الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة الثالثة عشرة

في دفع الاعتراضات على قدس القرآن الكريم ،

وفيها فصول

الفصل الاول

في الاعتراضات عليه من حيث العربية

وقد وسوس بها الضلال لأهواء شرذمة غرها الجهل ، وأغرتها العصبية فشطت عن القصد ، وعكفت على الشطط ، فكشفت عن مغطئها وفضحها نضحها ، ليعتبر المتبصر ، ويبصر المتدبر ، كيف مني الحق ، وابتليت الحقائق واستفحل الجهل ، وقل الحياء وجمح الغرور ، فكم من بادرة يجب التستر بها حتى في المستراح ، قد سامها الجهل في سوق الأدب سوق العلق الثمين ، فسود بها وجوه الصحف ، وشوه بها صورة العلم.

فهل كان يلوح للخيال ويتراءى للوهم ، ان واحدا من الناس تستفزه العصبية ، ويمنيه الضلال ، ويغريه الجهل بأن يتعرض بطبيعته الجعلية ، وقريحته الهمجية إلى الاعتراض على القرآن الكريم بالعربية ، وقد علم الشرقي والغربي ، والعربي والعجمي ، والفاهم والغبي بأنه لؤلؤ بحرها ، وقلادة نحرها وعقدها الفريد ، وبكرها الوحيد ، قد اقعت لباهره البلغاء ، وسجدت لهيبته الفصحاء ، وخضعت لسلطانه الخطباء ، ففقأ عين الحاسد ، وارغم أنف الشانئ ، ولم يبق للعرب معلقة إلا حطها ، ولا شاردة إلا عقرها ، حيث استقل من العربية بصدر النادي ، ومحتبى الدست ، ومرف اللواء ، وذروة المنبر ، وصار موردها المستعذب ومنهلها المورود ، وروضها المرتاد وامامها المقدم ، وقاضيها المحكم ، فراج به سوقها ، وأزهر به روضها ، وأشرق به وجهها ، الى ان أسفر صبح الاسلام على الامم ، واتحدت في هداه العرب

٥

والعجم ، وتداخلت اللغات ، وأهجنت الألسن ، فارفض نظام العربية ، واشكلت مناهجها ، والتبست مقاصدها ، وكتمت أسرارها ، وتعاصى عرفانها وانفت دررها من سوم الفحام ، ونفرت أوانسها من غرائب الطبائع ، وعزفت من هجائن القرائح ، وإذ علم المسلمون وغيرهم بالعلم اليقين ان القرآن الكريم الذي هو أساس الدين ، ومنار الهدى ، ومناط الحجة ، وانموذج الاعجاز ، قد استولى من العربية على أفلاذ كبدها ، وفرائد لئالئها ، ومفاتح كنوزها ، فلا يوصل إليه إلا من سبيلها ، ولا تقرع بابه إلا بيدها ، فلأجل ذلك نهض للتدرب فيها ، وللالتقاط من سقط مائدتها ، والمص من وشلها فئة من الأجانب عنها ، والمتطفلين في معرفتها ، فلم يدركوا من كلام العرب شيئا إلا بطفيف النقل ، ولم يقرعوا منه أبواب أسرارها إلا بالتظني ، فأسسوا من بسيطها قواعد يتوكئون عليها في ترعرعهم فيها ، وقد فاتهم منها يتائم درر لم تنتظمها قواعدهم ، ووقف دونها جدهم ، فلا يحظى ببعضها إلا الغائص المتعمق ، والقانص المترصد ، إذا أسعد جدهما حسن الفطنة ، وصفاء القريحة وتوقد الذكاء ، ومجانبة التقليد.

ثم ان الناس إذ ذاك على اختلافهم في البضاعة والاضاعة توجهوا بقواعدهم المذكورة إلى اكتشاف أسرار القرآن الكريم ، وفهم نكاته في مقاصده التي جرى فيها على النحو الأرفع من مراقي البلاغة وفذلكات العربية فاختلف في ذلك وردهم وصدرهم ، وقاموا وقعدوا ، وترددوا بين صواب وخطأ ، وسداد ووهن ، ووجدوا في القرآن الكريم موارد قد ذيدت عنها قواعدهم ، أو قصرت عنها منقولاتهم ، او عشت عنها افهامهم ، فتفاوضوا فيها تفاوض الحيران ، ولا جرم فما كل زاد مبلغ ، ولا كل ظهر موصل ولا كل عدة تجدى ، ولا كل من سار وصل ، ولا كل من استنجع ورد ، ولا كل من طلب أدرك ، ولا كل من سمع وعى.

