المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

أبي محمّد عبدالحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسي

المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٤

المؤلف:

أبي محمّد عبدالحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسي


المحقق: عبدالسلام عبدالشافي محمّد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨١

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة مريم

هذه السورة مكية بإجماع إلا السجدة منها فقالت فرقة هي مكية وقالت فرقة هي مدنية.

قوله عزوجل :

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦)

اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور على قولين فقالت فرقة : هو سر الله في القرآن لا ينبغي أن يعرض له ، يؤمن بظاهره ويترك باطنه. وقال الجمهور بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب معانيها فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالا على كلمة وليس في كتاب الله ما لا يفهم ، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة ، ونذكر الآن ما يختص بهذه السورة. قال ابن عباس وابن جبير والضحاك هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله تعالى الكاف من «كبير» ، وقال ابن جبير أيضا الكاف من «كاف» ، وقال أيضا هي من «كريم» فمقتضى أقواله أنها دالة على كل اسم فيه كاف من أسمائه تعالى. قالوا والهاء من «هاد» ، والياء من «علي» وقيل من «حكيم» ، وقال الربيع بن أنس هي من «يأمن» لا يجير ولا يجار عليه. قال ابن عباس والعين من «عزيز» وقيل من «عليم» وقيل من «عدل» ، والصاد من «صادق» وقال قتادة بل (كهيعص) بجملته اسم للسورة ، وقالت فرقة بل هي اسم من أسماء الله تعالى. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول يا (كهيعص) اغفر لي ، فهذا يحتمل أن تكون الجملة من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يريد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينادي الله تعالى بجميع الأسماء التي تضمنها (كهيعص) ، كأنه أراد أن يقول «يا كريم يا هادي يا علي يا عزيز يا صادق» اغفر ، فجمع هذا كله باختصار في قوله يا (كهيعص). وقال ابن المستنير وغيره (كهيعص) عبارة عن حروف المعجم ، ونسبه الزجاج إلى أكثر أهل اللغة ، أي هذه الحروف منها (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) وعلى هذا يتركب قول من يقول ارتفع (ذِكْرُ) بأنه خبر عن (كهيعص) ، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون. وقرأ الجميع كاف بإثبات الألف والفاء. وقرأ نافع الهاء والياء وبين الكسر والفتح ولا يدغم الدال

٣

في الذال ، وقرأ ابن كثير ونافع أيضا بفتح الهاء والياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضم الهاء وفتح الياء ، وروي عنه ضم الياء ، وروي عنه أنه قرأ كاف بضم الفاء.

قال أبو عمرو الداني : معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب ، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وقرأ عاصم بكسرها ، وقرأت فرقة بإظهار النون من عين وهي قراءة حفص عن عاصم وهو القياس إذ هي حروف منفصلة ، وقرأ الجميع غيره بإخفاء النون جعلوها في حكم الاتصال ، وقرأ الأكثر بإظهار الدال من صاد ، وقرأ أبو عمرو بإدغامه في الذال من قوله (ذِكْرُ) ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بإظهار هذه الحروف كلها وتخليص بعضها من بعض. وارتفع قوله (ذِكْرُ) فيما قالت فرقة بقوله (كهيعص) وقد تقدم وجه ذلك ، وقالت فرقة : ارتفع على خبر ابتداء تقديره «هذا ذكر» ، وقالت فرقة : ارتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره فيما أوحي إليك ذكر ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن يعمر «ذكر رحمة ربك» بفتح الذال والكاف والراء على معنى هذا المتلو ذكر «رحمة» بالنصب ، هذه حكاية أبي الفتح. وحكى أبو عمرو الداني عن ابن يعمر أنه قرأ «ذكّر رحمة» بفتح الذال وكسر الكاف المشددة ونصب الرحمة و «عبده» نصب ب «الرحمة» التقدير ذكر أن رحم ربك عبده» ، ومن قال في الكلام تقديم وتأخير فقد تعسف. وقرأ الجمهور «زكرياء» بالمد ، وقرأ الأعمش ويحيى وطلحة «زكريا» بالقصر وهما لغتان وفيه لغات غيرهما. وقوله (نادى) معناه بالدعاء والرغبة. واختلف في معنى «إخفائه» هذا النداء ، فقال ابن جريج ذلك لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء ، ومنه قول النبي عليه‌السلام «خير الذكر الخفي» وقال غيره يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الأعمال التي يزكو بها البشر. وفي «الدعاء» الذي هو في معنى العفو والمغفرة لأنه يدل من الإنسان على أنه خير فإخفاؤه أبعد من الرياء وأما دعاء (زَكَرِيَّا) وطلبه فكان في أمر دنياوي وهو طلب الولد فإنما إخفاؤه لئلا يلومه الناس في ذلك ، وليكون على أول أمره إن أجيب نال بغيته وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك ، ويقال وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل. و (وَهَنَ) معناه ضعف ، والوهن في الشخص أو الأمر الضعف وقرأ الأعمش «وهن» بكسر الهاء (وَاشْتَعَلَ) مستعارة للشيب من اشتعال النار على التشبيه به.

و (شَيْباً) نصب على المصدر في قول من رأى (اشْتَعَلَ) بمعنى شاب ، وعلى التمييز في قول من لا يرى ذلك بل رآه فعلا آخر ، فالأمر عنده كقولهم : تفقأت شحما وامتلأت غيظا. وقوله (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) شكر لله تعالى على سالف أياديه عنده معناه أي قد أحسنت إلي فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن يشفع آخره أوله. وقوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) الآية ، اختلف الناس في المعنى الذي من أجله خاف (الْمَوالِيَ) ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق من ذلك ، وروى قتادة والحسن عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «يرحم الله أخي زكرياء ما كان عليه ممن يرث ماله». وقالت فرقة إنما كان مواليه مهملين للدين ، فخاف بموته أن يضيع الدين ، فطلب (وَلِيًّا) يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج وفيه أنه لا يجوز أن يسأل «زكريا» من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وهذا يؤيد قول النبي عليه‌السلام «إنا

٤

معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة» ، ويوهنه ذكر «العاقر». والأكثر من المفسرين على أنه أراد وراثة المال ، ويحتمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنا معشر الأنبياء لا نورث» أن لا يريد به العموم بل على أنه غالب أمرهم فتأمله ، والأظهر الأليق «بزكريا» عليه‌السلام أن يريد وراثة العلم والدين فتكون الوراثة مستعارة ، ألا ترى أنه إنما طلب (وَلِيًّا) ، ولم يخصص ولدا فبلغه الله أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره : قوله (يَرِثُنِي) يريد المال ، وقوله (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) يريد العلم والنبوة. وقال السدي: رغب «زكريا» في الولد. و (خِفْتُ) من الخوف هي قراءة الجمهور وعليها هو هذا التفسير ، وقرأ عثمان بن عفان رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعلي بن الحسين وغيرهم «خفّت» بفتح الخاء والفاء وشدها وكسر التاء على إسناد الفعل إلى (الْمَوالِيَ) والمعنى على هذا انقطع أوليائي وماتوا ، وعلى هذه القراءة فإنما طلب (وَلِيًّا) يقول بالدين ، و (الْمَوالِيَ) بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب. وقوله (مِنْ وَرائِي) أي من بعدي في الزمن فهم الولاء على ما بيناه في سورة الكهف ، وقال أبو عبيدة في هذه الآية أي من بين يدي ومن أمامي وهذا قلة تحرير. وقرأ ابن كثير «من ورائي» بالمد والهمز وفتح الياء ، وقرأ أيضا ابن كثير «من وراي» بالياء المفتوحة مثل عصاي ، والباقون همزوا ومدوا وسكنوا الياء. و «العاقر» من النساء التي لا تلد من غير كبرة وكذلك العاقر من الرجال.

