المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

١
٢

٣

٤

مقدمة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، فكان الآية البينة ، والمعجزة الظاهرة ، والدلالة القاطعة على صدق الوحي ، وعظمة الموحي.

والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، ونبيه العظيم ، الذي أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ، ونصح للأمة ، فكان حجة الله على الخلق : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

ورضوان الله على الصحب الكرام ، والأئمة الأعلام ، الذين بذلوا وضحوا من أجل أن ينقلوا إلينا هذا الدين الذي حملوه ، أداء للأمانة ، ووفاء للعهد ، لننقله نحن لمن يأتي وراءنا من الأجيال ، وهكذا تستمر الرسالة ، ويحفظ الشرع ، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ، وبعد :

إننا ومنذ أن وعينا الحياة ونحن نحدّث عن المعجزة ، وأنها علم النبوة ، فلا نبوة بغير معجزة.

فبالمعجزة يظهر صدق النبي ، ويستدل على وجود الخالق.

ولو لا المعجزة لا دعى النبوة كل من يشتهيها.

قرأنا عن المعجزات المادية للأنبياء السابقين ، التي آمن عليها من آمن من أقوامهم.

لكننا لم نرها.

وإنما آمنا بها لصحة الخبر عنها ، إما عن طريق القرآن الكريم ، وإما عن طريق السنة المطهرة.

٥

وعرفنا أن تلك المعجزات قد ذهبت بذهاب النبي أو الرسول ، لكونها مادية ، لا تظهر إلا على يده ، ولم يبق منها إلا الخبر اليقيني عنها ، وهذا كاف للإيمان بها ، بالنسبة لنا نحن المؤمنين ، ولكنه ليس كافيا لدعوة الناس إلى الإيمان ، لأن الخبر عن المعجزة ليس كالمعجزة.

ولذلك كان لا بد لكل نبي أو رسول من المعجزة الدالة على صدقه ، ولو كان الخبر عن معجزة النبي السابق متواترا ، فليس الخبر كالمعاينة.

وكنا نحدّث عن المعجزة الكبرى لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي القرآن الكريم.

وكنا نقرأ كيف كان الناس يعاينون تلك المعجزة ، ويتأثرون بحلاوتها وطلاوتها ، ومن ثم يؤمنون عن طريق الإعجاز اللغوي فيها ، كما قرأنا ما وصفها به المشركون من العبارة الشيقة الرشيقة ، التي أعلنوا فيها وبكل صراحة أن القرآن ليس من قول البشر ، كعتبة ابن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وغيرهما من فصحاء العرب وبلغائهم.

إلا أننا ومع الأسف ، ولبعدنا عن لغة العرب وجهلنا بها ، لم نتذوقها كما تذوقوها ، بل أكثر الناس اليوم لا يدركها.

وامتدت بنا الأيام ، وأدركنا التيارات الفكرية المادية والدينية تتصارع في ميدان النظر ، وأدركنا أنه لا بد لنا من الاستناد إلى المعجزة القرآنية ، وهي المعجزة الباقية الخالدة لنبيناعليه‌السلام ، ولهذا الدين.

ولكننا لم نجد السبيل من حيث اللغة إليها ، إما لأننا لا نتذوقها لجهلنا بلغة العرب وبعدنا عنها ، وإما لأن المخاطب لا يعرف هذه اللغة أصلا ولا يتذوقها ، وفي كلا الحالين لا سبيل إلى الاستدلال بهذه المعجزة من حيث اللغة إلا نظريا ، بواسطة إخبار القرآن عنها ، ووقوع التحدي بها ، وتواتر الخبر عن عجز العرب وغيرهم عن معارضتها.

وكون قلة قليلة من الناس ـ ولا سيما في هذا العصر ـ ممن أوتي بسطة من العلم ، في علوم العربية ، قد تدرك وجه الإعجاز ، ومن ثم يكتب بعضهم عنه ،

٦

كما فعل كثير من علماء أمتنا في شتى العصور ، فإن هذا أيضا ليس بكاف ـ لمن لا يعرف العربية من عرب وغيرهم ـ للتسليم بها ضرورة ، ولئن وقع التسليم لبعضهم فإنما هو عن طريق النظر ، لا عن طريق التذوق ، كما كان يقع للعرب حين نزول القرآن.

