الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

١
٢

٣
٤

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

التجديد الديني

لم تكن فكرة التجديد الديني ـ التي تثار هذه الأيّام بحيث أصبحت المادة الأساسية التي تلوكها الأفواه وتردّدها الألسن هنا وهناك في الصحف والمجلات فضلاً عن الكتب ـ من المسائل المستحدثة كما يحلو للبعض أن يصفها ، بل أنّ القضية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الإسلامي ، ويكفي في صحّة ذلك مراجعة تاريخ العقائد والثقافة الإسلامية.

فبعد رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحتكاك الثقافة الإسلامية بثقافات وأفكار دخيلة كالرومانية والفارسية والهندية ، برزت ظاهرة التجديد الديني في الأوساط الإسلامية العلمية ، وتحت لواء الإصلاح والتصدّي للانحراف والبدع الدخيلة ، رفع البعض راية الإصلاح ووضعوا حجر الأساس لمذاهب وحركات فكرية شتّى ، والذي يؤسف له أنّ هذه الحركات والاتجاهات الفكرية لا أنّها لم تنجح في الإصلاح والقضاء على البدعة والانحراف فحسب ، بل هي بنفسها أصبحت عاملاً أساسياً وعنصراً فاعلاً في نشوء الكثير من البدع في كيان الأُمّة الإسلامية ، ومن المؤسف أيضاً أنّنا نجد بعض الكتاب ـ الذين تابعوا تلك الحركات من بُعد

٧

ـ يسبغ عليها وصف «التجديد والإصلاح الديني» (١) والحال أنّها المصداق البارز لقوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ). (٢)

وأخيراً لبست حركة التجديد الديني ـ المزعومة ـ لباساً جديداً وتأطّرت بإطار خلّاب يبهر العيون ويستهوي القلوب ، ويخفق له قلب كلّ موحّد ، ألا وهو إطار (محاربة الشرك والتصدي للابتداع) ، منطلقة في حركتها من أفكار ابن تيمية الحرّاني ـ التي أثارها في القرن الثامن الهجري ـ وبهذا استطاعت أن تعيد للأوساط الإسلامية في القرن الثاني عشر وعلى يد رجل يدّعي الإصلاح الديني تلك الأفكار التي علاها ركام الإهمال والهجران لقرون عديدة بسبب الموقف الصارم الذي وقفه علماء الإسلام الكبار والتصدّي الصلب والموقف الشجاع الذي وقفوه تجاه ابن تيمية وأفكاره ، ثمّ تمكنت تلك الحركة ـ بالإضافة إلى إحياء هذه الأفكار ـ من التصدّي لتصدير معتقداتها وتوجّهاتها إلى شتّى أقطار العالم الإسلامي والدفاع عنها باعتبارها أفكار تجديدية وحركة إصلاحية ، محاولين تأطيرها بإطار سياسي.

ولكي يقف القارئ الكريم على مؤسس هذه الحركة ومَن تصدّى لإحيائها ومدى النجاح الذي حقّقوه في التصدّي للشرك والابتداع ـ كما يزعمون ـ نقول :

ولد أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية في مدينة حرّان عام ٦٦١ ه‍ ـ بعد خمس سنوات من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد وانغمار المسلمين في مشاكل كثيرة. وتوفّي مسجوناً في قلعة دمشق عام ٧٢٨ ه‍ ـ.

لم يتصدّ الرجل لعرض أفكاره وآرائه على الملأ العام إلّا في عام ٦٩٨ ه‍ ـ ،

__________________

(١) كما فعل ذلك أحمد أمين المصري (١٢٩٦ ـ ١٣٧٢ ه‍ ـ) في كتابه «زعماء الإصلاح».

(٢) البقرة : ١١.