ومنه قول عامر بن الطفيل :

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا

جبانا فما عذري لدى كل محضر

و «زكريا» عليه‌السلام لما رأى من حاله إنما طلب (وَلِيًّا) ولم يصرح بولد لبعد ذلك عنده بسبب المرأة ، ثم وصف الولي بالصفة التي هي قصده وهو أن يكون وارثا. وقالت فرقة : بل طلب الولد ثم شرط أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد لكن يخترم فلا يتحصل منه الغرض المقصود. وقرأ الجمهور «ويرثني» برفع الفعلين على معنى الصفة للولي وقرأ أبو عمرو والكسائي «يرثني ويرث» بجزم الفعلين ، وهذا على مذهب سيبويه ليس هو جواب «هب» إنما تقديره «إن تهبه يرثني» ، والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا ، ويضعف الجزم أنه ليس كل موهوب يرث. وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما «يرثني وارث من آل يعقوب» ، قال أبو الفتح هذا هو التجريد ، التقدير : يرثني منه أو به وارث ، وقرأ مجاهد «يرثني ويرث» بنصب الفعلين ، وقرأت فرقة يرثني أو يرث من آل يعقوب» على التصغير. وقوله من (آلِ يَعْقُوبَ) يريد يرث منهم الحكمة والحبورة والعلم والنبوءة والميراث في هذه كلها استعارة و (رَضِيًّا) معناه مرضي فهو فعيل بمعنى مفعول.

قوله عزوجل :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ

٥

أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١)

المعنى قيل له بإثر دعائه (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) يولد لك (اسْمُهُ يَحْيى) وقرأ الجمهور «بشّرك» بفتح الباء وكسر الشين مشددة ، وقرأ أصحاب ابن مسعود «نبشرك» بسكون الباء وضم الشين ، قال قتادة : سمي (يَحْيى) لأن الله أحياه بالنبوءة والإيمان ، وقال بعضهم سمي بذلك لأن الله أحيا له الناس بالهدى. وقوله (سَمِيًّا) معناه في اللغة لم نجعل له مشاركا في هذا الاسم ، أي لم يتسم قبل ب (يَحْيى) وهذا قول قتادة وابن عباس وابن أسلم والسدي ، وقال مجاهد وغيره (سَمِيًّا) معناه مثلا ونظيرا وهذا كأنه من المساماة والسمو ، وفي هذا بعد لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى اللهم إلا أن يفضل في خاص بالسؤود والحصر. وقال ابن عباس معناه لم تلد العواقر مثله. وقول زكرياء (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) اختلف الناس فيه فقالت فرقة : إنما كان طلب الولي دون تخصيص ولد فلما بشر بالولد استفهم عن طريقه مع هذه الموانع منه ، وقالت فرقة : إنما كان طلب الولد وهو بحال يرجو الولد فيها بزواج غير العاقر أو تسرّ ، ولم تقع إجابته إلا بعد مدة طويلة صار فيها إلى حال من لا يولد له فحينئذ استفهم وأخبر عن نفسه ب (الْكِبَرِ) والعتو فيه. وقالت فرقة : بل طلب الولد فلما بشر به لحين الدعوة تفهم على جهة السؤال لا على جهة الشك كيف طريق الوصول إلى هذا وكيف نفذ القدر به؟ لا أنه بعد عنده هذا في قدرة الله. و «العتي» و «العسي» المبالغة في الكبر أو يبس العود أو شيب الرأس أو عقيدة ما ونحو هذا ، وقرأ حمزة والكسائي «عتيا» بكسر العين والباقون بضمها ، وقرأ ابن مسعود «عتيا» بفتح العين ، وحكى أبو حاتم أن ابن مسعود قرأ «عسيا» بضم العين وبالسين وحكاها الداني عن ابن عباس أيضا ، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : ما أدري أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الظهر والعصر ولا أدري أكان يقرأ (عِتِيًّا) أو «عسيا» بالسين. وحكى الطبري عن السدي أنه قال: نادى جبريل زكرياء إن الله يبشرك (بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) فلقيه الشيطان فقال له إن ذلك الصوت لم يكن لملك وإنما كان لشيطان فحينئذ قال زكرياء (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ، ليثبت أن ذلك من عند الله ، و «زكريا» هو من ذرية هارون عليه‌السلام ، وقال قتادة : جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة وقيل ابن سبعين وقال الزجاج : ابن خمس وستين فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له. وقوله (قالَ كَذلِكَ) قيل إن المعنى قال له الملك (كَذلِكَ) فليكن الوجود كما قيل لك (قالَ رَبُّكَ) خلق الغلام (عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، أي غير بدع فكما (خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) وأخرجتك من عدم إلى وجود كذلك أفعل الآن ، وقال الطبري : معنى قوله (كَذلِكَ) أي الأمران اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبرة هو (كَذلِكَ) ولكن (قالَ رَبُّكَ) قال القاضي والمعنى عندي قال الملك (كَذلِكَ) أي على هذه الحال (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ). وقرأ الجمهور «وقد خلقتك» ، وقرأ حمزة والكسائي «وقد خلقناك». وقوله (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي موجودا ، قال زكرياء (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) علامة أعرف بها صحة هذا وكونه من عندك. وروي أن زكرياء عليه‌السلام لما عرف ثم طلب الآية بعد ذلك عاقبة الله تعالى بأن أصابه بذلك السكوت عن كلام الناس ، وذلك وإن لم يكن عن مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب. ما روي عن ابن زيد أن

٦

زكرياء لما حملت زوجة منه يحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله ، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه ، ويحتمل على هذا أن يكون قوله (اجْعَلْ لِي آيَةً) معناه علامة أعرف بها أن الحمل قد وقع ، وبذلك فسر الزجاج. ومعنى قوله (سَوِيًّا) فيما قال الجمهور صحيحا من غير علة ولا خرس ، وقال ابن عباس أيضا ذلك عائد على «الليالي» أراد كاملات مستويات ، وقوله (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) المعنى أن الله تعالى أظهر الآية بأن خرج زكرياء من محرابه وهو موضع مصلاة ، و (الْمِحْرابِ) أرفع المواضع والمباني إذ هي تحارب من ناوأها ثم خص بهذا الاسم مبنى الصلاة ، وكانوا يتخذونها فيما ارتفع من الأرض ، واختلف الناس في اشتقاقه ، فقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات ، وقالت فرقة : هو مأخوذ من الحرب بفتح الراء كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا ، وفي اللفظ بعد هذا نظر. وقوله (فَأَوْحى) قال قتادة وابن منبه : كان ذلك بإشارة ، وقال مجاهد : بل بأن كتبه في التراب.