لكننا نعلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو النبي الخاتم للنبوة ، ورسالته هي الرسالة الخاتمة للرسالات ، وأنها باقية إلى يوم القيامة ، وعامة لكل الأمم ، في كل زمان ومكان ، ولذلك كان لا بد للمعجزة من البقاء ، ليعاينها كل من آمن أو دعي إلى الإيمان إلى يوم القيامة.

ومن أجل هذا كانت المعجزة القرآنية مشتملة على عدد من أنواع الإعجاز ، إلى جانب الإعجاز اللغوي ، الذي عاينه العرب وآمنوا عليه ، يستطيع الناس بواسطتها أن يعاينوا المعجزة ، ويتذوقوها ، ويؤمنوا عليها ، ولو كانوا لا يتذوقون لغة العرب ، فلئن فاتهم الإعجاز اللغوي ، فلن تفوتهم وجوه الإعجاز الأخرى أو بعضها.

وأنواع الإعجاز هذه ، التي اشتمل القرآن عليها ، لم تظهر دفعة واحدة ، وإنما كانت تظهر تباعا حسب مقتضيات الأحوال ومعارف البشر واحتياجاتهم.

فالإعجاز اللغوي ظهر وانتشر بمجرد نزول القرآن.

وأما الإعجاز الغيبي مثلا فقد ظهر بنزول الآيات التي أنبأت عن غيب وقع أو سيقع ، وأثبتت الأيام والوقائع صدق ما أخبر به القرآن ، وذلك كالإعجاز الغيبي في سورة الروم مثلا ، فإنه لم يظهر بمجرد نزول الآيات المخبرة عن انتصار الروم على الفرس ، وإنما ظهر بعد عدد من السنوات ، حيث انتصر الروم على الفرس فعلا في بضع سنين ، كما أخبر القرآن ، مما لفت نظر الناس كافة لفتة جديدة إلى القرآن.

والإعجاز العلمي المنتشر في كثير من سور القرآن وآياته ، لم يظهر دفعة واحدة ، وإنما ظهر تباعا ، ليكون القرآن دائما وأبدا معجزة ظاهرة ، وآية بينة ، كلما ألف الناس ما فيه من المعجزة ، وفترت هممهم عنها لإلفهم لها ، ظهرت

٧

معجزة جديدة تلفت نظرهم إليه ، وتدلهم عليه ، فتجدد هممهم ، وتبعث نشاطهم ، وهكذا ...

لقد جاء العصر الحديث ، مع الإنسان الحديث ، بمعارفه الحديثة التي اكتشفت الذرة ، ثم حطمتها .. وأدركت جاذبية الأرض ، ثم خرجت منها ، وعرفت القمر ونزلت عليه ، وأرسلت سفن الفضاء إلى كثير من كواكب المجموعة الشمسية ، بعد أن كشفت عن الكثير من أسرارها ، وعرفت عمر الأرض ، وكشفت عن أحقابها الجيولوجية ، ووضعت يدها على جميع أو معظم عناصرها ، وسخرتها لخدمتها ، وكل هذا كان في أغلب الأحيان على يد أناس لا يمتون إلى الإيمان بصلة ، بل في كثير من الأحيان كان الكثير منهم يهزأ من الإيمان ، والغيب ، والألوهية ، والنبوة.

وأخذ فلاسفة الإلحاد هذه النتائج العظيمة التي وصل إليها الإنسان الحديث ، ليجعلوا منها وسيلة لفلسفة الإلحاد بقولهم : إننا كنا قبل الكشف عن هذه الحقائق العلمية مضطرين للإيمان بالله ونسبة الحوادث إليه ، أما وقد عرفنا السبب والمسبب ، والعلة والمعلول ، عن طريق العلم اليقيني ، فلم نعد بحاجة اليوم إلى عزو هذه الظواهر التي كنا نراها إلى قدرة الله ...

