أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٢

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٥

١
٢

٣
٤

(٣) سورة آل عمران

مدنية وآيها مائتان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(٢)

(الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إنما فتح الميم في المشهور وكان حقها أن يوقف عليها لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت ، لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج ، فإن الميم في حكم الوقف كقولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال لا لالتقاء الساكنين ، فإنه غير محذور في باب الوقف ، ولذلك لم تحرك الميم في لام. وقرئ بكسرها على توهم التحريك لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر بسكونها والابتداء بما بعدها على الأصل. (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي طه وعنت الوجوه للحي القيوم».

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٤)

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن نجوما. (بِالْحَقِ) بالعدل ، أو بالصدق في أخباره ، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) جملة على موسى وعيسى. واشتقاقهما من الورى والنجل ، ووزنهما بتفعلة وافعيل تعسف لأنهما أعجميان ، ويؤيد ذلك أنه قرئ «الإنجيل» بفتح الهمزة وهو ليس من أبنية العربية ، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي (التَّوْراةَ) بالإمالة في جميع القرآن ، ونافع وحمزة بين اللفظين إلّا قالون فإنه قرأ بالفتح كقراءة الباقين.

(مِنْ قَبْلُ) من قبل تنزيل القرآن. (هُدىً لِلنَّاسِ) على العموم إن قلنا إنا متعبدون بشرع من قبلنا ، وإلا فالمراد به قومهما. (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) يريد به جنس الكتب الإلهية ، فإنّها فارقة بين الحق والباطل. ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها ، كأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ، أو الزبور أو القرآن. وكرر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيما ، وإظهارا لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحيا منزلا ويتميز بأنه معجز يفرق بين المحق والمبطل ، أو المعجزات (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) من كتبه المنزلة وغيرها. (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم. (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يمنع من التعذيب. (ذُو انْتِقامٍ) لا يقدر على مثله منتقم ، والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر ، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيما للأمر ، وزجرا عن الإعراض عنه.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ

٥

لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٦)

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي شيء كائن في العالم كليا كان أو جزئيا ، إيمانا أو كفرا. فعبّر عنه بالسماء والأرض إذ الحس لا يتجاوزهما ، وإنما قدم الأرض ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها. وهو كالدليل على كونه حيا وقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي من الصور المختلفة ، كالدليل على القيومية ، والاستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره. وقرئ «تصوركم» أي صوركم لنفسه وعبادته. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه ولا يقدر على مثل ما يفعله. (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته. قيل : هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا ، فإن وفد نجران لما حاجوا فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت السورة ، من أولها إلى نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليهم وأجاب عن شبههم.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧)

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإجمال والاحتمال. (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أصله يرد إليها غيرها والقياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) محتملات لا يتضح مقصودها. لإجمال أو مخالفة ظاهر. إلا بالفحص والنظر ليظهر فيها فضل العلماء ، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها ، فينالوا بها. وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها ، والتوفيق بينها وبين المحكمات. معالي الدرجات. وأما قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ ، وقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) فمعناه أنه يشبه بعضه بعضا في صحة المعنى وجزالة اللفظ ، (وَأُخَرُ) جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر ولا يلزم منه معرفته ، لأن معناه أن القياس أن يعرف ولم يعرف لا أنه في معنى المعرف أو عن (أُخَرُ) من (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) عدول عن الحق كالمبتدعة. (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه. (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه ، ويحتمل أن يكون الداعي إلى الاتباع مجموع الطلبتين ، أو كل واحدة منهما على التعاقب. والأول يناسب المعاند والثاني يلائم الجاهل. (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الذي يجب أن يحمل عليه. (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ، ومن وقف على (إِلَّا اللهُ) فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه : كمدة بقاء الدنيا ، ووقت قيام الساعة ، وخواص الأعداد كعدد الزبانية ، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد ولم يدل على ما هو المراد. (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) استئناف موضح لحال الراسخين ، أو حال منهم أو خبر إن جعلته مبتدأ. (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي كل من المتشابه والمحكم من عنده ، (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ، وإشارة إلى ما استعدوا به للاهتداء إلى تأويله ، وهو تجرد العقل عن غواشي الحس ، واتصال الآية بما قبلها من حيث إنها في تصوير الروح بالعلم وتربيته ، وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته ، أو أنها جواب عن تشبث النصارى بنحو قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير الله ، فتعين أن يكون هو أباه بأنه تعالى مصور الأجنة كيف يشاء فيصور من نطفة أب ومن غيرها ، وبأنه صوره في الرحم والمصور لا يكون أب المصور.

