مجموعه رسائل الإمام الغزالي

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٦

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة الناشر

الحمد لله العليّ الأعلى وبعد :

ما ذا نكتب عن أبي حامد الغزالي في هذه المقدّمة القصيرة لمنتخبات انتقيناها من كتبه التي قضى في تسويدها حياته ، وقد طبقت شهرته الآفاق في حياته ، وبعد مماته ، وأسهب العلماء والنقاد في الحديث عنه ، والإعجاب بمؤلفاته وهي كثيرة عدّ منها السّبكيّ صاحب طبقات الشافعية ما يقرب من ستين كتابا منها في الفقه ، ومنها في علم الكلام ، ومنها في الفلسفة ، ومنها في التصوف. وأهم هذه الكتب وأشهرها كتاب الإحياء.

وقد رتبه أبو حامد رحمه‌الله أقساما ، والأقسام كتبا والكتب أبوابا ، والأبواب فقرات ، قاصدا بذلك تسهيل تناوله وقراءته.

أما أقسامه فهي :

١ ـ قسم العبادات.

٢ ـ قسم العادات.

٣ ـ قسم المهلكات.

٤ ـ قسم المنجيات.

وكان الدافع الأول والأخير للغزالي في تأليف كتابه مركزا على الإخلاص ، وكأنه أراد أن يدرّب نفسه على الإخلاص ويعلم الناس أن الإخلاص أهم ما ينبغي للمرء التمسك به ، وكيف لا وقد كان تمسك أوائل المسلمين بالإخلاص السبب الأهم في انتصارهم على الأمم وفتحهم البلاد ، وعلوّ كعبهم في العلوم والمعارف.

ولا غرابة إذا حظي كتاب الإحياء بهذه المكانة وهذا الاهتمام الكبيرين فقد ألفه ودافعه الإخلاص.

وأهم ما قيل في الكتاب وصاحبه ما قاله الحافظ العراقي : «إنه من أجلّ كتب الإسلام في معرفة الحلال والحرام».

وما قاله الزبيدي : «وأنا لا أعرف له نظيرا في الكتب التي صنفها الفقهاء الجامعون في تصانيفهم بين النقل والنظر والفكر والأثر».

وقول السّبكي : «وهو من الكتب التي ينبغي للمسلمين الاعتناء بها» ولقد لقي الكتاب من العناية الفائقة من العلماء والباحثين والدارسين منذ ألفه الغزالي وحتى

٥

يومنا هذا ، وكلما درسه الدارسون ازداد نضارة ، وآتى أكله طيبا يعجب أولي العلم والمعرفة.

وأخيرا ودار الفكر ، ومنذ تأسيسها قد وضعت نصب عينها إخراج كتب التراث بحلل زاهية وخدمتها بما يليق بها ، وانتقاء ما يمكن أن يفيد هذه الأمة منها ، ودأبت على ذلك بعمل جاد نشيط وهادف انتهزت فرصة إخراجها للكتاب الإحياء إخراجا جديدا عنيت فيه بشكل القرآن والحديث والشعر كما عنيت بتصحيحه وإخراجه فانتقت للقارئ هذه الرسائل من عدد من كتبه التي وضع مؤلفها نصب عينيه الإخلاص لله سبحانه وتعالى ، وهي على الايجاز فيها تفيد القارئ وتعطيه لمحة عن كتب الغزالي ، والنحو الذي كان ينحوه في كل كتاب. وإذا كان أول السيل وبلا ثم ينهمر ، فلا بد أن من يقرأ هذه الرسائل لا بد أن يدفعه النهم لقراءة كتب الغزالي كلها وعلى رأسها كتاب الإحياء وهذه الرسائل التي جمعناها هي :

الحكمة في مخلوقات الله تعالى

معراج السالكين

روضة الطالبين وعمدة السالكين

قواعد العقائد في التوحيد

خلاصة التصنيف في التصوف

القسطاس المستقيم

منهاج العارفين

الرسالة اللدنية

فصل التفرقة

أيها الولد

مشكاة الأنوار

رسالة الطير

الرسالة الوعظية

إلجام العوام عن علم الكلام

المضنون به على غير أهله

الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية

بداية الهداية

الأدب في الدين

كيمياء السعادة

القواعد العشر

الكشف والتبيين

سرّ العالمين وكشف ما في الدارين

الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة

المنقذ من الضلال

المواعظ في الأحاديث القدسية

قانون التأويل

نرجو الله أن يفيد منها أبناء هذه الأمة في شتى أقطارها

والله ولي التوفيق

الناشر

دار الفكر

٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحكمة في مخلوقات الله عزوجل

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم

خطبة الكتاب

الحمد لله الذي جعل نعمته في رياض جنان المقربين ، وخص بهذه الفضيلة من عباده المتفكرين ، وجعل التفكر في مصنوعاته وسيلة لرسوخ اليقين في قلوب عباده المستبصرين ، استدلوا عليه سبحانه بصنعته فعلموه وتحققوا أن لا إله إلا هو فوحدوه ، وشاهدوا عظمته وجلاله فنزهوه ، فهو القيم بالقسط في جميع الأحوال ، وهم الشهداء على ذلك بالنظر والاستدلال فعلموا أنه الحليم القادر العليم ، كما قال في كتابه الكريم : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ١٨]. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين ، وشفيع المذنبين محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه وشرف وكرم إلى يوم الدين.

أما بعد :

يا أخي وفقك الله توفيق العارفين ، وجمع لك خير الدنيا والدين ، إنه لما كان الطريق إلى معرفة الله سبحانه والتعظيم له في مخلوقاته والتفكر في عجائب مصنوعاته. وفهم الحكمة في أنواع مبتدعاته ، وكان ذلك هو السبب لرسوخ اليقين ، وفيه تفاوت درجات المتقين ، وضعت هذا الكتاب منبها لعقول أرباب الألباب بتعريف وجوه من الحكم والنعم التي يشير إليها معظم آي الكتاب. فإن الله تعالى خلق العقول وكمل هداها بالوحي وأمر أربابها بالنظر في مخلوقاته والتفكر والاعتبار مما أودعه من العجائب فيمصنوعاته ، لقوله سبحانه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). [يونس : ١٠١]. وقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٣٠]. إلى غير ذلك من الآيات البينات والدلالات الواضحات التي يفهمها متدبرها ، والمترقي في اختلاف معانيها يعظم المعرفة بالله سبحانه التي هي سبب السعادة ، والفوز بما وعد به عباده من الحسنى وزيادة. وقد بوبته أبوابا يشتمل كل باب على ذكر وجه الحكمة من النوع المذكور فيه من الخلق ،

٧

وذلك حسب ما تنبهت له عقولنا فيما أشرنا إليه ، مع أنه لو اجتمع جميع الخلائق على أن يذكروا جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى ، وما وضع من الحكم في مخلوق واحد من مخلوقاته لعجزوا عن ذلك وما أدركته الخلائق من ذلك ما وهب الله سبحانه لكل منهم وما سبق له من ربه سبحانه والله المسئول أن ينفعنا به برحمته وجوده.