وهكذا صارت للإلحاد فلسفة ظاهرة مستندة إلى العلوم المادية المعاصرة ، يرجع الفلاسفة إليها ، ويحيلون في النظر والحجاج عليها.

وهذه الفلسفة وإن كانت أوهى من بيت العنكبوت ، وقائمة على التمويه ، والتدليس ، والخداع ، بقصد ، أو بغير قصد لضيق الأفق ، أو العجز عن المحاكمة ، أو تغليب الشهوة والهوى والاستسلام لهما ، إلا أنها أمر واقع ، لا يجوز التهاون به ، بل يجب كشفه وبيانه ، ودحضه وإبطاله (١).

وتعالت صيحات الإنكار على الدين في أوروبا والغرب ، لاكتشافهم أن

__________________

(١) انظر : كتابنا الدين والعلم والذي عالجنا فيه هذا الموضوع بخصوصه ، وبلغة الفلاسفة المعاصرين أنفسهم.

٨

الدين الباطل الذي كانت تمثله الكنيسة يتعارض مع العلم الذي وضعوا أيديهم عليه.

وسرت هذه العدوى عن طريق ضعاف الإيمان إلى ديار الإسلام ، بسبب ضعف المسلمين ، وغفلتهم ، وسيطرة أعدائهم عليهم.

وهنا ظهرت المعجزة القرآنية كالمارد الجبار ، الذي لا يقف في وجهه شيء إلا حطمه ، لتهز الأبراج الوهمية التي بناها فلاسفة الإلحاد بالتمويه والتدليس ، على غفلة من دعاة الدين الحق وبعد عنهم ، ولتقول للناس جميعا ، من مؤمن وملحد : مهلا أيها الناس ، فإن هذا الذي وصلتم إليه لن يكون سببا للجحود والإلحاد ، وإنما هو من أعظم دعائم الإيمان والإذعان ... فتنبه كثير من علماء المسلمين إلى آيات الإعجاز العلمي في القرآن التي كانت قد نطقت منذ أربعة عشر قرنا ... وفي الزمن الذي لم يكن فيه للمعارف الحديثة أي رصيد ـ نطقت بما وصلت إليه الحضارة الإنسانية المعاصرة في ذروة مباحثها ومكتشفاتها ... بل أصبح بعض هذه الآيات شعارا يردده كل علماء الكون والحياة صباح مساء ، ويجعلونه الدستور الأبدي الذي تقوم عليه حقائق العلم والمعرفة.

تنبه علماء المسلمين إلى هذه الآيات ، وأخذوا في عرضها عرضا جديدا يتفق مع مدلولها اللغوي القديم ، وهو في نفس الوقت ينطق بما وصلت إليه العلوم المعاصرة في نهاية مطافها ، وذروة مجدها ، مما جعل كل إنسان في الأرض ، من مؤمن وملحد ، يقف موقف الدهشة والذهول ، والإعجاب والإكبار ، أما المؤمن فزادته هذه الآيات المعجزة إيمانا ، وصار يعاين المعجزة القرآنية كما عاينها العرب الأوائل تماما ، ولكن بلغة العلم ، لا بأساليب البلاغة والبيان.

وأما الجاحد فكانت هذه الآيات كالصفعة العنيفة التي داهمته وهو في عنفوان غروره ، مما جعله يتنبه إلى الحقائق التي كان في غفلة تامة عنها ، وجعلته يراجع حساباته ، ويعيد النظر في منطقه وفلسفته ، وكثيرا ما دفعت المنصفين من أولئك الفلاسفة إلى الإيمان بالخالق العظيم العليم الحكيم.

وهكذا ... وبعد القرون الطويلة .. وبواسطة المكتشفات العلمية الحديثة

٩

أصبح الإنسان يضع يده في كل يوم على معجزة جديدة في كتاب الله ، يظهر عظمة الخالق ، ويدل الناس على أن هذا القرآن من كلامه لا من كلام البشر.

