الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة الثانية

بقلم : الكاتب

المجيد العلامة المحقق الاستاذ

السيد توفيق الفكيكي المحامي

بعد أن وضعت الحرب الصليبية أوزارها التي دامت سجالا بين الإسلام وأعدائه طوال قرنين من الزمن ، حتى انتصر التوحيد على التثليث ، وتم اندحار الغزاة الأوروبيين ، وانهزام فلولهم عبر البحار ، فتطهرت بلاد العروبة والإسلام ومقدساتها من اقدام الجيوش الصليبية التي هبت أوروبا عن بكرة أبيها بملوكها ورهبانها وقوادها لتجهيزها ودفعها الى الشرق الإسلامي لإخضاعها وتخضيد شوكة دول الاسلام ، وإذهاب ريحها ، ومن ثم القضاء على تراث العروبة ومواريث «الضاد» المجيدة ، وقد شاء الله تعالى أن تذهب ريح جيوش الغزاة بنصره العزيز ، فانقلبت على أعقابها تجر ذيول الخيبة والخذلان وأضحى أكثرها نصيب الحيتان والعقبان ، بفضل جهاد أهل العقيدة والإيمان من حماة رسالة القرآن ، بيد أن أوروبا المنهزمة لم تنم عن ذحولها ، ولم تنس في يوم من الأيام ضحاياها وأحزانها ، فأخذت دولها وساستها وقساوستها يسلكون في ظلال السلم سبل الكيد والمكر ما أمكنهم الكيد والدهاء لحبك المؤامرات وتأسيس الجميعات الهدامة في الديار العربية والاسلامية باسم المدارس التعليمية والخدمات الانسانية ، وهي في الحقيقة مؤسسات تبشيرية في خدمة الاستعمار العقائدي والسياسي معا ، وفي فجر النهضة الصناعية في اوروبا أخذت معجزات العلم الحديث تزداد يوما بعد يوم ، فكثرت الاختراعات المدهشة ، وبذلك فقد اشتدت قوى الشر في اوروبا ، واستشرى كلب الاستعمار لأخذ الثأر التاريخي

٥

الذي سببته الحروب الصليبية ، أما الشرق الاسلامي فقد اصيب بداء الانقسام والتجزئة في سبيل الوصول الى العروش ودست الحكم وحب الامارة ، فخمدت في المجموعة الاسلامية جذوة الايمان الصحيح وحرارة العقيدة ، وخيم الجهل على ربوع الشرق ، وتعدد السلاطين والأمراء واستعذبوا الرقاد على أنغام وعاظهم المنافقين ، وقل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، فغط الرعاة والرعية في سبات عميق ازاء يقظة اوروبا وعجيج مخترعاتها المذهلة في البر والبحر وأرجاء الجو ، ولقاء نشاط جماعات الاستشراق والارساليات التبشيرية الاستعمارية ، وكان جل مهمتها زعزعة عقائد الشباب العربي الاسلامي ، وزرع الشكوك في عقيدتهم وتعاليم دينهم وفي معجزة الاسلام الخالدة القرآن الكريم.

وبتلك الأساليب السليمة تارة ، وتارة بالقوة والتهديد تمكنت الدول المسيحية الاستعمارية اجتياح الشرق الاسلامي ، وعادت الحرب الصليبية جذعة كما أفصحت قولة اللورد «اللنبي» حين دخل الشام ، فوقف على قبر صلاح الدين الأيوبي فقال مخاطبا له : «الآن انتهت الحرب الصليبية يا صلاح الدين» إلا أن الحرب الصليبية لم تقتصر هذه المرة على الميادين العسكرية وإنما استهدفت غزو العقول والأفكار والأرواح ، وهذا أخطر وسائل الفناء للأمم ومحوها من عالم الوجود وفي سبيل هذه الغايات الاستعمارية الفكرية قام دهاقين السياسة الغربية وأجمعوا أمرهم على عقد المعاهدات السرية ، والأحلاف المقدسة لتقسيم الأقاليم الاسلامية وتجزئة البلاد العربية ، وإلى جانب ذلك قاموا بتنظيم قوافل المبشرين لتمهد للحرب الصليبية الحديثة إفساد العقول والقلوب ، وتشويه عقيدة الاسلام أو سلبها من صدور الشباب والشواب كما قال أحد المستشرقين الفرنسيين في إحدى مؤتمراتهم : «إننا إن أخفقنا في تنصير شباب المسلمين في المغرب فحسبنا زرع بذور الشكوك في عقيدتهم ، وإفساد قلوبهم نحو القرآن» ، وهكذا فعلت المدارس الأجنبية التبشيرية في ديار الشرق الاسلامي ، ونكتفي بهذه الاشارة لأن الخوض في هذا الموضوع خارج عن غرض هذه المقدمة ، وغاية قصدنا من هذا المدخل الوجيز هي الاشارة العابرة إلى العوامل والدوافع والحوافز التي حفزت كبار المصلحين المسلمين في فجر يقظة الشرق والنهضة