باب التفكر في خلق السماء وفي هذا العالم

قال الله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦]. وقال سبحانه وتعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) [الطلاق : ١٢].

اعلم رحمك الله إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبسط ، والنجوم منصوبة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكل شيء من ذلك معد مهيأ لشأنه ، والإنسان كالمالك للبيت المخول لما فيه ، فضروب النبات لمآربه ، وأصناف الحيوانات مصروفة في مصالحه ، فخلق سبحانه السماء وجعل سبحانه لونها أشد الألوان موافقة للأبصار وتقوية لها ولو كانت أشعة أو أنوارا لأضرت الناظر إليها. فإن النظر إلى الخضرة والزرقة موافق للأبصار ، وتجد النفوس عند رؤية السماء في سعتها نعيما وراحة لا سيما إذا انفطرت نجومها وظهر نور قمرها ، والملوك تجعل في سقوف مجالسها من النقش والزينة ما يجد الناظر إليه به راحة وانشراحا ، لكن إذا داوم الناظر إليه نظره وكرره ملّه وزال عنه ما كان يجده برؤيته من البهجة والانشراح ، بخلاف النظر إلى السماء وزينتها فإن الناظر إليها من الملوك فمن دونهم إذا ضجروا من الأسباب المضجرة لهم يلجئون إلى ما يشرحهم من النظر إلى السماء وسعة الفضاء ، وقد قالت الحكماء : يحذوك عندك من الراحة والنعيم في دارك بمقدار ما عندك فيها من السماء ، وفيها أنها حاملة لنجومها المرصعة ولقمرها وبحركتها تسير الكواكب فتهتدي بها أهل الآفاق وفيها طرق لا تزال توجد آثارها من المغرب والمشرق ولا توجد مجردة ولا مقبلة صورة نور. وقيل : إنها أنجم صغار متكاثفة مجتمعة يهتدي بها على السير من ضل ويحثر في أي جهة كانت فيقصدها ، وقيل : إنها المشار إليها في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات : ٧]. قيل : الحبك الطرق ، وقيل ذات الزينة فهي دلائل واضحة تدل على فاعلها وصنعته محكمة صمدية تدل على سعة علم بارئها وأمور ترتيبها كما تدل على إرادة منشئها فسبحان القادر العالم المريد ، وقيل : في النظر إلى السماء عشر فوائد : تنقص الهم ، وتقلل الوسواس ، وتزيل وهم الخوف ، وتذكر بالله ، وتنشر في القلب التعظيم لله ، وتزيل الفكر الرديئة ، وتنفع لمرض السوداء ، وتسلي المشتاق وتؤنس المحبين ، وهي قبلة دعاء الداعين.

٨

باب في حكمة الشمس

قال الله سبحانه : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦].

اعلم أن الله سبحانه خلق الشمس لأمور لا يستكمل علمها إلا الله وحده ، فالذي ظهر من حكمته فيها أن جعل حركتها لإقامة الليل والنهار في جميع أقاليم الأرض. ولو لا ذلك لبطل أمر الدين ، أو لولاه كيف كان يكون الناس يسعون في معايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ، وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور ومنفعته ولو لا ضياء نورها ما انتفع بالأبصار ولم تظهر الألوان ، وتأمل غروبها وغيبتها عمن طلعت عليهم وما في ذلك من الحكمة ، ولولاه لم يكن للخلق هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء وراحة أبدانهم وخمود حواسهم وانبعاث القوة الهاضمة لهضم طعامهم وتفنيد الغذاء ، ثم كان الحرص لحملهم على مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم مكانته في أبدانهم ، فإن أكثر الحيوانات لو لا دخول الليل ما هدؤوا ولا قروا من حرصهم على نيل ما ينتفعون به ، ثم كانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصاله حتى يحترق كل ما عليها من الحيوانات والنباتات ، فهي بطلوعها في وقت غروبها في وقت في النور بمنزلة سراج لأهل بيت يستضاء به وقتا ويغيب وقتا ليهتدوا ويقروا ، وهي في حرها بمنزلة نار يطبخ بها أهل الدار حتى إذا كمل طبيخهم واستغنوا عنها أخذها من جاورهم ، وهو يحتاج إليها فينتفع حتى إذا قضى حاجته سلمها لآخرين ، فهي أبدا منصرفة في منافع أهل الأرض بتضاد النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظافرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ، وإلى هذه القضية الإشارة بقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [القصص : ٧١]. ثم بتقدمها وتأخرها تستقيم الفصول فيستقيم أمر النبات والحيوان ، ثم انظر إلى مسيرها في فلكها في مدة وهي تطلع كل يوم وتغرب بسير آخر سخر لها بتقدير خالقها فلو لا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولما عرفت المواقيت. ولو انطبق الظلام على الدوام لكان فيه الهلاك لجميع الخلق ، فانظر كيف جعل الله الليل سكنا ولباسا والنهار معاشا ، وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على الترتيب المخصوص ، وانظر إلى إمالة سير الشمس حتى اختلف بسبب ذلك الصيف والشتاء ، فإذا انخفضت من وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء. وإذا استوت وسط السماء اشتد القيظ ، وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان فيستقيم بذلك أمر النبات والحيوان بإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وأما ما في ذلك من المصلحة ، ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر والنبات فيتولد فيه مواد الثمار ويستكشف الهواء ، فينشأ منه السحاب والمطر ، وتشتد أبدان الحيوان وتقوى أفعال الطبيعة ، وفي الربيع تتحرك الطبائع في المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات بإذن الله وينور الشجر ، وتهيج أكثر الحيوانات للتناسل ، وفي الصيف يخمد الهواء فينضج الثمار وتنحل فضول الأبدان ، ويجف وجه الأرض

٩

فتتهيأ لما يصلح لذلك من الأعمال ، وفي الخريف يصفو الهواء فترتفع الأمراض ويمتد الليل فيعمل فيه بعض الأعمال وتحسن فيه الزراعة ، وكل ذلك يأتي على تدريج ، وبقدر حتى لا يكون الانتقال دفعة واحدة إلى غير ذلك مما يطول لو ذكر.

