في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

١
٢

٣
٤

كلمة الناشر :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين وعليه نتوكل

والحمد لله ربّ العالمين ، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

لقد اهتم المسلمون ـ ومنذ صدر الإسلام ـ اهتماماً بالغاً بالتوحيد لأنّه يشكِّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضيءُ دربهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهوده في الفترة المكيّة من حياته الرساليّة لإرساء أُسس التوحيد الخالص ، ومكافحة الشرك والوثنيّة ، ثمّ بنى عليها في الفترة المدنيّة صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا ـ ونظراً للحاجةِ المتزايدة ـ رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميِّة الكريمة دراسات عقائدية ـ حول التوحيد والشرك ـ مستمدَّةٍ من كتاب اللهِ العزيز ، والسُّنّةِ الشريفة الصحيحة ، والعقل السليم ، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمّةِ الكرام ، والله الموفِّق.

معاونيّة شئون التعليم والبحوث الإسلاميّة في الحجّ

٥
٦

مقدّمة المؤلف :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

في ظلال التوحيد ونبذ الشرك

التوحيد ونبذ الشرك من أهمّ المسائل الاعتقاديّة التي تصدّرت المفاهيمَ والتعاليمَ السماويّة ، ويُعدُّ أساساً للمعارف العليا التي جاء بها سفراؤه سبحانه وأنبياؤه.

إنّ للتوحيد مراتب متعدّدة النظير :

أ : التوحيد في الذات : إنّه واحد لا ثاني ولا نظير له.

ب : التوحيد في الخالقية : إنّه لا خالق للكون إلّا الله سبحانه.

ج : التوحيد في الربوبيّة : إنّه لا مدبّر للعالم سواه.

د : التوحيد في العبادة : إنّه لا معبود إلّا هو.

إلى غير ذلك من مراتب التوحيد المطروحة في كتب العقائد.

وقد أولى الذكر الحكيم مزيداً من الاهتمام بالمرتبة الرابعة ، أعني : التوحيد في العبادة ، ولذلك نجد المسلمين يشهدون خلال صلواتهم اليوميّة بالتوحيد في العبادة ، حيث يتلون قوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وبالتالي أصبح التوحيد في العبادة شعاراً للمسلمين ، ولا يدخل أحد حظيرة الإسلام إلّا بالاعتقاد به ، وتطبيق العمل

٧

على وفقه ، فمن رفضه اعتقاداً أو خالفه عملاً فهو مشرك وليس بمسلم.

إنّه سبحانه يركّز على أنّ الهدف من وراء بعث الأنبياء هو دعوة الناس إلى التوحيد في العبادة ، ونبذ عبادة الطاغوت ، يقول سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١).

إنّه سبحانه جعل التوحيد في العبادة أصلاً مشتركاً بين الشرائع السماويّة التي أنزلها على المصطفين من عباده ، وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بينه وبينهم ألا وهي التوحيد في العبادة ، وقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٢).

إنّ الحدّ الفاصل بين الموحد والمشرك هو أنّ الموحّد يستبشر بذكر الله سبحانه خلافاً للمشرك الذي يستبشر بذكر غيره.

قال سبحانه : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٣).

نعم هذا هو حال المشرك فهو يستكبر عن عبادته سبحانه ، كما يقول تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٤).

فعلى ضوء ذلك فلا اختلاف بين المسلمين في التوحيد في العبادة ، وهو أصل اتّفقت عليه كافّة مذاهبهم ، غير أنّ هناك موضوعات ربّما يتصوّر أنّها من مقولة العبادة لغيره سبحانه أو من مصاديق البدعة ، فهذا وذاك دعانا إلى طرح

__________________

(١) النحل : ٣٦.

(٢) آل عمران : ٦٤.

(٣) الزمر : ٤٥.

(٤) الصافات : ٣٥.

٨

الموضوعات التالية على طاولة البحث.

١ ـ العبادة حدّها ومفهومها.

٢ ـ البدعة وآثارها الموبقة.

٣ ـ الزيارة في الكتاب والسنّة.