٨

ولم تمض فترة طويلة حتى قوبلت أفكاره بمواجهة قوية من قبل كبار العلماء والمفكّرين المسلمين في ذلك الوقت ، وقد أخذت تلك المواجهات أبعاداً مختلفة كالمناظرات والرسائل والمحاضرات و ... ممّا أدّى إلى انحسار أفكاره وانزوائها في مطاوي الكتب ، التي دوّنها هو أو تلميذه ابن قيم الجوزية (٦٩١ ـ ٧٥١ ه‍ ـ) ، ولكن بعد مرور أربعة قرون من وفاته انبرى محمد بن عبد الوهاب النجدي (١١١٥ ـ ١٢٠٦ ه‍ ـ) لإحياء تلك الأفكار الدفينة وانتشالها من بين الانقاض وإزاحة الركام عنها ، وإعادتها إلى الساحة الفكرية الإسلامية من جديد ، وسعى لنشرها والدفاع عنها ومواجهة كلّ من يتصدّى لها ، وقد أعانه وآزره في حركته هذه أُسرة آل سعود ، ومع كلّ تلك المعونة والدعم لم يتمكّن الرجل من تجاوز حدود نجد ، ولم يوفق لنشر أفكاره خارج تلك المنطقة.

ولكن بعد سقوط الدولة العثمانية وتصدّي آل سعود لسدة الحكم في الجزيرة وبسط نفوذهم على المراكز المهمة كمكة والمدينة ، توفّرت الظروف للحركة في الانتشار ، خاصة بعد اكتشاف النفط وزيادة العائدات المالية ، بحيث استطاعت أن تسخّر الأقلام المأجورة لنشر أفكارها والتبليغ لمبادئها ، وقد قام أصحاب تلك الأقلام بالمهمة الموكلة إليهم تحت إغراء الأموال التي كانت تتدفق عليهم.

وقد تصدّى لهذه الأفكار كبار المفكّرين المسلمين ـ شيعة وسنّة ـ في العراق والشام ومصر ، وقاموا بالمهمة الملقاة على عاتقهم في الرد عليها وبيان زيفها ، وستأتي الإشارة إلى بعض تلك الشخصيات التي قامت بذلك وأسماء مصنّفاتهم في مطاوي هذا الكتاب وخاصة في الفصل العاشر منه إن شاء الله تعالى.

ونحن بدورنا نحاول في هذه المقدّمة تقييم تلك المعتقدات بصورة إجمالية ،

٩

ونبيّن أهمّ الأُسس الفكرية لتلك الحركة ، والتي منها تظهر فداحة الخطب وخطورة الموقف والثمار المرّة التي جناها المسلمون من هذا الفكر. ومن هنا يمكن الإشارة إلى أهمّ خصائصهم ومرتكزاتهم الفكرية ، وهي :

١. الدعوة إلى التجسيم

يمتاز الفكر الإسلامي بصفات خاصة تميّزه عن غيره وتفضّله على ما سواه من النظريات والأفكار الأُخرى ، ومن بين النقاط الناصعة والعلامات المضيئة في هذا الفكر هو نظرية تنزيه الحق تعالى من الجسم والجسمانيات حتّى عدّ أحد شعارات المسلمين الأساسية قولهم : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١) ، وقد بذل الفلاسفة والمتكلّمون المسلمون جهوداً جبارة ومساعي مشكورة لترسيخ تلك النظرية ، والتصدّي للمجسّمة والمشبّهة ، وإيصاد الأبواب أمام أفكارهم الدخيلة وعدم السماح لها في الدخول إلى حظيرة الإسلام ، كما تصدّوا دائماً للتوراة المحرّفة لا التوراة الحقيقية التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ). (٢) نعم تصدّوا للتوراة المحرفة التي لم تكتف بوصفه بالجسم والجسمانيّة فقط ، بل أنزلته سبحانه وتعالى من مقامه السامي إلى الأرض ليدخل على يعقوب في خيمته ويصارعه. (٣)

والذي يؤسف له أنّ ابن تيمية تخطّى تلك الجهود محاولاً السماح لفكرة التجسيم والتشبيه بالعودة إلى الأوساط الإسلامية داعياً إليها ، حيث صرح بأنّه

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) المائدة : ٤٤.

(٣) التوراة ، كتاب التكوين ، الفصل ٣٢ ، الجمل ٢٦ ـ ٣٠ ، طبع عام ١٨٥٦ م.

