحضارية. وتعريف بالمستوى الفكري والعلمي الذي كان عليه آباؤنا وأجدادنا. ولعمري إن الشيعة الامامية في أمس الحاجة أكثر من غيرهم لهكذا عمل. لأنهم تعرضوا على طول التاريخ لموجات متتالية من الافتراء والتشويه وتحريف الحقائق.

فليس هناك من وسيلة لرد هذه الادعاءات والأكاذيب سوى اخراج تراث الشيعة وانتاج علمائهم للوجود ، وتعريف العالم به لكي تتضح الصورة وينجلي الظلام عن فرقة وتراث ساهما مساهمة فعالة ونشطة في رفد الحضارة الاسلامية بكل مفيد وجديد.

على أن هذا التراث الذي ندعو للاهتمام به واخراجه للعالم ليس لغرض ان نقف عنده وان نسد علينا أبواب المعرفة المختلفة ، مكتفين بما سطّره الأجداد وما توصلوا إليه

١٣

من حقائق ، وانما الهدف من اخراج هذا التراث والتعرف عليه ، هو لتأصيل جميع مناحي النشاطات المعرفية لدينا ، كي لا نضيع في زحمة التفوق وعقدة النقص التي تواجهنا بها هذه الحضارة الغربية المعاصرة. أو تجذبنا ببريقها الأخاذ فنتنكر لأصولنا وتراثنا ولمساهمة حضارتنا في كل ما توصلت إليه البشرية اليوم من فتوحات علمية ومعرفية. فمعرفتنا بتراثنا لا تعني سوى تشبثنا بأصالتنا الحضارية ، دون أن نغض الطرف عن الواقع الحاضر والمتحرك من حولنا ، بل نستفيد منه وننتخب أفضل ما ينتجه من معرفة وتقدم.

فلا يشك أحد بأن الحضارة الغربية المعاصرة انما انطلقت عند ما توجه مفكروها الى تراثهم وتراث الإنسانية قبلهم ، فانكبوا عليه بالدرس والمعالجة والاستفادة. فما كان مفيدا استوعبوه وزادوا عليه ، وما كان غير مفيد بنظرهم زهدوا فيه ووضعوه جانبا ، لكن بعد المعرفة والاطلاع والتمحيص.

وهذا ما ندعو إليه نحن بخصوص تراثنا المعرفي المخطوط. لا بدّ من جمعه ومعرفة حجمه ، ومن ثم ننكب على معرفة ذخائره ومحتوياته للاستفادة منها ، وتقديمها للإنسانية كشواهد حية على تميز الحضارة الاسلامية ، وكشهادة للإسلام كدين يدعو للعلم ويحث أصحابه على المعرفة.

لذلك يقول الشيخ حسن الصفار : اننا نوجه الدعوة الصادقة لأبناء أمتنا الاسلامية لكي يهتموا بتدوين تاريخهم وحفظ تراثهم وتجديد نهضتهم العلمية والأدبية ، مذكرين هنا بالملاحظات التالية :

١ ـ كل من بحوزته شيء من المخطوطات أو المعلومات أو الآثار فليهتم بالمحافظة عليها وتكرار نسخها وخاصة بالنسبة للمخطوطات لأن أي مخطوطة قد تتعرض للتلف ، فإذا لم يكن هناك نسخة أخرى لها فستفقد نهائيا.

٢ ـ إرسال نسخ من المخطوطات أو تقارير عنها وعن الآثار الموجودة الى المؤسسات المهتمة بذلك في العالم كالمتاحف والمكتبات العامة المشهورة.

٣ ـ تحقيق المخطوطات واعدادها للطبع والنشر بمساعدة الأثرياء وأهل الخير

١٤

المتمكنين ، واعادة طبع ما يستحق من الكتب المطبوعة.