ولا أدري إلى أي مدى سيصل الإنسان في المستقبل من حيث العلوم والمكتشفات ، ولكنني على يقين بأنه كلما تقدمت به العلوم ، سيضع يده على معجزة جديدة في كتاب الله ، كان في غفلة تامة عنها ، ليعيش الإنسان ، في كل زمان ومكان ، مع المعجزة القرآنية ، آية بينة ، لا لبس فيها ولا غموض ، تدل على أن هذا الكتاب من عند الله ، ليبقى التحدي بهذا الكتاب الكريم ، قائما لأهل الأرض جميعا ، إلى يوم القيامة ، يرشدهم إلى خالقهم ، ويدلهم على قدرته وعظمته.

وهذا أيضا نوع من أنواع الإعجاز في نظري ، إذ من الإعجاز ، بل من أعظم أنواع الإعجاز وأظهرها ، أن يكون القرآن الكريم معجزا لكل إنسان ، في كل زمان ومكان ، مهما ازدهرت الحضارة ، وتقدمت العلوم ، وزادت المكتشفات ، وتباينت الثقافات.

وهذا معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

وإنني ومنذ أمد بعيد ، أعد العدة للكتابة في موضوع المعجزة القرآنية ، في أبرز جوانبها الثلاثة ، وهي الإعجاز اللغوي ، والإعجاز الغيبي ، والإعجاز العلمي ، إلا أنني كلما أقدمت على الكتابة وجدت أن الأمر أوسع مما كنت أتصور ، وأنه يحتاج إلى طاقة أكبر ، وأفق أوسع ، ولا سيما بالنسبة للإعجاز اللغوي ـ الذي أظن والله أعلم أنه يحتاج لكتابة أدق وأوسع وأشمل من كثير مما كتب عنه ـ ولذلك كنت أحجم عن الكتابة في هذا الموضوع العظيم ، ثم بدا لي أن أبدأ بالكتابة عن المعجزة القرآنية في الجانبين الذين يمكن لأهل العصر استيعابهما وهضمهما ، دون التوقف على معرفة اللغة ، وأساليب البلاغة والبيان ، وهما جانبا الإعجاز الغيبي والعلمي ، مع التمهيد بمقدمة أبين فيها معنى

١٠

المعجزة بوجه عام ، والمعجزة القرآنية بشكل خاص ، وكيف ولم كانت معجزة ، كما أبين الأثر الذي تركته بين الناس عند ظهورها ، وأثرها في سير الدعوة مع ذكر بعض وجوه الإعجاز التي أشار إليها العلماء قديما وحديثا ، مبينا وجه القوة أو الضعف فيها ، فيما ظهر لي من النظر ، ووصلت إليه من العلم.

ثم أعقب هذا كله ببيان مهزلة وأكذوبة الإعجاز العددي التي افتراها رشاد خليفة وفتن بها كثيرا من الناس.

ولقد استفدت كثيرا من كل ما كتبه من سبقني في هذا الموضوع من العلماء جزاهم الله خير الجزاء ، سواء أكانت كتابتهم في آية واحدة وموضوع معين ، أم في جانب الإعجاز الغيبي أو العلمي بشكل مجمل.

كما استفدت كثيرا مما كتبه أو أشار إليه علماء الكون والحياة من غير المسلمين ، مع فلسفته وتوجيهه التوجيه السليم ، الذي يتفق مع الواقع ، وبلغة العصر الحديث ، لغة المنطق العلمي المعاصر الذي تعارف عليه الناس اليوم.

وأما الإعجاز اللغوي فسأفرده في بحث مستقل حينما يتوفر لدي ما أطمح إليه من مادته الغزيرة ، ومصادره الكثيرة ، ومنهجه الدقيق ، وأفقه الواسع إلى جانب ما جمعته وسودته في موضوعه ، في القريب العاجل إن شاء الله ، والله ولي التوفيق.

الكويت

١٤٠٦ ـ ١٩٨٦

د. محمد حسن هيتو

١١
١٢

المقدّمة

في

المعجزة والإعجاز

١٣
١٤

مقدمة حول المعجزة والاعجاز القرآني

ضرورة المعجزة للرسالة :

ما أرسل الله من نبي ولا رسول إلّا وجعل له معجزة تدل على صدقه في نبوته أو رسالته ، فتطمئن قلوب الناس بها ، وتنشرح صدورهم إليها ، ويقبلون عليها فرحين مستبشرين ، راغبين لا راهبين.