قال القاضي أبو محمد : وكلا الوجهين وحي. وقوله (أَنْ سَبِّحُوا) ، (أَنْ) مفسرة بمعنى «أي» ، و (سَبِّحُوا) قال قتادة : معناه صلوا ، والسبحة الصلاة ، وقالت فرقة : بل أمرهم بذكر الله وقول سبحان الله. وقرأ طلحة «أن سبحوه» بضمير ، وباقي الآية بين ويقال «وحي وأوحى» بمعنى واحد.

قوله عزوجل :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥)

المعنى فولد له وقال الله تعالى للمولود (يا يَحْيى) ، وهذا اختصار ما يدل الكلام عليه. و (الْكِتابَ) التوراة بلا اختلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل موجودا عند الناس. وقوله (بِقُوَّةٍ) أي العلم به والحفظ له والعمل به والالتزام للوازمه ثم أخبر الله تعالى فقال (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، واختلف في (الْحُكْمَ) ، فقالت فرقة الأحكام والمعرفة بها ، و (صَبِيًّا) يريد شابا لم يبلغ حد الكهول. وقال الحسن (الْحُكْمَ) النبوءة ، وفي لفظة صبي على هذا تجوز واستصحاب حال ، وقالت فرقة (الْحُكْمَ) الحكمة ، وروى معمر في ذلك أن الصبيان دعوه وهو طفل إلى اللعب فقال إني لم أخلق للعب فتلك الحكمة التي آتاه الله عزوجل وهو صبي أهم لذاته اللعب. وقال ابن عباس : من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم فهو ممن «أوتي الحكم صبيا» ، وقوله (وَحَناناً) عطف على قوله (الْحُكْمَ وَزَكاةً) عطف عليه ، أعمل في جميع ذلك (آتَيْناهُ) ، ويجوز أن يكون قوله (وَحَناناً) عطفا على قوله (صَبِيًّا) ، أي وبحال حنان منا وتزكية له والحنان الرحمة والشفقة والمحبة قاله جمهور المفسرين ، وهو تفسير اللغة. وهو فعل من أفعال النفس ويقال حنانك وحنانيك ، فقيل هما لغتان بمعنى واحد ، وقيل حنانيك تثنية الحنان. وقال عطاء بن أبي رباح (حَناناً مِنْ لَدُنَّا) بمعنى تعظيما من لدنا. والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في خبر بلال بن رباح «والله لئن قتلتم هذا

٧

العبد لأتخذن قبره حنانا». وقد روي عن ابن عباس أنه قال «والله ما أدري ما الحنان». و «الزكاة» التطهير والتنمية في وجوه الخير والبر. و «التقي» فعيل من تقوى الله عزوجل ، وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمرو عن النبي عليه‌السلام أنه قال «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء». وقال قتادة : إن يحيى عليه‌السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا بكبيرة ولا همّ بامرأة ، وقال مجاهد : كان طعام يحيى العشب وكان للدمع في خده مجار ثابتة ومن الشواهد في الحنان قول امرئ القيس : [الوافر]

وتمنحها بنو شمجى بن جرم

معيزهم حنانك ذا الحنان

وقال النابغة : [الطويل]

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وقال الآخر : [منذر بن إبراهيم الكلبي] [الطويل]

فقالت حنان ما أتى بك هاهنا

أذو نسب أم أنت بالحي عارف

وقوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) الآية ، «البر» الكثير البر. و «الجبار» المتكبر كأنه يجبر الناس على أخلاقه والنخلة الجبارة العظيمة العالية. و «العصي» أصله عصوي فعول بمعنى فاعل. وروي أن يحيى بن زكرياء عليه‌السلام لم يواقع معصية صغيرة ولا كبيرة كما تقدم. وقوله (وَسَلامٌ) قال الطبري وغيره : معناه وأمان ، والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان وهي أقل درجاته وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله وعظيم الهول ، وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى : ادع لي فأنت خير مني. فقال عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي.

قال القاضي أبو محمد : قال أبي ، رضي الله عنه : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إذلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه عليه‌السلام لكل وجه.

قوله عزوجل :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠)

هذه ابتداء قصة ليست من الأولى ، والخطاب لمحمد عليه‌السلام. و (الْكِتابِ) القرآن ،

٨

و (مَرْيَمَ) هي بنت عمران أم عيسى أخت أم يحيى واختلف الناس لم (انْتَبَذَتْ) والانتباذ التنحي. فقال السدي (انْتَبَذَتْ) لتطهر من حيض ، وقال غيره لتعبد الله وهذا أحسن ، وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فيه فتنحت من الناس لذلك. وقوله (شَرْقِيًّا) يريد في جهة الشرق من مساكن أهلها ، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلق الأنوار ، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها ، حكاه الطبري. وحكي عن ابن عباس أنه قال إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة؟ لقول الله عزوجل (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة ، وقال بعض الناس «الحجاب» هي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادتها. فقال السدي كان من جدرات ، وقيل من ثياب ، وقال بعض المفسرين اتخذت المكان بشرقي المحراب ، و «الروح» جبريل ، وقيل عيسى ، حكى الزجاج القولين. فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو لها ، ومن قال إنه عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها ، قال النقاش ومن قرأ «روحنّا» مشددة النون جعله اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره. واختلف الناس في نبوة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك ، وقيل لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها لملك ، كما رئي جبريل في صفة دحية وفي سؤاله عن الإسلام والأول أظهر. وقوله تعالى (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ) الآية ، المعنى قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته ، فأساءت به الظن (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ) ذا تقى ، قال أبو وائل علمت أن «التقي» ذو نهية ، وقال وهب بن منبه «تقي» رجل فاجر كان في ذلك الزمن في قومها فلما رأته متسورا عليها ظنته إياه فاستعاذت بالرحمن منه ، حكى هذا مكي وغيره ، وهو ضعيف ذاهب مع التخرص ، فقال لها جبريل عليه‌السلام (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) ، جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ الجمهور «لأهب» كما تقدم ، وقرأ عمرو ونافع «ليهب» بالياء أي ليهب الله لك ، واختلف عن نافع. وفي مصحف ابن مسعود «ليهب الله لك» ، فلما سمعت مريم ذلك واستشعرت ما طرأ عليها استفهمت عن طريقه وهي لم يمسها بشر بنكاح ولم تكن زانية. و «البغي» ، المجاهرة المنبهرة في الزنا فهي طالبة له بغوى على وزن فعول كبتول وقتول ولو كانت فعيلا لقوي أن يلحقها هاء التأنيث فيقال بغية.

