الوهابيّة في الميزان

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابيّة في الميزان

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-970-5
الصفحات: ٣٤٤

١
٢

٣
٤

كلمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

بني الإسلام على كلمتين

كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة

بُني الإسلام على كلمتين هما دعامتاه الأساسيتان : كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة.

أمّا الأُولى ، فقد كانت دعامة أساسيّة لجميع الشرائع السماوية وبخاصّة الإسلام ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).(١)

وأمّا الثانية ، فهي الدعامة القوية التي يقوم عليها صرح الإسلام خاصّة ، بل هي الركن الوثيق لنشر تعاليمه ، والعامل القوي لبقاء كيانه.

وقد قام رسول الإسلام العظيم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بإرساء تينك الدعامتين ، فاهتمّ في الفترة المكّية بمكافحة الكفر والإلحاد والشرك والوثنية ، وزرع بذور التوحيد في العقول ، وغرس روح الوحدانية في النفوس.

وافتتح الفترة المدنيّة بتطبيق الثانية (وهي توحيد الكلمة) حيث آخى بين

__________________

(١) النحل : ٣٦.

٥

المسلمين مهاجرين وأنصاراً ، جُدُداً وقدامى ، وظلّ طوال حياته الشريفة يدعم بكلّ الوسائل هاتين الدعامتين حتّى كوّنَ من المؤمنين برسالته والسائرين تحت رايته ، أُمّةً واحدةً قوية جسَّدت ما قاله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد (الواحد) إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى». (١)

وبفضل هاتين الدعامتين اللّتين كانتا منشأً للوحدة الفكرية والوحدة الاجتماعية استطاع المسلمون أن يتغلّبوا على خصوم الرسالة الإسلامية وأعدائها ، ويزيحوا جميع الموانع والعراقيل من طريقها ، ويضمنوا انتشارها ، بل وبقاءها ، رغم كيد الكائدين ، ومؤامرات المعارضين.

وبقيت الأُمّة على وحدتها وتماسكها قروناً عديدة حتّى أطلّ القرن السادس وتلاه السابع ، كانت البلاد الإسلامية تعاني من هجومين شرسين مدمّرين عليها ، على أيدي عبّاد الصنم (التتر) من ناحية الشرق ، وأتباع الصليب (المسيحيين) من ناحية الغرب ، ذينك الهجومين اللّذين دمّرا الكثير من أُسس الحضارة الإسلامية ومظاهرها ومعالمها من جانب آخر.

فيما كانت هذه هي حالة الأُمّة الإسلامية وحال بلادها طلع من «حرَّان» دمشق ، رجل على الأُمّة الإسلامية بعقائد منحرفة وآراء شاذة بلبلت أذهان المسلمين ، ومزّقت وحدتهم ، وفرّقت جماعتهم وأوقدت نيران الفتنة في مجتمعهم ، ذلك في الوقت الّذي كانت الأُمّة الإسلامية أحوج ما تكون فيه إلى توحيد الكلمة ، ورصّ الصفوف لمواجهة الخطرين اللّذين كانا يهدّدان كيانهم من الأساس.

__________________

(١) مسند الإمام أحمد : ٤ / ٢٧٠.

٦

غير أنّ الغيارى والواعين من العلماء من مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية ، تصدّوا بحزم للرجل (وهو ابن تيمية الحراني الدمشقي) وشجبوا عقائده الشاذة وآراءه التي خالف بها جميع المذاهب ، فهدأت الضجّة ، وخمدت نيران الفتنة ، ووقى الله المسلمين ما كان أعظم.

ولكن لم تَمرّ أربعة قرون إلّا وظهر رجلٌ آخر (هو محمد بن عبد الوهاب النجدي) من أرض الحجاز أحيا تلك العقائد والآراء الميّتة ونادى بها من جديد ، مع إضافات أشدّ شذوذاً وغرابة عمّا كان عليه المسلمون عقيدةً وعملاً طيلة قرون منذ وفاة الرسول الكريم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، مستغلاً جهل طائفة من أعراب البادية الجفاة ، ومستعيناً بزمرة من ذوي الأطماع في الملك والسلطان ، فأوقد مرة أُخرى نيران الفتنة الخامدة من جديد ، ومضت هذه الجماعة تُكفّر المسلمين وتفسّقهم ، وترميهم بالشرك ، وعبادة غير الله تعالى وهم أهل الصلاة والقبلة.

