أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

١
٢

٣
٤

(٣٧) سورة الصافات

مكية وآيها مائة واثنتان وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)(٣)

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية ، على مراتب باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإلهية ، منتظرين لأمر الله الزاجرين الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به فيها ، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير ، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين آيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأولياءه ، أو بطوائف الأجرام المرتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) أو بنفوس العلماء الصافين في العبادات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه ، أو بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد الزاجرين الخيل ، أو العدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو والعطف لاختلاف الذوات ، أو الصفات والفاء لترتيب الوجود كقوله :

يا لهف زيابة للحارث الص

ابح فالغانم فالآئب

فإن الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر ، أو الإشاقة إلى قبول الخير والتلاوة إفاضته أو الرتبة

كقوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله المحلقين فالمقصرين» غير أنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس ، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥)

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب للقسم والفائدة فيه تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم ، وأما تحقيقه فبقوله تعالى :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) فإن وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته على ما مر غير مرة ، (وَرَبُ) بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر محذوف وما بينهما يتناول أفعال العباد فيدل على أنها من خلقه ، و (الْمَشارِقِ) مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة وهي ثلاثمائة وستون مشرقا ، تشرق كل يوم في واحد وبحسبها تختلف المغارب ، ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة ، وما قيل إنها مائة وثمانون إنما يصح لو لم تختلف أوقات الانتقال.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ)(٧)

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) القربى منكم. (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بزينة هي (الْكَواكِبِ) والإضافة للبيان ، ويعضده قراءة حمزة ويعقوب وحفص بتنوين «زينة» وجر (الْكَواكِبِ) على إبدالها منه ، أو بزينة هي لها

٥

كأضوائها وأوضاعها ، أو بأن زينا (الْكَواكِبِ) فيها على إضافة المصدر إلى المفعول فإنها كما جاءت اسما كالليقة جاءت مصدرا كالنسبة ويؤيده قراءة أبي بكر بالتنوين ، والنصب على الأصل أو بأن زينتها (الْكَواكِبِ) على إضافته إلى الفاعل وركوز الثوابت في الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينها وبين السماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك ، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.

(وَحِفْظاً) منصوب بإضمار فعله ، أو العطف على «زينة» باعتبار المعنى كأنه قال إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظا. (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) خارج من الطاعة برمي الشهب.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١٠)

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم ، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون ، ولا علة للحفظ على حذف اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذف أن وأهدرها كقوله :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

فإن اجتماع ذلك منكر والضمير ل (كُلِ) باعتبار المعنى ، وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد من التسمع وهو طلب السماع و (الْمَلَإِ الْأَعْلى) الملائكة وأشرافهم. (وَيُقْذَفُونَ) ويرمون. (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء إذا قصدوا صعوده.

(دُحُوراً) علة أي للدحور وهو الطرد ، أو مصدر لأنه والقذف متقاربان ، أو حال بمعنى مدحورين أو منزوع عنه الباء جمع دحر ، وهو ما يطرد به ويقويه القراءة بالفتح وهو يحتمل أيضا أن يكون مصدرا كالقبول أو صفة له أي قذفا دحورا. (وَلَهُمْ عَذابٌ) أي عذاب آخر. (واصِبٌ) دائم أو شديد وهو عذاب الآخرة.

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من واو (يَسَّمَّعُونَ) ومن بدل منه ، والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرف الخطفة ، وقرئ «خطف» بالتشديد مفتوح الخاء ومكسورها وأصلها اختطف. (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) أتبع بمعنى تبع ، والشهاب ما يرى كأن كوكبا انقض ، وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين ، إن صح لم يناف ذلك إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك ولا في قوله (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) فإن كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه ، ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجما لشياطين تتصعد إلى قرب الفلك للتسمع ، وما روي أن ذلك حدث بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام إن صح فلعل المراد كثرة وقوعه ، أو مصيره (دُحُوراً). واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا ، ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق ، لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها. (ثاقِبٌ) مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ)(١١)

(فَاسْتَفْتِهِمْ) فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم. (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب ، و (مَنْ) لتغليب

٦

العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك ، وقراءة من قرأ «أم من عددنا» ، وقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود ، وأن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء ، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد ، وقد علموا أن الإنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة ، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك ، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولا وقدرته ذاتية لا تتغير.

