المعاد وعالم الآخرة

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

المعاد وعالم الآخرة

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-28-8
الصفحات: ٢٦٤

١
٢

٣

أبي!

أهدي هذه البضاعة الزهيدة إلى روحك الطاهرة وردّاً لخدماتك الجليلة اللامتناهية ، ليبقى اسمك يذكر بخير ويكون ذلك سكينة لك في جوار الرحمة الإلهية ، وكذلك علامة متواضعة على عدم إنكار ولدك للجميل وعرفانه بالحق (١).

__________________

(١) والد المؤلف المحترم هو المرحوم علي محمد مكارم بن الحاج عبد الكريم مكارم بن الحاج محمد باقر. عاش في مدينة شيراز وتوفي فيها.

٤

المقدمة

الأيمان بالمبدأ والمعاد

الأصلان المذكوران من أهم أركان الاسلام ، وذلك لتعذر إنتظام أي مشروع أخلاقي وعملي بدونهما ، كما لا يسع أي إنسان أن يسلك نهج الحق والعدل والورع والتقوى.

أمّا الإيمان بالمبدأ فيعني أنّ الإنسان يرى نفسه بين يدي الله الذي يعلم بكافة نيّات الإنسان وأفعاله وأعماله صغيرها وكبيرها وظاهرها وباطنها ، بل إنّه يعلم حركة أعين الآثمين ، ويسمع حسيس المتناجين ، وهو عليم بكل ما يخطر على قلوبنا ويقتدح في أذهاننا : (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَ عْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (١).

إنّه قريب مَنّا ، بل أقرب إلينا من حبل الوريد : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢).

ليس هنالك أي حجاب يمكنه أن يحجبنا عنه ، وهو لا ينفك عنّا في أي

__________________

(١) سورة غافر ، الآية ١٩

(٢) سورة ق ، الآية ١٦

٥

زمان ومكان : (وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُمْ) (١)

وأمّا الإيمان بالمعاد ، فهو يعني الإيمان بمحكمة العدل الإلهي التي ليس لها أي شبه بمحاكم الدنيا وهذا العالم الذي نعيش فيه ، فجميع الأعمال حاضرة لديه : (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) (٢)

والسّجل يضم كافة الأعمال بغض النظر عن صغرها وكبرها : (لَا يُغَادِرُ صَغِيْرِةً وَلَاكَبِيرِةً الّا احْصَاهَا) (٣)

ونحن الذين ينبغي علينا أن نقرأ ملّف أعمالنا ، كما علينا أن نقضي بشأن أنفسنا ونحكم فيها : (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الَيْومَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٤)

ونحن الذين سندلي بشهاداتنا على أعمالنا بما في ذلك أعضاؤنا وجوارحنا التي ستشهد في تلك المحكمة : (وَشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) (٥)

فلا سبيل إلى الإنكار ولا سبيل إلى الرجوع وتلافي ما فرط منّا ، وليس لنا طاقة على تحمل العذاب الإلهي ، كما ليس من سبيل للهرب.

المحسنون والصالحون والمقربون في جوار الحق ورحمة الله يتلذذون بالنعم التي لم ترها عين أو تسمع بها أذن أو تخطر على قلب بشر ؛ بينما يتجرّع المسيئون والآثمون والظالمون غصص جهنم التي تطلع على أفئدتهم فتحرقهم : (نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعَ عَلَى الافْئِدَةِ) (٦)

نعم لو عشنا الإيمان بالأصلين المذكورين ، بل لو كانت لأرواحنا أدنى

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية ٤

(٢) سورة الكهف ، الآية ٤٩

(٣) سورة الكهف ، الآية ٤٩

(٤) سورة الاسرار ، الآية ١٤

(٥) سورة فصلت ، الآية ٢٠

(٦) سورة الهمزة ، الآية ٦

٦

إلتفاتة إليهما لكفانا ذلك وكان لنا معيناً في تربية أنفسنا وهدايتها ، وبخلافه إذا غاب الإيمان بالمبدأ والمعاد فسوف لن يكون هناك أية شرعة أو منهاج يمكنه إصلاح الإنسان.