والمتعرب قد نكصت به العصبية في قهقرة جعل وصار يطالب جلالة القرآن الكريم بالقواعد التي لأجل فهمه لفقها المولدون بعد اللتيا واللتي من وشل كلام العرب البسيط ، ونزر شعرهم الساذج ، وبعد تعثر الافهام

٦

واضطراب الأوهام ، وشذوذ الأفكار ، وتلجج القرائح ، وطويل معترك في الخطأ والتخطئة ، وتردد مقالات في التقريض والتغليط فقال «ذ ص ٧٢» ثم ان للفصاحة في العربية قواعد وأصولا وضعوها هم أنفسهم وعدوا في جملتها سلامة الكلام من ضعف التأليف ، ومن الغرابة والتنافر ومخالفة القياس ، وسترى ان في القرآن ما يخالف قواعدهم ، ونحن لا نذكر لك منه إلا ما كانت المخالفة فيه بينة لا تحتمل التأول على علم منا ان المفسرين قد تمحلوا لكل من غلطاته تأولا : وعزب عنهم ان مجرد احتياجه الى ذلك هو حجة عليه ، ولو سلمنا بما حاولوه من الحذف والتقدير لستر غلطه تارة وكشف معناه اخرى لم يبق ، ثم من داع لوضع ما وضعوه من القواعد ولأصبح كل لحن وتأويله بل عده من انواع البديع ممكنا (١) على طريقتهم ، هذا كلامه.

ولا تستعجل التسجيل على مفردات شططه ، ومكورات لغطه ، فإن مباحثنا الآتية إن شاء الله لزعيمة بذلك توقفك على هفواته ، وتأخذ بيدك في مداحض زلله ، فلنقصر التعرض هاهنا على تمويهه بمولدات القواعد السطحية ومستطرفات الاصول التابعة ، وقاصر القياس المجعول ، واعتراضه بالحذف والتقدير ، وانا نسألك يا من يعاف المباهتة ، ويأنف من لغط الهذبان ، هل مهد هذه القواعد قحطان؟ أم هل عنونها عدنان؟ أو شعراء البادية أو خطباء الحاضرة؟ وهل تفاوضوا فيها في سوق عكاظ ، أو توامروا عليها في دار الندوة؟ او عقدوا عليها حلف الفضول؟ وهل انعقدت عليها للعرب المجامع؟ أم اوجبت الآباء ان يجري القرآن على البساطة السطحية؟ او حجرت عليه ان يتجاوز في فذلكاته ، وبديع الإشارة في مقاصده عن مبلغ نظر الأخفش ونضيج قريحة المبرد؟.

أفلا يعلم كل من له ادنى إلمام بتاريخ هذه القواعد والأصول ، وسبب وضعها ومأخذ قياسها انها حادثة التشكيل ، متعبدة باللغة العربية ، تابعة لها منقادة لنفوذ مأثورها ، خاضعة لسلطان القرآن الكريم الذي تسالمت العرب العرباء على تقدمه وإمامته في لغتهم حتى خضعوا وهم العتاة لاعجازه ، واعترفوا

__________________

(١) هكذا في الأصل فحكيناه على ما به.

٧

وهم الخصوم اللد بعلو مقامه.

وانا لنسألك بذمة الحقائق وحرمة الصواب ان تحضر المتعرب بين شهود يحتشمهم في شططه. ويتستر عنهم من تزويره ، ولا يطمع بمخادعتهم وسله متى جاء القرآن الكريم؟ ومن الذي جاء به؟ وما يكون من العرب؟ وما حال القرآن مع العرب؟ وما حالهم معه؟ ومتى وضعت فنون العربية ولفقت اصولها ، وخمنت أقيستها ، ومن الذي وضعها؟ وكيف وضعها وعمن أخذها؟ ولما ذا وضعها؟ وهل كان أبا العرب؟ او واضع لغتهم او قدوتهم فيها ، أو المسيطر على غرائزهم وقرائحهم فيها.

وسله أيضا من هم الذين يقول فيهم «هم ، وهم انفسهم» أو ليسوا هم الذين يتكافحون في فهم العربية بالتخطئة والتغليط ، ويقومون في تفهمهما ويقعون تستهويهم الغفلة ويخذلهم الفهم (١) ولا غرو فإن الغفلة عن عوائد الإنسان ، والعلم كله في العالم كله ، وكم وكم اكدى السعي ، وضلت الأفهام وزلت الأقدام ، ولا سيما إذا تزبب الحصرم ، وتمشيخ الصبي ، ولا سيما إذا احكم الجهل والغفلة والتقليد في الذهن مقدمة تحول بين الفكر وبين الحقيقة وتسد عنه باب الصواب.

__________________

(١) فلو ان واحدا من أبلغ خطباء الانكليز وأحذقهم في صناعة الإنشاء كتب في أوائل القرن الثامن عشر كتابا في شريعة المملكة وآدابها ، وتعلق غرضه بأن يكتبه على أبلغ أساليب الإنكليزية في مراعاته لمزايا محاوراته وفذلكتها في مقاصدها ، فاحتفلت به المملكة وسلم باستحسانه العدو والصديق من أهل اللسان ، وأذعنت عرفاؤهم باحتوائه على خصائص اللسان الانكليزي في محاوراته ، وبدائع فذلكاته ، ولطائف إشاراته ، وجعلوه انموذج خطابتهم وامام انشائهم.