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) (١٤)

(بَلْ عَجِبْتَ) من قدرة الله تعالى وإنكارهم للبعث. (وَيَسْخَرُونَ) من تعجبك وتقريرك للبعث ، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء أي بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي أن تعجبت منها ، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو عجبت من أن ينكر البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يجوزه. والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم له فإنه روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء ، وقيل إنه مقدر بالقول أي : قال يا محمد بل عجبت.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) وإذا وعظوا بشيء لا يتعظون به ، أو إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) معجزة تدل على صدق القائل به. (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر ، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.

(وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (١٨)

(وَقالُوا إِنْ هذا) يعنون ما يرونه. (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر سحريته.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أصله انبعث إذا متنا فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار ، وإشعارا بأن البعث مستنكر في نفسه وفي هذه الحالة أشد استنكارا ، فهو أبلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية.

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محل (إِنْ) واسمها ، أو على الضمير في «مبعوثون» فإنه مفصول منه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم ، وسكن نافع برواية قالون وابن عامر الواو على معنى الترديد.

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون ، وإنما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدل على جوازه وقيام المعجز على صدق المخبر عن وقوعه ، وقرئ «قال» أي الله أو الرسول وقرأ الكسائي وحده (نَعَمْ) بالكسر وهو لغة فيه.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(٢١)

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) جواب شرط مقدر أي إذا كان ذلك فإنما البعثة (زَجْرَةٌ) أي صيحة واحدة ،

٧

وهي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها في الإعادة كأمر كن في الإبداء ولذلك رتب عليها. (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون ، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) اليوم الذي نجازي بأعمالنا وقد تم به كلامهم وقوله :

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) جواب الملائكة ، وقيل هو أيضا من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء ، أو الفرق بين المحسن والمسيء.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)(٢٣)

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أمر الله للملائكة ، أو أمر بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف. وقيل منه إلى الجحيم. (وَأَزْواجَهُمْ) وأشباههم عابد الصنم مع عبدة الصنم وعابد الكوكب مع عبدته كقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أو نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام وغيرها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم ، وهو عام مخصوص بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية ، وفيه دليل على أن (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم المشركون. (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) فعرفوهم طريقا ليسلكوها.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ)(٢٦)

(وَقِفُوهُمْ) احبسوهم في الموقف. (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن عقائدهم وأعمالهم والواو لا توجب الترتيب مع جواز أن يكون موقفهم متعددا.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص ، وهو توبيخ وتقريع.

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم ، وأصل الاستسلام طلب السلامة أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا ويخذله.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ)(٢٨)

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) يعني الرؤساء والأتباع أو الكفرة والقرناء. (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ ولذلك فسر بيتخاصمون.

(قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) عن أقوى الوجوه وأيمنها ، أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم وهلكنا ، مستعار من يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمي يمينا وتيمن بالسانح ، أو عن القوة والقهر فتقسروننا على الضلال ، أو عن الحلف فإنهم كانوا يحلفون لهم أنهم على الحق.

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٢)

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أجابهم الرؤساء أولا بمنع إضلالهم بأنهم كانوا ضالين في أنفسهم ، وثانيا بأنهم ما أجبروهم على الكفر إذ لم يكن لهم عليهم تسلط وإنما جنحوا إليه لأنهم كانوا قوما مختارين الطغيان.

٨

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ).

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) ثم بينوا أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العذاب كان أمرا مقضيا لا محيص لهم عنه ، وأن غاية ما فعلوا بهم أنهم دعوهم إلى الغي لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن يكونوا مثلهم ، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية لإغواء غاو فمن أغواهم.

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ)(٣٥)

(فَإِنَّهُمْ) فإن الأتباع والمتبوعين. (يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا مشتركين في الغواية.

(إِنَّا كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل. (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) بالمشركين لقوله تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن كلمة التوحيد ، أو على من يدعوهم إليه.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٩)

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون محمدا عليه الصلاة والسلام.

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق قام به البرهان وتطابق عليه المرسلون.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) بالإشراك وتكذيب الرسل ، وقرئ بنصب (الْعَذابِ) ، على تقرير النون كقوله :

ولا ذاكر الله إلّا قليلا

وهو ضعيف في غير المحلى باللام وعلى الأصل.

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إلا مثل ما عملتم.

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)(٤٣)

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في (تُجْزَوْنَ) لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة ، فإن ثوابهم مضاعف والمنقطع أيضا بهذا الاعتبار.