والكتاب الذي بين يديك ـ والذي نهضت دار سرور للنشر بطبعه ـ هو جهد متواضع من أجل إحياء الأصل الثاني يعني المعاد ، بلسان العصر وبصيغة إستدلالية سهلة الإدراك والفهم لجميع المستويات ويتضمن أجوبة شافية لكافة الأسئلة وعلامات الاستفهام.

نأمل أن نعيش السعي في بناء الذات وتهذيب النفس قبل حلول ذلك اليوم من خلال الإيمان بهذا الأصل الاعتقادي المهم.

قم ـ الحوزة العلمية

ناصر مكارم الشيرازي

نيسان ١٩٩٧ م

٧
٨

ماذا نعلم عن عالم ما بعد الموت؟

١ ـ آفاق من أبحاث الكتاب

لقد كتب القليل النادر للأسف الذي لا يتجاوز عدداً محدوداً في مجال المعاد وقيامة الأرواح والأجساد والعالم الأخر بعد الموت رغم الأهميّة القصوى التي تحظى بها هذه الموضوعات ، وعلى الرغم من تعطش أفراد الجنس البشري لمعرفة ماذا سيحدث بعد الموت ، هل ستستمر الحياة وفي إطار أفق أوسع وأشمل أم لا؟

هل أنّ ظروف الحياة في العالم الآخر هي ذاتها بالنسبة للحياة في هذا العالم ، أم حالنا بالنسبة إلى حقائق ذلك العالم حال الجنين الذي لايمكنه أن يتصور أوضاع الحياة خارج رحم أمّه فلا يدرك من مفاهيم الحياة وشروق الشمس وضياء القمر ومداعبة نسيم الربيع وجمال البراعم والزهور وتلاطم الأمواج وعظمة عالم الخلق سوى أنّها قبضة من اللحم والدم.

فهل لجهودنا في ظلّ هذه الحالة أن تكلل بالنجاح؟

هل حقّاً ستكون أعمالنا السيئة والصالحة معنا في ذلك العالم ، وهي التي ستسوقنا إلى العذاب والنقمة أو الراحة والنعمة؟

وهل يمكننا أن نحيط خبراً بذلك العالم رغم عدم عودة أحد منه؟

٩

هل الموت أليم؟ ما الذي يشعر به الإنسان حين الموت؟

هل تبقى الروح مع تعفن الجسد وتآكله؟

ما هي الروح؟ وكيف يمكن التعرف عليها والإرتباط بها من وجهة النظر العلمية والفلسفية؟

هل حقّاً يمكن عودة هذا الجسم إلى الحياة (المعاد الجسماني) رغم كونه في حالة تغيير على الدوام وأحياناً تنتقل بعض ذراته إلى غيره من الأبدان على مرور الزمان؟!

هل للإيمان بالمعاد آثار تربوية واجتماعية وفكرية وأخلاقية على روح الإنسان وجسمه؟

وبالتالي هل يمكن البرهنة على المسائل المرتبطة بعالم ما بعد الموت على ضوء الأسس العلمية و....؟

هذه هي الأسئلة والاستفسارات التي يتصدى الكتاب الحاضر لمناقشتها وبحثها.

وبالرغم من خضوع مضامين هذا الكتاب للبحث والدرس لسنوات ، لكن وكما ذكرنا سابقاً فإنّ قلّة الأبحاث في هذا المجال تجعل من الممكن تطرق العيوب والنقائص لهذا الكتاب ، ومن هنا نناشد العلماء والمفكرين أن يبعثوا لنا بانتقاداتهم ومقترحاتهم ووجهات نظرهم لنستقبلها بكل رحابة صدر ونستفيد منها في هذا الكتاب ولهم منّا جزيل الشكر والتقدير.