١٠

تعالى تصح الإشارة الحسيّة إليه بالأصابع ، قال في العقيدة الواسطية : «وما وصف الرسول به ربّه من الأحاديث الصحاح التي تلقّاها أهل المعرفة ـ كابن تيمية ومن لفّ لفّه ـ بالقبول ، وجب الإيمان بها ، كذلك مثل قوله : «ينزل ربّنا إلى سماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ...».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يضحك الله إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر كلاهما يدخل الجنة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تزال جهنم يلقى فيها ، وتقول : هل من مزيد؟ حيث يضع ربّ العزّة فيها قدمه». (١)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّكم سترون ربّكم كما ترون الشمس والقمر». (٢)

يقول الرحّالة ابن بطوطة : وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلّا أنّ في عقله شيئاً ، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على المنبر الجامع ويذكّرهم ، فكان من جملة كلامه أن قال : «إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا» ونزل من درج المنبر. (٣)

٢. الحطّ من مقامات الأنبياء والأولياء

إنّ للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأولياء الصالحين منزلة ومقاماً لدى الله سبحانه وفي قلوب المؤمنين وأوساط المسلمين ، ولقد شهدت بذلك الآيات القرآنية الكريمة والروايات الشريفة ، وأنّه لا فرق في ذلك بين كون الرسول حيّاً أو ميتاً ، فمقامه المعنوي ومنزلته الرفيعة ودرجته السامية محفوظة في حياته وبعد رحيله إلى الرفيق

__________________

(١) العقيدة الواسطية : الرسالة التاسعة : ٣٩٨ ـ ٤٠٠.

(٢) مجموعة الرسائل والمسائل : ١ / ٢٠٣ ، طبع لجنة التراث العربي.

(٣) رحلة ابن بطوطة : ١١٢ ـ ١١٣.

١١

الأعلى ولم يتغير ولم ينقص منها شيء أبداً ، كذلك الأمر يجري في صلته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارتباطه بالأُمّة الإسلامية.

ولكن الذي يمعن النظر في أفكار ابن تيمية والسائرين على نهجه يجد أنّهم يذهبون وبوضوح إلى أنّ الرسول الأكرم شأنه شأن أيّ إنسان عادي تنقطع علاقته بالأُمّة بمجرّد موته ، وحينها لا يعود على الأُمّة أدنى نفع أو فائدة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله!!!

٣. تكفير المسلمين

لقد سعى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكلّ ما أُوتي من قوة إلى تحكيم أواصر الأُخوّة والمودّة في أوساط المؤمنين بحيث استطاع أن يصنع منهم كياناً متماسكاً يقف سدّاً منيعاً أمام الكفر العالمي ، حتّى استطاع المسلمون وببركة وفضل «كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة» من الصمود والثبات أمام ضربات الصليبيين القاسية ، وعنجهية وغطرسة وجهل المغول ممّا انجر إلى دخولهم في الإسلام واعتناقهم الديانة الإسلامية في آخر المطاف ، وبهذا تمكّن المسلمون أن يجعلوا من ألدّ خصومهم أُناساً مدافعين عنهم وعن شريعتهم ومروّجين لها. ولشديد الأسف أنّ هذه الوحدة الإسلامية تعرّضت لضربة قاصمة من قبل مؤسّس الفكر الوهابي بحيث حصروا الإسلام في تلك الثلّة من الناس التي تعتنق المذهب الوهابي والتي تسير على منهج ابن عبد الوهاب ، وإلّا فلا نصيب لهم من الإسلام!

هذه هي بعض الثمار المرّة التي جنتها الأُمّة الإسلامية من وراء هذه الحركة الفكرية التي تدّعي ـ زيفاً ـ أنّها حركة إصلاحية ، وهل يوجد عاقل يحترم عقله ويعتز بدينه وقيمه يستطيع أن يصف الحركة أو رجالتها بأنّها حركة إصلاحية وإنّ

١٢

إمامها محيي السنّة ومميت البدعة؟!!

والكتاب الماثل بين يديك ـ أيّها القارئ الكريم ـ هو دراسة تحليلية للأُسس والمباني الفكرية للمذهب الوهابي محاولين من خلاله تسليط الأضواء على أفكارهم ومعتقداتهم بأُسلوب علمي رصين يعتمد المنهج العقلي والنقلي ولكن بأُسلوب سلس وعبارات واضحة ، ليتسنّى لجيل الشباب الاستفادة منها على أكمل وجه ، لكي لا يقعوا فريسة في شباك هذه الحركة الهدّامة.

وفي الختام أتقدم بالشكر والامتنان للشيخ الفاضل خضر آتش فراز (ذو الفقاري) الذي قام بترجمة الكتاب ونقله إلى العربية بأُسلوب واضح رصين ، وأمانة خالصة كما هو شأنه دائماً ، وتصحيحه بدقة متناهية حتّى ظهر بهذه الحلّة القشيبة.