ولو لا المعجزة ، لاختلط الحق بالباطل ، والنبي الصادق بالمدعي الكاذب ، ولادّعى كثير من الناس النبوّة والرسالة.

كيف لا ..؟ وهي دعوى شيقة ، وأمنية عظيمة ، يتمناها كل إنسان ، لو كان يتمكن من الوصول إليها.

ونحن ـ رغم وجود المعجزة ، التي تعتبر الفيصل بين الصدق والكذب في الدعوى ـ رغم هذا ، وجدنا كثيرا من الناس يدعون النبوّة ، رغم أنهم لا يملكون المعجزة.

فكيف يكون الأمر لو لم تكن المعجزة هي الدليل على صدق الدعوى أو كذبها ..؟.

كيف يكون الأمر لو كانت النبوّة دعوى بدون معجزة ..؟.

لو كان الأمر كذلك ... لما وجد على الأرض دين يطمئن إليه ، لأنه لا دليل يدل على صدقه.

ولذلك كان لا بدّ من المعجزة ، يجريها الله على يد النبي أو الرسول ، يعلّم الناس بواسطتها ، أنه صادق فيما أتاهم به من عند ربهم ، في دعواه أنه مرسل إليهم.

١٥

وبذلك يعرف النبي الصادق ، من المدعي الكاذب ، والوحي الحق ، من النبأ الباطل.

وقبل الكلام على المعجزة وأنواعها ، يجب علينا أن نعرف المعجزة ، لنفرق بينها وبين ما يشابهها في الظاهر ، من السحر ، والكرامة ، والاستدراج ، وغير ذلك ، من الأمور التي قد تشتبه بها ، ولو ظاهرا ، أو في بعض الأحوال.

تعريف المعجزة :

المعجزة : أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي ، يظهره الله على يد الرسول أو النبي ، تصديقا له في دعواه ، مع عدم تمكّن المرسل إليهم من معارضته.

وبيان هذا ، أن لله في هذا الكون قوانين ، ألفها البشر ، وجرت بها العادة ، بحيث صار من المستحيل في حكم العادة خرقها ، من قبل أي إنسان كان ، مهما أوتي من القوة ، أو بلغ من العلم.

فإذا ما جاء إنسان ، وادّعى أنه مرسل من عند الله ، بدليل أنه قادر على خرق هذه الأحكام العادية ، علمنا يقينا صدقه في دعواه ، بدليل خرقه لهذه القوانين ، التي لا يمكن خرقها لأي إنسان ، إلّا إذا أذن له بذلك خالقها.

فإذا ما خرقها علمنا أن هذا الخرق ، إنما هو بقدرة الله ، لا بقدرة البشر ، وعلمنا أن هذا المدعي صادق في دعواه الرسالة ، بهذا الدليل اليقيني الذي لا يمكن أن يفعل إلّا بقدرة الخالق.

ومثال ذلك قانون توازن السوائل ، الذي قضت العادة فيه بأنه يجب أن تتساوى جميع أجزائه على مستوى واحد في السطح ، في الحالات العادية.

فمن المحال عادة أن يقف الماء في الهواء كالجدار دون أن ينساب وتتساوى جميع أجزائه.

فإذا ما جاء إنسان ، وادّعى أنه نبي ، بدليل أنه يضرب البحر بعصاه ، فينفلق البحر ، ويقف الماء فيه كالجدار ، وتتخلله الطرق ، خارقا بذلك العادة

١٦

المألوفة ، كما حدث لنبي الله موسى عليه‌السلام ، علمنا يقينا أنه مرسل من عند الله ، لأن مثل هذا العمل مستحيل في حكم القوانين العادية التي خلقها الله.

فلو لا أن هذا الإنسان مؤيد بقدرة من الله ، لما استطاع في حكم العادة أن يخرق هذه القوانين ، فخرقه لها ، دليل على أن الله الذي خلقها وخلق قوانينها هو الذي أرسله ، وأذن له في خرقها.