٦

الاصلاحية التي عملت لإيقاظ الرقود في الشرق ، وتجديد رسالة الاسلام والذود عن حياضها وإحياء فلسفة القرآن المتطورة على كر العصور ، وتعاقب الدهور ، فهي لا شرقية ولا غربية ، بل جامعة بين الروحانية والمادية ، كما يفرضه قانون الحياة وسنة الوجود الانساني ، ونواميس الكون ، لهذا سمي الاسلام دين الفطرة ، أي دين الانسانية ، فهو يحارب المادية ويطاردها إذا هي تجردت من المعاني الروحية ، كما يتنكر للروحانية الصرفة إذا ما جانبت الجوانب المادية البريئة ، وفي القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ، وفي أقوال وتعاليم أهل البيت عليهم‌السلام كثير من الأمثلة والشواهد الرائعة الناطقة بهذه الحقيقة الكونية الأزلية ، ولا مجال لذكرها وسردها هنا.

كان في مقدمة الذين نذروا أنفسهم في صد التيارات التبشيرية ضد الاسلام ، دولة المصلح المجاهد الشجاع المرحوم فخر الشرق والاسلام السيد جمال الدين الافغاني وتلاميذه الاحرار ، وعلى رأسهم مفتي الديار المصرية العلامة الشهير الشيخ محمد عبده. ومن تخرج عليه من أفذاذ رجال العلم المفكرين كالسيد رشيد رضا والسيد عبد الرحمن الكواكبي وأضرابهما من الغيارى. ومن آثار السيد الافغاني في مكافحة الالحاد كتابه المشهور في الرد على الدهريين ، وتبعه تلميذه الشيخ محمد عبده في صد هجوم المستشرقون وحملاتهم على رسول الاسلام «ص» ، وشريعة القرآن في كتابه «الاسلام والرد على منتقديه» ، و «الاسلام والنصرانية» وغيرهما ، أما الكواكبي فحسبه كتابه القيم «طبائع الاستبداد» ، وكتابه «العروة الوثقى».

أما في ديار الرافدين فقد انفرد بالكفاح والنضال فقيد الشرق الامام الحجة نصير الاسلام الشيخ محمد الجواد البلاغي ، فجرد قلمه البليغ ، وهو أقطع بحجته من الحسام في وجوه الملحدين والمبشرين المستشرقين في الشرق والغرب ، وقد تضمنت مؤلفاته الكثيرة القيمة جهاده الطويل المبارك في الذب عن حقائق الاسلام ، وفي مقدمتها كتابه «الهدى الى دين المصطفى» وهو هذا الكتاب ، وكتابه «الرحلة المدرسية» و «أنوار الهدى» و «نصائح الهدى» وغيرها مما سيأتي تفصيلها.

* * *

٧

الإمام البلاغي وملامح شخصيته ومقوماتها :

هو غصن كريم من الدوحة «البلاغية» الباسقة في سماء الفضل والشرف وعلم أعلامها وشهاب فضلائها وأبدالها ، بل كوكب دراريها الثاقبة الساطعة في دياجير الأزمات الشديدة الحلكات ، وظلمات المعظلات المدلهمات ، فأسرته من أعرق الاسر العراقية ، وقبيلته ربيعة (١) خير القبائل العربية في جاهليتها وإسلامها ، وبيته من أرفع بيوت العلم والدين والأدب ، فهو عربي أصيل ، وفي الذؤابة من تغلب الغلباء ، نزارى العمومة ، هاشمي الخئولة ، خالص المعدن في نسبه وحسبه ، فنشأ في حجر الفضيلة وترعرع وفطم على حب المكارم والشناشن العربية الأصيلة ، وتربى على اسس التربية الاسلامية الرفيعة ، وقد التزم بمحاسنها ومثلها العليا ، فكان مثال العربي الصميم الصريح ونموذج المسلم القرآني المثالي الصحيح الايمان الصادق العقيدة الكامل الانسانية بمعناها الواسع ، فان أحب شيء لنفسه فعل الخير والسعي في سبيله ، وأبغض الأشياء عنده بل أنكر المنكرات ، سطوات الشر والأشرار في المجتمع الانساني ، فكان رحمه‌الله تعالى داعي دعاة الفضيلة ومؤسس المدرسة السيارة للهداية والارشاد وتنوير الأفكار بأصول العلم والحكمة وفلسفة الوجود ، فقد افطمت جوانحه على معارف جمة ، ووسع صدره كنوزا من ثمرات الثقافة الإسلامية العالية والتربية الغالية ، وقد نهل وعب من مشارع المعرفة والحكمة الصافية حتى أصبح ملاذ الحائرين الذين استهوتهم أهواء المنحرفين عن المحجة البيضاء ، وخدعتهم ضلالات الدهريين والماديين ، كما كان الملجأ الأمين لمن رام من المستشرقين الاطمئنان بإزاحة الحجب عن وجه الحقيقة والحق ، وللوصول الى ساحل اليقين كالمستشرق «المستر خالد شردراك» وأمثاله من أعلام الغرب الذين يهمهم كشف المخبأ من أسرار المعارف المحمدية والحكمة المشرقية ، حيث آنسوا فيه ندرة المواهب العقلية والملكات النفسية القوية والطاقات الفكرية العجيبة ، وينابيعه الثرة العذبة المتفجرة من قلبه الكبير المتدفقة على لسانه الجارية على قلمه السيال.