وزاد الطين بلة أن أخذت حكومة آل سعود على عاتقها ، وبما أُوتيت من ثروة عظيمة نفطية وغير نفطية ، ترويج هذه العقائد التي خالف بها مؤسّسها ومروّجها إجماع المسلمين ولم يقل بها أحد قبلهما إلى القرن السابع ، وبذلك أشغلت بال أبناء الأُمّة الإسلامية بأُمور تافهة ، وصرفتهم عن التفكير في جوهر الدين ، والعمل في مجال القضايا المصيرية.

فانّ الّذي يلاحظ ما يسمّى اليوم بالمذهب الوهابي ، والمتقمّص رداء السلفية لا يرى سوى فقاعات وقشور ، وكأنّ الإسلام العظيم ليس إلّا إطالة اللحى وتقصير الثياب ، وحرمة تقبيل أضرحة الأنبياء والصالحين ، وحرمة التوسل بعباد الله المقرّبين!!

إنّ هؤلاء لا يهمّهم ـ وللأسف ـ وحدة المسلمين وتماسك كيانهم ، واجتماع

٧

كلمتهم ، ولهذا نجدهم ينفقون أموالاً طائلة على دعوة لم تجر على المسلمين سوى الفرقة ، والتشتت ، والتعادي والتخاصم.

ابن تيميّة من منظار علماء عصره وغيرهم

ولكي يعرف القارئ مدى ما تركه ابن تيمية من أثر سيّئ على وحدة الأُمّة الإسلامية ، والاختلاف الّذي أوجدته أفكاره يومها في صفوف المسلمين ولكي يعرف القراء الكرام دعاة الفرقة وعوامل الفتنة ندرج هنا ـ في هذه المقدّمة ـ بعض ما قاله علماء المذاهب الأربعة في حقّه ، تاركين التعريف بمجدّد هذه العقائد الشاذّة ومحييها محمد بن عبد الوهاب إلى الفصل الأوّل من هذا الكتاب.

١. الشيخ صفيّ الدين الهِندي الأرموي (المتوفّى ٧١٠ ه‍) وهو متكلّم أشعريٌّ مدحه السبكي ؛ باحَث ابن تيمية ، ولمّا ناظره ووجده يخرج من شيء إلى شيء قال له : ما أراك يا ابن تيميّة إلّا كالعُصفور حيث أردتُ أن أقبضه من مكانٍ فرَّ إلى مكان آخر. (١)

٢. الحافظ شمس الدين الذهبيّ (المتوفّى ٧٤٨ ه‍) كتب له رسالة ينصحه فيها بقسوة ، جاء فيها : إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشِقك وعباراتك ، وتذم العلماء وتتّبع عورات الناس؟!

فهل معظم أتباعك إلّا قعيدٌ مربوط خفيف العقل ، أو عامي كذّاب بليد الذهن ... أما آن لك أن ترعوي ، أما حان لك أن تتوب وتنيب؟! (٢)

٣. الحافظ عليّ بن عبد الكافي السبكي (المتوفّى ٧٥٦ ه‍) ردّ على ابن تيمية

__________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي : ٩ / ١٦٢.

(٢) تكملة السيف الصقيل تأليف الشيخ محمد الكوثري وكيل الأزهر ، ص ١٩٠ ، نقله من خط ابن قاضي شهبة.

٨

فيمن ردّ عليه ، وألّف فيه كتاباً أسماه : «شفاء السقام في زيارة خير الأنام». وقد كتب في مقدّمة كتاب له اسمه : «الدرة المضيئة في الردّ على ابن تيمية» ما هذا لفظه : أمّا بعد ، لمّا أحدث ابن تيمية ما أحدث في أُصول العقائد ، ونقض دعائم الإسلام بعد أن كان مستتراً بتبعيّة الكتاب والسنّة مُظهراً أنّه داعٍ إلى الحقّ هاد إلى الجنة ، فخرج عن الاتّباع إلى الابتداع ، وشذّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع ، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدّسة .... (١)

٤. شهاب الدين ابن حجر العسقلاني (المتوفّى ٨٥٢ ه‍) قال في كتابه : «الدُّرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» : قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحمويّة وبحثوا معه ، ومنع من الكلام :