أسأله سبحانه أن يتقبّل مني هذا الجهد اليسير وأن يهدي ثوابه ـ إن كان له ثواب وأجر ـ إلى روح والدي المرحوم آية الله الحاج محمد حسين الخياباني التبريزي (قدس‌سره) الذي يُعدّ ـ وبحق ـ أوّل شخصية عرّفتني حقيقة هذا المذهب والأخطار الكامنة في ذلك الفكر.

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

١٧ ربيع الأوّل يوم مولد

منقذ البشرية الرسول الأكرم من عام ١٤٢٦ ه‍ ـ

١٣
١٤

الفصل الأوّل

الاتّحاد رمز الانتصار

١٥
١٦

يكمن في الاتّحاد والوحدة رمز انتصار الأُمم وتغلّبها على المشاكل والعوائق التي تقع في طريقها ، أو في الحقيقة أنّ سرّ تطوّر الأُمم وتكاملها ورقيّها رهين بمدى اتّحادها وألفتها واستغلالها لجميع الطاقات والقدرات والإمكانات المودعة فيها مادية كانت أو معنوية ، بل انّ أساس نظام الكون والحياة قائم على هذا القانون المحكم والسنّة الإلهية التي لا يمكن أن تتخلّف بحال من الأحوال أبداً وهو قانون «الاتّحاد والتآخي».

ونحن إذا ألقينا نظرة عابرة إلى عالم الطبيعة وغيره من العوالم نجد فاعلية هذا القانون بجلاء ووضوح لا ريب فيه ، فالروافد الصغيرة تتحوّل باتّحادها إلى أنهار عملاقة ، وهذه الأنهار باتّحادها تخلق بحاراً ومحيطات مترامية الأطراف تغطي قسماً كبيراً من سطح الكرة الأرضية.

وهكذا الأمر إذا نظرنا إلى قطرات المطر الصغيرة كيف تتحول إلى خزانات ماء كبيرة قادرة على تحريك عجلة أعظم المولّدات الكهربائية (التوربين) وانّها في نفس الوقت قادرة على إرواء أراض زراعية شاسعة جداً لتخلق في الأرض ـ إن صحّ التعبير ـ ثورة خضراء وانقلاباً نباتياً يبهر العيون ويحيّر الألباب.

كذلك الأمر بالنسبة إلى القطعات والآلات المتفرّقة للمصانع والماكنات فإنّها تتحوّل باتّحادها وترابطها إلى أجهزة عملاقة ومصانع كبيرة قادرة على صنع الأعاجيب ، والكلام نفسه يجري في النباتات فإنّ الشجرة لا تثمر ولا تؤتي أُكلها إلّا

١٧

من خلال الاتّحاد والانسجام والتناسق بين جميع أعضائها من الجذور إلى الساق والأغصان والأوراق.

ثمّ إذا انتقلنا إلى الأُمور والمؤسسات التنظيمية في الحياة البشرية نجد فاعلية هذا القانون جليّة جداً ، فسر نجاح المدرسة ـ على سبيل المثال ـ وتكاملها يكمن في الوحدة والتناسق بين جميع مكوناتها البشرية والمادية ، ابتداءً بمدير المدرسة ومروراً بالأساتذة والكادر الفني والخدمي ، وعروجاً على الطلاب ، والأُمور المادية من الكتاب إلى اللوحات والمقاعد و ...

بل انّ فهم الدروس واستيعاب المادة الدراسية هو الآخر رهين بتركيز الذهن وجميع القوى العقلية حول موضوع واحد وعنوان خاص. حكمه حكم الآلة الرافعة التي تركز جميع قدراتها على مركز وثقل واحد لتستطيع نقله من مكان إلى مكان آخر.

كما نجد أثر هذا القانون بوضوح في دراستنا لتاريخ الجيوش والحروب التي وقعت في العالم ، فكم من جيش كان النصر حليفه والغلبة من نصيبه بسبب اتحاد قواه ومركزية قيادته ، إذ يلتف حول قائد بصير ومحنّك ويعمل ضمن خطة موحدة ونظام مرسوم ؛ وفي الوقت نفسه تجد الخيبة والخسران والهزيمة نصيب الجيش المنحلة قواه والمفكّكة عراه الذي تسوده الفوضى وعدم الانسجام ، بحيث تجد كلّ فرقة منه أو فوج أو فصيل يعمل على شاكلته ويخطط لوحده ويتحرك بمفرده.