* * *

__________________

(١) وإليها ينتهي نسب «الكاتب».

٨

ومن ملامحه ومخائله الدالة على كماله النفسي هي فطرته السليمة وسلامة سلوكه الخلقي والاجتماعي ، وحدة ذكائه وقوة فطنته ، وعفة نفسه ورفعة تواضعه ، وصون لسانه عن الفضول ، ولين عريكته ، ورقة حاشيته وخفة روحه وأدبه الجم ، وعذوبة منطقه ، وفيض يده على عسره وشظف عيشه فهذه السجايا والخصال هي أهم صفاته الكمالية ، وقد ورثها ـ بحكم قانون الوراثة ـ عن آباء آبائه البلاغيين البهاليل الكرام.

ومن مقومات شخصيته العلمية وملكته الفلسفية والأدبية كثرة ملازمته لأساطين الفنون العربية وأئمة الفقه الإسلامي وجهابذة الفلسفة والكلام ، هؤلاء الفحول الذين كانت تحتضنهم مدينة «باب مدينة العلم» النجف الأشرف وهي أعظم جامعة إسلامية لشتى الفنون والعلوم القديمة ، أما العلوم المتنوعة الحديثة فقد درسها على نفسه بالإضافة إلى اللغة الفارسية والانجليزية والعبرية ومن أشهر شيوخه الذين ارتشف ونهل من نميرهم الصافي هم حجج الاسلام الشيخ محمد طه نجف ، والحاج آغا رضا الهمداني ، والاستاذ الأكبر الشيخ محمد كاظم الخراساني ، والميرزا محمد تقي الشيرازي القائد الروحي للثورة العراقية الكبرى سنة ١٩٢٠ م ، وبعد أن ارتوى من تلك الينابيع الفياضة والمناهل العذاب نضجت مواهبه وملكته الاجتهادية ، فاستولى على زمام الاجتهاد والاستنباط وصار إماما مجتهدا بجدارة واستحقاق ومجاهدا مضحيا بالنفس والنفيس في خدمة الحق وأبطال الأباطيل ورفع راية الاسلام ، حتى أضحت داره كعبة القصاد ومدرسة النبهاء والفهماء ، إذ امتازت بطابعها الخاص وهو فن المناظرة والجدل ، ودراسة قواعد الدفاع وطرق النضال العلمية والفلسفية والأدبية في حومات المعارك الفكرية ، كما كانت مدارس الاعتزال في العصر العباسي ازاء أصحاب الأديان والمعتقدات المتطرفة وأهل الآراء والمذاهب المخالفة لمذهب الاعتزال ، وكانت مجاهدة الامام البلاغي والمصابرة عليها ومصاولاته الفكرية المجهدة في رد اعتراضات الملحدين ، وطعون أهل الأهواء أمثال جرجيس صال الانكليزي ، وصاحب كتاب «الهداية» المتكلف الضال مما ساعد على اشتهار الامام البلاغي وذيوع صيته في الشرق والغرب ، حتى اصبحت مدرسته مناخ العقليين الهائمين وراء الحقائق ، وداره المتواضعة محط

٩

المسترشدين المتبصرين من أرجاء الدنيا ، بل علماء المعاهد الفلسفية ، وأساتذة الجامعات الكبرى العلمية.