٦

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٩)

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) من مقال الراسخين. وقيل : استئناف والمعنى لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه ، قال عليه الصلاة والسلام «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه على الحق وإن شاء أزاغه عنه». وقيل : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا. (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى الحق والإيمان بالقسمين. من الحكم والمتشابه ، وبعد نصب على الظرف ، وإذ في موضع الجر بإضافته إليه. وقيل إنه بمعنى إن. (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) تزلفنا إليك ونفوز بها عندك ، أو توفيقا للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) لكل سؤل ، وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله وأنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء.

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) لحساب يوم أو لجزائه. (لا رَيْبَ فِيهِ) في وقوع اليوم وما فيه من الحشر والجزاء ، نبهوا به على أن معظم غرضهم من الطلبتين ما يتعلق بالآخرة فإنها المقصد والمآل. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) فإن الإلهية تنافيه وللإشعار به وتعظيم الموعود لوّن الخطاب ، واستدل به الوعيدية. وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو لدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)(١١)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) عام في الكفرة. وقيل : المراد به وفد نجران ، أو اليهود ، أو مشركوا العرب. (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي من رحمته ، أو طاعته على معنى البدلية ، أو من عذابه (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) حطبها. وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) متصل بما قبله أي لن تغن عن أولئك ، أو توقد بهم كما توقد بأولئك ، أو استئناف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر والعذاب ، وهو مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فنقل إلى معنى الشأن. (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على (آلِ فِرْعَوْنَ). وقيل استئناف. (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) حال بإضمار قد ، أو استئناف بتفسير حالهم ، أو خبر إن ابتدأت بالذين من قبلهم. (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف الكفرة.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٢)

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) أي قل لمشركي مكة ستغلبون يعني يوم بدر ، وقيل لليهود فإنه عليه الصلاة والسلام جمعهم بعد بدر في سوق بني قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا لا يغرنك أنك أصبت أغمارا لا علم لهم بالحرب لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ، فنزلت. وقد صدق الله وعده لهم بقتل قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم وهو من دلائل النبوة. وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على أن الأمر بأن يحكي لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه. (وَبِئْسَ الْمِهادُ) تمام ما يقال لهم ، أو استئناف وتقدير بئس المهاد جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)(١٣)

٧

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) الخطاب لقريش أو لليهود ، وقيل للمؤمنين. (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) يوم بدر. (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين ، وكان قريبا من ألف ، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين ، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ). ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله ، أو يريكم ذلك بقدرته ، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص ، أو الحال من فاعل التقتا. (رَأْيَ الْعَيْنِ) رؤية ظاهرة معاينة. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) نصره كما أيد أهل بدر. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي التقليل والتكثير ، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح ، وكون الواقعة آية أيضا يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لعظة لذوي البصائر. وقيل لمن أبصرهم.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(١٤)

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) أي المشتهيات سماها شهوات مبالغة وإيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي ، ولعله زينه إبتلاء ، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى ، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع. وقيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم. وفرق الجبائي بين المباح والمحرم. (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) بيان للشهوات ، والقنطار المال الكثير. وقيل مائة ألف دينار. وقيل ملء مسك ثور. واختلف في أنه فعلال أو فنعال ، والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة. والمسومة المعلمة من السومة وهي العلامة ، أو المرعية من أسام الدابة وسومها ، أو المطهمة. والأنعام الإبل والبقر والغنم (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) إشارة إلى ما ذكر. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع ، وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ)(١٦)

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) يريد به تقرير أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا. (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) استئناف لبيان ما هو خير ، ويجوز أن يتعلق اللام بخير ويرتفع جنات على هو جنات ، ويؤيده قراءة من جرها بدلا من (بِخَيْرٍ). (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) مما يستقذر من النساء. (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) قرأ عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن بضم الراء ما خلا الحرف الثاني في المائدة وهو قوله تعالى : (رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) بكسر الراء وهما لغتان. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي بأعمالهم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم جنات ، وقد نبه بهذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله تعالى لقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) وأوسطها الجنة ونعيمها.