٤ ـ صيانة الآثار الإسلامية.

٥ ـ الحياة البرزخيّة.

٦ ـ الشفاعة في الكتاب والسنّة.

٧ ـ التوسّل مفهومه وأقسامه وحكمه.

وفي الختام ، أودّ أن أشير إلى نكتة جديرة بالاهتمام وهي أنّ الفهم الخاطئ للمسائل المطروحة بات مانعاً أمام وحدة المسلمين ، ورصّ صفوفهم ، وتوحيد كلمتهم ، التي هي أمنية كلّ المصلحين الذين يحملون هموم الأمّة.

وانطلاقاً من ذلك ، فقد آثرنا دراستها على ضوء الكتاب والسنّة بعبارات واضحة لا لُبس فيها يفهمها الجميع ، وبلغة هادئة من دون أن تُثير حفيظة الآخرين ، وأظنّ أنّ القارئ الكريم يشاطرني الرأي في ذلك شريطة أن يتجرّد عن كلّ رأي مسبق ، وأن يُنشد الحقيقة التي هي أولى بالاتباع.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٢٤ صفر المظفّر من شهور عام ١٤١٢ ه‍. ق.

٩
١٠

الفصل الأوّل :

العبادة

حدّها ومفهومها

١١
١٢

تمهيد

العبادة من الموضوعات التي تطرّق إليها الذكر الحكيم كثيراً. وقد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ وآية وخصَّها بالله سبحانه وقال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١) ونهى عن عبادة غيره من الأنداد المزعومة والطواغيت والشياطين ، وجعلها الأصل الأصيل بين الشرائع السماوية وقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٢) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (٣).

فإذا كان لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير بالباحث المسلم أن يتناولها بالبحث والتحقيق العلمي ، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميّزاً منطقياً.

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) آل عمران : ٦٤.

(٣) النحل : ٣٦.

١٣

والذي يُضفي على الدراسة أهمية أكثر ، هو أنّ التوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه ، ثمّ عقد القلب عليه ، والتحرّر عن أيّ لون من ألوان الشرك. فلا تُنال تلك الأُمنيةُ في مجالي العقيدة والعمل إلّا بمعرفة الموضوع معرفة صحيحة ، مدعمة بالدليل حتّى لا يقع في مغبَّة الشرك ، وعبادة غيره سبحانه.

ورغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها ، وحدّها الذي يُفصله عن التكريم والتعظيم أو الخضوع والتذلّل ، وكأنَّ السلف (رضوان الله عليهم) تلقّوها مفهوماً واضحاً ، واكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم.

ولو صحّ ذلك فإنّما يصحّ في الأزمنة السالفة ، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناسِ أمر ادّعاء الشرك في العبادة ، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح ـ بادّعائهم ـ كلّ تعظيم وتكريم للنبيّ ، عبادة له ، وكلّ خضوع أمام الرسول شركاً ، فلا يلتفت الزائر يميناً وشمالاً في المسجد الحرام والمسجد النبوي إلّا وتوقر سمعه كلمةُ «هذا شرك يا حاج» وكأنّه ليس لديهم إلّا تلك اللفظة ، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلّا بذلك.

فاللازم على هؤلاء ـ الذين يعدّون مظاهر الحبّ والودّ ، والتكريم والتعظيم شركاً وعبادة ـ وضع حدٍّ منطقيّ للعبادة ، يُميَّز بها ، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاصي العالم وأدانيه ، ضابطة كلّية في المشاهد والمواقف ، ولكن ـ وللأسف ـ لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة وتبيينها في كتبهم ونشرياتهم ودورياتهم.

فلأجل ذلك قمنا في هذا الفصل ، بمعالجة هذا الموضوع ، بشرح مفهومها لغة وقرآناً ، حيث بيّنّا أنّ حقيقة الشرك في تعاليم الأنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم وكتب اللّغة.

