غاية المرام في علم الكلام

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

غاية المرام في علم الكلام

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4311-5
الصفحات: ٣٣٤

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آل بيته وعترة الطاهرين ، وصحبه السادة المقربين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد .. فبين يديك أيها القارئ الكريم ، كتاب من أهم ما صنف في أصول الدين ، حيث حسن الجمع ، ودقة الحصر ، وبلاغة الشمول ، لإمام جمع بين أصول الدين وأصول الفقه وعلم الكلام ، فكان مدرسة خاصة تدرس فيها أكابر العلماء ونوابغ الفضلاء ، وهو بحق سيف الدين الآمدي رحمه‌الله تعالى.

وهذا الكتاب نسخته الخطية هي المحفوظة بمكتبة شهيد علي ـ تركية تحت رقم ١٩٦٤ وهي من مصورات معهد المخطوطات العربية بالقاهرة تحت رقم ١٧٤ علم توحيد وملل ونحل ، وتقع أوراقها في ١٥١ ورقة تقريبا.

وقد طبع الكتاب بالقاهرة قديما فجزى الله خيرا كل من قام على إخراجها وها نحن اليوم نقدم الكتاب في ثوبه الجديد بعد تحقيقه ومراجعته ومقابلته ، ونسأل الله الإخلاص والقبول لما يحبه ويرضاه.

٥

ترجمة موجزة للمؤلف

وهو الإمام العلامة الفقيه الأصولي المتكلم علي بن أبي علي بن محمد بن سالم ، المعروف بسيف الدين الآمدي. ولد بمدينة آمد من بلاد العراق ، سنة ٥٥١ ه‍.

من مصنفاته الكثيرة الرائعة :

١ ـ الإحكام في أصول الأحكام.

٢ ـ منتهى السئول في علم الأصول (بتحقيقنا ـ لأول مرة ـ ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت).

٣ ـ المآخذ على المحصول.

٤ ـ منتهى السالك في رتب الممالك.

٥ ـ دقائق الحقائق.

٦ ـ غاية المرام في علم الكلام ، وهذا هو كتابنا هذا.

٧ ـ كشف التمويهات على الإشارات والتنبيهات.

٨ ـ رموز الكنوز.

٩ ـ الغرائب وكشف العجائب.

١٠ ـ النور الباهر في الحكم الزواهر.

١١ ـ المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين.

١٢ ـ فرائد القلائد.

١٣ ـ منائح القرائح مختصر أبكار الأفكار.

١٤ ـ المآخذ على المطالب العالية.

١٥ ـ الطريقة المصغرة في مسائل الفقه والأصول ـ أقوم الآن بنسخه لإعداده للتحقيق والطبع.

١٦ ـ أبكار الأفكار طبع بتحقيقنا.

٦

من شيوخه :

١ ـ أبو الفتح نصر بن فتيان بن مطر ابن المنى الحنبلي (٥٨٣ ه‍).

٢ ـ أسعد أبو الفتح بن أبي الفضل الميهني الشافعي (٥٢٧ ه‍).

٣ ـ يحيى بن علي بن الفضل بن هبة الله بن فضلان (٥٩٥ ه‍).

ومن تلامذته :

١ ـ جمال الدين بن الحاجب المالكي (٦٤٦ ه‍).

٢ ـ عز الدين بن عبد السلام المقدسي (٦٦٠ ه‍).

٣ ـ أبو شامة المقدسي (٦٦٥ ه‍).

٤ ـ ابن واصل الشافعي (٦٩٧ ه‍).

٥ ـ سبط بن الجوزي الحنفي (٦٥٤ ه‍).

٦ ـ الفخر البعلبكي المفتي (٦٨٨ ه‍).

٧ ـ صدر الدين بن سني الدولة (٦٥٨ ه‍).

٨ ـ نجم الدين بن إسرائيل (٦٧٧ ه‍).

٩ ـ ابن خلكان المؤرخ (٦٨١ ه‍).

وانظر في ترجمته : معجم البلدان (١ / ٥٦) ، وتاريخ الفارقي (ص ٢٢٦) ، وفيات الأعيان (٢ / ٤٥٥) ، ومفرج الكروب لابن واصل (٥ / ٣٦) ، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (٥ / ١٢٩) ، أحبار العلماء للقفطي (ص ١٦١) ، الوافي بالوفيات للصفدي (٢١ / ٣٤٠) ، مرآة الزمان لسبط بن الجوزي (٨ / ٤٥٧) ، وشذرات الذهب لابن العماد (٥ / ١٤٤).