٨

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) صفة للمتقين ، أو للعباد ، أو مدح منصوب أو مرفوع. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها.

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧)

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب ، فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل وإما طلب ، والتوسل إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما ، وإما بالبدن ، وهو إما قولي وهو الصدق وإما فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة ، وإما بالمال وهو الإنفاق في سبل الخير ، وأما الطلب فبالاستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منها وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها ، وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة ، لأن العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع أجمع للمجتهدين. قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٨)

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بين وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها. (وَالْمَلائِكَةُ) بالإقرار. (وَأُولُوا الْعِلْمِ) بالإيمان بها والاحتجاج عليها ، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. (قائِماً بِالْقِسْطِ) مقيما للعدل في قسمه وحكمه وانتصابه على الحال من الله ، وإنما جاز إفراده بها ولم يجز جاء زيد وعمرو راكبا لعدم اللبس كقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً). أو من هو والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد قائما ، أو أحقه لأنها حال مؤكدة ، أو على المدح ، أو الصفة للمنفي وفيه ضعف للفصل وهو مندرج في المشهود به إذا جعلته صفة ، أو حالا من الضمير. وقرئ «القائم بالقسط» على البدل عن هو أو الخبر لمحذوف. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبني عليه قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدم العزيز لتقديم العلم بقدرته على العلم بحكمته ، ورفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل شهد.

وقد روي في فضلها أنه عليه الصلاة والسلام قال «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى : «إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة». وهي دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٩)

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام ، وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل من أنه بدل الكل أن فسر الإسلام بالإيمان ، أو بما يتضمنه وبدل اشتمال إن فسر بالشريعة. وقرئ أنه بالكسر وأن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني ، واعتراض ما بينهما أو إجراء شهد مجرى قال تارة وعلم أخرى لتضمنه معناهما. (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى ، أو من أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقا ، أو في التوحيد فثلثت النصارى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ). وقيل هم قوم موسى اختلفوا بعده. وقيل هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى عليه

٩

السلام. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي بعد ما علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالآيات والحجج. (بَغْياً بَيْنَهُمْ) حسدا بينهم وطلبا للرئاسة ، لا لشبهة وخفاء في الأمر. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) وعيد لمن كفر منهم.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)(٢٠)

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) في الدين ، أو جادلوك فيه بعد ما أقمت الحجج. (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أخلصت نفسي وجملتي له لا أشرك فيها غيره ، وهو الدين القويم الذي قامت به الحجج ودعت إليه الآيات والرسل ، وإنما عبر بالوجه عن النفس لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والحواس (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على التاء في أسلمت وحسن للفصل ، أو مفعول معه. (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب. (أَأَسْلَمْتُمْ) كما أسلمت لما وضحت لكم الحجة ، أم أنتم بعد على كفركم ونظيره وقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وفيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة. (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) فقد نفعوا أنفسهم بأن أخرجوها من الضلال. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي فلم يضروك إذ ما عليك إلا أن تبلغ وقد بلغت. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) وعد ووعيد.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٢٢)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هم أهل الكتاب الذين في عصره عليه‌السلام. قتل أولهم الأنبياء ومتابعيهم وهم رضوا به وقصدوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ولكن الله عصمهم ، وقد سبق مثله في سورة البقرة. وقرأ حمزة «ويقاتلون الذين». وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر إن كليت ولعل ولذلك قيل الخبر.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) كقولك زيد فافهم رجل صالح ، والفرق أنه لا يغير معنى الابتداء بخلافهما. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفع عنهم العذاب.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٣)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة أو جنس الكتب السماوية ، ومن للتبعيض أو للبيان. وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير. (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الداعي محمد عليه الصلاة والسلام وكتاب الله القرآن ، أو التوراة لما روي (أنه عليه الصلاة والسلام دخل مدراسهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت. فقال : على دين إبراهيم. فقالا إن إبراهيم كان يهوديا فقال : هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم. فأبيا فنزلت). وقيل نزلت في الرجم. وقرئ ليحكم على البناء للمفعول فيكون الاختلاف فيما بينهم ، وفيه دليل على أن الأدلة السمعية حجة في الأصول. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) استبعاد لتوليهم مع علمهم بأن الرجوع إليه واجب. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وهم قوم عادتهم الإعراض ، والجملة حال من فريق وإنما ساغ لتخصصه بالصفة.