ثم قام بعد مائة سنة أو أكثر جماعة من هنود الشرق فحاولوا ان يفهموا شريعة المملكة وطقوسها وآدابها من ذلك الكتاب ، فاستعانوا على ذلك بأن استنبطوا بتخمينهم من أشتات ما وصل إليهم من بسيط اللغة الإنكليزية وسطحيها قواعد وأصولا يتفهمون بها ذلك الكتاب ، فهل ترى مع هذا ان واحدا يعرف قدره ، ويحافظ على شرفه ، يعترض على ذلك الكتاب في مزاياه في لغته وفذلكاتها في مقاصده ، وينتقد عليه بما أخطأه البسيط السطحي من تلك القواعد التي لفقها اولئك الأجانب ، كلا ، ولكن داء الحمق داء عضال ، ولا صاد بعد خلع العذار.

٨

فلك العبرة بجماعة من النصارى يعدون أنفسهم ويعدهم اصحابهم من أهل العلم والوصول ، فانهم قد وقعوا في مخالفة اعتقادهم وجماعتهم وجامعتهم من حيث لا يشعرون ، وارتبكوا في الشطط على كتابهم وذهبت بهم الوساوس أنى شاءت ، ولنقتصر من شواهد ذلك على موارد :

«الأول والثاني» قال البستاني في الجزء الخامس من دائرة المعارف «ص ٥٣٦» وبعض مفسري الكتاب المقدس المدققين ذهب الى ان قصة «بلعام» المدرجة في سفر العدد «ص ٢٢ ـ ٢٤» دخيلة.

وذهب آخرون إلى ان كلام الأتان عبارة عن رؤيا ظن بلعام انه رأى فيها ملاكا وتوهم انه سمع الأتان ، فأنكر بعضهم الملاك وكلام الأتانة وجعل ذلك من الظن والوهم ، وخالف صراحة العهدين أقبح مخالفة وذلك لمقدمات فاسدة استحوذت على أفكارهم ، إذ سولت لهم امتناع كلام الأتانة وعاقليتها لمثل هذه الامور وإن اقتضت القدرة الالهية ذلك ، وما هذا إلا من عدوى مجاورة الملحدين.

ولكن هذا الانكار تفضحه صراحة التوراة بوقوف ملاك الرب في الطريق ليقاوم بلعام ، ورؤية الأتان له ، ثم وقوفه في الخندق ، ثم اجتيازه ووقوفه في مكان ضيق ، ورؤية الأتان له ، في هذه الحالات قبل ان يراه بلعام وان الله فتح فم الأتانة وترادت الكلام مع بلعام مرتين.

وكشف الله عن عيني بلعام فأبصر الملاك واقفا وسيفه مسلول ، وتراجع في الكلام مع بلعام مرتين ، ووقفا على قرار ، وموعد تعليم «انظر عد ٢٢ : ٢٢ ـ ٣٦».

ولأجل ذلك اقدم بعض المفسرين المدققين على ان ينكروا كون قصة بلعام من التوراة فحكموا بأن ثلاث فصول من سفر العدد هي مدسوسة ودخيلة في التوراة ، كل ذلك سترا على اعتقادهم الفاسد ومكافحة صراحة التوراة له ، ولا ينفعهم ذلك حتى ينكروا صراحة العهد الجديد بتكلم الأتانة ونطقها بصوت إنسان «٢ بط ٢ : ١٦» وإشارته إلى قصة بلعام المذكورة في التوراة «٢ بط ٢ : ١٥ ويه ١١».

٩

وهل تراهم بعد هذا أبقوا حيثية لسند العهدين ، والبستاني مع ذلك يصفهم بالمفسرين المدققين.

«الثالث» نقل إظهار الحق في حقيقة الاعتقاد بالأرواح النجسة «مردة الجن» شيئا من كلام «بيلي» وهو من علماء البروتستنت ، وحاصله ان تسلط الأرواح النجسة وحديثها في العهد الجديد ، وإيراد كثير منه في معجزات المسيح إنما كان رأيا غلطا ، ولكنه لكونه رأيا عاما في ذلك الزمان وقع فيه مؤلفوا الأناجيل ، وإصلاح رأي الناس في ذلك ليس جزءا من الرسالة ، والمتكلف وإن خالف إظهار الحق في ترجمة كلام «بيلي» إلا انه اوضح فيه «يه ٣ ج ص ١١٧» ان بيلي شاك في هذه الحقيقة ، وان الفصل فيها فوق طاقته وان جماعة من النصارى ينكرونها ، ولهم على انكارها أدلة ، وانك إذا نظرت إلى حديث الأرواح النجسة في الأناجيل تجده يقارب ما ذكرته من تعاليم المسيح أو يزيد.