جهاده وآثاره الخالدة :

ان المتتبع لسيرة عظماء الامم وزعماء الشعوب وعباقرة الأقوام يجد أن سر خلودهم كامن في عمق إيمانهم وقوة إرادتهم الحديدية ، وفي صدق إخلاصهم وشدة الصبر والمصابرة على مرارة الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق وإذلال سلطان الباطل أو في سبيل الكفاح والنضال لاحياء المثل الاخلاقية الصحيحة وتجديد العقائد السليمة ، والتراث التاريخي العتيد الذي هو مصدر مفاخر الامم ، ومحفزها إلى الارتقاء والتقدم ، وهكذا يعمل قادة الفكر وأئمة الاصلاح في كل وسط ومجتمع سواء منهم صاحب السيف أو القلم أو رب السيف والقلم معا ، أو الفيلسوف الحكيم والعالم الرباني العامل لنصرة العقيدة الحقة وإنقاذ المجتمع من الظلمات إلى النور ، فهؤلاء القادة البررة قد خلقوا لأداء رسالة الاصلاح كلما تردت المجتمعات البشرية وانطمست معالم الخير فيها ، وشاعت شرور الالحاد في صفوف أفرادها.

والمتدبر لسيرة الامام البلاغي «رضوان الله عليه» منذ رفعت عنه تمائمه حتى لحوقه بالرفيق الأعلى ، يجدها قد حفلت بألوان عجيبة باهرة بالاعمال المجيدة والمساعي الحميدة لرفع لواء الاصلاح ومنار العلم ، وتجديد صرح المعرفة وكشف الحجب التي أسدلتها يد الجهالة المظلمة في عهود الانحطاط على جواهر حقائق الاسلام وقيامه بالدفاع المشكور عن محاسن ويسر الحنيفية السمحة فإنه انعكف منذ عرف نفسه على الكتاب والدرس والاختلاف الى دور العلم ومجالس العلماء ، وندوات الصلحاء حتى إذا استد ساعده (١) ، ونضجت مداركه وتوسعت معارفه ، وشاع فضله وفواضله في أوساط الفضيلة والفضلاء وأندية العلم والعلماء ، اتجه بكليته مستضيئا بنور عقله الوهاج ، وفكره النير المتوقد ، وبقوة إيمانه وصدق إخلاصه ، ومن ثم بغزارة معارفه وآدابه ، وجولات قلمه ـ البلاغي ـ البارع إلى تخليد الغرر والدرر في بطون شتى الرسائل والكتب ، وهو

__________________

(١) استد بالسين لا بالشين ، ويخطأ من يلفظها بالشين.

١٠

من أجل قيامه بأداء رسالته وشغفه بشرف الجهاد في سبيلها قد آثر الانزواء عن الناس لا يغادر غرفته ومكتبته اللهم إلا في أوقات الصلاة وزيارة الحرم المقدس ، وفي خروجه للسوق لتموين عائلته بالغذاء اليومي ، وكان يحمله إليهم بنفسه ويعتذر لمن يروم مساعدته بحمله عنه فيقول له : «رب العيال أولى بعياله» ، أما ما سوى ذلك فلا تجده يبرح غرفته تحيط به كتبه التي يرجع إليها في تحقيقاته الفقهية والأصولية والكلامية ، أو في تعقيبه وتعليقه على كتاب أو على رأي من الآراء العلمية والفلسفية الحديثة ، فتراه دائما مكبا ممعنا نظره في تحرير الأجوبة على المسائل العويصة والمشاكل المعضلة التي ترده من أنحاء العراق والأقطار البعيدة ، أو تراه منهمكا في التأليف أو في شرح الأبحاث العقائدية أو في تفسير آي القرآن الحكيم ، وأسعد ساعاته هي التي يشغلها في المناقشة والمحاورة مع طلابه فيما يدق ويغمض عليهم من دقائق الموضوعات المنطقية والكلامية والفقهية ، والفنون العربية وغيرها من أبواب المعرفة ومن محصول هذه العزلة والانزواء قد زود المكتبة العربية والغربية بآثاره الجليلة القيمة ، وسيأتي ذكر المطبوع وغير المطبوع منها قريبا ، وقد تتجلى للقارىء عظمة جهاده واجتهاده واتساع ثقافته ، والمعاصرة الفكرية الجبارة التي عاشها وسط تلك الزعازع والأعاصير والتيارات التي هبت على المشرق الإسلامي من قبل شيوخ الزندقة والإلحاد وأصحاب البدع والأهواء المردية ، وتلك العظمة تنبئنا عنها كتبه.

١ ـ الرحلة المدرسية أو المدرسة السيارة.

٢ ـ التوحيد والتثليث.

٣ ـ البلاغ المبين.

٤ ـ أنوار الهدى.

٥ ـ نصائح الهدى.