١٠

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٥)

(ذلِكَ) إشارة إلى التولي والإعراض. (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الاعتقاد الزائغ والطمع الفارغ. (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أن النار لن تمسهم إلا أياما قلائل ، أو أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو أنه تعالى وعد يعقوب عليه‌السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) استعظام لما يحيق بهم في الآخرة وتكذيب لقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات. روي : أن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) جزاء ما كسبت. وفيه دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار ، لأن توفية إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها ، فإذن هي بعد الخلاص منها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الضمير لكل نفس على المعنى لأنه في معنى كل إنسان.

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٦)

(قُلِ اللهُمَ) الميم عوض عن يا ولذلك لا يجتمعان ، وهو من خصائص هذا الاسم كدخول يا عليه مع لام التعريف وقطع همزته وتاء القسم. وقيل : أصله يا الله أمنا بخير ، فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته. (مالِكَ الْمُلْكِ) يتصرف فيما يمكن التصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) تعطي منه ما تشاء من تشاء وتسترد ، فالملك الأول عام والآخران بعضان منه. وقيل : المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما بالنصر والإدبار والتوفيق والخذلان. (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذكر الخير وحده لأنه المقتضي بالذات ، والشر مقضي بالعرض ، إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا ، أو لمراعاة الأدب في الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه إذ روي (أنه عليه‌السلام لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره ، فجاء عليه الصلاة والسلام فأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها. وبرق منها برق أضاء منه ما بين لابتيها لكأن بها مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر وكبر معه المسلمون وقال «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء» وأخبرني جبريل عليه‌السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فابشروا». فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق) فنزلت. فنبه على أن الشر أيضا بيده بقول (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢٧)

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) عقب ذلك ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله ، دلالة على

١١

أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة الذل والعز وإيتاء الملك ونزعه. والولوج : الدخول في مضيق. وإيلاج الليل والنهار : إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص. وإخراج الحي من الميت وبالعكس. إنشاء الحيوانات من موادها وإماتتها ، أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه. وقيل : إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر (الْمَيِّتِ) بالتخفيف.

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٢٨)

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) نهوا عن موالاتهم لقرابة وصداقة جاهلية ونحوهما ، حتى لا يكون حبهم وبغضهم إلا في الله ، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية. (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة ، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي اتخاذهم أولياء. (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي من ولايته في شيء يصح أن يسمى ولاية ، فإن موالاتي المتعاديين لا يجتمعان قال :

تودّ عدوي ثمّ تزعم أنّني

صديقك ليس النوك عنك بعازب

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ، أو اتقاء. والفعل معدى بمن لأنه في معنى تحذروا وتخافوا. وقرأ يعقوب «تقية». منع عن موالاتهم ظاهرا وباطنا في الأوقات كلها إلا وقت المخافة ، فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز كما قال عيسى عليه‌السلام : كن وسطا وامش جانبا. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه ، وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي النهي في القبح وذكر النفس ، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة.

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٩)

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) أي أنه يعلم ضمائركم من ولاية الكفار وغيرها إن تخفوها أو تبدوها. (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيعلم سركم وعلنكم. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه. والآية بيان لقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) وكأنه قال ويحذركم نفسه لأنها متصفة بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها ، وقدرة ذاتية تعم المقدورات بأسرها ، فلا تجسروا على عصيانه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها قادر على العقاب بها.