فهذا مما يدلك على تدبير الحكيم العليم وسعة علمه ، ثم تفكر في تنقل الشمس في هذه البروج لإقامة دور السنة ، وهذا الدور هو الذي يجمع الأزمنة الأربعة : الشتاء والصيف والربيع والخريف وتسير فيها على التمام وفي القدر من دوران الشمس يدرك الغلات والثمار وتنتهي غاياتها ، ثم تعود فتستأنف وقت السير وبمسيرها تكمل السنة ويقوم حساب السنة على الصحة على التاريخ بتقدير الحكيم العليم.

تأمل إشراق الشمس على العالم كيف دبره تبارك وتعالى ، فإنها لو بزغت في موضع واحد لها لا تعدوه لما وصل شعاعها إلا إلى جهة واحدة وخلت عنها جميع الجهات فكانت الجبال والجدران تحجبها عنها ، فجعلها سبحانه تشرق بطلوعها أول النهار من المشرق فيعم شروقها ما يقابلها من جهة المغرب ، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغرب على ما استتر عنها أول النهار ، فلا يبقى موضع حتى يأخذ بقسطه منها ، ثم انظر إلى مقدار الليل والنهار كيف وقتهما سبحانه على ما فيه صلاح العالم فصارا بمقدار لو تجاوزاه لأضرا بكل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات ، أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر ما دام يجد ضوء النهار وكانت البهائم لا تمسك عن الرعي فيئول أمرها إلى تلفها ، وأما النبات فتدوم عليه حرارة الشمس وتوهجها فيجف ويحترق ، وكذلك الليل لو امتد مقداره أيضا لكان معوقا لأصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش ، وتجمد الحرارة الطبيعية من النبات فيعفن ويفسد كالذي يحدث على النبات إذا كان الموضع لا تقع الشمس عليه.

باب في حكمة خلق القمر والكواكب

قال الله سبحانه وتعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١].

اعلم وفقك الله أن الله سبحانه وتعالى لما جعل الليل لبرد الهواء وهدوء الحيوان وسكونه ، فلم يجعله سبحانه ظلمة داجية لا ضياء فيها البتة فكان لا يمكن أن يعمل عملا فيه. وربما احتاج الناس إلى بعض أعمالهم في الليل إما لضرورة أو لضيق وقت عليهم من النهار ، وقد يقع ذلك لشدة حرارة أو لغيره من الأسباب ، فكان ضوء القمر في الليل من جملة ما نحتاج إليه في المعونة على ذلك فجعل طلوعه في بعض الليالي ، وينقص نوره عن نور الشمس وحرها لئلا ينشط الناس في العمل نشاطهم في النهار فينعدم ما به يتمتعون من الهدوء والقرار فيضر ذلك بهم ، وجعل في الكواكب جزء من النور يستعان به إذا لم يكن ضوء القمر ، وجعل في الكواكب زينة السماء وأنسا وانشراحا لأهل الأرض شيئا ما ألطف هذا التدبير ، وجعل الظلمة دولة ومدة للحاجة إليها. وجعل

١٠

خلالها شيئا من النور ليكمل به ما احتيج إليه ، ثم في القمر علم الشهور والسنين وهو صلاح ونعمة من الله ، ثم في النجوم مآرب أخرى فإن فيها دلائل وعلامات على أوقات كثيرة لعمل من الأعمال كالزراعة والغراسة والاهتداء بها في السفر في البر والبحر وأشياء مما يحدث من الأنواء والحر والبرد ، وبها يهتدي السارون في ظلمة الليل وقطع القفار الموحشة واللجج المائلة كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧]. مع ما في ترددها في السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من البهجة والنضارة ، في تصريف القمر خاصة في استهلاله ومحاقه وزيادته ونقصانه واستنارته وكسوفه. كل ذلك دلالات على قدرة خالقها المصرف لها هذا التصرف لإصلاح العالم ، ثم انظر دوران الفلك بهذه الكواكب في كل يوم وليلة دورانا سريعا وسيرها معلوم مشاهد فإنا نشاهدها طالعة وغاربة ، ولو لا سرعة سيرها لما قطعت هذه المسافة البعيدة في أربعة وعشرين ساعة ، فلو لا تدبير الباري سبحانه بارتفاعها حتى خفي عنا شدة مسيرها في فلكها لكانت تختطف بتوهجها لسرعة حركتها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت في الجو ، فانظر لطف الباري سبحانه في تقدير سيرها في البعد البعيد لكيلا يحدث من سيرها حادث لا يحتمل فهي مقدرة في جميع الأحوال على قدر الحاجة ، وانظر في هذه التي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها مثل الثريا والجوزاء والشعرى ، فإنها لو كانت كلها تظهر في وقت واحد لم يكن لشيء منها دلالة على جهالة تعرفها الناس ويهتدون بها ، فكان في طلوع بعضها في وقت دون الآخر ما يدل على ما ينتفع به الناس عند طلوعه مما يصلحهم ، ولذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغيب لضرب من المصلحة فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس للطرق المجهولة في البر والبحر فإنها لا تغيب ولا تتوارى. ثم انظر لو كانت واقفة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقلات المتنقلة منها ومصيرها في كل واحد من البروج كما يستدل على أشياء تحدث في العالم بتنقل الشمس والقمر في منازلهما ولو كانت متنقلة كلها لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه لأنه إنما يعرف مسير المتنقلة منها بتنقلها في البروج الدانية ، كما يعرف سير سائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها ، فقد صار هذا الفلك شمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على هذا العالم بهذا دورانا دائما في الفصول الأربعة من السنة لصلاح ما فيه من حيوان ونبات وغير ذلك بتقدير العزيز العليم ، ومن عظيم الحكمة خلق الأفلاك التي بها ثبات هذا العالم على نهاية من الإتقان لطول البقاء وعدم التغير ، فقد كفى الناس التغير في هذا الأمر الجليل الذي ليس قدرة ولا حيلة في إصلاحه لو نزل به تغير يوجب ذلك التغير أمرا في الأرض. إذ قوام الأرض مرتبط بالسماء ، فالأمر في جميع ذلك ماض على قدرة الباري سبحانه لا يختل ولا يعتل ولا يتخلف منه شيء عن ميقاته لصلاح العالم ، فسبحان العليم القدير.

باب في حكمة خلق الأرض

قال تعالى : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٨].