وكتفجير الماء من الحجر الأصم ، الذي يستحيل في حكم العادة أن يخرج منه الماء ، فإذا ما ضربه إنسان بعصاه ، وانفجرت منه العيون ، يشرب منها الناس ، علمنا يقينا أنه مرسل من عند الله ، وإلّا لما استطاع أن يخرق مثل هذه العادة التي يستحيل خرقها.

وكإحياء الميت الذي جرت العادة في أنه يستحيل أن يرجع إلى الحياة ثانية.

فإذا ما جاء إنسان ، وتمكّن من إحيائه ثانية ، فعاد حيا يتكلم ، يسأل ويجيب ، علمنا على القطع أن هذا الإنسان صادق في دعواه للنبوّة والرسالة ، وإلّا لما استطاع أن يعمل مثل هذا العمل الذي يستحيل في حكم العادة عمله ، كما حدث لنبيّ الله عيسىعليه‌السلام.

إلى آخر ما هنالك من المعجزات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه ورسله ، تصديقا لهم في دعواهم النبوّة أو الرسالة أمام من أرسلوا إليهم.

ويشترط في هذه المعجزة أن تكون مقرونة بالتحدي ، يظهرها الرسول كلما دعت الحاجة إليها ، يتحدّى بها المرسل إليهم أن يأتوا بمثلها ، ليظهر عجزهم عن معارضتها ، ويثبت دعواه في نبوّته ورسالته.

إذ لو تمكّن الناس من معارضتها ، والإتيان بمثلها ، لما كانت خارقة للعادة ، ومن ثم لما كانت معجزة ، ولما كان المدعي صادقا في دعواه.

١٧

وكذلك الأمر لو لم يتمكن من إظهارها كلما دعت الحاجة إليها ، وطولب بها ، لتدل على صدقه فيما أتى به (١).

الفرق بين المعجزة وغيرها من السحر والكرامة :

عرفنا أن المعجزة أمر خارق للعادة ، يظهر على يد النبي أو الرسول ، وهو في حالته البشرية ، بشر من البشر ، فما الذي يجعلنا نميّز بين المعجزة وغيرها ، مما يشتبه بها ، من السحر ، والكرامة ، والاستدراج ، مما ظاهره خرق للعادة ، ويظهر على يد البشر؟.

ولنقف على جواب هذا التساؤل يجب علينا أن نقف على هذه الأمور التي قد تشتبه بالكرامة ، لنبيّن الفرق بينها وبين المعجزة ، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وسنتكلم أولا عن الكرامة ، ثم الإرهاص ، ثم المعونة ، ثم الاستدراج ، ثم السحر ، ثم الإهانة ، ونبيّن الفوارق بينها وبين المعجزة.

الكرامة : أمر خارق للعادة ، يجريه الله على يد أوليائه ، المواظبين على طاعته ، المجتنبين لمعصيته ، المعرضين عن الانهماك في الملذات.

وذلك كجريان النيل بكتاب عمر ـ رضي الله عنه ـ حين هم أهل مصر على عادتهم قبل الإسلام بأن يلقوا فيه فتاة بكرا. ، لاعتقادهم أنه لا يجري إلّا بذلك ، فمنعهم عمرو بن العاص من ذلك ، وكتب عمر رسالة للنيل يقول فيها : «من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر ، أما بعد : ـ فإن كنت تجري من قبلك ، فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهّار هو الذي يجريك ، فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك».

فألقى عمرو بن العاص الرسالة في النيل ، وأجراه الله تعالى على غزارته

__________________

(١) جمع الجوامع ٢ / ٤١٦ ، غاية البيان ص ١١ ، طبقات الشافعية ٢ / ٣١٥.

١٨

التي كان عليها من قبل ، بعد أن قلّت مياهه ، ولحقت أهل مصر بذلك المشقة.

وكرؤية عمر ـ رضي الله عنه وهو على المنبر في المدينة ـ جيش المسلمين بنهاوند ، حتى قال لأمير الجيش : يا سارية الجبل الجبل ، محذّرا له من وراء الجبل ، حيث كان يكمن العدو ، وسماع سارية كلامه ، ونجاة جيش المسلمين ، مع بعد المسافة.