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٣٠)

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً يَوْمَ) منصوب بتود أي تتمنى كل نفس يوم تجد صحائف أعمالها ، أو جزاء أعمالها من الخير والشر حاضرة لو أن بينها وبين ذلك اليوم ، وهو له أمدا بعيدا ، أو بمضمر نحو اذكر ، و (تَوَدُّ) حال من الضمير في عملت أو خبر لما عملت من سوء وتجد مقصور على (ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) ، ولا تكون (ما) شرطية لارتفاع (تَوَدُّ). وقرئ «ودت» وعلى هذا يصح أن تكون شرطية ولكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنه حكاية

١٢

كائن وأوفق للقراءة المشهورة. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرره للتأكيد والتذكير. (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) إشارة إلى أنه تعالى إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة لصلاحهم ، أو أنه لذو مغفرة وذو عقاب أليم فترجى رحمته ويخشى عذابه.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)(٣٢)

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه ، بحيث يحملها على ما يقربها إليه ، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن كل ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلا لله وفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه ، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته والحرص على مطاوعته. (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جواب للأمر أي يرض عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزه ويبوئكم في جوار قدسه ، عبر عن ذلك بالمحبة على طريق الاستعارة أو المقابلة. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تحبب إليه بطاعته واتباع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روي : أنها نزلت لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل : نزلت في وفد نجران لما قالوا : إنما نعبد المسيح حبا لله. وقيل : في أقوام زعموا على عهدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم يحبون الله فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقا من العمل.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل المضي والمضارعة بمعنى فإن تتولوا. (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم ، وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أن التولي كفر ، وإنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٣٤)

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية ، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم. لما أوجب طاعة الرسول وبين أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضا عليها ، وبه استدل على فضلهم على الملائكة ، (وَآلَ إِبْراهِيمَ) ، إسماعيل وإسحاق وأولادهما. وقد دخل فيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَآلَ عِمْرانَ) موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، أو عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان بن العازار بن أبي يوذ بن يوزن بن زربابل بن ساليان بن يوحنا بن أوشيا بن أمون بن منشكن بن حازقا بن أخاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن ساقط بن ايشا بن راجعيم بن سليمان بن داود بن ايشي بن عوبد بن سلمون بن ياعز بن نحشون بن عمياد بن رام بن حصروم بن فارص بن يهوذا بن يعقوب عليه‌السلام ، وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) حال أو بدل من الآلين أو منهما ومن نوح أي إنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض. وقيل بعضها من بعض في الدين. والذرية الولد يقع على الواحد والجمع فعلية من الذر أو فعولة من الذرء أبدلت همزتها ياء ثم قلبت الواو ياء وأدغمت. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) بأقوال الناس وأعمالهم فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل ، أو سميع بقول امرأة عمران عليم بنيتها.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٥)

١٣

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) فينتصب به إذ على التنازع. وقيل نصبه بإضمار اذكر ، وهذه حنة بنت فاقوذ جدة عيسى ، وكانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون فظن أن المراد زوجته ويرده كفالة زكريا فإنه كان معاصرا لابن ماثان وتزوج بنته ايشاع ، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة من الأب روي أنها كانت عاقرا عجوزا ، فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت : اللهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من خدمه ، فحملت بمريم وهلك عمران. وكان هذا النذر مشروعا في عهدهم للغلمان فلعلها بنت الأمر على التقدير أو طلبت ذكرا (مُحَرَّراً) معتقا لخدمته لا أشغله بشيء ، أو مخلصا للعبادة ونصبه على الحال. (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) ما نذرته. (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لقولي ونيتي.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٣٦)

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) الضمير لما في بطنها وتأنيثه لأنه كان أنثى ، وجاز انتصاب أنثى حالا عنه لأن تأنيثها علم منه فإن الحال وصاحبها بالذات واحدا. أو على تأويل مؤنث كالنفس والحبلة. وإنما قالته تحسرا وتحزنا إلى ربها لأنها كانت ترجو أن تلد ذكرا ولذلك نذرت تحريره. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) أي بالشيء الذي وضعت. هو استئناف من الله تعالى تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بشأنها. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب (وَضَعَتْ) على أنه من كلامها تسلية لنفسها أي ولعل الله سبحانه وتعالى فيه سرا ، أو الأنثى كانت خيرا. وقريء «وضعت» على أنه خطاب الله تعالى لها. (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) بيان لقوله (وَاللهُ أَعْلَمُ) أي وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت ، واللام فيهما للعهد ويجوز أن يكون من قولها بمعنى وليس الذكر والأنثى سيان فيما نذرت فتكون اللام للجنس. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على ما قبلها من مقالها وما بينهما اعتراض ، وإنما ذكرت ذلك لربها تقربا إليه وطلبا لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها فإن مريم في لغتهم بمعنى : العابدة. وفيه دليل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور متغايرة. (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) أجيرها بحفظك. (وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) المطرود ، وأصل الرجم الرمي بالحجارة. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد ، فيستهل من مسه إلا مريم وابنها». ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٧)

