إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

١

٢

٣
٤

سورة الفاتحة

مكية ، وعدد آياتها ٧ آيات

أ ـ فضلها : لا يخفى أن أفضل سور القرآن سورة الحمد. لأنّ الله تعالى قد جعلها جزءا من الصّلاة التي هي عماد الدين ، بحيث لا يسدّ مسدّها شيء من سور القرآن قصارها وطوالها. ب ـ نزولها : هي مكّية :

١ ـ فاتحة الكتاب : لأنّها مفتتحه أو مفتاحه.

٢ ـ وأمّ الكتاب : لاشتمالها على مجمل معانيه. وقد كان العرب يسمّون الجلدة الجامعة للدماغ بمختلف حواسه : أم الرأس. وبيان ذلك : أنّها مشتملة على معاني القرآن أصوله وأركانه بصورة اللّف ، من الثّناء على الله بما هو أهله ، ومن التعبّد بالأمر والنّهي ، والوعد والوعيد.

٣ ـ الحمد : وهو من أسمائها لذكره في ابتدائها (١).

٤ ـ السبع المثاني : إمّا لكونها سبع آيات اتّفاقا في جملتها. أو لأنّها تثنّى في الفريضة.

٥ ـ لها أسماء أخر ، كالشافية ، والكنز ، والوافية. ج ـ التفسير :

١ ـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : هي آية من كلّ سورة إجماعا عندنا عدا براءة بالإجماع عندنا وعند غيرنا. والباء للاستعانة ، ويترجّح ذلك بأنّ الإنسان في جميع أموره يطلب الإعانة منه سبحانه. أو للمصاحبة ، والحجة فيه التبرّك باسمه تعالى ، والحقّ أنّ التبرّك يحصل بكلّ من الاستعانة والمصاحبة ، ولا فرق بينهما عند النظر الدقيق. والسورة مقولة على ألسنة عباده على ما هو الرائج بينهم في محاوراتهم تعليما للتبرّك باسمه وحمده ومسألته. ومتعلّق الظّرف فعل مقدّر مؤخّر ، لأهمية اسمه تعالى وقصر التبرك عليه سبحانه. هكذا : بسم الله أتلو». حذف المتعلّق لدلالة الحال عليه. والاسم من السّمو : بفتح السين وسكون الميم ، وهو مصدر فمعناه جعل الاسم. أو من السّمة : وأصله أي مصدره : وسم ، معناه العلامة بالكيّ ونحوه. ولم يقل سبحانه : «بالله» لأن التبرّك باسمه أدخل في الأدب. (اللهِ) : أصله إله. حذفت الهمزة وعوّض عنها أداة التعريف فصار مختصّا بالمعبود بالحقّ بالغلبة ، بخلاف الإله فإنه كان لكل معبود ، ثم غلب في المعبود بالحق. وهو من : أله بالفتح ، بمعنى : عبد أو تحيّر ومعناهما عام. وبالكسر (أله) بمعنى سكن أو فزع أو ولع لأنه معبود تتحيّر فيه العقول وتطمئنّ بذكره القلوب ويفزع إليه ويولع بالتضرّع لديه. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : صفتان مشبّهتان من رحم بكسر عين الفعل ، كغضبان من غضب. والرحمة هي رقّة القلب المقتضية للإحسان. واتّصافه تعالى بها باعتبار غايتها التي هي فعل ، لا مبدئها الذي هو انفعال. والرّحمن أبلغ لاقتضاء زيادة البناء زيادة المعنى. وملخص القول أنّ معنى الرحمن أي البالغ في الرحمة غايتها ، ولذا اختصّ به سبحانه. وإنما قدّم في البسملة وغيرها من موارد اجتماعهما على الرحيم ، لصيرورته بالاختصاص كالواسطة بين العلم والوصف ، فناسب توسيطه بينهما. ولعلّ وجه التقديم ـ مضافا إلى ما قلناه آنفا ـ كون الرحمانيّة دنيوية ، وهي مقدّمة على الأخروية ، ولا منافاة بين الوجهين.