١٤

تخصيص العبادة والاستعانة بالله سبحانه

إنّ المسلم في شرق الأرض وغربها ، يخصّ العبادة والاستعانة بالله سبحانه في كلّ يوم في صلواته الخمس فيقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١) ولا خلاف بين المسلمين في هذه الضابطة الكلّية ، أي أنّ العبادة مختصّة بالله سبحانه ، ولا يصحّ إصدار هويّة إسلامية لشخص إلّا بعد الاعتراف بهذه الكُبرى ، وإنّما الخلاف بينهم في بعض الأُمور والأحوال الخارجية ، فهل هي عبادة أو لا؟ فلو صحّت كونها عبادة ، فلا يجوز الإتيان بها لغيره سبحانه وإن أتى بها لغيره يُعدّ مشركاً.

مثلاً تقبيل الأضرحة هل هو عبادة لصاحب القبر أو تكريم وتعظيم له؟ وهكذا الصلاة في المشاهد وعند قبور الأنبياء ، فهل هي عبادة لصاحب القبر (وإن كانت الصلاة لله) أو هي عبادة لله ولكن تتضمّن التبرّك بصاحب القبر؟

ومثل ذلك مسألة الاستعانة في نفس الآية ، فمع الاعتراف بحصر الاستعانة بالله سبحانه ، فلا شكّ عند العقلاء عامّة أنّه تجوز الاستعانة بالأحياء في الأُمور الدنيوية ، ولكن إذا استعان بإنسان حيّ فيما يرجع إلى الأُمور الغيبية ، كردّ ضالته

__________________

(١) سورة الفاتحة : ٦.

١٥

وبرء مرضه ، فهل هو استعانة تخالف الحصر المذكور في الآية أو لا؟

وهناك صورة ثالثة أبهم من الصورة الثانية وهي : إذا استعان بميّت بنحو من الأنحاء كما إذا طلب منه الدعاء والاستغفار في حقّه ، فهل هي استعانة تخالف الحصر أو لا؟ وقس على ذلك بعض ما يرد عليك من الصور المردّدة بين العبادة والتكريم ، أو بين الاستعانة الجائزة والمحرّمة.

ولأجل أن يكون البحث أكثر علمية وموضوعية علينا أوّلاً البحث في مسألتين :

١ ـ تحديد مفهوم العبادة حتى تتميّز عن التكريم والتبجيل والتبرّك.

٢ ـ تحديد الاستعانة المختصة بالله وفصلها عن الاستعانة الجائزة.

كلّ ذلك في ضوء القرآن الكريم.

١٦

المسألة الأُولى :

مفهوم العبادة وحدّها

بالرغم من عناية اللغويين والمفسّرين بتفسير لفظ العبادة وتبيينها ، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل ، وذلك لأنّهم فسّروه بأعمّ المعاني وأوسعها وليس مرادفاً للعبادة طرداً وعكساً.

١ ـ قال الراغب في المفردات : «العبودية : إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ؛ لأنّها غاية التذلّل ، ولا يستحقّ إلّا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى ولهذا قال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ...).

٢ ـ قال ابن منظور في لسان العرب : «أصل العبودية : الخضوع والتذلّل».

٣ ـ قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط : «العبادة : الطاعة».

٤ ـ قال ابن فارس في المقاييس : «العبد : الذي هو أصل العبادة ، له أصلان متضادّان ، والأوّل من ذينك الأصلين ، يدلّ على لين وذلّ ، والآخر على شدّة وغلظ».

هذه أقوال أصحاب المعاجم ولا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّر به أهل اللغة ، غير مكترثين بأنّ تفسيرهم ، تفسير لها

١٧

بالمعنى الأعمّ.

١ ـ قال الطبري في تفسير قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) اللهمّ لك نخشع ونذلّ ونستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّ العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة وإنّها تسمّي الطريق المذلّل الذي قد وطئته الأقدام وذلّلته السابلة معبَّداً ، ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج : معبَّد ، ومنه سمّي العبد عبداً ، لذلّته لمولاه (١).

٢ ـ قال الزجاج : معنى العبادة : الطاعة مع الخضوع ، يقال : هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلاً لكثرة الوطء ، وبعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران ، فمعنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : إياك نطيع ، الطاعة التي نخضع منها (٢).