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها) فرضي بها في النذر مكان الذكر. (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي بوجه حسن يقبل به النذائر ، وهو إقامتها مقام الذكر ، أو تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة. روي أن حنة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم فقال زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها فأبوا إلا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا. ويجوز أن يكون مصدرا على تقدير مضاف أي بذي قبول حسن ، وأن يكون تقبل بمعنى استقبل كتقضي وتعجل أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) شدد الفاء حمزة والكسائي وعاصم ، وقصروا زكريا

١٤

غير عاصم في رواية ابن عياش على أن الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها ، وخفف الباقون. ومدوا «زكرياء» مرفوعا. (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) أي الغرفة التي بنيت لها ، أو المسجد ، أو أشرف مواضعه ومقدمها ، سمي به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) جواب (كُلَّما) وناصبه. روي : أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب ، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك ، وهو دليل جواز الكرامة للأولياء. جعل ذلك معجزة زكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه. (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلا تستبعده. قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه‌السلام ولم ترضع ثديا قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة. (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير لكثرته ، أو بغير استحقاق تفضلا به. وهو يحتمل أن يكون من كلامهما وأن يكون من كلام الله تعالى. روي (أن فاطمة رضي الله تعالى عنها أهدت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها وقال : هلمي يا بنية ، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها : أنّى لك هذا! فقالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ، ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها).

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(٣٩)

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) في ذلك المكان ، أو الوقت إذ يستعار هنا وثم وحيث للزمان ، لما رأى كرامة مريم ومنزلتها من الله تعالى. (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كما وهبتها لحنة العجوز العاقر. وقيل لما رأى الفواكه في غير أوانها انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ ، فسأل وقال هب لي من لدنك ذرية ، لأنه لم يكن على الوجوه المعتادة وبالأسباب المعهودة. (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) مجيبه.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي من جنسهم كقولهم زيد يركب الخيل. فإن المنادي كان جبريل وحده. وقرأ حمزة والكسائي «فناداه» بالإمالة والتذكير. (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي قائما في الصلاة ، و (يصلي) صفة قائم أو خبر أو حال آخر أو حال عن الضمير في قائم. (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي بأن الله. وقرأ نافع وابن عامر بالكسر على إرادة القول ، أو لأن النداء نوع منه. وقرأ حمزة والكسائي (يبشرك) ، و (يحيى) اسم أعجمي وإن جعل عربيا فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل. (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي بعيسى عليه‌السلام ، سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ، أو بكتاب الله ، سمي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته. (وَسَيِّداً) يسود قومه ويفوقهم وكان فائقا للناس كلهم في أنه ما همّ بمعصية قط. (وَحَصُوراً) مبالغا في حبس النفس عن الشهوات والملاهي. روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت. (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ناشئا منهم أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)(٤٠)

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استبعادا من حيث العادة ، أو استعظاما أو تعجبا أو استفهاما عن كيفية

١٥

حدوثه. (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أدركني كبر السن وأثر فيّ. وكان له تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون سنة. (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) لا تلد ، من العقر وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد. (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي يفعل ما يشاء من العجائب مثل ذلك الفعل ، وهو إنشاء الولد من شيخ فان وعجوز عاقر ، أو كما أنت عليه وزوجك من الكبر والعقر يفعل ما يشاء من خلق الولد أو كذلك الله مبتدأ وخبر أي الله على مثل هذه الصفة ، ويفعل ما يشاء بيان له أو كذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، والله يفعل ما يشاء بيان له.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٤١)