٦ ـ الهدى إلى دين المصطفى ، وهو هذا ، وسنخصه بالقول لأهمية موضوعاته ومضامينه ، فأما الرحلة المدرسية فقد دلت على خياله الواسع الوثاب وتفكيره العميق وذوقه العالي وأسلوبه الروائي الحديث المبتكر ، وقد دارت

١١

بحوثه ومحاوراته على لسان جماعة من ذوي النزاعة والرجاحة لتمحيص الحقائق وتنزيه العقائد من خلال الرسالات السماوية وتطورها التاريخي وبخاصة منذ عهد التوراة والزبور والإنجيل والقرآن العظيم ، وهو خاتمة الرسالات لهداية البشر إلى فكرة التوحيد الخالص بعد أن اجتازت البشرية عبادة الأحجار والاشجار والحيوانات والكواكب والآباء والامهات الى غير ذلك من صنوف العبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان. وإنما كانت من أثر الطفولة العقلية ، وقد حرر الإمام البلاغي «رضي الله عنه» هذه الفصول الفلسفية العقائدية الدقيقة بقلم العالم النحرير المتمكن دون تحيز وتعصب وتحامل على أهل الأديان والمذاهب المخالفة وبلغة سهلة واضحة يفهمها حتى سقيم الفهم وختمها بخلاصة مهمة في إثبات ان دين الإسلام هو دين الفطرة وشريعة الإنسانية مهما تقدمت الحياة وارتقت البشرية أو تطور العلم وتجددت المذاهب الفلسفية واختلفت الأجناس ، ولا قوة للمبادىء المادية الإلحادية المظلمة على إطفاء نور الاسلام الساطع الباهر وفي تعاليم الحنيفية سر سعادة الانسانية المعذبة ، هذه هي الخطوط الأساسية لكتاب الرحلة المدرسية ، ونظرا لقيمتها العقائدية الفلسفية ومباحثها الكلامية الاسلامية وتبسيط علل خلق الكائنات ، وعجائب المخلوقات ، من أجل ذلك اهتم بها الباحثون فترجمت لأكثر من لغة واحدة.

* * *

وهكذا تضمنت مؤلفاته التي أشرنا إليها آنفا وهي «التوحيد والتثليث» و «أنوار الهدى» و «البلاغ المبين» فانها قد عالجت فكرة التوحيد وإبطال عقيدة الثالوث ، وتفنيد آراء الماديين والدهريين وسائر مقالات الطبيعيين ، ورد حملات الحاقدين المغرضين واعتراضاتهم الفاسدة ، وقام بتلك المجالدة والمجادلة القلمية بأسلوبه اللين الهين مراعيا القاعدة المعروفة «مناظرك نظيرك» مع الأدب الجم ، والخلق الرفيع.

أما كتابه «نصائح الهدى» «ورسالته إلى من كان مسلما فصار بابيا» فكل منهما قام على الدليل القاطع والحجة الدامغة ، والحجاج المفحم المسكت ، في تسفيه أحلام أصحاب الدعوة البابية والبهائية بالمعقول والمنقول ، وتزييف

١٢

عقيدتهم وإشهار زيفهم ، ومن ثم بتسديد الحراب إلى صدر البهاء والباب ، وتلك الحراب هي البراهين الوضاءة التي أقامها «رح» على هدم دعوتهم وإبطال مزاعمهم ومفترياتهم وأوهامهم التي سطر دعاة الضلالة المانوية أسطارها في «الأقدس» و «البيان» و «الألواح» (١) وغيرها من فنون هذيان المجان واخلاط ابن ديصان المجوسي وأضرابه من شيوخ الزندقة الذين كانوا وما زالوا يتلونون كالحرباء في كل عصر ومصر بألوان براقة خداعة وبشعار جديد يتبطن الاباحية والكفر والالحاد كالحركة القرمطية بالأمس والشيوعية اليوم والغرض المشترك لتلك الحركات الهدامة هي القضاء على معالم العروبة والاسلام.

* * *

ومن آثار جهاد الامام البلاغي إثارة الرأي العام ضد البهائية في الكرخ وإقامة الدعوى في المحاكم لمنع تصرفهم في الملك الذي استملوا عليه واتخذوه كعبة لهم ، وباصطلاحهم ـ حظيرة ـ لاقامة شعائر الطاغوت ، وقضت المحاكم بنزعه منهم ، واتخذ مسجدا إسلاميا تقام فيه الصلوات الخمس والمآتم الحسينية في ذكرى الطف والبطولات الرائعة.

وقد طبع من آثاره القلمية القيمة الخالدة :

١ ـ الهدى الى دين المصطفى ، وهو هذا الكتاب.

٢ ـ الرحلة المدرسية أو المدرسة السيارة.

٣ ـ أنوار الهدى.