ثمّ ذكر سجونه ، وما أصدره العلماء عليه من أحكام. (٢)

٥. شهاب الدين ابن حجر الهيتمي (المتوفّى ٩٧٣ ه‍) قال في ترجمة ابن تيمية : ابن تيمية عبدٌ خذله الله ، وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه. وبذلك صرّح الأئمّة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله ... والحاصل أنّه لا يُقام لكلامه بل يرمي في كل وعر وحَزن ، ويُعتقد فيه أنّه مبتدع ضالٌّ مضلٌّ غالٍ عامله الله بعدله ، وأجارنا من مثل طريقته ، وعقيدته ، وفعله. (٣)

وله كتاب حول زيارة القبر النبوي ، ردّ فيه على ابن تيمية.

٦. النبهاني (المتوفّى ١٣٥٠ ه‍) قال في كتابه «شواهد الحقّ» : قد ثبت وتحقّق وظهر ظهور الشمس في رائعة النهار أنّ علماء المذاهب الأربعة قد اتّفقوا على ردّ بدع ابن تيمية ، ومنهم من طعنوا بصحّة نقله ، كما طعنوا بكمال عقله. (٤)

__________________

(١) الدرّة المضيئة : ٦.

(٢) الدرر الكامنة : ١ / ١٥٤.

(٣) الفتاوى الحديثية : ٨٦.

(٤) شواهد الحق : ٧٩١. ألّفه عام ١٣٢٣ ه‍ ، وقد أدّى حقّ الكلام فيه في الردّ على بدع ابن تيمية.

٩

هذه طائفة من كلمات العلماء في ابن تيمية وأحواله وأقواله تكفي على قلّتها لإلقاء الضوء على شخصيّته وطبيعة أفكاره.

والمشكلة هي أنّ ابن تيمية بما كان له من طلاقةٍ في لسانه ، وسيولة في قلمه ، وأُسلوبه في نسبة ما يقول إلى الكتاب والسنّة والسَّلف بقاطعيّة وجزم ، كذباً وافتراء كان يستحوذ على عقول العوام والبسطاء ممّا كان سبباً في نصرته من قِبَلِهم دون العلماء الواعين.

إنّ المسلمين اليوم بأمسّ الحاجة ـ وهم يتعرّضون للغزو الصليبي والصهيوني والعلماني الغربي ـ إلى الوحدة الفكرية والاجتماعية والسياسية وإلى رصّ الصفوف ، ونبذ الخلافات وحلّ الفوارق الاجتهادية من خلال البحث العلمي والمناقشة الموضوعية بعيداً عن التراشق بسهام الاتّهام والعدوان.

وما هذا الكتاب ـ كما قلنا إلّا لفضح مفرّقي الصفوف ودعاة الفتنة قديماً وحديثاً ومواقفهم المفرّقة وأفكارهم الشاذة بغية أن يتجنّبها المسلمون ويتصدّى لهم ولها المفكّرون الذين يهمّهم أمر هذه الأُمّة المرحومة ، وتؤلمهم محنتها القاسية ، والله من وراء القصد.

استعرضنا في هذا الكتاب عقائد الوهابيين الموروثة عن ابن تيمية على ضوء الكتاب والسنّة ، وإذا ما قرأه القارئ مجرّداً عن أيّ تحيّز ، لعرف أنّ هذا المذهب لا يُبتنى على أُسس رصينة ، وأنّ ما يتبنّاه المذهب ، ليس سوى مغالطات أو انعكاسات سوء فهم للكتاب والسنّة ويتبين كلّ ذلك في ضمن فصول :

جعفر السبحاني

قم المشرفة ـ مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ

شعبان المعظم ١٤١٥ ه

١٠

الفصل الأوّل :

لمحات عن حياة مؤسّس الوهابيّة

تنسب الطريقة الوهّابيّة إلى الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب النجدي ، وتُسمّى طريقته باسم أبيه «عبد الوهّاب». أمّا السبب في عدم تسميتها ب «المحمّدية» نسبة إلى مؤسّسها محمّد ، فهو ـ كما يقول البعض ـ للحذر من وقوع التشابه بينها وبين المسلمين أتباع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والحيلولة دون استغلاله. (١)

وُلد الشيخ محمّد عام ١١١٥ ه‍ في قرية «عُيينة» إحدى القرى التابعة ل «نجد» وكان والده قاضياً فيها.