١١

ثم انظر كيف جعل الله الأرض مهادا ليستقر عليها الحيوان ، فإنه لا بدّ له من مستقر ولا غنى له عن قوت فجميع الأرض محل للنبات لقوته ، ومسكن يسكنه من الحر والبرد ، ومدفن يدفن فيه ما تؤذي رائحته ، والجيف والأقذار من أجسام بني آدم وغيرها ، كما قال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) [المرسلات : ٢٥ و ٢٦]. قيل في تفسير هذه الآية هذا القول وغيره ، ثم ذلل طرقها لتنتقل فيها الخلق لطلب مآربهم فهي موضوعة لبقاء النسل من جميع أصناف الحيوان والحرث والنبات ، وجعل فيها الاستقرار والثبات كما نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها* وَالْجِبالَ أَرْساها* مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣]. فأمكن الخلائق بهذا السفر فيها في مآربهم والجلوس لراحتهم والنوم لهدوئهم والانتقال لأعمالهم ، فإنها لو كانت رجراجة متحركة لم يستطيعوا أن يتقنوا شيئا من النبات وجميع الصناعات وكانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج بهم من تحتهم ، واعتبر ذلك بما يصيب الناس في الزلازل ترهيبا للخلق وتخويفا لهم لعلهم يتقون الله وينزعون عن الظلم والعصيان ، فهذا أيضا من الحكمة البالغة ثم إن الأرض طبعها الله باردة يابسة بقدر مخصوص. أرأيت لو أفرط اليبس عليها حتى تكون بجملتها حجرا صلدا لما كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوانات ، ولا كان يمكن فيها حرث ولا بناء فجعل لينها لتتهيأ لهذه الأعمال ، ومن الحكمة في خلقها ووضعها أن جعل مهب الشمال أرفع من الجنوب لينحدر الماء على وجه الأرض فيسقيها ويرويها ثم يصير إلى البحر في آخر الأمر ، فأشبه ذلك ما إذا رفع أحد جانبي السطح وخفض الآخر لينحدر الماء عنه ، ولو لا ذلك لبقي الماء مستبحرا على وجه الأرض فيمتنع الناس من أعمالهم وتنقطع الطرق والمسالك بسبب ذلك. انظر إلى ما خلق الله فيها من المعادن وما يخرج منها من أنواع الجواهر المختلفة في منافعها وألوانها مثل الذهب والفضة والياقوت والزمرد والبسنفش وأشياء كثيرة من هذه الأحجار الشفافة المختلفة في ألوانها وأنواع أخر مما يصلح للأعمال والجمال كالحديد والنحاس والقصدير والرصاص والكبريت والزرنيخ والتوتيا والرخام والجبس والنفط وأنواع لو عددت لطال ذكرها وهو مما لا ينتفع به الناس وينصرف فيما يصلحهم. فهذه نعم يسّرها سبحانه لهم لعمارة هذه الدار ، ثم انظر إلى إرادة إجادته من عمارتها وانتفاع العباد بها يجعلها هشة سهلة بخلاف ما لو كانت على نحو خلق الجبال فلو يبست كذلك لتعذرت ، فإن الحرث لا يستقيم إلا مع رخو الأرض لزراعة الأقوات والثمر ، وإلا فلا يتعدى. إذا صلبت. الماء إلى الحب مع أن الحب لا يمكن دفنه إلا بعد أن تلين الأرض بالنداوة ويأخذ الورق وهي ضعيفة في ابتدائها في الأرض التربة. ويمكن إذ ذلك عملها وتحريكها حتى تشرب ما ينزل عليها من الماء فيخلق الله سبحانه عند ذلك العروق ملتبسة بالثرى حتى يقف الشجر والنبات على ساقه وجعل ما يخلق من العروق يوازن ما يخلق من الفروع ، ومن رحمته في لينها أن يسّر للناس حفر الآبار في المواضع المحتاجة إلى ذلك

١٢

إذ لو حفرت في الجبال لصعب الأمر وشق ، ومن الحكمة في لينها تيسير السير للسعادة فيها إذ لو صلبت لعسر السير ولم تظهر الطرق ، وقد نبه الله تبارك وتعالى على ذلك بقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) [الملك : ١٥]. وقال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء : ٣١]. ومن ذلك ما يستعين به العباد من ترابها ولينها في البناء وعمل اللبن وأواني الفخار وغير ذلك ، والمواضع التي ينبت فيها الملح والشب والبورق والكبريت أكثرها تربة رخوة. وأيضا أجناس من النبات لا يوجد إلا في التراب والرمل دون الأرض المحيلة ويخلق فيها كثير من الحيوان لسهولة حفرها فيتخذون فيها مسارب وبيوتا يؤوى إليها ، ومن الحكمة فيها خلق المعادن كما ذكرنا ، فقد امتن سبحانه على سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) [سبأ : ١٢]. أي سهلنا له الانتفاع بالنحاس وأطلعناه على معدنه وقال امتنانا على عباده : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد : ٢٥]. والنزول بمعنى الخلق كما قال سبحانه : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) [الزمر : ٦]. أي خلق ، والهمهم استخراج ما فيها من ذهب وفضة وغير ذلك لمنافعهم وما يحتاجون إليه في معاشهم وفي اتخاذ أوانيهم ، وفي ضبطها ما يحتاجون إلى ضبطه وتقويته واتخاذ أنواع من الحجارة النفيسة لتبقى فيها كالزجاج ويتخذون منها أواني لحفظ ما يحصل فيها من الأمور النفيسة لتبقى فيها سليمة لوقت الاحتياج إليها إذ لا غنى لهم عنها ، وكذلك يستخرج من المعادن الأكحال مثل : (الدهبخ والمرفنعنا) والسادن والتوتيا وغير ذلك من أصناف ينتفعون بها فسبحان المنعم الكريم. ومن الحكمة البالغة فيها خلق الجبال. قال الله تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢]. وقال تعالى: (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥]. وقال سبحانه : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١٨]. فقد خلق سبحانه فيها الجبال لمنافع متعددة لا يحيط بجميعها إلا الله ، فمن ذلك أن الله تعالى أنزل من السماء المياه ليحيي بها العباد والبلاد ، فلو كانت الأرض عارية عن الجبال لحكم عليها الهواء وحر الشمس مع رخو الأرض ، فكانوا لا يجدون المياه إلا بعد حفر وتعب ومشقة ، فجعل سبحانه الجبال لتستقر في بطونها المياه ويخرج أولا فأولا فتكون منها عيون وأنهار وبحار يرتوي بها العباد في أيام القيظ إلى أوان نزول غيث السماء ، ومن الجبال ما ليس في باطنها محل للمياه ، فجعل الثلج محفوظا على ظاهرها إلى أن يحله حر الشمس فيكون منه أنهار وسواق ينتفع بها إلى أوان نزول الغيث أيضا.