لذلك ومساهمة منا في تحقيق ما ألمحنا إليه ، أخذت (مؤسسة البقيع لإحياء التراث في الجزيرة العربية) منذ تأسيسها ، على عاتقها القيام بهذه المهمة ، مهمة جمع التراث وتحقيق ابداعاته قدر المستطاع ، وضمن الامكانات المتوفرة. وقد شرعنا في اصدار سلسلة تحت عنوان «مخطوطات الشيعة الامامية في الجزيرة العربية». ومنهجنا هو اختيار بعض المخطوطات المختارة ثم عرضها على بعض المختصين لتحقيقها ومعالجتها ومن ثم تتولى المؤسسة طباعتها ونشرها كي تتم الاستفادة منها.

وفي هذا الاطار يأتي مخطوط [الفرقة الناجية] الذي تحتضنه يد القارئ اليوم كخامس انتاج ضمن هذه السلسلة التي سنبذل قصارى جهدنا كي تستمر وأن تمد القارئ المتلهف لمعرفة تراث هذه المنطقة بكل جديد ومفيد. ونحن بصدد تحقيق مخطوط جديد لأحد أعلام المنطقة ، نرجو من الله أن يعيننا على اتمامه واخراجه بالصورة المطلوبة. كل ذلك مساهمة منا في احياء تراث الشيعة الامامية داخل هذه المنطقة التي يعاني تراثها الإهمال والتقصير من طرف أصحابه أولا وباقي المهتمين بتراث الإسلام ثانيا.

ومحاولة منا للتعريف بمدى مساهمة رجالات هذه المنطقة في إغناء الفكر الشيعي خصوصا والإسلامي بشكل عام ، مما يساعد على كشف الكثير من المغالطات التاريخية والدينية التي التفّت حول الشيعة الإمامية في هذه المنطقة بالذات ، مجتمعا وفكرا وعقيدة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

حبيب آل جميع

المدير العام لمؤسسة البقيع

لاحياء التراث في الجزيرة العربية

بيروت ـ لبنان

١٥
١٦

مقدمة المحقق

انفجر الاختلاف بين المسلمين مباشرة بعد وفاة النبي (ص) ، عند ما اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، والتحق بهم عدد من المهاجرين من قريش ، وذلك للبحث في خلافة الرسول (ص) ومن سيتولى القيادة بعده ، وإذا كان المهاجرون يتقدمهم أبو بكر وعمر قد استطاعا أن يقنعا ويتغلّبا على من حضر مؤتمر السقيفة بالتأكيد على ضرورة أن تكون الخلافة في قريش دون غيرهم ، ومن ثم بايع القوم أبا بكر وانطلقوا يمهدون له سبيل البيعة العامة ، فإن المهاجرين لن يتمكنوا من اقناع الإمام علي (ع) وأتباعه الذين لم يشاركوا في مؤتمر السقيفة لانشغالهم بتجهيز الرسول (ص) ودفنه ، فالإمام كان يعتبر نفسه الخليفة الشرعي المنصوص عليه من طرف الله ورسوله (ص) ، لذلك ما إن انتهى إليه أمر البيعة التي وقعت ، حتى انطلق في محاججات متعددة لإقناع الخليفة الجديد وأتباعه بخطإ اجتهادهم وما دبّروه ، لأن الأمر محسوم بالنص الإلهي ، مذكرا إياهم بعدد من المواقف والأحاديث التي تؤكد ما يدعيه وما يطلبه من أمر الخلافة ، مثل حديث واقعة غدير خم بعد حجة الوداع. لكن الأحداث وملابساتها وانفجار مشكلة الردّة وتظاهر المنافقين على الإسلام ، كل ذلك لم يكن في صالح الإمام علي (ع) ، الذي سيجد نفسه مضطرا للخضوع والرضوخ للأمر الواقع ، حفاظا على بيضة الإسلام ، لكن دون الإيمان ما وقع هو الحقيقة ، بل استمرت احتجاجاته واحتجاجات أصحابه على خصومهم ممن يدعم موقف الخلفاء الجدد.