وكشرب خالد بن الوليد السم ، مع عدم تضرره به (١).

وغير ذلك ، مما لا حصر له ، من الكرامات التي جرت وتجري على يد أوليائه تعالى وأصفيائه.

وهذه أمور خارقة للعادة ، فما الفارق بينها وبين المعجزة ، وكل منهما خارق للعادة؟.

الفارق بينها وبين المعجزة يظهر من عدة وجوه :

أولا : وهو ما اتفق عليه العلماء ، أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي لا يستطيع أحد من الناس معارضتها والإتيان بمثلها ، بخلاف الكرامة التي لا تحدي فيها ، ويمكن معارضتها ، والإتيان بمثلها ، بل بأبلغ منها ، بأن يجريها الله على يد كثير من أوليائه ، في زمن واحد ، أو أزمنة مختلفة.

وثانيا : النبي يعلم بمعجزته ، ويستطيع إظهارها كلما طلب منه ذلك ، أو كلما دعت الحاجة إليها ، يتحدى بها ، وأما الولي فمن المحتمل أن لا يعلم بالكرامة قبل وقوعها ، وإنما تجري على يده فجأة ، ودون قصد ، كما أنه من المحتمل أن يكون عالما بها ، إلّا أنه قد لا يمكنه تكرارها ، بأن تسلب منه ، أو تقتضي الحكمة الإلهية تخلفها.

وثالثا : زاد بعض العلماء أن الكرامة لا تصل لدرجة ولد من غير والد ، أو قلب الجماد إلى حيوان ، أو عكس ذلك (٢).

__________________

(١) طبقات الشافعية ٢ / ٣٢٦ ، غاية البيان ص ١٤.

(٢) جمع الجوامع ٢ / ٤٠٠ بناني.

١٩

وإذا عرفنا هذا ، عرفنا أنه لا يمكن أن تلتبس الكرامة بالمعجزة بحال من الأحوال.

وما ذكرناه عن الكرامة يمكن أن نذكره بعينه عن غيرها من الخوارق الأخرى ، كالإرهاص ، والمعونة ، والاستدراج ، والسحر ، والإهانة.

فالإرهاص : ما كان من الخوارق على يد النبي قبل النبوة ، كتسليم الحجر على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل الوحي.

والمعونة : هي الخوارق التي تظهر من قبل عوام المسلمين ، تخليصا لهم من المحن والمكاره ، بصدق إيمانهم ، وحسن اعتقادهم.

والاستدراج : وهو من الخوارق التي تظهر على يد الفسقة ، استدراجا لهم ، وهم مقيمون على معاصيهم.

والإهانة : كالاستدراج ، وهي الخوارق التي تجري على يد الفسقة أو الكفرة ، ولكن على خلاف دعواهم ، تأكيدا لكذبهم ، كما روي أن مسيلمة دعا لأعور لتصح عينه العوراء ، فذهب ضوء عينه الصحيحة (١).

وأما السحر : فهو وإن كان ظاهره أنه أمر خارق للعادة ، إلّا أن حقيقته ليست كذلك ، وإنما هو مجرد إيهام وخداع وتخييل ، قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (سورة طه : آية ٦٦).

وليس في السحر خرق للعادة في الحقيقة ، ولا تغيير للحقائق ، وإلّا لما وجدنا السحرة أفقر الخلق وأذلهم.

لأنهم لو كانوا قادرين على تغيير الحقائق ، لغيّروا التراب إلى ذهب ، ولما جلسوا في الملاهي وقوارع الطرق ، يتكففون الناس ، ويرضون بالزهيد اليسير ، ولما انهار السحرة أمام موسى عليه‌السلام ، بحيث لم يفلح واحد منهم قط.

بهذه الضوابط عرفنا الفرق بين المعجزة وغيرها من الخوارق ، كما عرفنا

__________________

(١) جمع الجوامع ٢ / ٤١٦ ، وغاية البيان ص ١٤.

٢٠