ومنها ما يكون فيه برك يستقر فيها الماء فيؤخذ منها وينتفع به ، ومن منافع الجبال ما يثبت فيها من أنواع الأشجار والعقاقير التي لا توجد إلا فيها ، وما يثبت فيها من أنواع الأخشاب العظيمة فيعمل منها السفن وتعمر منها المساكن ، وفيها الشعارى التي لا يوجد ما يعظم من الأخشاب إلا فيها ، وكذلك العقاقير أكثرها لا يوجد إلا بها ، وفيها وهاد تنبت مزارع للأنعام ومزارع لبني آدم ومساكن للوحوش ومواضع لأجناح النحل ، ومن منافع الجبال ما يتخذه العباد

١٣

من المساكن تقيهم الحر والبرد ويتخذون مدافن لحفظ جثث الموتى ، وقد ذكر الله ذلك فقال : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) [الحجر : ٨٢]. ومن فوائدها أن جعلت أعلاما يستدل بها المسافرون على الطرقات في نواحي الأرض. ويستدل بها المسافرون في البحار على المين والسواحل ، ومن فوائدها أن الفئة القليلة الضعيفة الخائفة من عدوان من لا تطيقه تتخذ عليها ما يحصنهم ويؤمنهم ويمنعها ممن تخافه فتطمئن لذلك ، وانظر كيف خلق الله فيها الذهب والفضة وقدرهما بتقدير منصوص ولم يجعل ذلك ميسرا في الوجود والقدر مع سعة قدرته وشمول نعمته كما جعل هذه السعة في المياه وما ذلك إلا لما سبق في علمه لخلائقه مما هو الأصلح كما أشار إلى ذلك بقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١]. فسبحان العليم الحكيم.

باب في حكمة البحر

قال الله تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) [النحل : ١٤].

اعلم رحمك الله : أن الله سبحانه وتعالى خلق البحار وأوسع فيها لعظم نفعها. فجعلها مكتنفة لأقطار الأرض التي هي قطعة من الأرض المستورة بالبحر الأعظم المحيط بجميع الأرض ، حتى أن جميع المكشوف من البراري والجبال عن الماء بالإضافة إلى الماء كربوة صغيرة في بحر عظيم. فاعلم أن ما خلق في الأرض من الحيوان بالإضافة إلى ما خلق في البحر كإضافة الأرض إلى البحر ، وقد شاهدت عجائب فيها ما هو مكشوف منها ، فتأمل عجائب البحر فإن فيه من الحيوان والجواهر والطيب أضعاف ما تشاهده على وجه الأرض ، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض ، ولعظم سعته كان فيه من الحيوانات والدواب العظيمة ، ما إذا أبدت ظهورها على وجه البحر. ظن من يراها أنها حشاف وجبال أو جزائر ، وما من صنف من أصناف حيوان البر من إنسان وطائر وفرس وبقر وغير ذلك إلا وفي البحر أمثالها وأضعافها ، وفيه أجناس من الحيوانات لم تعهد أمثالها في البر ، وكل منها قد دبره الباري سبحانه وخلق فيه ما يحتاجه ويصلحه ، ولو استقصى ذكر ما يحتويه بعضه لاحتاج إلى وضع مجلدات ، ثم انظر كيف خلق الله اللؤلؤ مدورا في صدف تحت الماء وأثبت المرجان في جنح صخور في البحر. فقال سبحانه : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢]. وذلك في معرض الامتنان ، وقيل : المرجان المذكور في القرآن هو الرقيق من اللؤلؤ ، ثم قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ٢٣]. وآلاؤه تفضله ونعمه ، ثم انظر ما يقذفه من العنبر وغيره من المنفوع ، ثم انظر إلى عجائب السفن وكيف مسكنها على وجه الماء تسير فيها العباد لطلب الأموال وتحصيل ما لهم من الأعراض وجعلها من آياته ونعمته. فقال : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ). [البقرة : ١٦٤]. فجعلها بتسخيره تحملهم وتحمل أثقالهم وينتقلون بها من إقليم أقاليم لا يمكن وصولهم إليها إلا بالسفن ، ولو راموا التوصل بغيرها لأدى إلى أعظم المشقات وعجزوا عن نقل ما ينقل من المنقولات إلى ما بعد البلاد

١٤

والجهات ، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يلطف بعباده ويهون ذلك عليهم خلق الأخشاب متخلخلة الأجزاء بالهواء ليحملها الماء ويبقى فيها من الفضاء عن نفسها ما يحمل به الأثقال وألهم العباد اتخاذها سفنا. ثم أرسل الرياح بمقادير في أوقات تسوق السفن وتسيرها من موضع إلى موضع آخر. ثم ألهم أربابها معرفة أوقات هبوبها وفترتها حتى يسيروا بالرياح التي تحملها شراعها ، وانظر إلى ما يسره سبحانه في خلقه الماء ، إذ هو جسم لطيف رقيق سيال متصل الأجزاء كأنه شيء واحد لطيف التركيب سريع القبول للتقطع حتى كأنه منفصل مسخر للتصرف قابل للاتصال والانفصال حتى يمكن سير السفن فيه ، فالعجب ممن يغفل عن نعمة الله في هذا كله. وفي بعضه متسع للفكر. وكل ذلك شواهد متظاهرة ودلائل متضافرة وآيات ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلال بارئها ، معربة عن كمال قدرته وعجائب حكمته ، قائلة : أما ترى تصويري وتركيبي وصفاتي زمنا واختلاف حالي وكثرة فوائدي؟ أيظن ذو لب سليم وعقل رصين أني تلونت بنفسي أو أبدعني أحد من جنس؟ بل ذلك صنع القادر القهار العزيز الجبار.

باب في حكمة خلق الماء

قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٣٠].

وقال سبحانه : (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل : ٦٠].