٧

٨

٩
١٠

كتاب فيه

غاية المرام في علم الكلام

تأليف الشيخ الفقيه الإمام العالم سيف المناظرين ولسان المتكلمين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي ، ثبت الله سعادته ، وصان عن الغير مهجته.

القانون الأول : في إثبات الواجب بذاته.

القانون الثاني : في إثبات الصفات ـ فيه قاعدتان :

الأولى : في النظر في الصفات النفسية.

الثانية : في إثباتها ـ مطلب في إثبات صفة الإرادة.

مطلب في إثبات صفة العلم.

مطلب في إثبات صفة القدرة.

مطلب في إثبات صفة الكلام.

مطلب في إثبات صفة الإدراكات.

القانون الثالث : في وحدانية الباري.

القانون الرابع : في إبطال التشبيه وما يجوز عليه ـ تعالى ـ وما لا يجوز.

القانون الخامس : في أفعال واجب الوجود ـ فيه مطلبان.

مطلب نفي الغرض.

مطلب في حدث ... وقطع تسلسل الكائنات.

القانون السادس : في المعاد.

١١

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الحمد لله الذي زلزل بما أظهر من صنعته أقدام الجاحدين ، واستزل بما أبان من حكمته ثبت المبطلين ، وأقوى قواعد الإلحاد بما أبدي من الآي والبراهين ، واصطفى لصفوته من عباده عصابة الموحدين ، ووثقهم من أسبابه بعروته الوثقى وحبله المتين ، فلم يزالوا للحق ناظرين وبه ظاهرين ، ولله ولرسوله ناصرين ، وللباطل وأهله دامغين ، إلى أن فجر الإيمان وأشرق ضوءه للعالمين ، وخسف قمر البهتان ، وأضحى كوكبه من الآفلين ، ذلك صنع الذي أتقن كل شيء (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

فنحمده على ما أولي من مننه ، وأسبغ من جزيل نعمه ، حمدا تكل عن حصره ألسنة الحاصرين ، ونشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة مبوأة لقائلها جنة الفوز والعقبى في يوم الدين ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله إلى الكافة أجمعين ، فأوضح بنوره سبل السالكين ، وشار بهدايته أركان الدين ، وصلى الله عليه وعلى آله أجمعين وبعد :

فإني لما تحققت أن العمر يتقاصر عن نيل المقاصد والنهايات ، ويضيق عن تحصيل المطالب والغايات ، وتنبتر ببتره أسباب الأمنيات ، وتفلّ بفله غر الهمم والعزمات ، مع استيلاء الفترة ، واستحكام الغفلة ، وركون النفس إلى الأمل ، واستنادها إلى الفشل ، علمت أنه لا سبيل إلى ذروة ذراها ، ولا وصول إلى أقصاها ، ولا مطمع في منتهاها ، فكان اللائق البحث والفحص عن الأهم فالأهم ، والنظر في تحصيل ما الفائدة في تحصيله أعم ، وأهم المطالب وأسني المراتب من الأمور العملية والعلمية ما كان محصلا للسعادة الأبدية ، وكمالا للنفس الناطقة الإنسانية ، وهو اطلاعها على المعلومات ، وإحاطتها بالمعقولات. ولما كانت المطلوبات متعددة والمعلومات متكثرة ، وكل منها فهو عارض لموضوع علم يستفاد منه ، وتستنبط معرفته عنه ، كان الواجب

١٢

الجزم ، واللازم الحتم ، على كل ذي عزم ، البداية بتقديم النظر في الأشرف الأجل ، والأسنى منها في المرتبة والمحل.

وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام ، الباحث عن ذات واجب الوجود وصفاته ، وأفعاله ومتعلقاته ، إذ شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه الباحث عن أحواله العارضة لذاته ، ولا محالة أن شرف موضوع هذا العلم يزيد على شرف كل موضوع ويتقاصر عن حلول ذراه كل موجود مصنوع ، إذ هو مبدئ الكائنات ، ومنشئ الحادثات ، وهو بذاته مستغن عن الحقائق والذوات ، مبرأ في وجوده عن الاحتياج إلى العلل والمعلولات. كيف والعلم به أصل الشرائع والديانات ، ومرجع النواميس الدينيات ، ومستند صلاح نظام المخلوقات.