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) خصائصه من الدوام ، أو تمحض اللذة ولذلك فسره بقوله :

(فَواكِهُ) فإن الفاكهة ما يقصد للتلذذ دون التغذي والقوت بالعكس ، وأهل الجنة لما أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التحلل كانت أرزاقهم فواكه خالصة. (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال كما عليه رزق الدنيا.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) في جنات ليس فيها إلا النعيم ، وهو ظرف أو حال من المستكن في (مُكْرَمُونَ) ، أو خبر ثان ل (أُولئِكَ) وكذلك :

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا

٩

هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧)

(عَلى سُرُرٍ) يحتمل الحال أو الخبر فيكون : (مُتَقابِلِينَ) حالا من المستكن فيه أو في (مُكْرَمُونَ) ، وأن يتعلق ب (مُتَقابِلِينَ) فيكون حالا من ضمير (مُكْرَمُونَ).

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) بإناء فيه خمر أو خمر كقوله : وكأس شربت على لذّة. (مِنْ مَعِينٍ) من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون ، أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع. وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء ، أو للإشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة لكمال اللذة ، وكذلك قوله :

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وهما أيضا صفتان لكأس ، ووصفها ب (لَذَّةٍ) إما للمبالغة أو لأنها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل قال :

ولذّ كطعم الصرخديّ تركته

بأرض العدا من خشية الحدثان

(لا فِيها غَوْلٌ) غائلة كما في خمر الدنيا كالخمار من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول. (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله ، أفرده بالنفي وعطفه على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي وتابعهما عاصم في «الواقعة» من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه ، وأصله للنفاد يقال نزف المطعون إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ)(٤٩)

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهن على أزواجهن. (عِينٌ) نجل العيون جمع عيناء.

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شبههن ببيض النعام المصون عن الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإنه أحسن ألوان الأبدان.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)(٥٣)

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) معطوف على (يُطافُ عَلَيْهِمْ) أي يشربون فيتحادثون على الشراب قال :

وما بقيت من اللّذّات إلّا

أحاديث الكرام على المدام

والتعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل ، وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) في مكالمتهم. (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) جليس في الدنيا ...

(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) يوبخني على التصديق بالبعث ، وقرئ بتشديد الصاد من التصدق.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) لمجزيون من الدين بمعنى الجزاء.

(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ)(٥٥)

(قالَ) أي ذلك القائل. (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين ، وقيل القائل هو الله أو

١٠

بعض الملائكة يقول لهم : هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟ وعن أبي عمرو (مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ) بالتخفيف وكسر النون وضم الألف على أنه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث أن أدب المجالسة يمنع الاستبداد به ، أو خاطب الملائكة على وضع المتصل موضع المنفصل كقوله :

هم الآمرون الخير والفاعلونه

أو شبه اسم الفاعل بالمضارع.

(فَاطَّلَعَ) عليهم. (فَرَآهُ) أي قرينه. (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطه.

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(٥٩)

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) لتهلكني بالإغواء ، وقرئ «لتغوين» و (إِنْ) هي المخففة واللام هي الفارقة.

(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) بالهداية والعصمة. (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك فيها.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) عطف على محذوف أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ، أي بمن شأنه الموت وقرئ «بمائتين».

(إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال ، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل. وقيل على الاستثناء المنقطع. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) كالكفار ، وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له أو معاودة إلى مكالمة جلسائه تحدثا بنعمة الله ، أو تبجحا بها وتعجبا منها وتعريضا للقرين بالتوبيخ.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)(٦١)

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يحتمل أن يكون من كلامهم وأن يكون كلام الله لتقرير قوله والإشارة إلى ما هم عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب.

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام ، وهو أيضا يحتمل الأمرين.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٦٦)

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) شجرة ثمرها نزل أهل النار ، وانتصاب (نُزُلاً) على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقام للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام ، وكذلك الزقوم لأهل النار ، وهو : اسم شجرة صغيرة الورق دفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة.

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) محنة وعذابا لهم في الآخرة ، أو ابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا كيف ذلك والنار تحرق الشجر ، ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق.

١١

(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

(طَلْعُها) حملها مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل ، أو الطلوع من الشجر. (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) في تناهي القبح والهول ، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك. وقيل (الشَّياطِينِ) حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف ، ولعلها سميت بها لذلك.