ومع ذلك جاء قوم من متبعي الإنجيل فجعلوه غلطا لا أصل له ، وما ذاك إلا لوسوسة عرضت لهم ، وما منشؤها ومبدؤها إلا العدوى بداء الطبيعة والإلحاد والتعصب على القرآن الكريم بإنكار الجن ، فجرهم هذا الضلال إلى ان يقولوا ما يرجع حاصله الى أن مؤلفي الأناجيل قد لفقوا للمسيح أكاذيب معجزات مأخوذة من أغاليط الآراء العامة ليداهنوا بذلك أصحاب تلك الآراء فيروجوا بين العامة أمر التثليث الذي يعترفون بأنه وراء عقولهم ، ويشدد الأساقفة في المنع عن التفكر في تعقله ، ويوجبون على الناس أن يطووه على غرة ، ويقبلوه على البساطة ، والحاصل ان هؤلاء المنكرين من النصارى لحقيقة الأرواح النجسة ، والشاكين فيها لم يعدوا أن جعلوا اناجيلهم أخس من كتاب «كليلة ودمنة».

«الرابع» : حكى اظهار الحق ان «لوطر» امام فرقة البروتستنت يقول في حق رسالة يعقوب : انها كلا ، يعني لا اعتداد بها. ونقلا عن واردكا تلك ان «بومرن» من علماء البروتستنت وتلميذ لوطر يقول : ان يعقوب يتم رسالته في الواهيات.

وان «وائي تس» الواعظ في نرم برك قال : انا تركنا قصدا مشاهدات

١٠

يوحنا ورسالة يعقوب ، ثم ندد برسالة يعقوب.

وان «مكدي برجن سنتيورس» قال : ان رسالة يعقوب تنفرد عن مسائل الحواريين في موضع يقول : ان النجاة ليست موقوفة على الإيمان فقط ، بل هي موقوفة على الأعمال أيضا ، وفي موضع يقول : ان التوراة قانون الحرية ، انتهى كلامهم.

والمنشأ لأقوالهم هذه هو ما علق بأوهامهم ، وأحكمته فيها أهواؤهم من التعليم المنسوب لبولس بكفاية الإيمان في النجاة ، كما جاهرت وأكدت به رسالة العبرانيين ، فنقموا على رسالة يعقوب اعتبارها الأعمال في النجاة أيضا ، وحق لأهوائهم ذلك ، فإن الأعمال الصالحة قيود باهظة للهوى المردى والنفس الأمارة ، وهب انها لازمة لحقيقة الإيمان ومظهر صدقه ومفتاح بابه ورابطة دوامه ، وثمرات غرسه ، ولكن الهوى المطاع لما اضطرته العادة الى اسم الإيمان يقول : آمن بالثالوث فقط ، وما عليك من هرج الأعمال الصالحة ومرجها.

ولما استشعروا من الكلمات المنسوبة لبولس ان معنى الحرية هو الإباق عن الشريعة والتمرد على أحكامها بزعم الفداء بذبيحة الفادي الكريم وتعليقه على الخشبة أنكر الأخير في الذكر على رسالة يعقوب قولها : ان التوراة قانون الحرية ، ولم يتدبر صوابها في ذلك ، لأن حقيقة الحرية هو التخلص من عبودية الهوى والشيطان ، وإنما يكون ذلك بالتمسك بأدب الشريعة والتقدس باتباع نواميسها الإلهية.

«الخامس» قد ذكرنا في مبحث الختان من النسخ عن رسالة الكندي زعمه ان شريعة الختان لابراهيم والمؤمنين أنما كان سببها علم الله بتغربهم إلى مصر وميلهم الى الزنى فوسمهم بهذه العلامة المشوهة لتنفر منهم الزواني المصريات فيكون ذلك عصمة لهم من الزنى.

وليس المنشأ في هذا الشطط إلا أن هذا الرجل اشرب في قلبه وهواه رفع النصارى لشريعة الختان مصانعة لأهواء الامم الذين لا يختتنون ، ولم يبال بأن كلامه هذا يرجع الى تغليط موسى. ويوشع. والأنبياء الإسرائيليين ، والمسيح في ابقائهم لشريعته ، بل وكذا رسل العهد الجديد ، الى زمان الاجتماع

١١

للمشورة في أمره ، ورفعه مصانعة الامم ، وقد مر هذا كله فراجعه.

«السادس» زعم سايل «ق ص ٢٢٦» وكذا الكندي ان الله تساهل مع اليهود فأعطاهم وصايا غير صالحة وأحكاما لا يحيون بها.

وما المنشأ لهذا الشطط إلا موافقة اطلاق النصرانية الرائجة وراحتها لأهوائهما فسول لهما ذلك عيب الشريعة والخضوع لنواميسها ، فاجترءا على الذم لشريعة موسى عليه‌السلام اقتفاء للكلمات المنسوبة الى بولس ، وتوهما من كلام في حزقيال «٢٠ : ٢٥».

مع ان ظاهر سوقه ينادي بأن المراد منه ان اليهود لما تمردوا على شريعة الحق وتمادت ارتداداتهم عنها ابتلاهم الله بالذل بين الامم فخضعوا لشرائعهم الباطلة ، ومما يوضح غلطهما في هذا الكلام هو أن العهد القديم وخصوص كتاب حزقيال قد كثر فيه بيان منة الله على الامة اليهودية إذ أعطاهم شريعة حق عادلة وفرائض صالحة وأحكاما ان عمل بها الإنسان يحيا بها ، وقد ذكرنا ذلك في المثال الرابع والاربعين من النسخ.