قوله عزوجل :

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣)

المعنى قال لها الملك (كَذلِكِ) هو كما وصفت ولكن (قالَ رَبُّكِ) ويحتمل أن يريد على هذه الحال (قالَ رَبُّكِ) والمعنى متقارب والآية العبرة المعرضة للنظر ، والضمير في قوله (لِنَجْعَلَهُ) للغلام ، (وَرَحْمَةً مِنَّا) معناه طريق هدى لعالم كثير ، فينالون الرحمة بذلك ، ثم أعلمها بأن الأمر قد قضي وانتجز ،

٩

و «الأمر» هنا واحد الأمور وليس بمصدر أمر يأمر وروي أن جبريل عليه‌السلام حين قاولها هذه المقاولة «نفخ في جيب درعها» فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منها قاله وهب بن منبه وغيره ، وقال ابن جريج : نفخ في جيب درعها وكمها وقال أبي بن كعب «دخل الروح المنفوخ من فمها» فذلك قوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ) أي حملت الغلام ، ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة ، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر «انتبذت به» أي تنحت (مَكاناً) بعيدا حياء وفرارا على وجهها ، وروي في هذا أنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها قاله وهب بن منبه ، وروي أيضا أنها خرجت إلى موضع يعرف (ببيت لحم) بينه وبين إيلياء أربعة أميال و «أجاءها» معناه ، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة ورويت عن عاصم «فاجأها» من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب «فلما أجاءها المخاض».

وقال زهير : [الوافر]

وجار سار معتمدا إليكم

أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ الجمهور «المخاض» بفتح الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها» ، روي أنها بلغت إلى موضع كان فيه «جذع نخلة» بال يابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه‌السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ، (يا لَيْتَنِي مِتُ) ولم يجر علي هذا القدر ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم وأبو عمرو وجماعة «مت» بضم الميم ، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مت» بكسرها واختلف عن نافع ، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح ، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه‌السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن وقد أباحه عليه‌السلام في قوله : «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه».

قال القاضي أبو محمد : لأنه زمن فتن يذهب بالدين ، (وَكُنْتُ نَسْياً) أي شيئا متروكا محتقرا ، و «النسي» في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده ، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه ، ويقال «نسي» بكسر النون و «نسي» بفتحها ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ حمزة وحده بالفتح ، واختلف عن عاصم ، وكقراءة حمزة ، قرأ طلحة ويحيى والأعمش ، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز «نسئا» بكسر النون ، وقرأ نوف البكالي «نسأ» بفتح النون ، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب ، وقرأ بكر بن حبيب «نسّا» بشد السين وفتح النون دون همز ، وقال الشنفري : [الطويل]

كأنّ لها في الأرض نسّا تقصه

إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت

وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضا أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا مريم أشعرت أني حملت» ، قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت» ، قالت لها «وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك» وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم ، قال السدي فذلك قوله تعالى (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ٣٩] وفي هذا كله ضعف فتأمله. وكذلك

١٠

ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه ، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول جمهور المتأولين ، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم. وظاهر قوله (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) يقتضي أنها كانت على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصية عيسى عليه‌السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة.

قوله عزوجل :

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦)

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وابن عباس والحسن وزيد بن حبيش ومجاهد والجحدري وجماعة «فناداها من تحتها» على أن «من» فاعل ينادي والمراد ب «من» عيسى ، قال أي ناداها المولود قاله مجاهد والحسن وابن جبير وأبي بن كعب ، وقال ابن عباس المراد ب «من» جبريل ولم يتكلم حتى أتت به قومها وقاله علقمة والضحاك وقتادة ، ففي هذا آية لها وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم لا سيما والمنادي عيسى فإنه يبين به عذر مريم ولا تبقى بها استرابة ، فلذلك كان النداء أن لا يقع حزن ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والبراء بن عازب والضحاك وعمرو بن ميمون وأهل الكوفة وأهل المدينة وابن عباس أيضا والحسن «من تحتها» بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية واختلفوا ، فقال بعضهم : المراد عيسى ، وقالت فرقة : المراد جبريل المحاور لها قبل ، قالوا : وكان في سعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها وأبين وأظهر ، وعليه كان الحسن بن أبي الحسن يقسم وقرأ علقمة وزر بن حبيش «فخاطبها من تحتها» ، وقرأ ابن عباس «فناداها ملك من تحتها». وقوله (أَلَّا تَحْزَنِي) تفسير النداء ف «أن» مفسرة بمعنى أي ، و «السري» من الرجال العظيم الخصال السيد ، و «السري» أيضا الجدول من الماء ، وبحسب هذا اختلف الناس في هذه الآية فقال قتادة وابن زيد : أراد جعل تحتك عظيما من الرجال له شأن ، وقال الجمهور أشار لها إلى الجدول الذي كان قرب جذع النخلة ، وروي أن الحسن فسر الآية فقال أجل لقد جعله الله (سَرِيًّا) كريما ، فقال عبيد بن عبد الرحمن الحميري يا أبا سعيد إنما يعني ب «السري» الجدول ، وقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ولكن غلبنا عليك الأمراء ومن الشاهد في «السري» قول لبيد. [الكامل]

فتوسطا عرض السري فصدعا

مسجورة متجاورا قلّامها

ثم أمر بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع ، وقالت فرقة بل كانت النخلة مطعمة (رُطَباً) ، وقال السدي كان الجذع مقطوعا وأجرى النهر تحتها لحينه ، والظاهر من الآية أن عيسى

١١

هو المكلم لها وأن الجذع كان يابسا وعلى هذا تكون آيات تسليها وتسكن إليها. والباء في قوله (بِجِذْعِ) زائدة مؤكدة قال أبو علي : كما يقال ألقى بيده أي ألقى يده.