وأرى من الضروري ألا يتسرع الأخوة القراء الأعزاء ـ وبسبب حداثة أغلب الأبحاث ـ في إصدار أحكامهم النهائية قبل مطالعة جميع الكتاب. وقد تبدو مباحث هذا الكتاب شيئاً هامشياً وأجنبياً عن واقع الحياة ، بالنسبة لُاولئك الذين لا تعني الحياة في مدرستهم الفكرية سوى الخبز والماء

١٠

وأقصى ما يميز مدرستهم شعار الخبز والماء للجميع ، مع ذلك وعلى فرض أننا نمتلك مثل هذه الرؤية الضيقة والمحدودة ، فانّنا سنشاهد التأثير العميق الذي يلعبه الإيمان بعالم الآخرة ـ الحياة بعد الموت ـ في سبغ هذه الحياة المادية بالهدوء والسكينة والدعة والاستقرار وفي الواقع أنّ الإنسان من دون الإيمان بالمعاد ليس بقادر على تطبيق العدالة الاجتماعية ، ولا السير في مراحل التكامل الإنساني والمعنوي والأخلاقي.

وهنا أرى ضرورة الإشارة إلى أمرين بعد هذه المقدمة :

٢ ـ كبيرة الكاتب

لقد إبتدأت ولله الحمد الكتابة في مجال العقائد الإسلامية بالاسلوب العصري في كتاب «خالق العالم» وإنتهيت بالكتاب الحاضر ، وممّا لاشك فيه أنّ مثل هذه الكتابات أحدثت تطوراً نوعياً في كيفية طرح العقائد الدينية ضمن إطار جديد يجعل من اليسير إدراكها من قبل الجميع.

إلّاأنّي أراني مضطراً ـ لبيان حقيقة قد يتصور القاري أنّها من العُجب والأنانية أو مجرّد بيان حقيقة في هذا المجال ، وهي أنّ هذه السلسلة من الأبحاث التي خاضت في أهم المسائل العقائدية الإسلامية والتي طرحت في أربعة كتب هي : ١ ـ خالق العالم (في أدلة التوحيد ومناقشة المدارس المادية) ٢ ـ معرفة الله (في صفات الله ومسألة الجبر والتفويض) ٣ ـ القادة العظماء (في ضرورة زعامة الأنبياء ومسألة الوحي وما شابه ذلك) ٤ ـ القرآن والنبي الخاتم (بشأن المضامين الإعجازية للقرآن ومعرفة نبي الإسلام) كان لها بالغ الأثر في أوساطنا ولا سيما لدى شريحة الشباب الواعي ، وما كثرة طبع هذه الكتب ونفاذها من الأسواق إلّادليل واضح على صحة الادعاء

١١

المذكور ، أمّا الدليل الآخر هو أنّ هذه الكتب أخذت تعتمد كمواد دراسية منهجية في بعض الأوساط والمحافل الدينية والعلمية في داخل البلاد وخارجها ، وقد ترجمت بعضها إلى اللغات العربية والاردية والانجليزية. ولعل نجاح ذلك يعود في الحقيقة إلى أربعة عناصر هي : إجتناب المصطلحات الرنانة ، الصدق في الطرح ، البعد عن التعصب ، التجدد ، إلأأنّ البعض يعتقد بأنّ هذه السلسلة من الكتب تنطوي على عيب كبير يقلل من قيمتها ؛ وإذا لم تعرب عن دهشتك وذهولك ، فعيبها الكبير برأيهم يكمن في بعدها عن المصطلحات والعبارات الطنانة الرنانة إلى جانب عدم تقعيد الجمل وايرادها بمنتهى السهولة والبساطة وتقريب المواضيع الصعبة إلى أذهان العموم ؛ ولعلها هي الأمور التي تجعل مستوى البحث واطئاً لاعالياً! ولا يسعني هنا إلّاالاعتراف بهذا «العيب» أو «الذنب» وأعلم لو تركت العنان لقلمي ليسطر ما يشاء من المصطلحات المعقدة والعبارات المغلقة لبدا البحث لذلك البعض أكثر علمية ، لكني ما فعلت ذلك عامداً وأعتقد أنّ هذه هي رسالة الكاتب.