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) من الشجرة أو من طلعها. (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) لغلبة الجوع أو الجبر على أكلها.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ)(٦٨)

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم ، ويجوز أن يكون ثم لما في شرابهم من مزيد الكراهة والبشاعة. (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) لشرابا من غساق ، أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم ، وقرئ بالضم وهو اسم ما يشاب به والأوّل مصدر سمي به.

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) مصيرهم. (لَإِلَى الْجَحِيمِ) إلى دركاتها أو إلى نفسها ، فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولهم ، وقيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يوردون إليه كما تورد الإبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم ، ويؤيده أنه قرئ «ثم إن منقلبهم».

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(٧٤)

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال ، والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على (آثارِهِمْ) ، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث.

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) قبل قومك. (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أنبياء أنذروهم من العواقب.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) من الشدة والفظاعة.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا الذين تنبهوا بإنذارهم فأخلصوا دينهم لله ، وقرئ بالفتح أي الذين أخلصهم الله لدينه والخطاب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود خطاب قومه فإنهم أيضا سمعوا أخبارهم ورأوا آثارهم.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٧٨)

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها ، أي ولقد دعانا حين أيس من قومه. (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن ، فحذف منها ما حذف لقيام ما يدل عليه.

(وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من الغرق أو أذى قومه.

١٢

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) إذ هلك من عداهم وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة ، إذ روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) من الأمم.

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(٨٢)

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ) هذا الكلام جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليما. وقيل هو سلام من الله عليه ومفعول (تَرَكْنا) محذوف مثل الثناء. (فِي الْعالَمِينَ) متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لما فعل بنوح من التكرمة بأنه مجازاة له على إحسانه.

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لإحسانه بالإيمان إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) يعني كفار قومه.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٨٧)

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة. (لَإِبْراهِيمَ) ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا ، وكان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة ، وكان بينهما نبيان هود وصالح.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ) متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة أو بمحذوف هو اذكر. (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من آفات القلوب أو من العلائق خالص لله أو مخلص له ، وقيل حزين من السليم بمعنى اللديغ. ومعنى المجيء به ربه : إخلاصه له كأنه جاء به متحفا إياه.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) بدل من الأولى أو ظرف ل (جاءَ) أو (سَلِيمٍ).

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي تريدون آلهة دون الله إفكا مقدم المفعول للعناية ثم المفعول له لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل ومبنى أمرهم على الإفك ، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به و (آلِهَةً) بدل منه على أنها إفك في نفسها للمبالغة ، أو المراد بها عبادتها بحذف المضاف أو حالا بمعنى آفكين.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته ، أو أشركتم به غيره أو أمنتم من عذابه ، والمعنى إنكار ما يوجب ظنا فضلا عن قطع يصد عن عبادته ، أو يجوز الإشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام وهو كالحجة على ما قبله.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)(٩٠)

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) فرأى مواقعها واتصالاتها ، أو في علمها أو في كتابها ، ولا منع منه مع أن قصده إيهامهم وذلك حين سألوه أن يعبد معهم.

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أراهم أنه استدل بها لأنهم كانوا منجمين على أنه مشارف للسقم لئلا يخرجوه إلى معبدهم ، فإنه كان أغلب أسقامهم الطاعون وكانوا يخافون العدوى ، أو أراد إني سقيم القلب لكفركم ، أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا قل من يخلو منه أو بصدد الموت ومنه المثل : كفى بالسلامة داء ، وقول لبيد :

١٣

فدعوت ربّي بالسّلامة جاهدا

ليصحّني فإذا السّلامة داء

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) هاربين مخافة العدوى.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ)(٩٣)

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) فذهب إليها في خفية من روغة الثعلب وأصله الميل بحيلة. (فَقالَ) أي للأصنام استهزاء. (أَلا تَأْكُلُونَ) يعني الطعام الذي كان عندهم.

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) بجوابي.

(فَراغَ عَلَيْهِمْ) فمال عليهم مستخفيا ، والتعدية بعلى للاستعلاء وإن الميل لمكروه. (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) مصدر «لراغ عليهم» لأنه في معنى ضربهم ، أو لمضمر تقديره فراغ عليهم يضربهم وتقييده باليمين للدلالة على قوته فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل ، وقيل (بِالْيَمِينِ) بسبب الحلف وهو قوله : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ).