٤ ـ نصائح الهدى.

٥ ـ رسالة التوحيد.

٦ ـ أعاجيب الأكاذيب.

٧ ـ البلاغ المبين في الالهيات.

__________________

(١) هذه الكتب أهم كتب البهائية الضالة المضللة.

١٣

٨ ـ أجوبة المسائل البغدادية في اصول الدين.

٩ ـ الرسالة الاولى في نقض فتوى الوهابيين بهدم القبور المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

١٠ ـ الرسالة الثانية في تفنيد فتواهم أيضا.

١١ ـ رسالة في وضوء الامامية وصلاتهم وصومهم ، طبعت بالانجليزية.

١٢ ـ العقود المفصلة في المسائل المشكلة.

١٣ ـ تعليقة على مباحث البيع من مكاسب شيخ المجتهدين الامام الانصاري.

١٤ ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن ، طبع منه الجزء الأول والثاني وهو آخر مؤلفاته.

١٥ ـ رسالة في التفسير المنسوب إلى الامام الحسن العسكري عليه‌السلام.

١٦ ـ رسالة في الاستدلال على صحة مذهب الامامية عن طريق غيرهم.

١٧ ـ رسالة نسمات الهدى.

١٨ ـ رسالة في البداء.

أما المخطوطات منها :

١ ـ داعي الاسلام وداعي النصارى.

٢ ـ رسالة في الرد على كتاب تعاليم العلماء.

٣ ـ كتاب المصابيح في إبطال مذهب القاديانية.

٤ ـ كتاب الشهاب في الرد على كتاب حياة المسيح «ص».

٥ ـ رسالة الرد على كتاب ينابيع الكلام لبعض المسيحيين.

٦ ـ أجوبة المسائل التبريزية في الطلاق وتعدد الزوجات والحجاب وبعض

١٤

المسائل الاخرى.

٧ ـ في الأصل العربي ، وقد طبعت بالانجليزية «وضوء الامامية وصلاتهم».

٨ ـ رسالة في القبلة وتعيين مواقع بعض البلدان المهمة في العالم من مكة المكرمة.

٩ ـ رسالة في مواقيت الاحرام.

١٠ ـ رسالة في ذبائح أهل الكتاب.

١١ ـ رسالة في المتمم كرا.

١٢ ـ رسالة في الغسالة.

١٣ ـ رسالة في حرمة مس المصحف الشريف على المحدث.

١٤ ـ تعليقة على كتاب الشفعة من كتاب «الجواهر».

١٥ ـ رسالة في منجزات المريض.

١٦ ـ رسالة في إقرار المريض.

١٧ ـ رسالة في الرضاع.

١٨ ـ رسالة في فروع الرضاع.

١٩ ـ رسالة في قاعدة على اليد ما اخذت.

٢٠ ـ رسالة في إبطال العول والتعصيب.

٢١ ـ رسالة في التقليد.

٢٢ ـ رسالة في الأوامر.

٢٣ ـ رسالة في الخيارات.

٢٤ ـ رسالة في صلاة الجمعة لمن سافر بعد الزوال.

٢٥ ـ رسالة في تنجيس المتنجس إذا لوقي برطوبة.

١٥

٢٦ ـ رسالة في اللباس المشكوك.

٢٧ ـ رسالة في حالة العلم الاجمالي مع الاصول والنظر في جملة فروعه.

٢٨ ـ رسالة في حرمة حلق اللحية.

٢٩ ـ رسالة في ان من يدين بدين يلزم بمقتضى نحلته في مقام الحقوق.

٣٠ ـ تعليقة على العروة الوثقى.

هذا التراث الضخم من آثاره القلمية ، وثمراته الفكرية ، يقول فيه الاستاذ الشاعر الفحل السيد محمود الحبوبي مخاطبا المؤلف في رثائه :

دأبت بنشر ما سميت كتبا

ودين الله سماها دروعا

* * *

في هذه القصيدة وصف الشاعر قلم الإمام البلاغي وقد أجاد فقال :

فتى القلم الذي إن صرّ ألقى

صليل المشرفي له الخضوعا

وان تحمله مختضبا مدادا

فما ذا السيف مختضبا نجيعا

وان رضع الدواة ترى شيو

خ الضلالة تتقي ذاك الرضيعا

وقد جاراه في هذه الحلبة الشاعر الفصيح الاستاذ صالح الجعفري فقال :

لا يفعل السيف مكسور القراب كما

قد كان يفعل إذ تستله القلم

أدبه :