فلا جرم سرحت عنان النظر ، وأطلقت جواد الفكر ، في مسارح ساحاته ومطارح غاياته ، وطرقت أبكار أسراره ، ووقفت منه على أغواره ، فلم تبق غمة إلا ورفعتها ولا ظلمة إلا وقشعتها ، حتى تمهد سراحه واتسع براحه ، فكنت بصدد جني ثمراته ، والتلذذ بحلواته.

ولم أزل على ذلك برهة من الزمان ، مجانبا للإخوان ، إلى أن سألني من تعينت علي إجابته ، وتحتمت علي تلبيته ، أن أجمع له مشكلات درره ، وأبين مغمضات غرره ، وأبوح بمطلقات فوائده ، وأكشف عن أسرار فرائده.

فاستخرت الله ـ تعالى ـ في إسعافه بطلبه ، واستعنته في قضاء إربه ، فشرعت في تأليف هذا الكتاب ، وترتيب هذا العجاب ، وأودعته أبكار الأفكار ، وضمنته غوامض الأسرار ، منبها على مواضع مواقع زلل المحققين ، رافعا بأطراف أستار عورات المبطلين ، كاشفا لظلمات تهويلات الملحدين ، كالمعتزلة ، وغيرهم من طوائف الإلهيين ، على وجه لا يخرجه زيادة التطويل إلى الملل ، ولا فرط الاختصار إلى النقص والخلل تسهيلا على طالبيه ، وتيسيرا

١٣

على راغبيه ، وسميته : غاية المرام في علم الكلام.

وقد جعلته مشتملا على ثمانية قوانين وضمنتها عدة مسائل من قواعد الدين ، وهو المسئول أن يعصمنا فيما نحاوله من كل خلل وزلل ، وأن يوفقنا لكل صواب من قول وعمل ، إنه على ما يشاء قدير ، وبإجابة الدعاء جدير.

١٤

القانون الأول

في إثبات الواجب بذاته

طريق إثبات الواجب (١) :

ذهب المحققون من الإسلاميين ، وغيرهم من أهل الشرائع الماضين ، وطوائف الإلهيين ، إلى القول بوجوب وجود موجود وجوده له لذاته ، غير مفتقر إلى ما يسند وجوده إليه ، وكل ما سواه فوجوده متوقف في إبداعه عليه ، ولم يخالفهم في ذلك إلا سواد لا يعرفون ، وطوائف مجهولون ، فلا بد من الفحص عن مطلع نظر الفريقين والكشف عن منتهى أقدام الطائفتين ،

__________________

(١) مذهب أهل الحق من المتشرعين ، وطوائف الإلهيين : القول بوجوب وجود موجود ، وجوده لذاته ، لا لغيره ، وكل ما سواه ؛ فمتوقف في وجوده عليه ، خلافا لطائفة شاذة من الباطنية. ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات العينية ، ونحققه من الأمور الحسية ؛ فإنه إما أن يكون : واجبا لذاته ، أو لا يكون واجبا لذاته. فإن كان الأول : فهو المطلوب. وإن كان الثاني : فكل موجود لا يكون واجبا لذاته ؛ فهو ممكن لذاته ؛ لأنه لو كان ممتنعا لذاته ؛ لما كان موجودا. وإذا كان ممكنا ؛ فالوجود والعدم عليه جائزان. وعند ذلك : فإما أن يكون في وجوده مفتقرا إلى مرجح ، أو غير مفتقر إلى المرجح. فإن لم يكن مفتقرا إلى المرجح ؛ فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح ؛ وهو ممتنع. وإن افتقر إلى المرجح : فذلك المرجح : إما واجب لذاته ، أو لغيره. فإن كان الأول ؛ فهو المطلوب. وإن كان الثاني : فذلك الغير إما أن يكون معلولا لمعلوله ، أو لغيره. فإن كان الأول : فيلزم أن يكون كل واحد منهما مقوما للآخر ؛ ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوما لمقوم نفسه ؛ فيكون كل واحد منهما مقوما لنفسه ؛ لأن مقوم المقوم مقوم. وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوما بنفسه ، والمتقوم بنفسه لا يكون ممكنا ؛ وهو خلاف الفرض ، ولأن التقويم إضافة بين المقوم والمقوم ؛ فيستدعي المغايرة بينهما ، ولا مغايرة بين الشيء ونفسه. وإن كان الثاني : وهو أن يكون ذلك الغير معلولا للغير : فالكلام في ذلك الغير ، كالكلام في الأول. وعند ذلك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية. فإن كان الأول : فهو المطلوب. وإن كان الثاني : فهو ممتنع ، انظر الأبكار : (١ / ١٤٨).