كان محمّد بن عبد الوهّاب ـ منذ طفولته ـ ذا علاقة شديدة بمطالعة كتب التفسير والحديث والعقائد ، وقد درس الفقه الحنبلي عند أبيه الّذي كان من علماء الحنابلة. وكان ـ منذ شبابه ـ يستقبح كثيراً من الشعائر الدينية التي كان يمارسها أهالي نجد. ولم يقتصر ذلك على «نجد» بل تعدّى إلى المدينة المنوّرة بعد ما انصرف من مناسك الحجّ ، فقد كان يستنكر على الذين يتوسّلون برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند مرقده المقدّس.

ثمّ عاد إلى نجد وبعدها ارتحل إلى البصرة ـ وهو في طريقه إلى الشام ـ وهناك في البصرة طفق يستنكر على الناس شعائرهم الدينية وينهاهم عنها ، فثار

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي : ١٠ / ٨٧١ ، نقلاً عن مجلة المقتطف : ٢٧ / ٨٩٣.

١١

عليه أبناء البصرة الغيارى وأخرجوه مدحوراً من ديارهم ، فتوجّه إلى مدينة الزبير.

وفي الطريق ـ بين البصرة والزبير ـ تعب من المشي ونال منه الحرُّ والعطش نيلاً شديداً بحيث كاد أن يهلك ، فأدركه رجل من الزبير فعطف عليه عند ما رآه مرتدياً زيَّ رجال الدين ، وسقاه الماء وأركبه وأوصله إلى المدينة.

كان محمّد بن عبد الوهّاب عازماً على السفر إلى الشام ، لكنّه لم يكن يملك ما يكفيه من المال والزاد ، فسافر إلى الأحساء ومنها إلى حريملة التابعة ل «نجد».

في تلك السنة ـ وكانت سنة ١١٣٩ ه‍ ـ انتقل والده عبد الوهّاب من عُيينة إلى حريملة فلازم الولد والده وتتلمذ على يده ، وواصل حملاته المسعورة ضدّ الشعائر الدينية في نجد ، ممّا أدّى إلى نشوب النزاع والخلاف بينه وبين أبيه من جهة ، وبينه وبين أهالي نجد من جهة أُخرى ، واستمرّت الحالة على هذه حتّى عام ١١٥٣ ه‍ حيث توفّي والده. (١)

عند ذلك خلا الجوّ لمحمّد بن عبد الوهّاب ، فراح يُعلن عن عقائده الشاذّة ، ويستنكر على الناس ما يمارسونه من الشعائر الدينية ، ويدعوهم إلى الانخراط في حزبه وتحت لوائه ، فانخدع بعضٌ ورفض آخرون ، واشتهر أمره في المدينة.

عندها قفل راجعاً إلى «عُيينة» وكان يحكم عليها عثمان بن حمد ، فاستقبله وأكرمه ، ووقع القرار بينهما على أن يُدافع كلٌّ عن صاحبه ، باعتبار أنّ لأحدهما السلطة التشريعية وللآخر السلطة التنفيذية ، فحاكم عيينة يمدّه بالقوّة ومحمّد بن عبد الوهّاب يدعو الناس إلى طاعة الحاكم واتّباعه.

ووصل الخبر إلى حاكم الأحساء بأنّ محمّد بن عبد الوهّاب يدعو إلى آرائه

__________________

(١) اقتطفناه من تاريخ نجد للآلوسي : ١١١ ـ ١١٣.

١٢

ومبتدعاته ، ويعضده حاكم عُيينة فأرسل حاكم الأحساء رسالة تحذيرية إلى حاكم عيينة ، فاستدعى الحاكم محمّد بن عبد الوهّاب واعتذر من تأييده ، فقال له ابن عبد الوهّاب : لو ساعدتني في هذه الدعوة لملكت نجد كلّها ، فرفضه الحاكم وأمره بمغادرة عيينة مذموماً مدحوراً.