٢ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : الحمد : هو الثناء على أمر جليل جميل صدر عن اختيار نعمة وغيرها. ونقيضه : الذّم ، ويراد منه المدح. أما الشكر فهو ما قابل النعمة من قول أو عمل أو اعتقاد. ومن الشكر الحمد على النعمة بل هو أظهر أفراده قال (ص): «الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله من لم يحمده» فجعله كأشرف الأعضاء ، فكأن الشكر منتف بانتفائه. ونقيضه الكفران. (رَبِّ الْعالَمِينَ) : مالكهم وسائسهم ، أي مدبّر أمورهم على ما ينبغي. والرب مصدر ، بمعنى التربية ، وهي تبليغ الشيء كماله المقدّر له تدريجيّا. وهذا من أوصافه الخاصة به جلّ وعلا التي تدلّ على أن قدرته فوق ما يتصوّر من القوى ، ولا يطلق على غيره تعالى إلّا مضافا : كربّ الدار ، أو مجموعا : كالأرباب. والعالم : اسم لما سوى الله ، يقال : عالم الأرواح ، وعالم الأفلاك ، وعالم العناصر. ويطلق على مجموعها أيضا وإنما جمع هنا ليشمل مسمّاه كلّ الأجناس على اختلاف حقائقها وكذلك أفرادها. ويجمع بالواو والنون لتغليب جانب العقلاء.

٣ ـ (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : كرّرا في مفتاح الكتاب الكريم إشعارا بشدّة اعتنائه سبحانه بالرحمة ، أو تثبيتا للرجاء بأن مالك يوم الجزاء هو البالغ في الرحمة.

٤ ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : مالك : بالألف على قراءة عاصم والكسائي. وقرأ الباقون : «ملك يوم الدين» والفرق أنّ المالك من له التصرّف فيما في حوزته وتحت يده ، والملك

٥

منصوب على المفعولية. وانفعاله وتقدّمه على فعله لإفادة الحصر ، لأنّ تقديم ما هو حقّه التأخير يفيد الحصر. أي قصروا العبادة والاستعانة عليه. والعبادة أعلى مراتب الخضوع والتذلّل ، لا يستحقها إلّا الله. والاستعانة طلب المعونة في الفعل ، ويراد هنا طلب المعونة في كل المهمّات ، ولذا أيّهم المستعان فيه. وتكرير الضمير : «إيّاك وإيّاك» للتنصيص على التخصيص بالاستعانة. وتقديم العبادة على الاستعانة للتنبيه على أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. وإيثار صيغة المتكلّم مع الغير ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة وطلب المعونة متفردا على باب الكبرياء ، فلا بدّ من انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض والطلب كما يصنع في عرض الهدايا ورفع الحوائج إلى الملوك. ووجه العدول من الغيبة إلى الخطاب : أنّ فيه تطرية وتنشيطا للسامع ليس في غيره.

٦ ـ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : بيان للمعونة المطلوبة ، كأنه قال : «كيف أعينكم؟» فقالوا : «اهدنا الصراط المستقيم». والهداية : الدلالة بلطف إلى المطلوب. وقيل هي الموصلة ، وغيرها إراءة الطريق. وعن أمير المؤمنين علي (ع): اهدنا ، أي : ثبّتنا. وأصناف هدايته جلّ وعلا وإن لم يحصرها العدّ على أربعة أوجه : الأول : إفاضته القوى والحواسّ لجلب النفع ودفع الضّرر ، يدل عليه : «أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى». الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل ، يدلّ عليه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). الثالث : إرسال الرّسل وإنزال الكتب : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ). أي بالإرسال والإنزال. الرابع : إزالة الغواشي البدنية وإراءة الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام أو المنام الصادق أو الاستغراق في ملاحظة جماله وجلاله بحيث تقشعرّ جلودهم من الخشية ثم يرغبون في ذكر ربهم ويعرضون عمّا سواه ، قال تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ). وهذا يختص به الأنبياء والأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل.