١٥

ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون.

ومبدأ النظر ومجال الفكر ينشأ من الحوادث الموجودة بعد العدم ، فإن وجودها إما أن يكون لها لذاتها أو لغيرها : لا جائز أن يكون لها لذاتها وإلا لما كانت معدومة ، وإن كان لغيرها فالكلام في ذلك الغير كالكلام فيها.

وإذ ذاك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الكائنات. ومنشأ الحادثات ، أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية ، فإن قيل بالتسلسل فهو ممتنع.

أما على الرأي الفلسفي فلأنا إذا فرضنا ممكنات لا نهاية لأعدادها يستند بعضها إلى بعض في وجودها ، وفرضنا بالتوهم نقصان عشرة منها مثلا فإما أن يكون عددها مع فرض النقصان مساويا لعددها قبله أو أنقص أو أزيد ، لا جائز أن يكون مساويا ، إذ الناقص لا يساوي الزائد ، فإن قيل إنه أزيد فهو أيضا ظاهر الإحالة ، وإن قيل إنها أنقص فأحدهما لا محالة أزيد من الآخر بأمر متناه ، وما زاد على المتناهي بأمر متناه فهو متناه ، إذ لا بدّ أن يكون للزيادة نسبة إلى النامي بجهة ما من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي على المتناهي ، ومحال أن يحصل بين ما ليسا متناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين. لكن هذا مما لا يستقيم على موجب عقائدهم وتحقيق قواعدهم ، حيث قضوا بأن كل ماله الترتيب الوضعي ، كالأبعاد والامتدادات ، أو ترتيب طبيعي ، وآحاده موجودة معا ، كالعلل والمعلولات ، فالقول بأن لا نهاية له مستحيل ، وأما ما سوى ذلك فالقول بأن لا نهاية له غير مستحيل ، وسواء كانت آحاده موجودة معا كالنفوس بعد مفارقة الأبدان والذوات ، أو هي على التعاقب والتجدد كالحركات ، فإن ما ذكروه ـ وإن استمر لهم فيما قضوا عليه بالنهاية ـ فهو لازم لهم فيما قضوا عليه بأن لا نهاية. وإذ ذاك فلا يجدون عن الخلاص من فساد أحد الاعتقاديين سبيلا ، إما في صورة الإلزام ، أو فيما ذكروه في معرض الدلالة والبرهان.

وليس لما ذكره الفيلسوف المتأخر من جهة الفرق بين القسمين قدح في

١٦

الغرض وهو قوله : إن ما لا ترتب له وضعا ولا آحاده موجودة معا ، وإن كان ترتبه عليه ، لا سبيل إلى فرض جواز قبوله الانطباق وفرض الزيادة والنقصان بخلاف نقيضه ، إذ المحصل يعلم أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الأوضاع وفيما له الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معا ، ليس إلا من جهة إفضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان بين ما ليسا بمتناهيين ، وذلك إنما يكمن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض أو وحدة ما من العدد المفروض.