كان «رضوان الله عليه» من فحول الشعراء ، وإن اشتهر بمؤلفاته العلمية والفلسفية ، غير ان الفضلاء من كبار الأدباء والشعراء يقرءون له بمكانته الأدبية ، وشاعريته المطبوعة ، فهو شاعر محسن مجيد ، تزخر أشعاره بالعواطف الوجدانية ، والمشاعر الإنسانية والتأملات الروحية ، وأكثر شعره كان في أهل البيت عليهم‌السلام ، أو في تهنئة خليل أو رثاء عالم جليل أو في حالة الحنين إلى الاخلاء يحتمه عليه واجب الوفاء ، واما ان تهزه دواعي الدفاع عن رأي علمي ، أو شرح فكرة فلسفية بطريق المعارضة الشعرية ، كما في قصيدته

١٦

العينية التي عارض فيها قصيدة الرئيس ابن سينا في النفس ، ولم يكن «رحمه‌الله» بالشاعر الفصال (١) ، ، ولم يكن من الفقهاء المتزمتين الذين يتنكرون للشعر ونظمه ، ويرونه مزريا بالعلماء ، بل كان كثير الاحترام للشعراء المناضلين في سبيل الفضيلة الأخلاقية ونصرة المثل الإسلامية المثلى ووسيلة إذاعة فضائل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام والاشادة بمحاسنهم ، بيد أنه بالرغم من سلاسة شعره ، وإشراق ديباجته ، ورصانة تركيبه وفصاحة ألفاظه ، ولطافة معانيه ، وحلاوة أسلوبه وطلاوته ، فإنه لا يزاحم من حيث القوة الشاعرية المبدعة التي امتازت بها الطبقة الاولى من فحول شعراء عصره كالسيد ابراهيم الطباطبائي والسيد موسى الطالقاني والسيد المجاهد العلامة الكبير والشاعر الشهير السيد محمد سعيد الحبوبي والشاعر الرقيق السيد جعفر الحلي وشاعر الرثاء والحماسة المخترع السيد حيدر الحلي «عليهم رحمات الرحمن».

ومن شعر الامام البلاغي الذي سارت به الركبان ، قصيدته التي نظمها في الرد على قصيدة أحد علماء بغداد المنكرين لوجود الامام الثاني عشر المنتظر وغيبته عليه‌السلام ومطلعها :

أيا علماء العصر يا من لهم خبر

بكل دقيق حار في نعته الفكر

فأجابه الشيخ الجليل البلاغي «رضي الله عنه» بقصيدة طويلة بلغت مائة وتسعة أبيات ، وهي من عيون شعره ، ومستهلها :

أطعت الهوى فيهم فعاصاني الصبر

فها أنا ما لي فيه نهي ولا أمر

ومنها :

أروح وقلبي للواعج والجوى

مباح وأجفاني عليها الكرى حجر

وفي أواخرها يقول :

وقد جاء في الآثار عن كل واحد

أحاديث يعيي عن تواترها الحصر

تعرفنا ابن العسكري وانه

هو القائم المهدي والواتر الوتر

__________________

(١) الشاعر الفصال : الذي يتكسب بشعره.

١٧

ومن قصيدته العينية التي عارض فيها عينية الرئيس ابن سينا في النفس ومطلعها :

نعمت بأن جاءت بخلق المبدع

ثم السعادة أن يقول لها «ارجعي»

خلقت لأنفع غاية يا ليتها

تبعت سبيل الرشد نحو الأنفع

الله سواها فألهمها فهل

تنحو السبيل إلى المحل الأرفع

ومنها :

فخذي هداك فتلك أعلام الهدى

زهر سواطع في الطريق المهيع

وتروحي بشذى الطريق واملي

عقبى سراك إلى الجناب الممرع

إلى آخرها وهي طويلة وذات معاني فلسفية عالية.

* * *

وقصيدته في ثامن شوال من سنة ١٣٤٤ ه‍ ، وهو اليوم الذي هدمت فيه قبور أئمة الهدى الأطهار عليهم‌السلام في البقيع ، ومطلعها :

دهاك ثامن شوال بما دهما

فحق للعين إهمال الدموع دما

ومنها :

يوم البقيع لقد جلت مصيبته

وشاركت في شجاها كربلاء عظما

وقوله من قصيدة غزلية :

مدت إلى رمل الحمى أعناقها

طلائع قد شاقني ما شاقها

تزف زفاف الظليم نافرا

حيث الغرام قادها وساقها

وله «رحمه‌الله» مراسلات اخوانية ، ومناظرات علمية ، ومراجعات شعرية مع العلامة البحاثة خالد الذكر السيد محسن الأمين العاملي «رضي الله عنه» قد بسطها في موسوعته الجليلة الموسوعة ب «أعيان الشيعة» وفي الجزء السابع عشر منها من ص ٦٧ إلى ص ١٠٢ ، وفي ديوانه «الرحيق المختوم» ، وقد دلت تلك المراجعات على غزارة علم وأدب وعمق تفكير وسعة اطلاع ،

١٨

وقد جمع سيدنا العاملي في موسوعته ورحيقه أشعار البلاغي الرائقة ومختلف فنونه المختارة الفائقة «فراجعها».