وبالطبع يمكن القول بقوّة أنّه يمكن تعقيد كل بحث من أبحاث هذه السلسلة بحيث يصعب فهمها على أغلب القراء الاعتياديين ، فيكتفون بالقول أنّها أبحاث علمية ذات مستوى رفيع لايسعنا إدراكه.

والسؤال الذي نطرحه هنا هل يمكن التضحية بالمصالح العامّة المتمثلة بإدراك الحقائق من أجل حصول الكاتب على شخصية خيالية كاذبة؟! وهل يجيز الوجدان مثل هذا العمل لمن يملك القدرة على البساطة في كتابة المواضيع؟!

على كل حال لقد إعتدت على هذا الذنب ولا أراني أقدر لا سامح الله

١٢

على التخلي عن هذا الإدمان والإصرار.

والغريب في الأمر إنّنا نرى أغلب الكتب الجامعية وغيرها التي يمكن كتابة مطالبها بعبارات أسهل وأوضح دون أن يتطرق إليها أي خلل ونقص بغية الاقتصاد في وقت وعمر الباحثين وعمومية نفعها وثمرتها.

فلا يمكن إتهام جميع كتّابها ومؤلفيها بعدم القدرة على البساطة في التدوين.

وبناءاً على هذا لابدّ من القول بأنّ البعض قد لايرغب بالقيام بهذا العمل ، ولعل ذلك يؤدّي إلى فقدان الكتاب لقيمته العلمية لو اختصرت عباراته المغلقة! فلابدّ من الخروج على النظام الطبيعي لترتيب المطالب وتقديم وتأخير العبارات والاستفادة من المفردات والألفاظ الغريبة غير المألوفة والطارئة أحياناً لتصبح أعظم علمية! ومازال ذلك يشكل أحد آلام مجتمعنا.

٣ ـ شهادة التأريخ

المطلب الآخر الذي ضرورة ذكره للتأريخ هو أنّ أحد الأصدقاء أخبرني ذات يوم قائلاً : كنت منهمكاً بترجمة كتاب عربي بشأن معرفة الله إلى اللغة الفارسية ، فشعرت بأنّ مطالب الكتاب لم تكن غريبة عليَّ ، فلما تأملتها وتمعنت النظر فيها وجدت أنّ أغلب أبحاثه هي عينا ذات أبحاث كتاب «خالق العالم» الذي ألفته ، فقد تبيّن أنّ الكاتب المحترم المذكور قد ترجم المطالب والأبحاث المذكورة دون ذكره لمصادر كتاب «خالق العالم» وأنّي الآن أقوم مرّة أخرى بإعادته من العربية إلى الفارسية!

١٣

فقلت بالتالي لا مانع لديّ نشر هذه الترجمة طالما كانت خطوة في سبيل معرفة الله وخدمة للعلم ، ولكن على الأقل كي لا اتّهم بأنّي أقتبست منه المطالب دون ذكر المصادر والمراجع فاكتب هذه القضية في مقدمة الكتاب!

ثم رأيت أنّه لم يقتصر الأمر في الاستفادة من هذه الأبحاث على ذلك الكاتب العربي المحترم ، بل قام بعض الكتّاب الآخرين بالإتيان بذات العبارات أو بعض العبارات الأخرى في كتبهم دون أدنى إشارة من قريب أو بعيد إلى المصادر.

لعل هذه القضية لاتبدو بتلك الأهميّة ولكن أليس من الأفضل أن يستفرغ الكتّاب الأعزاء وسعهم ويستفيدوا من طاقاتهم في إبداعات جديدة بدلاً من مصادرة جهود الآخرين والاستعانة بمطالبهم ، فيعمل كل كاتب على ضوء إمكاناته المتاحة من أجل حلّ بعض المعضلات والمشكلات ، كما يسلط الضوء على القضايا التي لم يتطرق لها الآخرون ، وليت شعري ماذا يضر الكاتب لو لم يتحفظ عن ذكر المصادر والمراجع ويعترف بحقوق الآخرين؟!