وعند ذلك فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات أو النفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها ، وجواز الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها ، أو فرض نقصان جملة منها ، وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس في محل الاستدلال هي بعينها مستعملة في محل الإلزام ، مع اتحاد الصورة القياسية من غير فرق. ثم إن فرض وقوع الزيادة والنقصان في محل النزاع ، وإن كان جائزا ومع جوازه واقعا ، فهو إنما يوجب النهاية في كل واحد من العددين أن لو كانت الزيادة المتناهية ، التي فضل بها أحد العددين على الآخر ، لها نسبة إلى كل واحد منهما نسبتها إلى ما هو متناه ، والخصم وإن سلم قبول المتناهي لنسبة ما هو المتناهي إليه فقد لا يسلم قبول غير المتناهي لنسبة المتناهي إليه ، ولا محالة أن بيان ذلك مما لا سبيل إليه. كيف وأنه منتقض على الرأيين جميعا ، فإنه ليس كل جملتين وقعت بينهما الزيادة بأمر متناه يكونان متناهيين ، فإن عقود الحساب مثلا لا نهاية لأعدادها وإن كانت الأوائل أكثر من الثواني ، والثواني أكثر من الثوالث بأمر متناه ، وهذه الأمور وإن كانت تقديرية ذهنية ، فلا محالة أن وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في الأمور الموجودة في الفعل ، فلا تتوهمن أن الفرق واقع من مجرد هذا الاختلاف.

أما المتكلم فلعله قد سلك في القول بوجوب النهاية هاهنا ما سلكه

١٧

الفيلسوف ولربما زاد عليه بقوله : لو فرض أعداد لا نهاية لها لم يخل : إما أن تكون شفعا أو وترا أولا هي شفع ولا وتر أو شفعا ووترا معا ، فإن كانت شفعا فهي تصير وترا بزيادة واحد ، وكذلك إن كانت وترا فهي تصير شفعا بزيادة واحد ، وإعواز الواحد لما لا يتناهى محال ، ولا جائز أن يكون شفعا ووترا ، أو لا شفع ولا وتر ، فإن ذلك ظاهر الإحالة ، وهذه المحاولات كلها إنما لزمت من فرض عدد لا يتناهى فهو أيضا محال. وهو مع أنه محض استبعاد لشفعية ما لا يتناهى أو وتريته ، إنما ينفع مع تسليم الخصم لقبولية ما لا يتناهى أن يكون شفعا أو وترا ، وذلك مما لا سبيل إليه.

ثم بم الاعتذار عن هذا الإلزام إن ورد على ما سلم كونه غير متناه كالأعداد من مراتب الحساب؟ وكذلك ما يختص بمذهب المتكلم من اعتقاد عدم النهاية في معلومات الله تعالى ومقدوراته؟

وما قيل من أن المعني بكون المعلومات والمقدورات غير متناهية صلاحية العلم لكل ما يصح أن يعلم ، وصلاحية القدرة لتعلقها بكل ما يصح أن يوجد ، وما يصح أن يوجد ويصح أن يعلم غير متناه ، لكنه من قبيل التقديرات الوهمية ، والتجويزات الخيالية ، وذلك مما لا يجب فيه القول بالنهاية ، ولا كونه غير متناه مستحيل ، بل المستحيل إنما هو القول بأن لا نهاية فيما له وجود عيني ، وهو في تعينه أمر حقيقي ـ فلا أثر له في القدح ، فإن من نظر بعين التحديق وأمعن في التحقيق علم أن هذه الأمور وإن كانت تقديرية ومعاني تجويزية وأنه لا وجود لها في الأعيان ، فلا بد لها من تحقق وجود في الأذهان ، ولا محالة أن نسبة ما فرض استعماله في القول بالنهاية فيما له وجود ذهني على نحو استعماله فيما له وجود عيني ، وأن ذلك ـ بمجرده ـ لا أثر لها فيما يرجع إلى الافتراق أصلا.

ومما يلتحق بهذا النظم في الفساد أيضا قول القائل : إن كل واحد من هذه الأعداد محصور بالوجود فالجملة محصورة بالوجود ، وكل ما حصره

١٨

الوجود فالقول بأن لا نهاية له محال ، فإن ما لا يتناهى لا ينحصر بحاصر ما. وهو إنما يلزم أن لو كان الحاصر متناهيا ، ولا محالة أن الكلام في تناهي الوجود كالكلام فيما يحصره الوجود ، هذا إن قيل بأن الوجود زائد على الموجود وإلا فلا حاصر أصلا.

ولربما نظر في العلل والمعلولات إلى طرف الاستقبال فقيل : ما من وقت نقدره إلا والعلل والمعلولات منتهية بالنسبة إليه وانتهاء ما لا يتناهى محال. وهو أيضا غير مفيد ، فإن الخصم قد سلم انتهاء العدد من أحد الطرفين ، ومع ذلك يدعي أنه غير متناه من الطرف الآخر ، ومجرد الدعوى فيه غير مقبولة ، لا سيما مع ما قد ظهر من أن عقود الحساب لا نهاية لها ، ولم يلزم من تناهيها من جهة البدء أن تكون متناهية من جهة الآخر ، أو أن يوقف فيها على نهاية.