«السابع» زعم سايل» «ق ص ٢٥٧» وليس وحده في قصاص الجراح والأطراف المذكورة في التوراة ، ان المقصود منه قودما أو عقاب يفي بالجناية لا مقابلة المثل بالمثل فعلا ، وان اسلوب قول التوراة في ذلك قد جرى مجرى الأمثال ، ولا يعني به سوى ان القاضي يقتص من الجاني بحسب أهمية الجناية انتهى.

وما المنشأ في توهمه هذا وتقوله على التوراة بما تكافحه صراحتها ، إلا انهم رأوا ان الإنجيل الرائج قد ألغى أحكام السياسة والقصاص المذكورة في التوراة ، وجعلها من مقاومة الشر «مت ٥ : ٣٨ ـ ٤١» ثم رأوا ان إهمال السياسة الى هذا الحد مما يقصم ظهر النظام ويشوه وجه المدنية والعمران فجعلوا من انفسهم في هذا المقام شريعة المصادرات والتعزيرات بحسب ما تتقلب فيه آراؤهم وكأنهم تخيلوا أو خيلوا ان ذلك لا يمس التوراة والإنجيل بمخالفة في العمل ومراغمة لصراحتهما بالتأويل.

١٢

فأين «سايل» وأشباهه عن صراحة التوراة في قولها ، وان حصلت أذية تعطي نفسا بنفس وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض «خر ٢١ : ٢٣ ـ ٢٦».

وإذا احدث إنسان في قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به كسر بكسر وعين بعين وسن بسن ، كما أحدث عيبا في الإنسان كذلك يحدث فيه «لا ٢٤ : ١٩ و ٢٠» لا تشفق عينك نفس بنفس عين بعين ، سن بسن ، يد بيد ، رجل برجل.

وهلم الخطب في المتعرب فمع انه لا يستطيع ان يجر ذيل تمويهه الواهي على مثل هذه التأويلات المرغمة للصراحة ، والتي تكشف بمخائلها وشمائلها عن عدوى داء الالحاد ، ونفوذ القول بالطبيعة العمياء ، ومع انه قد شوه وجه بصيرته جذام هذا الداء صار يندد ويتهكم على مفسري المسلمين في وصولهم الى مقاصد القرآن الكريم في بارع اسلوبه الجاري على محاسن اللغة العربية وبدائع فذلكاتها في البلاغة من حيث الحذف لما تهدي إليه نورانية المقام ، وتحكم بحذفه براعة الكلام ، وسيحلو لذوقك إذ يجلو لك البيان إن شاء الله عنه صدأ الشبهات والمغالطات.

عدم الفهم لما يلزم تفهمه

ولك العبرة أيضا في عدم التدبر للمسموع والتساهل في التثبت في فهمه كما ينبغي ، ولندرج لك من ذلك ما وقع فيه خواص النصارى ونذكره في موردين «الأول» ذكر انجيلهم والتاريخ انه قد شاع بين التلاميذ ونصارى عصرهم ان يوحنا ابن زبدى الانجيلي لا يموت ، وذلك لعدم تثبتهم في فهم ما حكي لهم عن المسيح «انظر يو ٢١ : ٢٠ ـ ٢٤».

ولعل المنشأ في ذلك هو ان الضلال قد أشاع في تلك الأيام ما قرف به انجيل يوحنا «١٣ : ٢٣ ـ ٢٦» قدس المسيح بأنه كان يحب يوحنا بحيث يجلسه في حضنه ويبوح له بأسراره ويتوسل التلاميذ إليه به ، وإذا خاطب المسيح يتكئ على صدره ، فتوهموا بهذه الوسوسة ان المسيح منحه الحياة الدائمة كما كان

١٣

مشغوفا به.

«الثاني» ذكر الإنجيل كثيرا ان التلاميذ لم يفهموا كلام المسيح معهم وذهبت بهم الأوهام مذاهبها ، مع انهم اتباعه الملازمون له ، ومقتضى القاعدة ان يكونوا يعرفون محاوراته وكناياته واشاراته وقرائن أحواله ومقارنات مشافهاته ، وإن لم يفهموها فمن عسى ان يفهمها من اهل عصرهم وغيرهم «انظر مت ١٦ : ٥ ـ ١٠ ومر ٨ : ١٣ ـ ١٩ ويو ٢ : ١٨ ـ ٢٣ و ٢٢٤ ـ ٢٤ و ١١ : ١١ ـ ١٤ و ١٢ : ١٦ و ١٦ : ١٧ و ١٨».