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المثال عندي نظر ، وأنشد الطبري : [الطويل]

بواد يمان ينبت السدر صدره

وأسفله بالمزج والشبهان

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم والجمهور من الناس «تسّاقط» بفتح التاء وشد السين يريد (النَّخْلَةِ) ، وقرأ البراء بن عازب والأعمش «يساقط» بالياء يريد «الجذع» ، وقرأ حمزة وحده «تساقط» بفتح التاء وتخفيف السين ، وهي قراءة مسروق وابن وثاب وطلحة وأبي عمرو بخلاف ، وقرأت فرقة «يساقط» بالياء على ما تقدم من إرادة (النَّخْلَةِ) أو «الجذع». وقرأ عاصم في رواية حفص «تساقط» بضم التاء وتخفيف السين ، وقرأت فرقة «يساقط» بالياء ، وقرأ أبو حيوة «يسقط» بالياء ، وروي عنه «يسقط» بضم الياء وقرأ أيضا «تسقط» ، وحكى أبو علي في الحجة أنه قرىء «يتساقط» بياء وتاء ، وروي عن مسروق «تسقط» بضم التاء وكسر القاف ، وكذلك عن أبي حيوة ، وقرأ أبو حيوة أيضا «يسقط» بفتح الياء وضم القاف ، «رطب جني» بالرفع ، ونصب (رُطَباً) يختلف بحسب معاني القراءات المذكورة ، فمرة يسند الفعل إلى الجذع ومرة إلى الهز ، ومرة إلى (النَّخْلَةِ) و (جَنِيًّا) معناه قد طابت وصلحت للاجتناء ، وهو من جنيت الثمرة. وقرأ طلحة بن سليمان «جنيا» بكسر الجيم ، وقد استدل بعض الناس من شيء للنفساء خيراً من التمر والرطب ، وقال محمد بن كعب : كان طب عجوة ، وقد استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه لأنه أمرت مريم بهز الجذع لترى آية ، وكانت الآية تكون بأن لا تهز هي. وحكى الطبري عن ابن زيد أنه قال «قال لها عيسى : لا تحزني ، فقالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة أي شيء عذري عند الناس (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] ، فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام». وقوله (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي) الآية ، قرأ الجمهور «وقري» بفتح القاف ، وحكى الطبري قراءة «وقري» بكسر القاف ، وقرة العين مأخوذة من القر وذلك أنه يحكى أن دمع الفرح بارد المس ودمع الحزن سخن المس ، وضعفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله سخن وإنما معنى قرة العين أن البكاء الذي يسخن العين ارتفع إذ لا حزن بهذا الأمر الذي قرت به العين. وقال الشيباني (قَرِّي عَيْناً) معناه نامي ، حضها على الأكل والشرب والنوم. وقوله (عَيْناً) نصب على التمييز ، والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فينقل ذلك إلى ذي العين وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير ، ومثله طبت نفسا وتفقأت شحما وتصببت عرقا ، وهذا كثير. وقرأ الجمهور «ترين» وأصله ترءيين حذفت النون للجزم ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء ، ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف والياء ، فحذفت الألف فجاء ترى وعلى هذا! النحو هو قول الأفوه : [السريع]

أما ترى رأسي أزرى به

ثم دخلت النون الثقيلة ، فكسرت الياء لاجتماع ساكنين منها ومن النون ، وإنما دخلت النون هنا

١٢

بتوطئة «ما» كما توطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه «ترءين» بالهمزة ، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشبية «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة ، قال أبو الفتح : وهي شاذة ، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل أو ابنها على الخلاف المتقدم بأن تمسك عن مخاطبة البشر وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ، وتبين الآية فيقوم عذرها ، وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية وهو قول الجمهور. وقالت فرقة معنى (فَقُولِي) بالإشارة لا بالكلام وإلا فكأن التناقض بين في أمرها. وقرأ ابن عباس وأنس بن مالك «إني نذرت للرحمن وصمت». وقال قوم معناه (صَوْماً) عن الكلام إذ أصل الصوم الإمساك ومنه قول الشاعر : [البسيط]

«خيل صيام» وأخرى غير صائمة

وقال ابن زيد والسدي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام ، وقرأت فرقة «إني نذرت للرحمن صمتا» ولا يجوز في شرعنا أن ينذر أحد صمتا ، وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق والكلام. قال المفسرون : أمرت مريم بهذا ليكفيها عيسى الاحتجاج.

قوله عزوجل :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨)

روي أن مريم عليها‌السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات وعلمت أن الله سيبين عذرها أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه ، روي أن قومها خرجوا في طلبها فلقوها وهي مقبلة به. و «الفري» العظيم الشنيع ، قاله مجاهد والسدي ، وأكثر استعماله في السوء وهو من الفرية ، فإن جاء الفري بمعنى المتقن فمأخوذ من فريت الأديم للإصلاح وليس بالبين ، وأما قولهم في المثل جاء يفري الفري فمعناه بعمل عظيم من العمل في قول أو فعل مما قصد ضرب المثل له وهو مستعمل فيما يختلف ويفعل ، و «الفري» من الأسقية الجديد ، وقرأ أبو حيوة «شيئا فريا» بسكون الراء ، واختلف المفسرون في معنى قوله عزوجل ، (يا أُخْتَ هارُونَ) ، فقالت فرقة كان لها أخ اسمه (هارُونَ) لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل ، تبركا باسم هارون أخي موسى ، وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقال له النصارى إن صاحبك يزعم أن مريم «أخت هارون» وبينهما في المدة ستمائة سنة ، قال المغيرة فلم أدر ما أقول فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت ذلك له. فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين ، فالمعنى أنه اسم وأفق اسما ، وقال السدي وغيره : بل نسبوها إلى «هارون» أخي موسى لأنها كانت من نسله وهذا كما تقول من قبيلة يا أخا فلانة ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» ، وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين إن مريم ليست ب «أخت لهارون» أخي موسى ، فقالت عائشة كذبت فقال لها يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله فهو أصدق وخير ، وإلّا فإني أجد

١٣

بينهما من المدة ستمائة سنة ، قال فسكتت. وقال قتادة : كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع إلى الله يسمى «هارون» فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل إذ كانت موقوفة على خدمة البيع ، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لما أتيت به. وقالت فرقة : بل كان في ذلك الزمن رجل فاجر اسمه «هارون» فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ ذكره الطبري ولم يسم قائله ، والمعنى (ما كانَ أَبُوكِ) ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها؟ و «البغي» التي تبغي الزنا أي تطلبه ، أصلها بغوي فعول وقد تقدم ذكر ذلك.