كان ذلك في عام ١١٦٠ ه‍ عند ما خرج ابن عبد الوهّاب من عيينة وتوجّه إلى الدرعية التي كانت من أشهر المدن التابعة لنجد ، وكان حاكمها ـ يومذاك ـ محمّد بن سعود ـ الجدّ الأعلى لآل سعود ـ فزاره الحاكم وأكرمه ووعده بالخير.

وبالمقابل بشّره ابن عبد الوهاب بالهيمنة على بلاد نجد كلّها ، وهكذا وقع الاتّفاق المشئوم.

والجدير ب (١) الذكر : أنّ أهالي الدرعية كانوا يعانون من فقر مُدقع وحرمان فظيع ، حتّى وصول ابن عبد الوهّاب وعقد الاتّفاقية بينه وبين محمّد بن سعود.

يقول ابن بشر النجدي ـ فيما يرويه عنه الآلوسي ـ :

... وكان أهل الدرعيّة ـ يومئذٍ ـ في غاية الضيق والحاجة ، وكانوا يحترفون لأجل معاشهم ....

ولقد شاهدتُ ضيقهم في أوّل الأمر ، ثمّ رأيت الدرعيّة بعد ذلك ـ في زمن سعود ـ وما عند أهلها من الأموال الكثيرة والأسلحة المحلّاة بالذهب والفضّة والخيل الجياد والنجائب العُمانيات والملابس الفاخرة ، وغير ذلك من أسباب الثروة التامّة ، بحيث يعجز عن عدّه اللسان ويكلُّ عن تفصيله البيان.

ونظرتُ إلى موسمها يوماً ـ في الموضع المعروف بالباطن ـ فرأيت موسم

__________________

(١) لقد ذكر أحد المؤلّفين العثمانيين في كتابه تاريخ بغداد ، ص ١٥٢ ؛ بداية العلاقة بين محمّد بن عبد الوهّاب وآل سعود بصورة أُخرى ، ولكن الظاهر صحّة القول الّذي ذكرناه في المتن.

١٣

الرجال في جانب ، وموسم النساء في جانب آخر ، فرأيت من الذهب والفضّة والأسلحة والإبل والغنم والخيل والألبسة الفاخرة وسائر المآكل ما لا يمكن وصفه ، والموسم ممتدٌّ مدّ البصر ، وكنت أسمع أصوات البائعين والمشترين وقولهم : بعت واشتريت كدويّ النحل .... (١)

ولكن من أين كلّ هذه الثروات الهائلة؟!

إنّ «ابن بشر النجدي» لم يتعرّض لذكر مصدر هذه الثروات الهائلة ، لكن المستفاد من التاريخ هو أنّ ابن عبد الوهّاب كان يحصل عليها من خلال الهجمات التي كان يشنّها ـ مع أتباعه ـ على القبائل والمدن التي ترفض الانجراف إليه ، وكان يسلب أموالها وينهب ثرواتها ويوزّعها على أهل الدرعيّة.

وكان محمّد بن عبد الوهّاب ينتهج أُسلوباً خاصّاً في تقسيم الغنائم ـ المسلوبة من المسلمين الرافضين للانحراف ـ فقد كان يتصرّف فيها حسب رغبته الشخصيّة ، فمرّة كان يُقسّمها ـ رغم كثرتها بين اثنين أو ثلاثة من أتباعه ، وكان أمير نجد يأخذ نصيبه من الغنائم ، بموافقة ابن عبد الوهّاب نفسه.

ومن أهمّ نقاط الانحراف في ابن عبد الوهّاب هو هذه المعاملة السيّئة مع المسلمين الذين ما كانوا يخضعون لأهوائه وآرائه ، فقد كان يُعاملهم معاملة الكافر المحارب ، يُبيح أموالهم وأعراضهم.

وخلاصة القول : إنّ محمّد بن عبد الوهّاب كان يدعو إلى التوحيد ، ولكن لتوحيد خاطئ من صُنع نفسه ، لا التوحيد الّذي يُنادي به القرآن الكريم ، فمن خضع له و «لتوحيده» سلمت نفسه وأمواله ، ومن أبى فهو كافر حربي ، ودمه وماله هدر!!

__________________

(١) تاريخ نجد : ١١٧ ـ ١١٨.