ولك العبرة أيضا باشتباه كثير من لغويي المسلمين ومفسريهم في امور لغوية التبست عليهم موارد استعمالها ، أو اختلجت فيها الخيالات ، ولنذكر لك من ذلك ثلاثة موارد :

«الأول» خلط جماعة منهم في معني «اللمس ، والمس» ففي القاموس فسر المس باللمس ، ثم فسر اللمس بالمس باليد.

وفي المصباح مسسته افضيت إليه بيدي من دون حائل هكذا قيدوه وقال لمسه افضى إليه بيده هكذا فسروه.

وفيه أيضا عن المهذب عن ابن الأعرابي المس مسك الشيء بيدك وقد قال : اللمس يكون مس الشيء.

وعن ابن دريد اللمس باليد ، وقال : لمست مسست وكل ماس لامس ثم استغرب في المصباح على هذا تفرقة الفقهاء بين المس واللمس في المغني ومال الى قول الفقهاء لكونهم أدق نظرا وأوصل فهما.

ولا يخفى وضوح الفرق بين معنيي المس واللمس قديما وحديثا بحكم التبادر وشهادة موارد الاستعمال ، ولا أظنه يخفى على العارف فإن المس هو مطلق الإصابة بالبدن ، واللمس هو مطلق الاصابة بما به الاحساس من البدن بقصد احساس الملموس ، نعم قد يكون الغالب في موارد استعماله هو اللمس باليد لكونها أقوى الجوارح احساسا في الغالب ، وهذا كله مما تحكم به بديهة المحاورات على نحو يقطع معه بعدم النقل.

١٤

«الثاني» اشتباه بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة النجم : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وان جماعة من محققي المفسرين كصاحب الكشاف وأمثاله فسروا القاب فيه بالقدر ، وقالوا : ان المعنى قدر قوسين واتفق اللغويون على تفسير القاب بالقدر كالقيب والقاد والقيد ، واقل ابن ربيعة المخزومي في شأن ناقته.

قصرت لها من جانب الحوض منشأ

جديدا كقاب الشبر او هي أصغر

وقال آخر :

ولكن تنحى جنبة بعد ما دنا

فكان كقاب القوس او هو أنفس

نعم : زاد بعض اللغويين في معنى القاب ، وذكر انه يقال لما بين مقبض القوس وسيته فلكل قوس على هذا المعنى قابان فأوقع ذلك جماعة من المفسرين بالاشتباه فحملوا عليه قوله تعالى قاب قوسين ، والتجئوا في تكلفهم هذا إلى دعوى القلب وقالوا : ان المراد قابى قوس فأقلقوا اللفظ وتقلبوا في المعنى ، وشذوا عن النهج من دون حاجة تلجئهم ولا دليل يساعدهم ، ولو نحروا رشدا لتركوا اللفظ على رسله ، والمعنى على مرماه ، ولو ان لهم قلوبا لما استهواهم الاشتباه إلى دعوى القلب ، مع ان المعنى المستقيم قد ذكره اللغويون في غرة ذكرهم لمعنى القاب.

ولكن المتعرب اغتنم اشتباه هذه الشرذمة فرصة في الاعتراض على القرآن الكريم وأوهم في كلامه انه قول المفسرين بل المسلمين جميعا كما اوهم في كلامه انه لا معنى للقاب إلا ما يلزم منه أن يكون للقوس قابان ، وقال في الآية الكريمة : الوجه قابى قوس ، «انظر ذ ٧٣» ، شاهت الوجوه التي ما بلها الحيا.

«الثالث» اشتباه جماعة من المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة الكهف ٧٨ (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) ، فقالوا : ان وراء فيها بمعنى «امام ، وقدام» واستشهدوا لذلك بقوله تعالى في سورة المؤمنون ١٠٢ (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وقوله تعالى في سورة البروج ٢٠ : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ). والمتعرب اغتنم هذا الاشتباه فرصة الاعتراض على القرآن ، فأعاب استعمال لفظة وراء بمعنى امام وقدام ، وأنكر كون ذلك من

١٥

معانيها «ذ ص ٧٣» ، فأقول : وقد جاء على مثل هذا الاستعمال قول لبيد بن ربيعة :

أليس ورائي ان تراخت منيتي

لزوم العصا تحني عليها الأصابع

وقول عبيد :

أليس ورائي ان تراخت منيتي

أدب مع الولدان أزحف كالنسر

وقول المرقش :

ليس على طول الحياة ندم

ومن وراء المرء ما لا يعلم

وهذه الأبيات وأمثالها لو طويناها على غرها لكانت على كل حال شاهدة بكثرة استعمال العرب للفظة «وراء» في المعنى الذي نحاه القرآن الكريم ، فإن وجه الاستعمال فيها وفي القرآن الكريم واحد ، لأن ما جعل الوراء ظرفا له في الشعر لم يقع في الزمان الماضي ليكون وراء بالمعنى المعروف ، وإنما هو مترقب في المستقبل فهو امام وقدام.