قوله عزوجل :

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣)

التزمت مريم عليها‌السلام ما أمرت به من ترك الكلام ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت ب (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) [مريم : ٢٦] وإنما ورد أنها «أشارت إليه» فيقوى بهذا قول من قال إن أمرها ب «قولي» إنما أريد به الإشارة ، ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا استخفافها بنا أشد علينا من زناها ، ثم قالوا لها على جهة التقرير (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وإنما هي في معنى هو ويحتمل أن تكون الناقصة والأظهر أنها التامة وقد قال أبو عبيدة (كانَ) هنا لغو ، وقال الزجاج والفراء (مَنْ) شرطية في قوله (مَنْ كانَ) (ع) ونظير كان هذه قول رؤبة : [الرجز]

أبعد ان لاح بك القتير

والرأس قد كان له شكير

و (صَبِيًّا) إما خبر (كانَ) على تجوز وتخيل في كونها ناقصة ، وإما حال يعمل فيه الاستقرار المقدر في الكلام. وروي أن (الْمَهْدِ) يراد به حجر أمه قال لهم عيسى من مرقده (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) الآية وروي أنه قام متكئا على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى ، و (الْكِتابَ) هو الإنجيل ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل ، ويكون الإيتاء فيهما مختلفا ، و (آتانِيَ) معناه قضى بذلك وأنفذه في سابق حكمه وهذا نحو قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، وغير هذا. وأمال الكسائي «آتاني وأوصاني» ، والباقون لا يميلون ، قال أبو علي الإمالة في (آتانِيَ) أحسن لأن في (أَوْصانِي) مستعليا. و (مُبارَكاً) قال مجاهد معناه نفاعا ، وقال سفيان معلم خير وقيل آمرا بمعروف ناهيا عن منكر ، وقال رجل لبعض العلماء ما الذي أعلن من علمي قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه. وأسند النقاش عن الضحاك أنه قال (مُبارَكاً) معناه قضاء للحوائج (ع) وقوله (مُبارَكاً) يعم هذه الوجوه وغيرها. و (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) قيل هما المشروعتان في البدن والمال ، وقيل زكاة الرؤوس في الفطر ، وقيل «الصلاة» الدعاء (وَالزَّكاةِ) التطهير

١٤

من كل عيب ونقص ومعصية. وقرأ «دمت» بضم الدال عاصم وجماعة ، وقرأ «دمت» بكسرها أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وجماعة ، وقرأ الجمهور «وبرا» بفتح الباء وهو الكثير البر ونصبه على قوله (مُبارَكاً) ، وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز وجماعة «برا» بكسر الباء فقال بعضها نصبه على العطف على قوله (مُبارَكاً) فكأنه قال وذا بر فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه ، وقال بعضها نصبه بقوله (وَأَوْصانِي) أي «وأوصاني برا بوالدتي» حذف الجار كأنه يريد «وأوصاني ببر والدتي». وحكى الزهراوي هذه القراءة «وبرّ» بالخفض عطفا على (الزَّكاةِ) ، وقوله (بِوالِدَتِي) بيان لأنه لا والد له ، وبهذا القول برأها قومها. و «الجبار» المتعظم وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروها ، وكان عيسى عليه‌السلام في غاية التواضع ، يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ويأوي حيث جنه الليل لا مسكن له. قال قتادة وكان يقول : سلوني فإن لين القلب صغير في نفسي. وقد تقدم ذكر تسليمه على نفسه وإذلاله في ذلك ، وذكر المواطن التي خصها لأنها أوقات حاجة الإنسان إلى رحمة الله. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر أخبر عيسى بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت. وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا إن هذا الأمر عظيم. وروي أن عيسى عليه‌السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ثم عاد إلى حالة الأطفال حتى مشى على عادة البشر. وقالت فرقة : إن عيسى كان أوتي الكتاب وهو في ذلك السن وكان يصوم ويصلي وهذا في غاية الضعف مصرح بجهالة قائله.

قوله عزوجل :

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦)

المعنى قل يا محمد لمعاصريك من اليهود والنصارى (ذلِكَ) الذي منه قصة (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وإنما قدرنا في الكلام قل يا محمد لأنه يجيء في الآية بعد ، «وأن الله ربي وربكم» هذه مقالة بشر وليس يقتضي ظاهر الآية قائلا من البشر سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد يحتمل أن يكون قوله (ذلِكَ عِيسَى) إلى قوله (فَيَكُونُ) إخبارا لمحمد اعتراضا أثناء كلام عيسى ، ويكون قوله «وأن» بفتح الألف عطفا على قوله (الْكِتابَ) [مريم : ٣٠]. وقد قال وهب بن منبه : عهد عيسى إليهم «أن الله ربي وربكم» ، ومن كسر الألف عطف على قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي وعامة الناس «قول الحق» برفع القول على معنى هذا قول الحق. وقرأ عاصم وابن عامر وابن أبي إسحاق «قول الحق» بنصب القول على المصدر. قال أبو عبد الرحمن المقري: كان يجالسني ضرير ثقة فقال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم يقرأ «قول الحق» نصبا ، قال أبو عبد الرحمن : وكنت أقرأ بالرفع فجنبت فصرت أقرأ بهما جميعا. وقرأ عبد الله بن مسعود «قال الله» بمعنى كلمة الله ، وقرأ عيسى «قال الحق» ، وقرأ نافع والجمهور «يمترون» بالياء على الكناية عنهم ، وقرأ نافع أيضا وأبو عبد الرحمن وداود بن أبي هند «تمترون» بالتاء على الخطاب لهم ، والمعنى تختلفون أيها اليهود والنصارى فيقول

١٥

بعضهم هو لزنية ونحو هذا وهم اليهود ، ويقول بعضهم هو الله تعالى فهذا هو امتراؤهم ، وسيأتي شرح ذلك من بعد هذا. وقوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ) معناه النفي وهذا هو معنى هذه الألفاظ حيث وقعت ثم يضاف إلى ذلك بحسب حال المذكور فيها إما نهي وزجر كقوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا) [التوبة : ١٢٠] ، وإما تعجيز كقوله تعالى (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل : ٦٠] ، وإما تنزيه كهذه الآية. و (مِنْ وَلَدٍ) ، دخلت (مِنْ) مؤكدة للجحد لنفي الواحد فما فوقه مما يحتله نظير هذه العبارة إذا لم تدخل «من» ، وقوله ، (قَضى أَمْراً) ، أي واحدا من الأمور وليس بمصدر أمر يأمر ، فمعنى (قَضى) أوجد أو أخرج من العدم ، وهذه التصاريف في هذه الأفعال من مضي واستقبال هي بحسب تجوز العرب واتساعها ، وقد تقدم القول في (كُنْ فَيَكُونُ). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع «وأن الله» بفتح الألف وذلك عطف على قوله هذا (قَوْلَ الْحَقِ) ، «وأن الله ربي» ، كذلك وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «وإن» بكسر الألف وذلك بين على الاستئناف وقرأ أبي بن كعب «إن الله» بكسر الألف دون واو. وقوله (فَاعْبُدُوهُ) وقف ثم ابتدأ (هذا صِراطٌ) أي ما أعلمتكم به عن الله تعالى من وحدانيته ونفي الولد عنه وغير ذلك مما يتنزه عنه طريق واضح مفض إلى النجاة ورحمته.