طبعاً لست أنكر أنّ لكل مفكر وعالم ، الحق في الاستفادة من أفكار الآخرين وإبداعاتهم ، ولكن بشرط مراعاة الأمانة والإشارة إلى مصادر الكتاب والجهود التي بذلت من أجله إن تعرض لنقل مطالبه دون أية إضافة أو إبداع أو الإتيان بها بأسلوب عصري جديد يجعلها تختلف عن سابقها.

نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لبذل الجهود من أجل حفظ دينه وخدمة خلقه.

١٤

ولا يسعني هنا إلّاأن أناشد ثانية كافة الأخوة أن يتحفونا بما لديهم من توجيهات وإرشادات بهدف تكامل العمل وسد ثغراته.

١٥
١٦

هل الموت هو نهاية الحياة أم بداية حياة جديدة؟

عادة ما يعيش الناس حياتهم في الزمان الحاضر ويكتفون بما هم عليه الآن ، والأفراد الذين يعيشون الزمان الماضي ليسوا قلائل أيضاً ، وهذه الطائفة تنهمك على الدوام في التعامل مع النماذج الحاوية لأحداث الماضي الحلوة والمريرة بعد إنتشالها من تحت الأنقاض ، والواقع أنّهم يقضون أعمارهم في نبش قبور الماضين.

فهم لا ينفكون عن أمرين ؛ إمّا ذرف الدموع على الحوادث الأليمة ، وإمّا التغني ببطولات وأمجاد عظمائهم الذين دفنوا تحت التراب! نعم هناك من يفكر في المستقبل ولّا سيما المستقبل البعيد وهم قليلون ، وهنا يطرح هذا السؤال : ما السبب الذي يكمن وراء التحفظ عن التعرض لحوادث المستقبل والذي يتخذ أحياناً طابع الهروب؟

ترى أيعزى ذلك إلى طبيعة المستقبل الخارجة عن دائرة الحس ، والناس أبناء الحس فهم يألفون هذه الأم فقط؟

أم يعزى ذلك إلى هالة من الغموض والإبهام التي تغطي المستقبل فتجعله يكتسي حلّة مخيفة ؛ الأمر الذي يثير الهلع لدى من يقترب منه؟ أم أنّ المستقبل شئنا أم أبينا مقرون بالمشيب والعجز والكهولة وبالتالي

١٧

الموت والعدم ، وهي الأمور التي يرتعش منها الفرد ويهرب منها بكل كيانه.

ولكن على كل حال لامفر لنا من التعامل مع المستقبل رغم الخوف والهلع والإبتعاد والهرب ، ولا شك أنّ هذا المستقبل هو الذي يختزن مصيرنا وعاقبة أمرنا ، فالماضي ولّى وإندثر والحاضر سينتهى كلمح بالبصر إلى الماضي ، وعليه فلا يبقى سوى المستقبل ؛ المستقبل البعيد الذي تكتنفه الأسرار والألغاز والذي ينتظرنا فنسير نحوه دون تريث ، فلم لا ندركه ونفكر فيه؟

الموت ليس بهذا الرعب

إنّ الناس ورغم كل اختلافاتهم وتنوع مشاربهم الفكرية والعقائدية سيبلغون شاءوا أم أبوا وكيفما تحركوا وإنطلقوا نقطة مشتركة تتمثل بالموت وإختتام هذه الحياة.

فنقطة إنطلاقة الحياة غنية كانت أم فقيرة ، وفي وسط الجهل كانت أم العلم ، ومقرونة بالسعادة أم الشقاء سيأتي عليها الموت بغتة فيجعل الجميع يعيشون حالة واحدة تسودهم فيها المساواة التامة المطلقة التي يعجز الكل عن الإتيان بها.

ولهذا يمكن تأمل مقدار العمر وطول الحياة ، بينما لايمكن مناقشة الموت ، حتى لو استخرجنا ماء الحياة من الظلمات واحتينا جرعة منه ، فإنّ الحياة الأبدية متعذرة محالة ، لأنّ طول العمر لايعني الأبدية قط.