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٩٦)

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة وبحثوا عن كاسرها فظنوا أنه هو كما شرحه في قوله : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) الآية. (يَزِفُّونَ) يسرعون من زفيف النعام. وقرى حمزة على بناء المفعول من أزفه أي يحملون على الزفيف. وقرئ «يزفون» أي يزف بعضهم بعضا ، و «يزفون» من وزف يزف إذا أسرع و «يزفون» من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ما تنحتونه من الأصنام.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي وما تعملونه فإن جوهرها بخلقه وشكلها وإن كان بفعلهم ، ولذلك جعل من أعمالهم فبإقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد ، أو عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون ، أو أنه بمعنى الحدث فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك ، وبهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال ولهم أن يرجحوه على الأولين لما فيهما من حذف أو مجاز.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(٩٨)

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج ، واللام بدل الإضافة أي جحيم ذلك البنيان.

(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) فإنه لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم. (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا نيرا على علو شأنه ، حيث جعل النار عليه بردا وسلاما.

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)(١٠١)

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني ربي وهو الشام ، أو حيث أتجرد فيه لعبادته. (سَيَهْدِينِ) إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي ، وإنما بت القول لسبق وعده أو لفرط توكله ، أو البناء على عادته معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه الصلاة والسلام حين (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) فلذلك ذكر بصيغة التوقع.

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة ، يعني الولد لأن لفظ الهبة غالب فيه ولقوله :

١٤

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) بشره بالولد وبأنه ذكر يبلغ أوان الحلم ، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ويكون حليما وأي حلم مثل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). وقيل ما نعت الله نبيا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما الصلاة والسلام ، وحالهما المذكورة بعد تشهد عليه.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)(١٠٣)

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي فلما وجد وبلغ أن يسعى معه في أعماله ، و (مَعَهُ) متعلق بمحذوف دل عليه (السَّعْيَ) لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا ب (بَلَغَ) فإن بلوغهما لم يكن معا كأنه لمّا قال : فلما بلغ السعي فقيل مع من فقيل معه ، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه ، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة. (قالَ يا بُنَيَ) وقرأ حفص بفتح الياء. (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره ، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر ، والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه‌السلام لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، ولقوله عليه الصلاة والسلام «أنا ابن الذبيحين». فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله ، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله ؛ فالصحيح أنه قال : «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» والزوائد من الراوي. وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما. (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) من الرأي ، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله ، وقرأ حمزة والكسائي (ما ذا تَرى) بضم التاء وكسر الراء خالصة ، والباقون بفتحهما وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها. (قالَ يا أَبَتِ) وقرأ ابن عامر بفتح التاء. (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما تؤمر به فحذفا دفعة ، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإضافة إلى المأمور ، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ولعل الأمر به في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص ، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا. (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) على الذبح أو على قضاء الله ، وقرأ نافع بفتح الياء.

(فَلَمَّا أَسْلَما) استسلما لأمر الله أو سلما الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه ، وقد قرئ بهما وأصلها سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه. (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. وقيل كبه على وجهه بإشارته لئلا يرى فيه تغيرا يرق له فلا يذبحه ، وكان ذلك عند الصخرة بمنى أو في الموضع المشرف على مسجده ، أو المنحر الذي ينحر فيه اليوم.

١٥

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(١٠٦)

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) بالعزم والإتيان بالمقدمات. وقد روي أنه أمر السكين بقوته على حلقه مرارا فلم تقطع ، وجواب «لما» محذوف تقديره كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به المقال ، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله ، وإظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لإفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما ، واحتج به من جوز النسخ قبل وقوعه فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالذبح لقوله (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولم يحصل.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره ، أو المحنة البينة الصعوبة فإنه لا أصعب منها.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(١١٠)

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ) بما يذبح بدله فيتم به الفعل. (عَظِيمٍ) عظيم الجثة سمين ، أو عظيم القدر لأنه يفدي به الله نبيا ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين. قيل كان كبشا من الجنة. وقيل وعلا أهبط عليه من ثبير. وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة ، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإنما قال وفديناه لأن الله المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإسناد ، واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة وليس فيه ما يدل عليه.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سبق بيانه في قصة نوح عليه‌السلام. (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لعله طرح عنه إنا اكتفاء بذكره مرة في هذه القصة.