انظر وفقك الله إلى ما منّ به سبحانه وتعالى على عباده بوجود الماء العذب الذي به حياة كل من على وجه الأرض من حيوان ونبات ، فلو اضطر الإنسان إلى شربة منه ومنع منها لهان عليه أن يبذل فيها جميع ما يمكنه من خزائن الدنيا ، والعجب من غفلة العباد عن هذه النعمة العظيمة ، وانظر مع شدة الحاجة إليها كيف وسع سبحانه على العباد فيها ، ولو جعلها بقدر لضاق الأمر فيها وعظم الحرج على كل من سكن الدنيا ، ثم انظر لطافة الماء ورقته حتى ينزل من الأرض ويخلخل أجزاءها فتتغذى عروق الشجر ويصعد بلطافته بواسطة حرارة الشمس إلى أعالي الشجر والنبات وهو من طبعه الهبوط ، ولما كانت الضرورة تدعو إلى شربة لإماعة الأغذية في أجواف الحيوان ليتصرف الغذاء إلى موضعه جعله لشاربه في شربه لذة عند حاجته إليه وقبول له ويجد شاربه فيه نعيما وراحة ، وجعل مزيلا للأدران عن الأبدان والأوساخ عن الثياب وغيرها ، وبالماء يبل التراب فيصلح للبناء والأعمال ، وبه يرطب كل يابس مما لا يمكن استعماله يابسا ، وبه ترق الأشربة فيسوغ شربها ، وبه تطفأ عاذبة النار إذا وقعت فيها فلا تلتهب فيه وأشرف الناس منها على ما يكرهون وبه تزول الغصة إذا أشرف صاحبها على الموت ، وبه يغتسل التعب الكل فيجد الراحة لوقته ، وبه تستقيم المطبوخات وجميع الأشياء التي لا تستعمل ولا تصلح إلا رطبة إلى غير ذلك من مآرب العباد التي لا غنى لهم عنها ، فانظر في عموم هذه النعمة وسهولة تناولها مع الغفلة عن قدرها مع شدة الحاجة

١٥

إليها. فلو ضاقت لكدرت الحياة في الدنيا ، فعلم بهذا أن الله تبارك وتعالى أراد بإنزاله وتيسيره عمارة الدنيا بما فيها من حيوان ونبات ومعدن إلى غير ذلك من المنافع التي يقصر عنها الوصف لمن يروم حصرها ، فسبحان المتفضل العظيم.

باب الحكمة في خلق الهواء

قال الله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) [الحجر : ٢٢].

اعلم رحمك الله أن الهواء في حلقه تتخلخله الرياح ولو لا ذلك لهلك جميع حيوان البر ، وباستنشاقه تعتدل الحرارة في أجسام جميع الحيوانات لأنه لهم مثل الماء لحيوان البحر. فلو انقطع عن الحيوان استنشاقه انصرفت الحرارة التي فيها إلى قلبها فكان هلاكها بسبب ذلك ، ثم انظر إلى الحكمة في سوق السحاب به فيقطع المطر بانتقال السحاب في موضع يحتاج إلى المطر فيها للزراعة ، فلو لا لطف الباري بخلق الرياح لثقلت السحاب وبقيت راكدة في أماكنها وامتنع انتفاع الأرض بها ، ثم انظر كيف تسير السفن بها وتنتقل بحدوثها وهبوبها فتحمل فيها من أقاليم إلى أقاليم مما لا يخلق تلك الأشياء فيها فينتفع أهلها ، فلو لا تنقلها بالهواء لم تكن تلك الأشياء إلا بمواضعها التي خلقت فيها خاصة ، ولعسر نقلها بالدواب إلى غيرها من الأقاليم ، وللعباد ضرورات تدعو إلى ما ينقل إليهم مما ليس يخلق عندهم ، ومنافع يكثر تعدادها من طلب أرباح لمن يجلها ويعلم فوائدها. ثم انظر إلى ما في الهواء من اللطافة والحركة التي تتخلل أجزاء العالم فينقي بحركته عفن الأرض ، فلو لاه لعفنت المساكن وهلك الحيوان بالوباء والعلل ، ثم انظر إلى ما يحصل منه من النفع في نقل السوافي والرمال إلى البساتين وتقوية أشجارها بما ينتقل إليها من التراب بسبب حركة الهواء وتستر وجوه جبال بالسافي فيمكن الزراعة فيه وما فصل إلى السواحل مما ينتفع الناس بسببه ، وكل ذلك بحركة البحر بالهواء فيقذف البحر العنبر وغيره مما ينتفع به العباد في أمورهم. ثم انظر كيف يتفرق المطر بسبب حركة الهواء فيقع على الأرض قطرات ، فلو لا حركة الهواء لكان الماء عند نزوله ينزل انصبابة واحدة فيهلك ما يقع عليه ، ثم يجتمع بلل القطرات فيجتمع أنهارا وبحارا على وجه الأرض من غير تضرر ويحصل بذلك مقصودهم على أحسن وجه ، فانظر إلى أثر رحمة الله ، فسبحان اللطيف بخلقه المدبر لملكه ، ثم انظر عموم هذه الرحمة وعظيم نفعها وشمول هذه النعمة وجليل قدرها كما نبه العقول عليها بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ١٠ ، ١١]. ثم من تمام النعمة وعظيم الحكمة أن جعل سبحانه الصحو يتخلل نزول الغيث فصارا يتعاقبان لما فيه صلاح هذا العالم ، فلو دام واحد منهما عليه لكان فسادا. ألا ترى إلى الأمطار إذا توالت وكثرت عفنت البقول

١٦

والخضراوات وهدمت المساكن والبيوت وقطعت السبل ومنعت من الأسفار وكثير من الحرف والصناعات ولو دام الصحو لجفت الأبدان والنبات ، وعفن الماء الذي في العيون والأدوية ، فأضر ذلك بالعباد. وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضررا آخر من الأمراض ، وغلت بسببه الأسعار من الأقوات ، وبطل المرعى وتعذر على النحل ما يجده من الرطوبة التي يرعاها على الأزهار ، وإذا تعاقبا على العالم اعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما ضرر الآخر فصلحت الأشياء واستقامت ، وهذا هو الغالب من مشيئة الله.

فإن قيل : قد يقع من أحدهما ضرر في بعض الأوقات. قلنا : قد يكون ذلك لتنبيه الإنسان بتضاد الأشياء على نعمة الله تعالى وفضله ورحمته أنه هو الغالب فيحصل لهم بتلك انزجار عن الظلم والعصيان ، ألا ترى من سقم جسمه احتاج إلى ما يلائمه من الأدوية البشعة الكريهة ليصلح جسمه ويصح ما فسد منه. قال الله تعالى : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: ٢٧].

باب في حكمة خلق النار

قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ* نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧١. ٧٤].