قوله عزوجل :

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠)

هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد عليه‌السلام بأن بني إسرائيل اختلفوا أحزابا أي فرقا ، وقوله (مِنْ بَيْنِهِمْ) معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين. وروي في هذا عن قتادة أن بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال أحدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد ، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية ، ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم : عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية ، ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله ، فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية ، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريق من بني إسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع. وروي أن في ذلك نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١]. و «الويل» الحزن والثبور ، وقيل ويل واد في جهنم ، و (مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب (مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب ، وقد أشار إلى هذا المعنى قتادة ، وقوله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ، أي ما أسمعهم وأبصرهم يوم يرجعون إلينا ويرون ما نصنع بهم من العذاب ، فإن إعراضهم حينئذ يزول ويقبلون على الحقيقة حين لا

١٦

ينفعهم الإقبال عليها وهم في الدنيا صم عمي إذ لا ينفعهم النظر مع إعراضهم ، ثم قال : لكنهم اليوم في الدنيا (فِي ضَلالٍ) وهو جهل المسلك ، و «المبين» في نفسه وإن لم يبين لهم ، وحكى الطبري عن أبي العالية أنه قال (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ، وهي بمعنى الأمر لمحمد عليه‌السلام أي أسمع الناس اليوم وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلوبين ، وقوله (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، الآية ، الخطاب أيضا في هذه الآية لمحمد عليه‌السلام والضمير في (أَنْذِرْهُمْ) لجميع الناس ، واختلف في (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) فقال الجمهور هو يوم ذبح الموت ، وفي هذا حديث صحيح ، وقع في البخاري وغيره ، أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح ، وفي بعض الطرق كأنه كبش أملح ، وقال عبيد بن عمير كأنه دابة فيذبح على الصراط بين الجنة والنار وينادى : يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت ، ويروى أن أهل النار يشرئبون خوفا على ما هم فيه. و «الأمر المقضي» ، هو ذبح الكبش الذي هو مثال الموت وهذا عند حذاق العلماء ، كما يقال : تدفن الغوائل وتجعل الترات تحت القدم ، ونحو ذلك ، وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها ، وقال ابن زيد وغيره (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) هو يوم القيامة ، وذلك أن أهل النار قد حصلوا من أول أمرهم في سخط الله وأمارته فهم في حال حسرة ، و «الأمر المقضي» على هذا هو الحتم عليهم بالعذاب وظهور إنفاذ ذلك عليهم ، وقال ابن مسعود (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) حين يرى الكفار مقاعدهم التي فاتتهم في الجنة لو كانوا مؤمنين ، ويحتمل أن يكون (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة ، ومنها يوم الموت ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك. وقوله (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ، يريد في الدنيا الآن (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) كذلك. وقوله (نَرِثُ) ، تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة ، وقرأ عاصم ونافع وأبو عمرو والحسن والأعمش «يرجعون» بالياء ، وقرأ الأعرج «ترجعون» بالتاء من فوق ، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى «يرجعون» بالياء من تحت مفتوحة وكسر الجيم ، وحكى عنهم أبو عمرو الداني «ترجعون» بالتاء.

قوله عزوجل :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٤٦)

قوله : (وَاذْكُرْ) بمعنى واتل وشهر ، لأن الله تعالى هو الذاكر ، و (الْكِتابِ) هو القرآن وهذا وشبهه من لسان الصدق الذي أبقاه الله عليهم ، و «الصديق» ، فعيل بناء مبالغة من الصدق ، وقرأ أبو البرهسم «إنه كان صادقا» ، والصدق عرفه في اللسان وهو مطرد في الأفعال والخلق ، ألا ترى أنه يستعار لما لا يعقل فيقال صدقني الطعام كذا وكذا قفيزا ، ويقال عود صدق للصلب الجيد ، فكان إبراهيم عليه‌السلام يوصف

١٧

بالصدق على العموم في أفعاله وأقواله وذلك يغترق صدق اللسان الذي يضاد الكذب ، وأبو بكر رضي الله عنه وصف ب «صدّيق» لكثرة ما صدق في تصديقه بالحقائق وصدق في مبادرته إلى الإيمان وما يقرب من الله تعالى ، و «الصديق» مراتب ألا ترى أن المؤمنين صديقون لقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩]. وقوله (يا أَبَتِ) ، اختلف النحاة في التاء من (أَبَتِ) ، فمذهب سيبويه أنها عوض من ياء الإضافة والوقوف عنده عليها بالهاء ، ومذهب الفراء أن يوقف عليها بالتاء ، لأن الياء التي للإضافة عنده منوية وجمهور القراء على كسر التاء ، وفي مصحف ابن مسعود «وا أبت» بواو للنداء ، وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر. «يا أبت» بفتح التاء ، ووجهها أنه أراد «يا أبتا» فحذف الألف وترك الفتحة دالة عليها ، ووجه آخر أن تكون التاء المقحمة كالتي في قوله يا طلحة وفي هذا نظر وقد لحن هارون هذه القراءة ، والذي (لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) ، هو الصنم ولو سمع وأبصر كما هي حالة الملائكة وغيرهم ممن عبد لم يحسن عبادتها ، لكن بين إبراهيم عليه‌السلام بنفي السمع والبصر شنعة الرأي في عبادتها وفساده. وقوله (قَدْ جاءَنِي) يدل على أن هذه المقاولة هي بعد أن نبىء ، و «الصراط السوي» ، معناه الطريق المستقيم ، وهو طريق الإيمان. وقوله (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ، مخاطبة بر واستعطاف على حالة كفره. وقوله (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) يحتمل أن يكون أبوه ممن عبد الجن ويحتمل أن يجعل طاعة الشيطان المعنوي في عبادة الأوثان والكفر بالله عبادة له. و «العصي» ، فعيل من عصى يعصي إذا خالف الأمر ، وقوله (أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ) قال الطبري وغيره (أَخافُ) بمعنى أعلم.

قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أنه خوف على بابه ، وذلك أن إبراهيم عليه‌السلام لم يكن في وقت هذه المقاولة يائسا من إيمان أبيه ، فكان يرجو ذلك وكان يخاف أن لا يؤمن ويتمادى على كفره إلى الموت فيمسه العذاب. و «الولي» الخالص المصاحب القريب بنسب أو مودة ، قال آزر وهو تارخ (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) ، والرغبة ميل النفس ، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه ، وقوله (أَراغِبٌ) رفع بالابتداء و (أَنْتَ) فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد «راغب» على ألف الاستفهام ، ويجوز أن يكون «راغب» خبرا مقدما و (أَنْتَ) ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه. وقوله (عَنْ آلِهَتِي) ، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده ، وقوله (لَأَرْجُمَنَّكَ) اختلف فيه المتأولون ، فقال السدي وابن جريج والضحاك : معناه بالقول ، أي لأشتمنك (وَاهْجُرْنِي) أنت إذا شئت مدة من الدهر ، أو سالما حسب الخلاف الذي سنذكره. وقال الحسن بن أبي الحسن : معناه (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة ، وقالت فرقة : معناه لأقتلنك ، وهذان القولان بمعنى واحد ، وقوله (وَاهْجُرْنِي) على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال : إن لم تنته لأقتلنك بالرجم ، ثم قال له (وَاهْجُرْنِي) أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة و (مَلِيًّا) معناه دهرا طويلا مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف ، وقال ابن عباس وغيره (مَلِيًّا) معناه سليما منا سويا فهو حال من (إِبْراهِيمُ) عليه‌السلام ، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبدا بحالك غنيا عني مليا بالاكتفاء.