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا ، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره ، قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال. (إِلَّا رَمْزاً) إشارة بنحو يد أو رأس ، وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير. وقرئ «رمزا» بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزا كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله :

متى ما تلقني فردين ترجف

روانف أليتيك وتستطارا

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) في أيام الحبسة ، وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه ، وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِ) من الزوال إلى الغروب. وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل. (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى الضحى. وقرئ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)(٤٣)

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) كلموها شفاها كرامة لها ، ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كانت معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإن الإجماع على أنه سبحانه وتعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً). وقيل ألهموها ، والاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء. والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها ، وتخصيصها بالكرامات السنية كالولد من غير أب وتبرئتها مما قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها ، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب ، أو ليقترن اركعي بالراكعين للإيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين. وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعة كقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) وبالسجود الصلاة كقوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ). وبالركوع الخشوع والإخبات.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)(٤٤)

١٦

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي ما ذكرنا من القصص من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أقداحهم للاقتراع. وقيل اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركا ، والمراد تقرير كونه وحيا على سبيل التهكم بمنكريه ، فإن طريق معرفة الوقائع المشاهدة والسماع وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم فبقي أن يكون الإتهام باحتمال العيان ولا يظن به عاقل. (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) متعلق بمحذوف دل عليه (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي يلقونها ليعلموا ، أو يقولوا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ). (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) تنافسا في كفالتها.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٤٦)

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) بدل من (إِذْ قالَتِ) الأولى وما بينهما اعتراض ، أو من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على أن وقوع الاختصام والبشارة في زمان متسع كقولك لقيته سنة كذا. (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا معناه : المبارك ، وعيسى معرب ايشوع واشتقاقهما من المسح لأنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب ، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع ، أو مسحه جبريل ، ومن العيس وهو بياض يعلوه حمرة ، تكلف لا طائل تحته ، وابن مريم لما كان صفة تميز تمييز الأسماء نظمت في سلكها ، ولا ينافي تعدد الخبر وإفراد المبتدأ فإنه اسم جنس مضاف ويحتمل أن يراد به أن الذي يعرف به ويتميز عن غيره هذه الثلاثة ، فإن الإسم علامة المسمى والمميز له ممن سواه ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف وابن مريم صفته ، وإنما قيل ابن مريم والخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب. (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) حال مقدرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره للمعنى ، والوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من الله ، وقيل إشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا ، كلام الأنبياء من غير تفاوت. والمهد مصدر سمي به ما يمهد للصبي في مضجعه. وقيل إنه رفع شابا والمراد وكهلا بعد نزوله ، وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشادا إلى أنه بمعزل عن الألوهية (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) حال ثالث من كلمة أو ضميرها الذي في يكلم.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٧)

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) تعجب ، أو استبعاد عادي ، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره. (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) القائل جبريل ، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ

١٧

وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٤٩)

ونعلّمه الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل كلام مبتدأ ذكر تطييبا لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم لما علمت أنها تلد من غير زوج ، أو عطف على يبشرك ، أو وجيها و (الْكِتابَ) الكتبة أو جنس الكتب المنزلة. وخص الكتابان لفضلهما. وقرأ نافع وعاصم (وَيُعَلِّمُهُ) بالياء.

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره : ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فكأنه قال : وناطقا بأني قد جئتكم ، وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم. (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) نصب بدل من أني قد جئتكم ، أو جر بدل من آية ، أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى : أقدر لكم وأصور شيئا مثل صورة الطير ، وقرأ نافع إني بالكسر (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل. (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) فيصير حيا طيارا بأمر الله ، نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه. وقرأ نافع هنا وفي المائدة «طائرا» بالألف والهمزة. (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) الأكمه الذي ولد أعمى أو الممسوح العين. روي : أن ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداوي إلا بالدعاء. (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) كرر بإذن الله دفعا لتوهم الألوهية ، فإن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية. (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) موفقين للإيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات ، أو مصدقين للحق غير معاندين.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(٥٠)