فإذا الرأي الحق أن يقال :

لو افتقر كل موجود في وجوب وجوده إلى غيره إلى غير نهاية ، فكل واحد باعتبار ذاته ممكن لا محالة ، فإن ما وجب وجوده لغيره فذاته لذاته ، إما أن تقتضي الوجوب أو الامتناع أو الإمكان : لا جائز أن يقال بالوجوب لأن عند فرض عدم ذلك الغير إن بقي وجوب وجوده فهو واجب بنفسه وليس واجبا لغيره ، وإن لم يبق وجوب وجوده فليس واجبا لذاته ، وإذ الواجب لذاته ما لو فرض معدوما لزم منه المحال لذاته لا لغيره ، ولا جائز أن يقال بالامتناع وإلا لما وجد ولا لغيره ، فبقي أن يكون لذاته ممكنا.

وإذا كان كل واحد من الموجودات المفروضة ممكنا ، وهى غير متناهية ، فإما أن تكون متعاقبة أو معا : فإن كانت متعاقبة فما من موجود نفرده بالنظر إلا وفرض وجوده متعذر ، وانتهاء النوبة إليه في الوجود ممتنع ، فإنه مهما لم يفرض وجوب وجود موجده فلا وجود له ، وكذا الكلام في موجده بالنسبة إلى موجده ، وهلم جرا ، وما علق وجوده على وجود غيره قبله ، وذلك الغير

١٩

أيضا مشروط بوجود غيره قبله ، إلى ما لا يتناهى ، فإن وجوده محال.

ونظير ذلك ما لو قال القائل : لا أعطيك درهما إلا وقبله درهما وكذا إلى ما لا يتناهى فإنه لا سبيل إلى إعطائه درهما ما. وهو على نحو قول الخصم في تناهي الأبعاد ، باستحالة وجود بعدين غير متناهيين فرض أحدهما دائرا على الآخر بحيث يلاقيه عند نقطة وينفصل عنه بأخرى ، بناء على أن ما من نقطة إلا وقبلها نقطة ، إلى ما لا يتناهى ، فما من نقطة يفرض التلاقي عندها إلا ولا بد أن يكونا قد تلاقيا قبلها عند نقطة أخرى إلى ما لا يتناهى ، وذلك محال. كيف وأن ما من واحد يفرض إلا وهو مسبوق بالعدم ، فالجملة مسبوقة بالعدم ، وكل جملة مسبوقة بالعدم.

ولوجودها أول تنتهي إليه فالقول بأن لا نهاية لأعدادها ممتنع.

وما يخص مذهب القائلين بالإيجاد بالعلية والذات أن كل واحد إما أن يكون موجودا لما أوجده في حال وجوده ، أو بعد عدمه ، لا جائز أن يكون موجودا له بعد العدم ، إذ العدم لا يستدعي الوجود. وإن كان موجودا له في حال وجوده فوجود المعلوم يلازم وجود علته في الوجود وهما معا فيه ، وإن كان لأحدهما تقدم بالعلية على الآخر على نحو ما تقدم حركة اليد على حركة الخاتم ونحوه ، فهذا العلل والمعلولات وإن تكثرت فوجودها لا يكون إلا معا ، من غير تقدم وتأخر بالزمان. وأما إن كانت معا فالنظر إلى الجملة غير النظر إلى الآحاد ، إذ حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من آحادها وإن كان كذلك ، فالجملة إما أن تكون بذاتها واجبة أو ممكنة : لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت آحادها ممكنة. وإن كانت ممكنة فهي لا محالة ، تفتقر إلى مرجع ، فالمرجع إما أن يكون خارجا عن الجملة أو داخلا فيها : لا جائز أن يكون من الجملة وإلا فهو مقوم لنفسه ، إذ مقوم الجملة مقوم لآحادها ، وذلك يفضي إلى تقوم الممكن بذاته ، وهو متعذر ، إذ قد فرض كل واحد من آحاد الجملة ممكنا. وإن كان خارجا عن الجملة فهو إما واجب وإما ممكن ،

٢٠