١٨

قوله عزوجل :

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠)

قرأ أبو البرهسم «سلاما عليك» بالنصب ، واختلف أهل العلم في معنى تسليمه عليه ، فقال بعضهم هي تحية مفارق وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها. وقال الجمهور : ذلك التسليم بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية ، قال الطبري معناه أمنة مني لك ، وهذا قول الجمهور وهم لا يرون ابتداء الكافر بالسلام ، وقال النقاش : حليم خاطب سفيها كما قال ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، ورفع السلام بالابتداء وجاز ذلك مع نكرته لأنها نكرة مخصصة فقربت من المعرفة ولأنه في موضع المنصوب الذي هو سلمت سلاما وهذا كما يجوز ذلك في ما هو في معنى الفاعل كقولهم شرّ أهرّ ذا ناب ، هذا مقال سيبويه. وقوله تعالى (سَأَسْتَغْفِرُ) معناه سأدعو الله تعالى في أن يهديك فيغفر لك بإيمانك وهذا أظهر من أن يتأول على إبراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر ، وقد يجوز أن يكون إبراهيم عليه‌السلام أول نبي أوحي إليه أن لا يغفر لكافر ، لأن هذه العقيدة إنما طريقها السمع ، فكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه ذلك ، وإبراهيم عليه‌السلام إنما تبين له في أبيه أنه عدو الله بأحد وجهين إما بموته على الكفر كما روي وإما بأن أوحي إليه تعسف الحتم عليه ، وقال مكي عن السدي : أخره بالاستغفار إلى السحر ، وهذا تعسف ، وإنما ذكر ذلك في أمر يعقوب وبنيه وأما هذا فوعد باستغفار كثير مؤتنف فالسين متمكنة. و «الحفي» ، المبتهل المتلطف وهذا شكر من إبراهيم لنعم الله تعالى عليه ، ثم أخبره أنه يعتزلهم أي يصير عنهم بمعزل ، ويروى أنهم كانوا بأرض كوثا فرحل إبراهيم عليه‌السلام حتى نزل الشام وفي سفرته تلك لقي الجبار الذي أخدم هاجر بسارة الحديث بطوله ، و (تَدْعُونَ) بمعنى تعبدون ، وقوله (عَسى) ، ترج ، في ضمنه خوف شديد ، وقوله (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) إلى آخر الآية ، إخبار من الله تعالى لمحمد عليه‌السلام أنه لما رحل عن بلد أبيه وقومه عوضه الله من ذلك ابنه (إِسْحاقَ) وابنه (يَعْقُوبَ) وجعل له الولد تسلية وشدا لعضده ، و (إِسْحاقَ) أصغر من إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة فحملت ب (إِسْحاقَ) هذا فيما روي ، وقوله (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) يريد العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة ، كل ذلك من رحمة الله ، و «لسان الصدق» هو الثناء الباقي عليهم آخر الأبد ، قاله ابن عباس. واللسان في كلام العرب المقالة الذائعة كانت في خير أو شر ومنه قول الشاعر : [البسيط]

إني أتتني لسان لا أسر بها

من علو لا كذب فيها ولا سخر

وقال آخر : [الوافر]

«ندمت على لسان فات مني»

١٩

وإبراهيم الخليل وبنوه معظمون في جميع الأمم والملل صلى الله عليهم أجمعين.

قوله عزوجل :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٥٥)

هذا أمر من الله عزوجل بذكر (مُوسى) بن عمران عليه‌السلام على جهة التشريف ، له وأعلمه ب (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «مخلصا» بكسر اللام وهي قراءة الجمهور أي أخلص نفسه لله ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «مخلصا» بفتح اللام وهي قراءة أبي رزين ويحيى وقتادة أي أخلصه الله للنبوءة والعبادة كما قال تعالى (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [ص : ٤٦]. و «الرسول» من الأنبياء الذي يكلف تبليغ أمة ، وقد يكون نبيا غير رسول ، وقوله (وَنادَيْناهُ) هو تكليم الله تعالى ، و (الطُّورِ) الجبل المشهور بالشام ، وقوله (الْأَيْمَنِ) صفة للجانب ، وكانت على يمين موسى بحسب وقوفه فيه ، وإلا فالجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة ولا يوصف بشيء من ذلك إلا بالإضافة إلى ذي يمين ويسار ، ويحتمل أن يكون قوله (الْأَيْمَنِ) مأخوذا من اليمن كأنه قال الأبرك والأسعد ، فيصح على هذا أن يكون صفة للجانب وللجبل بجملته. وقوله ، (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) ، قال الجمهور هو تقريب التشريف بالكلام والنبوءة ، وقال ابن عباس : بل أدني موسى من الملكوت ورفعت له الحجب حتى سمع صريف الأقلام وقاله ميسرة ، وقال سعيد : أردفه جبريل ، و «النجي» ، فعيل من المناجاة وهي المسارّة بالقول ، وقال قتادة (نَجِيًّا) معناه نجا بصدقة وهذا مختل ، وإنما «النجي» المنفرد بالمناجاة ، وكان (هارُونَ) عليه‌السلام أسن من موسى وطلب من الله أن يشد أزره بنبوته ومعونته فأجابه الله تعالى إلى ذلك وعدها في نعمه عليه ، وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) ، هو أيضا من لسان الصدق والشرف المضمون بقاؤه على آل إبراهيم عليه‌السلام ، و (إِسْماعِيلَ) هو أبو العرب اليوم وذلك أن اليمنية والمضرية ترجع إلى ولد (إِسْماعِيلَ) وهو الذي أسكنه أبوه بواد غير ذي زرع وهو الذبيح في قوله الجمهور وقالت فرقة الذبيح إسحاق.

قال القاضي أبو محمد : والأول يترجح بجهات منها قول الله تبارك وتعالى ، ومن وراء إسحاق يعقوب فولد قد بشر أبواه أنه سيكون منه ولد هو حفيد لهم كيف يؤمر بعد ذلك بذبحه وهذه العدة قد تقدمت وجهة أخرى وهي أن أمر الذبح لا خلاف بين العلماء أنه كان بمنى عند مكة وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد ، وإسماعيل بها نشأ وكان أبوه يزور مرارا كثيرة يأتي من الشام ويرجع من يومه على البراق وهو مركب الأنبياء ، وجهة أخرى وهي قول النبي عليه‌السلام «أنا ابن الذبيحين» وهو أبوه عبد الله لأنه فدي بالإبل من الذبح ، والذبيح الثاني هو أبوه إسماعيل ، وجهة أخرى وهي الآيات في سورة الصافات وذلك أنه لما فرغ من ذكر الذبح وحاله ، قال (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) [الصافات : ١١٢] ، فترتيب تلك الآيات يكاد ينص على أن

٢٠