١٤

وعلى هذا الأساس كان الوهّابيّون يشنَّون المعارك في نجد وخارجها ـ كاليمن والحجاز ونواحي سوريا والعراق ـ وكانوا يبيحون التصرّف بالمدن ـ التي يسيطرون عليها ـ كيفما يشاءُون ، فإن أمكنهم ضمّ تلك الأراضي إلى ممتلكاتهم وعقاراتهم فعلوا ذلك ، وإلّا اكتفوا بنهب الغنائم منها. (١)

وكان قد أمر كلّ من ينخدع بدعوته أن يتقدّم إليه بالبيعة ، ومن رفض البيعة وجب قتله وتوزيع أمواله!!

ولهذا عند ما رفض أهالي قرية الفصول ـ من ضواحي الأحساء ـ بيعة هذا الرجل الشاذ هجم عليهم وقتل ثلاثمائة رجل ونهب أموالهم وثرواتهم. (٢)

وأخيراً ... مات محمّد بن عبد الوهّاب عام ١٢٠٦ ه‍ (٣) ، ولكنّ أتباعه واصلوا طريقه وأحيوا بدعه وضلاله.

ففي عام ١٢١٦ ه‍ أعدَّ الأمير سعود ـ الوهّابي ـ جيشاً ضخماً يتألّف من عشرين ألفاً وشنّوا هجوماً عنيفاً على مدينة كربلاء المقدّسة بالعراق. وكانت كربلاء ـ ولا زالت ـ مدينة مقدسة ، تتمتّع بشهرة بالغة ومحبّة في قلوب المؤمنين ويقصدها الزوّار ـ بمختلف جنسيّاتهم من إيرانيين وأتراك وعرب وغيرهم ـ فحاصر الجيش الوهّابي هذه المدينة المقدّسة ثمّ اقتحمها ودخلها وأكثر فيها القتل والنهب والخراب والفساد.

وقد ارتكب الوهّابيّون ـ في مدينة كربلاء المقدّسة ـ جرائم وفجائع لا يمكن وصفها ، فقد قتلوا خمسة آلاف مسلم أو أكثر.

__________________

(١) جزيرة العرب في القرن العشرين : ٣٤١.

(٢) تاريخ المملكة العربية السعودية : ١ / ٥١.

(٣) الأقوال متعدّدة في سنة ولادة محمّد بن عبد الوهّاب ومماته.

١٥

وعند ما انتهى الأمير سعود من العمليات الحربية هناك ، عمد إلى خزانة حرم الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام والتي كانت مليئة بالذخائر النفيسة والهدايا القيّمة التي أهداها الملوك والأُمراء وغيرهم إلى الروضة المقدّسة فابتزّها نهباً.

وبعد هذه الفاجعة الأليمة اتّخذت مدينة كربلاء لنفسها طابع الحزن والكآبة ، حتى نظم الشعراء قصائد في رثائها. (١)

وكان الوهّابيّون يشنّون بين فترة وأُخرى ـ وخلال مدّة تتراوح بين اثني عشر عاماً ـ هجماتهم وغاراتهم الحاقدة على كربلاء المقدّسة وضواحيها ، وعلى مدينة النجف الأشرف ، ويعودون ناهبين سارقين ، وكانت البداية هي الهجوم على مدينة كربلاء عام ١٢١٦ ه‍ ، كما سبقت الإشارة إليه.

وقد اتفقت كلمات المؤلّفين من الشيعة على أنّ ذلك الهجوم كان في يوم عيد الغدير المجيد ، ذكرى تعيين النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لإمام علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ خليفة له من بعده. (٢)

يقول العلّامة المرحوم السيد محمّد جواد العاملي (٣) :

«وقد منّ الله سبحانه بفضله وإحسانه وببركة محمّد وآله ـ صلّى الله عليهم أجمعين ـ لإتمام هذا الجزء من كتاب «مفتاح الكرامة» ، بعد انتصاف الليل من الليل التاسعة من شهر رمضان المبارك سنة ١٢٢٥ ه‍ على يد مصنّفه ... وكان مع تشويش البال واختلال الحال وقد أحاطت الأعراب ـ من عُنيزة القائلين بمقالة الوهّابيّ الخارجي ـ بالنجف الأشرف ومشهد الإمام الحسين ـ عليه‌السلام ـ وقد قطعوا

__________________

(١) تاريخ كربلاء للدكتور عبد الجواد الكليدار.