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)(١١٣)

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) مقضيا نبوته مقدرا كونه من الصالحين وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة ، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال ، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما مثلا و (بَشَّرْناهُ) بوجود إسحاق أي بأن يوجد إسحاق نبيا من الصالحين ، ومع ذلك لا يصير نظير قوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) فإن الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحاق لم يكن مقدرا نبوة نفسه وصلاحها حينما يوجد ، ومن فسر الذبيح بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوته ، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق.

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ) على إبراهيم في أولاده. (وَعَلى إِسْحاقَ) بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب ، أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، وقرئ «وبركنا». (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) في عمله أو إلى نفسه بالإيمان والطاعة. (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي. (مُبِينٌ) ظاهر ظلمه ، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة وعيب.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ

١٦

فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(١١٨)

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.

(وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من تغلب فرعون أو الغرق.

(وَنَصَرْناهُمْ) ثم الضمير لهما مع القوم. (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) على فرعون وقومه.

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) البليغ في بيانه وهو التوراة.

(وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الطريق الموصل إلى الحق والصواب.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٢٢)

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

(إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) سبق مثل ذلك.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)(١٢٦)

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) هو إلياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى بعث بعده. وقيل إدريس لأنه قرئ إدريس وإدراس مكانه وفي حرف أبي رضي الله عنه. «وإن إبليس» وقرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله.

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أتعبدونه أو أتطلبون الخير منه ، وهو اسم صنم كان لأهل بكّ من الشام وهو البلد الذي يقال له الآن بعلبك وقيل البعل الرب بلغة اليمن ، والمعنى أتدعون بعض البعول. (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) وتتركون عبادته ، وقد أشار فيه إلى المقتضى للإنكار المعني بالهمزة ثم صرح به بقوله :

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص بالنصب على البدل.

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(١٢٨)

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي في العذاب ، وإنما أطلقه اكتفاء منه بالقرينة ، أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفا.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) مستثنى من الواو لا من المحضرين لفساد المعنى.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١٣٢)

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ).

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) لغة في إلياس كسيناء وسينين ، وقيل جمع له مراد به هو وأتباعه كالمهلبين ، لكن فيه أن العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام أو للمنسوب إليه بحذف ياء النسب كالأعجمين وهو قليل ملبس ، وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب على إضافة إل إلى ياسين لأنهما في المصحف مفصولان فيكون ياسين أبا إلياس ، وقيل محمد عليه الصلاة والسلام أو القرآن أو غيره من كتب الله والكل لا يناسب

١٧

نظم سائر القصص ولا قوله :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إذ الظاهر أن الضمير لإلياس.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ)(١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٣٨)

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) سبق بيانه.

(وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكة. (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) على منازلهم في متاجركم إلى الشأم فإن سدوم في طريقه. (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح.

(وَبِاللَّيْلِ) أي ومساء أو نهارا وليلا ، ولعلها وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساء. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفليس فيكم عقل تعتبرون به.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤٤)

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وقرئ بكسر النون.

(إِذْ أَبَقَ) هرب ، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء.

(فَساهَمَ) فقارع أهله. (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) فصار من المغلوبين بالقرعة ، وأصله المزلق عن مقام الظفر. روي أنه لما وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله ، فركب السفينة فوقفت فقالوا : ها هنا عبد آبق فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ، فقال أنا الآبق ورمى بنفسه في الماء.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) فابتلعه من اللقمة. (وَهُوَ مُلِيمٌ) داخل في الملامة ، أو آت بما يلام عليها أو مليم نفسه ، وقرئ بالفتح مبنيا من ليم كمشيب في مشوب.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح مدة عمره ، أو في بطن الحوت وهو قوله (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقيل من المصلين.

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) حيا وقيل ميتا ، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ، ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(١٤٨)

(فَنَبَذْناهُ) بأن حملنا الحوت على لفظه. (بِالْعَراءِ) بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت. روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه ، واختلف في مدة لبثه فقيل بعض يوم وقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة ، وقيل عشرون وقيل أربعون. (وَهُوَ سَقِيمٌ) مما ناله قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أي فوقه مظلة عليه. (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) من شجر ينبسط على وجه الأرض ولا يقوم

١٨

على ساقه ، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به ، والأكثر على أنها كانت الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه ، ويدل عليه أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لتحب القرع ، قال : «أجل هي شجرة أخي يونس». وقيل التين وقيل الموز تغطى بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره.