والصراط : هو الجادّة ، والطريق. من سرط الطعام أي ابتلعه. فكأنه يسترط السالبة. وجمعه سرط ككتب. والمراد بالصّراط المستقيم ، ونتيجته التأكيد أو التّنصيص على أن الطريق الذي هو علم في الاستقامة هو طريق المنعم عليهم لأنه جعل كالتفسير له. والمراد بهم : المذكورون في كتابه : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) ... الآية. وقيل أراد بهم المسلمين ، حيث إنّ نعمة الإسلام أصل كلّ النّعم. والإنعام : إيصال النّعمة. ونعمه سبحانه كثيرة بحيث تعذّر حصرها وعدّها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها). وهي إمّا دنيويّة ظاهرية كإفاضة الوجود والعمر والقوى البدنية أو باطنية. ومن أسماها العقل وسائر القوى. وإما أخروية ، وهي روحانيّ «كغفران الذنوب» وجسماني «كأنهار العسل والشراب الطّهور». (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) : والغضب : ثوران النّفس لإرادة الانتقام تشفّيا. فإن أسند إليه تعالى فباعتبار الغاية كما في الرّحمة ، والعدول عن إسناده إليه تعالى إلى صيغة المجهول وإسناد عديله إليه تعالى ، تأسيس لمباني الرّحمة. فكأنّ الغضب صادر عن غيره تعالى ، وإلّا فالظاهر أن يقول : «غير الّذين غضبت عليهم». (وَلَا الضَّالِّينَ) : من الضّلال وشعبه كثيرة ، يجمعها العدول عن الطريق السّويّ ولو خطأ. والمشهور تفسير «المغضوب عليهم» باليهود و «الضّالّين» بالنصارى.

٦

سورة البقرة

مدنية ، وعدد آياتها ٢٨٦ آية

آ ـ فضلها : سئل النبيّ (ص) : أيّ سور القرآن أفضل؟ قال : البقرة. قيل : أيّ آي البقرة أفضل؟. قال : آية الكرسي. وقال الصادق (ع): من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين. ب ـ نزولها : مدنية وآياتها مائتان وستّ وثمانون آية. كلّها نزلت بالمدينة إلّا آية منها نزلت بمنى وهي قوله : واتّقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ... ج ـ التفسير :

١ ـ (الم) : قيل : هذا وما يأتي من الألفاظ المتهجّى بها : أسماء ، مسمّياتها الحروف التي منها ركّبت الكلم. والدليل صدق حدّ الاسم عليها ، مع قبولها لخواصّ الاسم. ولعل السرّ في النطق بهذه الألفاظ هو إشارة منه تعالى إلى أن «كتابنا» هذا ركّب من هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها نهارا وليلا. فإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بمثله وأنتم عرب فصحاء. فإن عجزتم انكشف أن هذا القرآن من فعل غير المخلوق ، وعمل من هو وراء الطّبيعة ، فينبغي أن يتحدّى به كما تحدّى بقوله : فأتوا بسورة إلخ ... وقيل : هي أسماء للقرآن. وقيل إنها قسم أقسم الله تعالى بها لشرفها وعظمتها لكونها مباني كتبه وأسمائه وصفاته. وورد عن أئمتنا عليهم‌السلام أنها من المتشابهات التي استأثر الله نفسه بعلمها ولا يعلم تأويلها غيره.

٢ ـ (ذلِكَ الْكِتابُ) : يحتمل أن يكون «ذلك» إشارة إلى القرآن ، أي الكتاب الذي أخبر به موسى بن عمران ، أو عيسى بن مريم فأخبرا بني إسرائيل. بهذا الكتاب الذي أفتتح ب ألم (لا رَيْبَ فِيهِ) من راب يريب ، إذا حصل فيه الرّيبة أي الشك. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها. والمعنى أنه ـ من وضوح دلالته ـ لا ينبغي أنه يرتاب فيه عاقل ، فإنه لا مجال للريبة فيه. (هُدىً) مصدر. وهو الرشاد ، والبيان ، والدلالة. وهو ضد : الضلال. (لِلْمُتَّقِينَ) : والمتّقي : اسم فاعل من وقاه فاتّقي. والوقاية فرط الصيّانة ، وشرعا من وقى نفسه الذنوب. وفسّر المتّقون بالذين يتّقون الموبقات. وهذا التفسير أعمّ من سابقه ، لأن الموبقات تشمل الذنوب وغيرها. واختصاصه بالمتقين ، لأن لهم كفاية الاهتداء على ضوئه وزيادة قابليته ، وإلا فكثير من الناس يهتدون به.