(٢) لمزيد من المعلومات عن عيد الغدير المجيد راجع الجزء الأوّل من الغدير للشيخ الأميني.

(٣) في كتابه الفقهي القيّم مفتاح الكرامة : ٧ / ٦٥٣.

١٦

الطّرق ونهبوا زوّار الحسين ـ عليه‌السلام ـ بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان ، وقتلوا منهم جماعة غفيرة ، وأكثر القتلى من العجم ، وربّما قيل بأنّهم مائة وخمسون وقيل أقل ...».

نعم ، إنّ التوحيد الّذي كان يدعو إليه محمّد بن عبد الوهّاب وجماعته ـ وكانوا يبيحون دماء وأموال من يرفض دعوتهم ـ هو القول بأنّ الله على العرش ، يقول في الرسالة الحموية : إنّ الله سبحانه وتعالى فوق كلّ شيء ، وعلى كلّ شيء ، وإنّه فوق السماء.

ثمّ يستدلّ على أنّه فوق السماء بقصة معراج الرسول إلى ربّه ونزول الملائكة من عند الله وصعودهم إليه ، إلى غير ذلك من الروايات.

ويستشهد بشعر عبد الله بن رواحة الّذي أنشده للنبي ـ حسب زعمه ـ :

شهدت بأنّ وعد الله حق

وانّ النار مثوى الكافرينا

وانّ العرش فوق الماء طافٍ

وفوق العرش رب العالمينا

إلى أمثال هذه الروايات التي استنتج منها أنّه سبحانه على العرش وله جهة. (١)

ونحن نقتصر على ذلك فمن حاول أن يقف على التوحيد الّذي دعا إليه فليرجع إلى كتاب «بحوث في الملل والنحل» الجزء الرابع ، ولكن نقتصر في المقام بما ذكره ابن بطوطة في رحلته ، يقول : حضرت يوم الجمعة بدمشق المسجد الّذي يخطب فيه على منبر الجامع أحمد بن تيمية ، فكان من جملة كلامه : انّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف

__________________

(١) الرسالة الحموية الكبرى : الرسالة ١١ من مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية : ٤٢٩ ـ ٤٣٢.

١٧

بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلّم به ، فقامت العامة إلى هذا الفقيه ، وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً. (١)

ويظهر من كتاب «الردّ على الأخنائي» لابن تيمية أنّه كان يعتبر الأحاديث المرويّة في فضل زيارة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أحاديث موضوعة ، ويصرّح بأنّ من يعتقد بحياة رسول الله بعد وفاته ، كحياته زمن حياته فقد ارتكب خطأً كبيراً.

وهذا ما يعتقده محمّد بن عبد الوهّاب وأتباعه ، وقد زادوا على ابن تيمية في الانحراف والباطل.

لقد أدّت معتقدات الوهّابيّين الباطلة إلى أن يعتبر بعض الباحثين حول الإسلام ـ ممّن نظروا في كُتبهم وتعرّفوا على الإسلام من مطبوعاتهم ـ أن يعتبروا الإسلام ديناً جامداً محدوداً لا يُنتفع به في كلّ العصور والأزمان.

يقول «لوتروب ستودارد» الأمريكي :

«... وقام على أثر ذلك عدد من النقدة ، اتّخذوا الوهّابية دليلاً لكلامهم وقالوا : إنّ الإسلام ـ بجوهره وطبائعه ـ غير قابل للتكيّف على حسب مقتضيات العصور ومُماشاة أحوال الترقّي والتبدّل ، وليس إلفاً لتطوّرات الأزمنة وتغيّرات الأيام ...». (٢)

ومن الجدير بالذكر أنّ علماء المذهب الحنبلي ثاروا ضدّ محمّد بن عبد الوهّاب وحكموا بانحرافه وبطلان عقائده منذ البداية.

وأوّل من تصدّى له وأعلن الحرب عليه هو أبوه الشيخ عبد الوهّاب ، ثمّ أخوه الشيخ سليمان وكلاهما من علماء الحنابلة.

__________________

(١) ابن بطوطة ، الرحلة : ٩٥ ـ ٩٦ ، طبع دار صادر.

(٢) حاضر العالَم الإسلامي : ١ / ٢٦٤.

١٨

وقد كتب الشيخ سليمان كتاباً بعنوان : «الصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابيّة» ردّ فيه على أباطيل أخيه وخزعبلاته.