٣ ـ وقال الزمخشري : العبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، ومنه ثوب ذو عبدة ؛ أي في غاية الصفاقة ، وقوة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلّا في الخضوع لله تعالى لأنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع (٣).

٤ ـ قال البغوي : العبادة : الطاعة مع التذلّل والخضوع وسمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال : طريق معبّد ، أي مذلّل (٤).

٥ ـ قال ابن الجوزي : المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال :

أ ـ بمعنى التوحيد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) عن علي وابن عباس.

ب ـ بمعنى الطاعة كقوله تعالى (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) (٥).

ج ـ بمعنى الدعاء (٦).

__________________

(١) تفسير الطبري ١ : ٥٣ ، ط دار المعرفة ، بيروت.

(٢) معاني القرآن ١ : ٤٨.

(٣) الكشاف ١ : ١٠.

(٤) تفسير البغوي ١ : ٤٢.

(٥) سورة مريم : ٤٤.

(٦) زاد المستنير ١ : ١٢.

١٨

٦ ـ قال البيضاوي : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، ومنه الطريق المعبّد ؛ أي مذلّل ، وثوب ذو عبدة ، إذا كان في غاية الصفاقة ، ولذلك لا تستعمل إلّا في الخضوع لله تعالى (١).

وسيأتي أنّ تفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالأخصّ ؛ إذ لا تشترط في صدقها غاية الخضوع ، ولذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به أبناء الدنيا أمام الله سبحانه عبادة ، وإن لم يكن بصورة غاية التعظيم ، وربّما يكون تفسيراً بالأعمّ ؛ فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته ولا يكون عبادة.

٧ ـ وقال القرطبي : (نَعْبُدُ) ، معناه نطيع ، والعبادة : الطاعة والتذلّل ، وطريق معبّد إذا كان مذلّلاً للسالكين (٢).

٨ ـ وقال الرازي : العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير ، وهو مأخوذ من قولهم : طريق مُعبَّد (٣).

وإذا قصّرنا النظر في تفسير العبادة ، على هذه التعاريف وقلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للأفراد ومانعة للأغيار ، لزم رَمي الأنبياء والمرسلين ، والشهداء والصدّيقين بالشرك ، وأنّهم ـ نستعيذ بالله ـ لم يتخلّصوا من مصائد الشرك ، ولزم ألّا يصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. وذلك لأنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها :

١ ـ إظهار التذلّل.

٢ ـ إظهار الخضوع.

٣ ـ الطاعة والخشوع والخضوع.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ : ٩.

(٢) جامع أحكام القرآن ١ : ١٤٥.

(٣) مفاتيح الغيب ١ : ٢٤٢ ، في تفسير قوله تعالى : (إيّاكَ نعبدُ).

١٩

٤ ـ أقصى غاية الخضوع.

وليس على أديم الأرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير الله سبحانه وإليك بيان ذلك :

* * *

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع والتذلّل حتّى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حداً منطقياً لها ، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده ، والتلميذ أمام أُستاذه ، والجنديُّ أمام قائده ، ليس عبادة لهم وإن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتّى ولو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين ، فلا يعد عمله عبادة ، لأنّ الله سبحانه يقول : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (١).

وأوضح دليل على أنّ الخضوع المطلق وإن بلغ النهاية لا يعدّ عبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٢) وآدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له ، مع أنّ الأول لم يكن عبادة وإلّا لم يأمر بها سبحانه ، إذ كيف يأمر بعبادة غيره وفي الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم عليه‌السلام إلى الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الثاني ـ أي الخضوع لله ـ عبادة.

والله سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّ الدعوة إلى عبادة الله سبحانه ، والنهي عن عبادة غيره ، كانت أصلاً مشتركاً بين جميع الأنبياء ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (٣) وقال سبحانه : (وَما

__________________

(١) الإسراء : ٢٤.

(٢) البقرة : ٣٤.

(٣) النحل : ٣٦.

٢٠