وعليه يمكن أن نؤكد بأن مؤتمر السقيفة ، يعتبر المحطة الأولى التي انطلق منها

١٧

الاختلاف بين المسلمين ، لأن نتائجه أسفرت عن ظهور تيارين مختلفين ، تيار مدرسة الخلافة ، وتيار مدرسة الإمامة وأهل البيت عليهم‌السلام ، وبعد التوسع الذي وقع نتيجة دخول الأمم الأخرى ومن تبقى من العرب الى الإسلام ، وانتشار حركة الفتوحات الإسلامية ، ستظهر على الساحة الإسلامية تيارات مختلفة ، تتصارع بينها ، مختلفة ومتناقضة حول الأصول والفروع. وبالتالي فلم يكد القرن الهجري الأول يلفظ أنفاسه حتى ظهرت ملامح الفرقة والاختلاف الذي سيتوسع ويتعمّق ، مع ظهور مدارس كلامية وفقهية وفلسفية وعرفانية ، وكل فرقة تدّعي أنها على حق وأن فهمها والتزامها هو الإسلام المحمدي الأصيل ، وتراشق القوم وتبادلوا التكفير والتضليل ، وسفّهت كل فرقة أحلام الفرقة الأخرى.

ولقد احتدم الصراع واشتد مع اكتشاف وتداول مجموعة من الأحاديث النبوية التي تحدثت عن الاختلاف ، وتنبأت بأن الأمة الإسلامية ستسقط فيما سقطت فيه الأمم التي سبقتها ، وحذرت من الفرقة والافتراق ، معتبرة أن غالبية الفرق التي ستظهر في الواقع الإسلامي منحرفة عن الصراط المستقيم ، ومن ثم فهي فرق ضالة لا نصيب لها من الحقيقة ، وأن مأواها جهنم غدا يوم القيامة. وهذا المصير الذي تنبأت به الأحاديث هو الذي جعل كل فرقة من هذه الفرق تهرع للبحث عن الأدلة العقلية والنقلية للتأكيد على أنها هي الفرقة التي تعتنق الحقيقة وتلتزم بها ، وأنها بالتالي هي الفرقة الناجية.

والمخطوط الذي بين أيدينا ، هو بحث كلامي حديثي ، يصب في هذا المنحى ، أي تحقيق وبحث وعرض للأدلة التي تؤكد وتثبت بالدليلين النقلي والعقلي بأن الفرقة الناجية والحقة والملتزمة بالصراط المستقيم هي الفرقة الإمامية ، التي شايعت وآمنت بالنص على إمامة الإمامة علي (ع) واعتبرته هو الإمام الشرعي بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

لن نستعرض ما قدمه المؤلف من أدلة حول تعيينه للفرقة الناجية ، لأننا سنترك

١٨

القارئ يطلع على النص مباشرة لمعرفة محتواه ، لكننا نشير هنا في عجالة الى قضية سقطت فيها جل الكتابات الفرقية القديمة التي انطلقت من حديث أو مجموعة الأحاديث التي رويت عن الرسول ، والتي تقول بأن الأمة الإسلامية ستفترق على ثلاثة وسبعين فرقة ، معظم المؤرخين اعتبروا أن رقم (٧٣) هو السقف النهائي الذي ستعرفه الساحة الإسلامية ، ومن ثم نجدهم يبحثون هذا المجموع العددي في زمنهم ليخرجوا منه فرقة واحدة هي الناجية ، وهي الفرقة التي ينتمي إليها المؤرخ أو المؤلف ، وباقي الفرق ضالة ومخالفة. لذلك ظهرت أخطاء كثيرة عند التعريف بالفرق الأخرى ، وتساهل المؤرخ المنتمي الى فرقة ما في نقل الأخبار عن خصومه ، فلم يتحرّ الموضوعية العلمية ، لذلك نجد البعض منهم يروي الأساطير الواضحة وينسبها الى الفرق المخالفة دون تمحيص.

إن العدد (٧٣) هو اشارة للكثرة وليس سقفا نهائيا ، لأن الفرق ما زالت تتناسل وتظهر الى يومنا هذا وكل واحدة منها لها موضوعها ، قربا أو بعدا من الحقيقة الإسلامية.

حبيب آل جميع

١٠ / محرم / ١٤٢٠ ه‍

القطيف ـ السعودية

١٩
٢٠