يقول زيني دحلان ـ ما معناه ـ :

«... وكان عبد الوهّاب ـ والد الشيخ محمّد ـ رجلاً صالحاً من أهل العلم ، وكان الشيخ سليمان ـ أخو محمّد ـ من أهل العلم أيضاً ، وبما أنّ الشيخ عبد الوهّاب والشيخ سليمان كانا من بداية الأمر ـ أي من يوم كان محمّد يواصل دراسته في المدينة المنورة ـ على علم بأفكار محمّد الشاذّة ، لذلك كانا يلومانه على أقواله ويُحذّران الناس منه ...». (١)

ويقول عبّاس محمود العقّاد المصري : «... وأكبر من خالف الشيخ في ذلك أخوه الشيخ سليمان ـ صاحب كتاب الصواعق الإلهية ـ وهو لا يُسلّم لأخيه بمنزلة الاجتهاد والاستقلال بفهم الكتاب والسنّة ...». (٢)

ويرى الشيخ سليمان أنّ البدع التي يمرّ بها الأئمّة ـ جيلاً بعد جيل ـ ولا يُكفّرون أصحابها ، لا يكون الكفر فيها من اللزوم الّذي يوجب القطع به ويُستباح من أجله القتال ، ويقول الشيخ سليمان في ذلك : إنّ هذه الأُمور حدثت من قبل زمن الإمام أحمد بن حنبل في زمان أئمّة الإسلام وأنكرها من أنكرها منهم ، ولا زالت حتى ملأت بلاد الإسلام كلّها ، وفُعلت هذه الأفاعيل كلّها الّتي تُكفِّرون بها ،

__________________

(١) الفتوحات الإسلامية : ٢ / ٣٥٧.

(٢) هذه الجملة تستدعي التوقّف والتأمّل ، فمحمّد بن عبد الوهّاب كان يدّعي بلوغه درجة الاجتهاد والاستقلال بفهم الكتاب والسنّة ، ولكن أخاه الشيخ سليمان كان يردّ عليه هذا الادّعاء ويعتبره دون منزلة الاجتهاد والاستقلال بالرأي ـ وأهل البيت أدرى بما فيه ـ إذن : آراء محمّد بن عبد الوهّاب وأفكاره كلها باطلة وخاطئة ـ بشهادة أخيه الشيخ ـ لأنّها نابعة من علم ناقص وفكر هابط.

١٩

ولم يُرو عن أحد من أئمّة المسلمين أنّهم كفّروا بذلك ، ولا قالوا هؤلاء مرتدّون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سمّوا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفّرتم من لم يُكفّر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ...». (١)

هذا ... وقد سبق أنّ محمّد بن عبد الوهّاب ليس أوّل مبتدع في آرائه وأفكاره ، بل سبقه إلى ذلك ـ بقرون عديدة ـ ابن تيميّة الحرّاني وتلميذه ابن القيّم الجوزيّة وأمثالهما ، إلّا أنّ أفكارهم لم تتّخذ لنفسها طابع المذهب كما أحدث ذلك ابن عبد الوهّاب.

الردود على قائد الوهابيين

ونظراً لمّا كان لابن تيميّة ـ باذر بذور النفاق ـ من آراء سقيمة وأفكار باطلة فقد تصدى علماء عصره لنقد آرائه والحكم بانحرافه وخاصّة بعد ما كتب عقائده الباطلة ونشرها بين الناس.

وقد تلخّصت الحرب الدينية ضدّ ابن تيميّة في نقطتين :

الأُولى : تأليف الكتب وكتابة الردود على أفكاره الباطلة ، وتزييفها على ضوء القرآن والسنّة الشريفة.

وكنموذج من ذلك نُشير إلى بعض ما صدر ضدّه من الكتب :

١. شفاء السقام في زيارة قبر الإمام : بقلم تقيّ الدين السبكي.

٢. الدرّة المضيئة في الردّ على ابن تيميّة : بقلم المؤلّف السابق.

٣. المقالة المرضيّة : تأليف قاضي قضاة المالكيّة تقيّ الدين أبي عبد الله الأخنائي.

__________________

(١) الإسلام في القرن العشرين حاضره ومستقبله : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، طبعة نهضة مصر.

٢٠