ولا غرابة إذا ما وجدنا مجموعة مكونة من ٣٠٠ رجل تنهزم وتؤسر من قبل رجلين أو ثلاث رجال فقط ، وما هذا إلّا بسبب وحدة الاثنين وتفرق الثلاثمائة!!

ولقد أحسن الحكيم العربي حينما جمع بنيه ليوصيهم بالوحدة والاتّحاد وليبين لهم أنّ سر نجاحهم في الحياة وتغلبهم على مشاق الحياة وصعابها يكمن في

١٨

الاتحاد والتآخي ومعرفة مخاطر الاختلاف والفرقة ، وان سر انهزامهم يكمن في التشتت والتشرذم ، والقصة معروفة حيث أعطى الشيخ الكبير لكلّ واحد من أبنائه عصا وأمره بكسرها على انفراد ، فتمكّن الجميع من كسر العصي ، ثمّ جمع لهم العصي في حزمة واحدة فطلب منهم كسرها فعجز الجميع عن كسرها ، فأنشد يقول :

كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى

خطب ولا تتفرقوا آحاداً

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً

وإذا افترقن تكسّرت آحادا (١)

إنّ العالم المعاصر الآن يحاول أن يتغلّب على المشاكل التي تعترض طريقه من خلال تشكيل المنظمات والهيئات الدولية و ... التي يتم التجمع فيها لتبادل وجهات النظر وطرح الآراء والنظريات المتعددة ووضع الحلول المتنوعة والمقترحات المختلفة ، ودراستها دراسة دقيقة ومتأنية والنظر إلى القضايا والمسائل من جميع أبعادها وزواياها ، ثمّ الخروج بنتيجة تمثّل حصيلة التشاور وتبادل جميع الآراء وتلاقح الأفكار ، بل هي في الحقيقة حصيلة وثمرة العقل الجماعي ، بعيداً عن التزمّت والانفراد في الرأي واعمال الآراء الفردية.

وممّا لا ريب فيه أنّ تلاقح الأفكار وتعدّد وجهات النظر وطرح النظريات المختلفة ممّا يمنح الحقيقة دفعة قوية للانطلاق إلى الامام والوصول إلى الهدف ويزيح الستار والغموض عن وجهها. نعم انّ في الاتحاد سر انتصار الأُمم وتطورها.

__________________

(١) جاء في ديوان «گلستان سعدى» الباب الثالث ، مجموعة أبيات تتّحد في مضمونها مع ما ذكرناه في المتن.

١٩

الاتّحاد في القرآن الكريم

لقد أولى القرآن الكريم مسألة الوحدة والاتّحاد اهتماماً خاصاً ، وحثّ عليهما ، وحذّر من مغبة الوقوع في التفرّق والتشرذم حيث قال سبحانه :

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). (١)

ولعلّ السرّ في استعمال مصطلح «الحبل» في الآية المباركة هو أنّ مَثَلَ المجتمع الغارق في بحر ظلمات الفرقة والتشتّت وعدم التآخي ، والمجتمع المبتلي بالنفاق والشقاق ، كمثل الإنسان الواقع في قعر بئر من الظلمات ، إذ يسعى جاهداً للإمساك بحبل ينقذه من الورطة التي وقع فيها والمصير الأسود الذي وصل إليه.

بل هناك نكتة جديرة بالانتباه ، وهي أنّ من يراجع الذكر الحكيم يجد في بعض آياته إشارة واضحة إلى أنّ التفرّق والتشتّت يُعدُّ من وجهة نظر القرآن الكريم من أشدّ أنواع العذاب الإلهي الذي تبتلي به الأُمم والشعوب حيث يقول سبحانه وتعالى :

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). (٢)

وهناك آيات أُخرى تشير إلى مفهوم دقيق آخر ومهم جداً ، وهو أنّ الأُمم والمجتمعات التي تبتلي بالفرقة والتشتّت والتشرذم وتبتعد عن الحركة حول محور قيادي إلهي واحد ، بعيدة كلّ البعد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تربطها به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) الأنعام : ٦٥.

٢٠