اعلم وفقنا الله وإياك : أن الله خلق النار ، وهي من أعظم النعم على عباده ، ولما علم سبحانه وتعالى ـ أن كثرتها وبثها في العالم مفسدة جعلها الله بحكمته محصورة حتى إذا احتيج إليها وجدت واستعملت في كل أمر يحتاج إليها فيه ، فهي مخزونة في الأجسام ، ومنافعها كثيرة لا تحصى. فمنها ما تصلحه من الطبائخ والأشربة التي لولاها لم يحصل فيها نضج ولا تركيب ولا اختلاط ، ولا صحة هضم لمن يستعملها في أكل وشرب. فانظر لطف الباري سبحانه في هذا الأمر المهم ثم انظر فيما يحتاج الناس إليه من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير وغير ذلك ، فلولاها لم يكن شيء من الانتفاع من هذه الأشياء ، فبها يذاب النحاس فتعمل منه الأواني وغيرها. وقد نبه الله تعالى على مثل ذلك بأنها نعمة توجب الشكر. فقال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣]. وبه يلين الحديد فيعملون به أنواعا من المنافع والآلات للحروب مثل الدروع والسيوف إلى غير ذلك مما يطول تعداده ، وقد نبه الله تعالى على مثل هذا ، فقال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد : ٢٥]. وقال تعالى : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) [الأنبياء : ٨٠]. ومنه يعمل آلات للحرث والحصاد وآلات تتأثر بها النار ، وآلات يطرق بها ، وآلات لقطع الجبال الصمة ، وآلات لنجارة الأخشاب مما يكثر تعدادها. فلو لا لطف الله سبحانه بخلق النار لم يحصل من ذلك شيء من المنافع ، ولولاها لما كان يتهيأ للخلق من الذهب والفضة نقود ولا زينة ولا منفعة ، وكانت هذه الجواهر معدودة من جملة الأتربة ، ثم انظر إلى ما جعل الله تعالى في النار من الفرح والترح عند ما تغشى الناس ظلمة الليل كيف يستضيئون بها ويهتدون بنورها في جميع أحوالهم من

١٧

أكل وشرب وتمهيد مراقد ، ورؤية ما يؤذيهم ومؤانسة مرضاهم وقصدها والعمل عليها برا وبحرا فيجدون بوجودها أنسا حتى كأن الشمس لم تغب عن أفقهم ، ويدفعون بها ضرر الثلوج والرياح الباردة ويستعينون بها في الحروب ومقاومة حصون لا تملك إلا بها ، فانظر ما أعظم قدر هذه النعمة التي جعل سبحانه حكمها بأيديهم إن شاؤوا خزنوها وإن شاؤوا أبرزوها.

باب في حكمة خلق الإنسان

قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢]. إلى آخر ما وصفه سبحانه.

اعلم وفقك الله تعالى أن الله عزوجل لما سبق في علمه خلق الخلق وبثهم في هذه الدار ، وتكليفهم فيها للبلوى والاختبار. خلقهم سبحانه متناسلين بعضهم من بعض ، فخلق سبحانه الذكر والأنثى وألقى في قلوبهم المحبة والدواعي حتى عجزوا عن الصبر وعدموا الحيلة في اجتناب الشهوة. فساقتهم الشهوة المفطورة في خلقهم إلى الاجتماع وجعل الفكرة تحرك عضوا مخصوصا به إلى إيداع الماء في القرار المكين الذي يخلق فيه الجنين ، فاجتمعت فيه النطفة من سائر البدن وخرجت ماء دافقا مندفعا من بين الصلب والترائب بحركة مخصوصة ، فانتقلت بسبب الإفلاج من باطن إلى باطن. فكانت مع انتقالها باقية على أصلها ، لأنها ماء مهين أدنى شيء يباشرها يفسدها وبغير مزاجها ، فهي ماء يختلط جميعه مستوية أجزاؤه لا تفاوت فيها بحال ، فخلق سبحانه منه الذكر والأنثى بعد نقلها من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام ، ثم كساها اللحم وشدها بالأعصاب والأوتار ونسجها بالعروق ، وخلق الأعضاء وركبها فدور سبحانه الرأس وشق فيها السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ. فجعل العين للبصر ، ومن العجائب سر كونها مبصرة للأشياء ، وهو أمر يعجز عن شرح سره ، وركبها من سبع طبقات لكل طبقة صفة وهيئة مخصوصة بها ، فلو فقدت طبقة منها أو زالت لتعطلت عن الأبصار ، وانظر إلى هيئة الأشفار التي تحيط بها وما خلق فيها من سرعة الحركة لتقي العين مما يصل إليها مما يؤذيها من غبار وغيره ، فكانت الأشفار بمنزلة باب يفتح وقت الحاجة ويغلق في غير وقت ، ولما كان المقصود من الأشفار جمال العين والوجه جعل شعرها على قدر لا يزيد زيادة تضر بالعين ولا تنقص نقصا يضر بها ، وخلق في مائها ملوحة لتقطيع ما يقع فيها ، وجعل طرفيهما منخفضين عن وسطهما قليلا لينصرف ما يقع في العين لأحد الجانبين ، وجعل الحاجبين جمالا للوجه وسترا للعينين وشعرهما يشبه الأهداب في عدم الزيادة المشوهة ، وجعل شعر الرأس واللحية قابلا للزيادة والنقص ، فيفعل فيهما ما يقصد به الجمال من غير تشويه ، ثم انظر إلى الفم واللسان وما في ذلك من الحكم ، فجعل الشفتين سترا للفم كأنهما باب يغلق وقت ارتفاع الحاجة إلى فتحه ، وهو ستر على اللثة والأسنان مفيد للجمال ، فلو لا هما لتشوهت الخلق ، وهما معينان على الكلام واللسان للنطق والتعبير عما في ضمير الإنسان وتقليب الطعام وإلقائه تحت الأضراس حتى يستحكم