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) هم قومه الذين هرب عنهم وهم أهل نينوى ، والمراد به ما سبق من إرساله أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم. (أَوْ يَزِيدُونَ) في مرأى الناظر أي إذا نظر إليهم ، قال هم مائة ألف أو يزيدون والمراد الوصف بالكثرة وقرئ بالواو.

(فَآمَنُوا) فصدقوه أو فجددوا الإيمان به بمحضره. (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) إلى أجلهم المسمى ، ولعله إنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبر وأولي العزم من الرسل ، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(١٥٢)

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) معطوف على مثله ، في أول السورة أمر رسوله أولا باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث ، وساق الكلام في تقريره جارا لما يلائمه من القصص موصولا بعضها ببعض ، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم : الملائكة بنات الله ، وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر ، التجسيم وتجويز الفناء على الله تعالى ، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة ، وتفضيل أنفسهم عليه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم ، واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكار ذلك وإبطاله في كتابه مرارا ، وجعله مما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) ، والإنكار ها هنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما ، أو لأن فسادهما مما تدركه العامة بمقتضى طباعهم حيث جعل المعادل للاستفهام عن التقسيم.

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) وإنما خص علم المشاهدة لأن أمثال ذلك لا تعلم إلا بها ، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء ، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يبتون به كأنهم قد شاهدوا خلقهم.

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) لعدم ما يقتضيه وقيام ما ينفيه. (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يتدينون به ، وقرئ «ولد الله» أي الملائكة ولده ، فعل بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١٥٧)

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) استفهام إنكار واستبعاد ، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء ، وعن نافع كسر الهمزة على حذف حرف الاستفهام لدلالة أم بعدها عليها أو على الإثبات بإضمار القول أي : لكاذبون في قولهم اصطفى ، أو إبداله من (وَلَدَ اللهُ).

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بما لا يرتضيه عقل.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أنه منزه عن ذلك.

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته.

١٩

(فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل عليكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ(١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(١٦٠)

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) يعني الملائكة ذكرهم باسم جنسهم وضعا منهم أن يبلغوا هذه المرتبة ، وقيل قالوا إن الله تعالى صاهر الجن فخرجت الملائكة ، وقيل قالوا الله والشياطين إخوان. (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) إن الكفرة أو الإنس والجن إن فسرت بغير الملائكة (لَمُحْضَرُونَ) في العذاب.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والنسب.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء من المحضرين منقطع ، أو متصل إن فسر الضمير بما يعمهم وما بينهما اعتراض أو من (يَصِفُونَ).

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ)(١٦٣)

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) عود إلى خطابهم.

(ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) على الله. (بِفاتِنِينَ) مفسدين الناس بالإغواء.

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) إلّا من سبق في علمه أنه من أهل النار ويصلاها لا محالة ، و (أَنْتُمْ) ضمير لهم ولآلهتهم غلب فيه المخاطب على الغائب ، ويجوز أن يكون (وَما تَعْبُدُونَ) لما فيه من معنى المقارنة سادا مسد الخبر أي إنكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها ، ما أنتم على ما تعبدونه بفاتنين بباعثين على طريق الفتنة إلا ضالا مستوجبا للنار مثلكم ، وقرئ «صال» بالضم على أنه جمع محمول على معنى من ساقط واوه لالتقاء الساكنين ، أو تخفيف صائل على القلب كشاك في شائك ، أو المحذوف منه كالمنسي كما في قولهم : ما باليت به بالة ، فإن أصلها بالية كعافية.

(وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦)

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم والمعنى : وما منا أحد إلا له مقام معلوم في المعرفة والعبادة والانتهاء إلى أمر الله في تدبير العالم ، ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله (سُبْحانَ اللهِ) من كلامهم ليتصل بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) كأنه قال ولقد علمت الملائكة أن المشركين معذبون بذلك وقالوا (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له عنه ، ثم استثنوا (الْمُخْلَصِينَ) تبرئة لهم منه ، ثم خاطبوا المشركين بأن الافتتان بذلك للشقاوة المقدرة ، ثم اعترفوا بالعبودية وتفاوت مراتبهم فيه لا يتجاوزونها فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) في أداء الطاعة ومنازل الخدمة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) المنزهون الله عما لا يليق به ، ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف ، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة دون غيرهم. وقيل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين والمعنى : وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله يوم القيامة ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) له في الصلاة والمنزهون له عن السوء.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ(١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(١٧٠)

٢٠