وعلى هذا الأساس يتفق جميع الأفراد على الإيمان بالموت رغم الفوارق الفكرية التي تسودهم ، ولعل التعبير عن الموت باليقين على لسان آيتين من الآيات القرآنية هو إشارة إلى هذه الحقيقة ، فقد صرحت إحدى

١٨

هاتين الآيتين بالقول : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقينُ) (١)

وصرحت الآية الأخرى على لسان الآثمين : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدِّينِ* حَتَّى اتَيْنَا الْيَقِينُ) (٢)

ومعنى ذلك لقاء المحسنين والآثمين في تلك اللحظة القطعية واليقينة.

الشعور الإنساني حين الموت

السؤال الذي يطرح نفسه هنا : بم يشعر الإنسان حين الموت؟

لا أحد يعرف الشعور الذي يخالج الإنسان حين الموت ، حيث لم يعد أحد من هناك ليشرح للآخرين شعوره في تلك اللحظة الحساسة.

فهل مفارقة هذه الحياة كقلع السن اثر حالة التخدير ودون أي ألم ومعاناة ، أم يعاني الإنسان حينها أقسى أنواع العذاب والشدّة بحيث يعجز الإنسان عن وصف تلك الحالة؟

أم القضية تختلف باختلاف روحيات الأفراد وأخلاقياتهم وصفاتهم وأعمالهم؟ فهو سهل يسير على البعض كاستشمام رائحة الوردة ، بينما ثقيل وصعب على البعض الآخر كحمل ثقل وزنه الجبل.

ولعل هناك شعورا آخر يخالج الإنسان لحظة الموت لايسعه فكرنا وذهننا ولايمكننا إدراكه في ظل ظروف هذه الحياة.

فلو قدر لوليد خرج من رحم أمّه العودة الثانية إلى توأمه الآخر في الرحم ، فهل يسعه شرح ما شاهده خارج رحم أمّه منذ الولادة حتى عودته ثانية إلى بطنها؟

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية ٩٩

(٢) سورة المدثر ، الآية ٤٦ ـ ٤٧

١٩

أليس هذا الأمر أشبه شيئاً بفرد أخرس يروم وصف رؤياه وما شاهده في المنام لآخر مكفوف البصر؟!

عبثية الهرب من الواقع

إنّ أسوأ سبل مواجهة الحقائق المريرة يتمثل بالتهرب من إدراكها وإستيعابها أو إيداعها بوتقة النسيان.

حقّاً ليس هناك خفة عقلية تفوق هذه القضية بأن ننسى شيئاً لاينسانا أبداً ، أو نتوقع إعادة النظر بشأن مطلب حتمي لايمكن إجتنابه بأي شكل من الأشكال.

لماذا لا نفكر بالموت والحوادث التي تعقبه ومصير الروح بعد مفارقتها لهذه الحياة ومئات القضايا الأخرى ذات الصلة بالموت؟ والحال وقوع الموت في المستقبل القريب بالنسبة لنا يعد من الحوادث القطعية الحتمية التي لا غبار عليها ولا نقاش فيها.

إنّنا حين نتصفح التاريخ نرى الموت قد صرع أقوى الأفراد وأقدرهم من قبيل الاسكندر وجنكيز خان ونابليون ومن كان على شاكلتهم ، كما قضى على أعظم العلماء والمفكرين وأقوى الأدباء والشعراء والكتّاب ، فقد ركع الجميع للموت واستسلموا له ، وعليه فليس من المعقول أن ننساه أو نخشاه ونخافه عبثاً ، فقد ورد عن أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال (وَكَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَطَمَعُكُمْ فِيْمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ) (١)

فما أحرانا أن نتقدم إلى الأمام بكل شجاعة وبسالة وواقعية لنقف على الأمور المتعلقة بنهاية الحياة ونحصل على الأجوبة الشافية والوافية

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٨

٢٠