١٨

مضغه ، ويسهل ابتلاعه ، ثم جعل الأسنان أعدادا متفرقة ولم تكن عظما واحدا ، فإن أصاب بعضها ثلم انتفع بالباقي ، وجمع فيها بين النفع والجمال ، وجعل ما كان منها معكوسا زائد الشعب حتى تطول مدته مع الصف الذي تحته ، وجعلها صلبة ليست كعظام البدن لدعاء الحاجة إليها على الدوام ، وفي الأضراس كبر وتسريف لأجل الحاجة إلى درس الغذاء ، فإن المضغ هو الهضم الأول ، وجعلت الثنايا والأنياب لتقطيع الطعام وجمالا للفم فأحكم أصولها ، وحدد ضروسها ، وبيض لونها مع حمرة ما حولها ، متساوية الرؤوس متناسبة التركيب ، كأنها الدر المنظوم ، ثم انظر كيف خلق في الفم نداوة محبوسة لا تظهر إلا في وقت الحاجة إليها ، فلو ظهرت وسالت قبل ذلك لكان تشويها للإنسان ، فجعلت ليبل بها ما يمضغ من الطعام حتى يسهل تسويغه من غير عنت ولا ألم. فإذا فقد الأكل عدمت تلك النداوة الزائدة التي خلقت للترطيب ، وبقي منها ما يبل اللهوات والحلق لتصوير الكلام ولئلا يجف ، فإن جفافه مهلك للإنسان ، ثم انظر إلى رحمة الله ولطفه ، إذ جعل للآكل لذة الأكل فجعل الذوق في اللسان وغيره من أجزاء الفم ليعرف بالذوق ما يوافقه ويلائمه من الملذوذ فيجد في ذلك راحة في الطعام والشراب إذا دعت حاجة إلى تناوله وليجتنب الشيء الذي لا يوافقه ، ويعرف بذلك حد ما تصل الأشياء إليه في الحرارة والبرودة ، ثم إن الله تعالى شق السمع وأودعه رطوبة مرة يحفظ بها السمع من ضرر الدود ويقتل أكثر الهوام الذين يلجون السمع ، وحفظ الأذن بصدفة لتجمع الصوت فترده إلى صماخها. وجعل فيها زيادة حس لتحس بما يصل إليها مما يؤذيها من هوام وغيرها ، وجعل فيها تعويجات ليتطرد فيها الصوت ، ولتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه فيتأثر ويتنبه صاحبها من النوم ، ثم انظر إلى إدراكه المشمومات بواسطة ولوج الهواء ، وذلك سر لا يعلم حقيقته إلا الباري سبحانه إلى غير ذلك ، ثم انظر كيف رفع الأنف في وسط الوجه ، فأحسن شكله ، وفتح منخريه ، وجعل فيها حاسة الشم ليستدل باستنشاقه على روائح مطاعمه ومشاربه ، وليتنعم بالروائح العطرة ويجتنب الخبائث القذرة ، وليستنشق أيضا روح الحياة غذاء لقلبه وترويحا لحرارة باطنه ، ثم خلق الحنجرة وهيأها لخروج الأصوات ، ودور اللسان في الحركات والتقطيعات ، فينقطع الصوت في مجاري مختلفة تختلف بها الحروف ليشع طرق النطق ، وجعل الحنجرة مختلف الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر ، حتى اختلف بسبب ذلك الأصوات. فلم يتشابه صوتان ، كما خلق بين كل صورتين اختلافا فلم تشتبه صورتان ، بل يظهر بين كل صورتين فرقان ، حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت ، وكذلك يظهر بين كل شخصين فرقان ، وذلك لسر التعارف فإن الله تعالى لما خلق آدم وحواء خالف بين صورتيهما ، فخلق منهما خلقا جعله مخالفا لخلق أبيه وأمه ، ثم توالى الخلق كذلك لسر التعارف ثم انظر لخلق اليدين تهديان إلى جلب المقاصد ودفع المضار وكيف عرض الكف وقسم الأصابع الخمس ، وقسم الأصابع بأنامل ، وجعل الأربعة في

١٩

جانب والإبهام في جانب آخر فيدور الإبهام على الجميع ، فلو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستطيعوا بدقة الفكر وجها آخر عن وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربعة ، وتفاوت الأربعة في الطول وترتيبها في صف واحد لم يقدروا على ذلك ، وبهذا الوضع صلح بها القبض والإعطاء. فإن بسطها كانت طبقا يضع عليه ما يريد ، وإن جمعها كانت آلة يضرب بها ، وإن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له ، وإن بسطها وضم أصابعه كانت مجرفة ، ثم خلق الأظفار على رءوسها زينة للأنامل وعمادا لها من ورائها حتى لا تضعف بها ويلتقط الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل لولاها ، وليحك بها جسمه عند الحاجة إلى ذلك ، فانظر أقل الأشياء في جسمه لو عدمها وظهرت به حكة لكان أضعف الخلق وأعجزهم عن دفع ما يؤلمه ، وجلب ما ينتفع به في ذلك ولم يقم له غير الظفر مقامه في حك جسده ، لأنه مخلوق لذلك ولغيره فهو لا صلب كصلابة العظام ولا رخو كرخاوة الجلد يطول ويخلق ويقص ويقصر لمثل ذلك ، ثم جعله يهتدي به إلى الحك في حالة نومه ويقظته ويقصد المواضع إلى جهتها من جسده ، ولو احتاج إلى غيره واستعان به في حكمها لم يعثر الغير على مواضع الحاجة إلا بعد طول وتعب ، ثم انظر كيف مد منه الفخذين والساقين وبسط القدمين ليتمكن بذلك من السعي ، وزين القدمين بالأصابع ، وجعلها زينة وقوة على السعي ، وزين الأصابع أيضا بالأظفار وقواها بها ، ثم انظر كيف خلق هذا كله من نطفة مهينة ، ثم خلق منها عظام جسده فجعلها أجساما قوية صلبة لتكون قواما للبدن وعمادا له ، وقدرها تبارك وتعالى بمقادير مختلفة وأشكال متناسبة ، فمنها صغير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت عريض ودقيق ، ثم أودع في أنابيب هذه العظام المخ الرقيق مصونا لمصلحتها وتقويتها ولما كان الإنسان محتاجا إلى جملة جسمه ، وبعض أعضائه لتردده في حاجاته لم يجعل الله سبحانه عظامه عظما واحدا بل عظاما كثيرة ، وبينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة فقدر شكل كل واحد منها على قدر وفق الحركة المطلوبة بها.

ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتاد أثبتها بأحد طرفي العظم وألصق الطرف الآخر كالرباط ، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجية منها ، ومن الآخرة نقرا غائصة فيها توافق لأشكال الزوائد لتدخل فيها وتنطبق ، فصار الإنسان إذا أراد أن يحرك شيئا من جسده دون غيره لم يمتنع عليه ، فلو لا حكمة خلق المفاصل لتعذر عليه ذلك ، ثم انظر كيف جعل خلق الرأس مركبا من خمسة وخمسين عظما مختلفة الأشكال والصور ، وألف بعضها إلى بعض بحيث استوت كرة الرأس كما ترى ، فمنها ستة تختص بالقحف ، وأربعة وعشرون للحي الأعلى ، واثنان للحي الأسفل ، والبقية من الأسنان بعضها عريض يصلح للطحن ، وبعضها حاد يصلح للقطع ، ثم جعل الرقبة مركز الرأس ، فركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات وزيادات ونقصان لينطبق بعضها على بعض ويطول ذكر الحكمة فيها ، ثم ركب الرقبة على الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربعة وعشرين خرزة وعظم العجز ثلاثة أخرى مختلفة ووصل به من أسفله عظم العصعص وهو مؤلف من ثلاثة

٢٠