وكان من لدات الامام وخلصائه المجاهد العلامة الكبير والشاعر النابغة السيد محمد سعيد الحبوبي ، وبعد وفاته رثاه الحجة بقصيدة دامعة ، ومطلعها :

شاقك البرق فأسرعت سباقا

وتركت الصب يلتاع اشتياقا

نكتفي بهذه النماذج البلاغية الدالة على سائر روائعه وبدائعه.

* * *

ميلاده ، ووفاته ، وما قيل في رثائه :

اختلف في ولادته ، فذهب سيدنا أبو الحسن المحسن الأمين العاملي «رضي الله عنه» ، انه ولد في سنة ١٢٨٥ ه‍ ، وتبعه بعض المترجمين له ومنهم من ذهب انه ولد في سنة ١٢٨٠ ه‍ ، أما علامتنا الحجة الخريت الشيخ آغا بزرك «أدام الله وجوده» فقد عين تاريخ ولادته في سنة ١٢٨٢ ه‍ وهذا هو القول الراجح عندي ، لأنه من المتفق عليه ان الامام البلاغي قد توفي وعمره (٧٠) سنة ، أما تاريخ وفاته فكان في عام ١٣٥٢ ه‍ ، وفي يوم ٢٢ شعبان من تلك السنة ، وقد أجمع المترجمون له على ذلك ، وكان قد ابتلى بداء السل ولكن الذي قضي عليه هو مرض ذات الجنب ، وما أن نعاه النعاة حتى ارتجت مدينة النجف الأشرف فألقت بأفلاذها ، وقذفت بسكانها على اختلاف طبقاتهم وهم يندبون فقيد الاسلام ، ونابغة الشرق ، وقد اهتزت لفقده محافل الشرق وأندية الغرب ، وبكته محاريبه وصلواته وأقلامه ودفاتره ومؤلفاته وسار في تشييع جثمانه آلاف من الجماهير يتقدمهم عظماء المجتهدين وأساطين العلم والأدب ، وأقيمت له الفواتح والمآتم وحفلات التأبين في أنحاء الرافدين وأرجاء بلاد «الضاد» وديار الاسلام ، وذكرته الجميعات العلمية الغربية بالتمجيد والتقدير ، وأثنت على خدماته الجلي وجهوده الجبارة في نصرة الفضيلة ، والدفاع عن عقيدته بما اوتي من الحكمة وفصل الخطاب ، ورثاه أكابر العلماء والادباء بعيون الشعر الحزين الدامع وفي طليعتهم خاله الأجل العلامة الفهامة سيد شعراء عصره

١٩

سيدنا وصديقنا المرحوم السيد رضا الهندي في قصيدته البليغة الرائعة ، ومستهلها :

إن تمسى في ظلم اللحود موسدا

فلقد أضأت بهن «أنوار الهدى»

ولئن يفاجئك الردى فلطالما

حاولت إنقاذ العباد من الردى

ومنها :

قد كنت أهوى انني لك سابق

هيهات قد سبق «الجواد» إلى المدى

فليندب «التوحيد» يوم مماته

سيفا على «التثليث» كان مجردا

وليبك دين محمد لمجاهد

أشجت رزيته النبي محمدا

وليجر أدمعه اليراع لكاتب

أجراه في جفن الهداية مرودا

ومنها :

أأخي كم نثرت يداك من «الهدى»

بذرا فطب نفسا فزرعك أحصدا

إلى آخرها وهي طويلة وكلها من هذا النمط العالي.

ورثاه العالم الأديب المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر في قصيدة مطلعها :

يا طرف جد بسواد العين أو فذر

ما ذا انتفاعك بعد الشمس بالنظر

ومنها :

قد كان كالبدر في ليل الشتا ومضى

كالشمس معروفة بالعين والأثر

وفي رثائه قال العلامة المفضال السيد مسلم الحلي قصيدة منها هذا البيت :

اني أرى الموت الزؤام ممثلا

للناس فعل الصيرف النقاد

وقال أحد معارفيه :

في ذمة الله نفس بالجهاد قضت

فكان آخر شيء فارقت قلم

وممن رثاه العالم الجليل الشيخ محمد تقي الفقيه ، أحد علماء جبل عامل بمرثية مختارة ، منها :

٢٠