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) عطف على (رَسُولاً) على الوجهين ، أو منصوب بإضمار فعل دل عليه (قَدْ جِئْتُكُمْ) أي وجئتكم مصدقا. (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) مقدر بإضماره ، أو مردود على قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ، أو معطوف على معنى (مُصَدِّقاً) كقولهم جئتك معتذرا ولأطيب قلبك. (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام كالشحوم والثروب والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت ، وهو يدل على أن شرعه كان ناسخا لشرع موسى عليه الصلاة والسلام ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة ، كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وتكاذب ، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٥١)

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي جئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربكم وهو قوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) فإنه دعوة الحق المجمع عليها فيما بين الرسل الفارقة بين النبي والساحر ، أو جئتكم بآية على أن الله ربي وربكم وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراض والظاهر أنه تكرير لقوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم ، والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي لما جئتكم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعون فيما أدعوكم إليه ، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال : (إِنَّ اللهَ رَبِّي

١٨

وَرَبُّكُمْ) إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد ، وقال : (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه بملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام «قل آمنت بالله ثم استقم».

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(٥٢)

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس. (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا أو ضاما إليه ، ويجوز أن يتعلق الجار ب (أَنْصارِي) مضمنا معنى الإضافة ، أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري. وقيل إلى هاهنا بمعنى (مع) أو (في) أو (اللام). (قالَ الْحَوارِيُّونَ) حواري الرجل خاصته من الحور وهو البياض الخالص ، ومنه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن. سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض استنصر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود. وقيل قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها. (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أنصار دين الله. (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(٥٤)

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي مع الشاهدين بوحدانيتك ، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم ، أو مع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم شهداء على الناس.

(وَمَكَرُوا) أي الذين أحس منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة. (وَمَكَرَ اللهُ) حين رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل. والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يسند إلى الله تعالى إلا على سبيل المقابلة والازدواج. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أقواهم مكرا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٥٥)

(إِذْ قالَ اللهُ) ظرف لمكر الله أو خير الماكرين ، أو لمضمر مثل وقع ذلك. (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى ، عاصما إياك من قتلهم ، أو قابضك من الأرض من توفيت مالي ، أو متوفيك نائما إذ روي أنه رفع نائما ، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى. (وَرافِعُكَ إِلَيَ) إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي. (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من سوء جوارهم أو قصدهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعاونهم بالحجة أو السيف في غالب الأمر ، ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة لليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه ومن كفر به ، وغلب المخاطبين على الغائبين. (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين.

١٩

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(٥٧)

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ). (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فنوفيهم أجورهم تفسير للحكم وتفصيل له. وقرأ حفص (فَيُوَفِّيهِمْ) بالياء. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تقرير لذلك.

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)(٥٨)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره ، وهو مبتدأ خبره. (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) وقوله : (مِنَ الْآياتِ) حال من الهاء ويجوز أن يكون الخبر ونتلوه حالا على أن العامل معنى الإشارة وأن يكونا خبرين وأن ينتصب بمضمر يفسره نتلوه. (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) المشتمل على الحكم ، أو المحكم الممنوع عن تطرق الخلل إليه يريد به القرآن. وقيل اللوح.

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(٦٠)

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) إن شأنه الغريب كشأن آدم عليه الصلاة والسلام. (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة مفسرة للتمثيل مبينة لما به الشبه ، وهو أنه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم ، شبه حاله بما هو أعرب منه إفحاما للخصم وقطعا لمواد الشبهة والمعنى خلق قالبه من التراب. (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أي أنشأه بشرا كقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أو قدر تكوينه من التراب ثم كونه ، ويجوز أن يكون ثم لتراخي الخبر لا المخبر. (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضية.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر محذوف أي هو الحق ، وقيل (الْحَقُ) مبتدأ و (مِنْ رَبِّكَ) خبره أي الحق المذكور من الله تعالى. (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة التهييج لزيادة الثبات أو لكل سامع.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)(٦١)

(فَمَنْ حَاجَّكَ) من النصارى. (فِيهِ) في عيسى. (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من البينات الموجبة للعلم. (فَقُلْ تَعالَوْا) هلموا بالرأي والعزم. (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها ، وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا. والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) عطف فيه بيان روي (أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم نبوته ، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا ، فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ، فأذعنوا

٢٠