والتحقيق الذي توحي به كل فطرة سليمة ، ويشاهده كل فهم مستقيم هو ان «وراء» في الآيات والشعر مستعملة في معناها المعروف كناية ، عن كون مظروفها طالبا مستوليا كاستيلاء الطالب ، وقدرته على أخذ المطلوب إذا كان من وراثه ، قال تأبط شرا :

ووراء الثار مني ابن اخت

مصع عقدته لا تحل

ولا يسلم للآيات الكريمة والشعر المتقدم هذا البيان البارع لهذا الغرض العالي أو عبر بلفظة «امام» ولتنازل الكلام الى البساطة.

وقد جاء كثير من كلام العرب ما قد اخذ بمجامع البلاغة والبراعة ، وأوحى اسلوبه الخاص وصورته البهية بأسرار بديعة ومقاصد عالية ونكات شريفة لا يحيط بها الكلام البسيط إلا بتطويل ممل ، ولكن أصحاب صناعة النحو اضطروا في تطبيقه على صناعتهم التابعة للسان العرب لا المتبوعة ، والتجئوا اعتلالا الى التقدير ، وتوصلا الى الالمام بفهمه باسم التوسع مع انا نجد انه لو أظهرنا ما يقدرونه فيه لفات الغرض وانحل نظام الكلام.

١٦

فقد قال امرؤ القيس :

اليوم خمر

وغدا أمر.

وقال النابغة الجعدي :

كأن عذيرهم (١) بجنوب سلى

نعام قاف في بلد قفار

وقال الحطيئة :

وشر المنايا ميت وسط اهله

كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره

وقالت الخنساء :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

فإنما هي اقبال وإدبار

وقال متمم بن نويرة :

لعمري وما دهري بتأبين (٢) هالك

ولا جزع مما اصاب فأوجعا

وان من اعطى حظا من فهم محاورات العرب ليجد ان إظهار ما يقدره النحويون في مثل هذه المواضع مما يهدم على الشاعر غرضه ويمحو نكتته ، فمن هذا النحو ما يخرج الكلام به من صورة الفرض الذي لا يهم في الغرض إلى صورة الوقوع المقصود ، فيخرج الكلام بحسن بيانه من نحو الدعوى إلى ناحية العيان ، ومن المصادرة الى صورة البرهان ، وعلى ذلك جاء قول الحارث بن حلزة اليشكري :

والعيش خير في ظلا

ل النوك ممن عاش كدا

ألا ترى انه لو أظهر ما يقدره أهل الصناعة وقال : خير من عيش من عاش كدا. لم يتحمل كلامه إلا بيان التفاضل بين العيشين ، وهذا من الواضحات التي لا يهمه بيانها ولا يتعلق بها غرضه ، وإنما غرضه بيان ابتلائه بالعيش الصعب المتعب على نحو يفضل فيه على عيشه عيش الحمق المقرون غالبا من تعس الوقت بالرفاهية والسعة.

__________________

(١) العذير : الصوت ، وسلى اسم موضع.

(٢) التأبين : مدح الميت.

١٧

فإذا عرفت هذا عرفت البراعة وعلو الشأن في قوله تعالى في سورة البقرة ١٧٣ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

وفهمت ان الغرض من الآية الكريمة ليس هو بيان الفروض والأمثال وإنما الغرض فيها المقابلة بين الأفعال الواقعة من الغواة والمهتدين وإيضاح المفاضلة فيما بينها وفيما بين فاعليها ، والتنويه بمحاسن أفعال المهتدين والتمجيد لهم بها ، والتبكيت للغواة وأفعالهم ، فتعرض القرآن لعوائدهم القشرية التي ألصقوها بنسب العبادة وموهوها باسم البر ، وليس فيها إلا الحركات البدنية التي لا تتعب من دون علاقة لها مع القلب ولا ارتباط لها بالإخلاص والاقبال ولم يتزينوا معها بزينة رغبة الإيمان ولا رهبة العرفان.

وحاصل ما يستنير به الفهم من معنى الآية الكريمة هو انه ليس البر ملاعبكم المعتادة وإن تولوا وجوهكم الى مشرق الشمس او مغربها صورة بلا روح وخيالا بلا معنى وعوائد بلا مستند ، فلا تتبجحوا ولا تتبرروا بها فلستم بفعلها من البر في شيء ، ولكن انظروا واعتبروا بأولياء الله وخاصة عباده الأبرار الذين آمنوا بالله فانقادت نفوسهم وجوارحهم الى تقواه ، واقبلت في حبه على طلب رضاه ، وارخصوا لذلك كل عزيز واستسهلوا في سبيله كل صعب ، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من عظيم الثواب ، فاقلوا على العمل لأجله راغبين ، وما فيه من أليم العقاب ، فتحذروا عما فيه بأشد الرهبة وآمنوا بالملائكة وأنزلوهم منازلهم ، وبالكتاب المنزل من الله فاتبعوا هداه وبالنبيين فاذعنوا بأنهم رسل الله الهداة البررة المعصومون ففازوا بهداهم والاقتداء بهم ولم يستبدلوا عن اتباع شريعتهم بالغلو فيهم ، ولم يفرطوا بوصمهم بالنقائص التي لا ترتضي لسائر البشر ، بل عرفوا جليل قدرهم وانشرحت صدورهم لما بلغوه عن الله ، ولم يعيبوه ولم ينتقصوه ، ولم يحملهم التمرد على الفرار الى اختراع عبادة لا تبهظ الاهواء ولا تعارض الشح ولا تقرب

١٨

من الله ولا تؤازر جامعة الحق بل طردوا أهواءهم والشح خاسئة مدحورة فآتوا المال راغبين متطوعين لأجل حبهم لله وواسوا به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وخلصوا به العبيد العانين من أوزار الرق ومذلة العبودية ، وأقبلوا على الله فأقاموا الصلاة بحدودها الشرعية ووظائفها العرفانية وآدابها الأخلاقية ، وآتوا الزكاة في محالها طائعين راغبين لاقامة امر الدين ومهمات الملة ولم تتلاعب أهواؤهم بعهودهم بل هم الموفون اذا عاهدوا ولم يكونوا من الذين جعلوا الدين ونصره ـ لعقا على ألسنتهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ـ بل كانوا الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، وهناك تبلى السرائر وتختبر الرجال ، ويعرف الصادق من الماذق ، فاولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون.

هذى المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد ابوالا

ولو انا ذكرنا في الآية الشريفة ما يزعم أهل الصناعة التابعة تقديره لخرج الكلام الى محض التفاضل الفرضي بين الفعل الحسن وغيره وهو امر ساقط الفائدة لأنه من إيضاح الواضحات ، فيضيع الغرض الحميد والمعنى السامي وهو الاطراء بالهداة والمفاخرة بكمالاتهم والاحتجاج بهم ، كما يدل عليه حسن الختام بقوله جلت عظمته : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ولك العبرة بأن جماعة من اهل الصناعة قد قالوا : ان التقدير في الآية الكريمة (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ). الآية وهو اشتباه واضح ، فإن المقام ليس مسوقا لبيان ان البر بر هؤلاء على اجماله ومن حيث هو بر ، بل هو مسوق لبيان ان الذي يستحق ان يسمى برا إنما هو ما نوهت به الآية الكريمة من صفات هؤلاء الصفوة الذين كانوا بفضيلتها هم الذين صدقوا والمتقين حقا ، ومرجع الأمر بعد ما توحى به براعة الاسلوب الى ان البر إنما هو أوصاف هؤلاء المنوه بها.

وبما ذكرنا بعضه من الفوائد والشواهد تعرف شطط المتعرب إذ سمع من أهل الصناعة شيئا ذكروه لاطراد قواعدهم التي لفقوها لأجل الوصول الى عربية القرآن الكريم ومقاصده ، فصار يعترض به على القرآن الكريم «انظر ذ ص ٧٣».

١٩

ومن براعة العرب نصبهم الاسم على المدح ، وذلك لينبهوا الذهن الى ما يريدون امتيازه عند السامع ليلتفت الى مزيته وخصوصيته بنفسه لتكون احالة الالتفات إليها على معرفته بها من نفسه ، أو كد في المدح والتنويه من البيان الصريح ، فيتنبه الذهن بتغيير سياق الاعراب بحركة واحدة الى ما لا يتنبه له بدونه ولا يكفي في التنبيه عليه كثير من الكلام ، وهذا باب واسع نص عليه النحويون ، وأوردوا فيه الشواهد ، ومن ذلك قول الخرنق بنت عفان من بني قيس :

لا يبعدن قومي الذين هم

سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر

وعلى ذلك جاء في الآية الكريمة نصب (الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) ، وذلك لأجل التنبيه على امتياز المتحلين بهذه الصفة التي عليها ابتنى الثبات على الدين ، والإخلاص في العبادة ، والدوام على الطاعة والاقدام في نصرة الحق ، والاقبال على الله ، والبعد عن التمرد ، والسلامة من الضلال ، والعصمة من الارتداد ، فاولئك هم أعلام الهدى ، وحماة الدين ، ودعاة الحق ، فلله صبرهم ما احلى ثمره ، وما أحسن في التوحيد أثره ، وما أبهى في الاسلام عاقبته :

وهذا السنا الوضاح من ذلك السنا

وهذا الشذا الفياح من ذلك الوادي

وقال المتعرب «ذ ص ٧٣» ولا ادري لما ذا استحق الصابرون هذا المدح ، ولم يستحقه الموفون بعهدهم ، مع انهم مقدمون في النسق على اولئك ومع ان السورة نفسها متقدمة في النزول على سورة براءة التي سن فيها نبذ العهد ، وعلى سورة التحريم التي احل فيها الحنث بالايمان.

أقول : قد نبهناك على علو مقام الصابرين المذكورين في الآية ، ولا يخفى عليك عظيم أثرهم في الدعوة والدين.

وقد روى في المجازات النبوية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العم خليل المؤمن ، والحلم وزيره ، والعقل دليله ، والعمل قيمه ، واللين اخوه

٢٠