٣ ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) : الإيمان إفعال ، من آمن ، بمعنى صدّق ، وضد التكذيب. وحقيقة الإيمان شرعا هو المعرفة بالله وصفاته ، وبرسله وبما جاؤوا به ، ويلازمه التصديق بهم. وإلا فالتصديق بلا عرفان لسانيّ لا يترتب عليه أيّ أثر واقعي كالإسلام اللساني. بل هما مترادفان. والغيب : مصدر ، بمعنى الغائب والمغيّب ، أي ما يستتر عن الحواسّ الظاهرية. بل يمكن أن يقال : إن المراد به : الخفيّ الذي لا يعلمه العباد إلا بإرشاد الله تعالى وهدايته. (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : من أقام العمود إذا قوّمه واستقامه. والمراد هنا هو أن يعدّلوا أركان الصلاة ، ويأتوا بواجباتها على أصولها ومقرّراتها المشروعة حتى لا يقع فيها زيغ ولا يتطرّق إليها باطل. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) : والرّزق لغة الحظّ والنّصيب ، وعرفا إعطاء الله تعالى للحيوان ما ينتفع به كلّ بحسبه ، فبالإضافة إلى الإنسان هو الأموال ، والقوى ، والأبدان السالمة ، والجاه ، والعلم ، وفي رأس هذه النّعم التوفيق لصرف كل واحدة منها في محلّها وفيما خلقت لأجله. ومن إسناد الرزق إلى نفسه سبحانه ، ومدحهم بالإنفاق ، نستفيد النّعم التوفيق لصرف كل واحدة منها في محلّها وفيما خلقت لأجله. ومن إسناد الرزق إلى نفسه سبحانه ، ومدحهم بالإنفاق ، نستفيد أن الحرام خارج عنه وليس منه لتنزّه ساحته السامية وارتفاع مقامه العالي جلّ وعلا عن القبائح ، وعدم قابلية الحرام لمدح منفقه. والإتيان (بمن) التبعيضيّة رمز إلى أنهم في الإنفاق منزّهون عن الإسراف والتبذير.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : المراد بما أنزل : هو القرآن ، والشريعة بأسرها (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب السماوية الماضية والشرائع السابقة (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يعلمون تمام العلم من غير شك وترديد .. وتحصيل اليقين بالآخرة له طريقان : الأول بإخبار الصادق المصدّق ، والثاني بالمعجزة. ولليقين ثلاث مراتب : الأولى علم اليقين. والثانية عين اليقين وهي فوق مقام علم اليقين. والثالثة حق اليقين. وهي أرقى من السابقتين. فالسالك بعد إكمال المرتبة الثانية ، وارتقائه في يقينه بنتيجة رياضاته النفسانية ، يصل إلى مقام يصير فيه بصره حديدا وسمعه شديدا ، فيرى ما لا ترى عيون غيره من الناس ، ويسمع ما لا تسمع آذانهم ، ويدرك ما لا يخطر على قلوب أقرانه ، إذ ترتفع الحجب ، وتزول الأغطية ، فيرى الأشياء على ما هي عليه بحقائقها وبواطنها وكما يرى ظواهرها سواء بسواء.

٥ ـ (أُولئِكَ عَلى

٧

هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) : إشارة إلى الصّنفين من المؤمنين. وكلمة (عَلى) في هذه الآية للاستعلاء ، ومعناه تشبيه تمسّكهم بالهدى أو ثباتهم عليه باعتلاء الراكب مركوبه وتسلّطه عليه ولصوقه به. ونكّر (هُدىً) هاهنا للتعظيم ، (مِنْ رَبِّهِمْ) تأكيد لتعظيمه لأنه ممنوح منه ، وليس هو إلّا اللّطف والتوفيق. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تكرير الإشارة لفائدة اختصاصهم وتميّزهم بالميزتين عن غيرهم.

٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : لما ذكر سبحانه أولياءه بصفاتهم الموجبة لهم وهي الهدى والفلاح ، أتبعهم بأضدادهم : أي الكفرة العتاة الذين لا يتناهون عن منكر ولا ينتفعون بالتبشير والإنذار. (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) سواء : اسم بمعنى الإستواء. والإنذار هو التخويف من العقاب مطلقا. والمراد منه هنا التخويف من عقاب الله تعالى. (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مؤكّدة لما قبلها فلا محلّ لها من الإعراب ، أو هي حال من ضمير عليهم أيضا مؤكّد. وهذا الإخبار منه تعالى لا ينافي قدرتهم على الإيمان ، لأنه سبحانه يخبر عن علمه بحالهم وعاقبة أمرهم. وعلم الله بعدم إيمان شخص لا يسلب قدرة الشخص ، كما أن علمه بإيمانه لا يجبره عليه ، فلا يكون تكليفهم به تكليفا بما لا يطاق.

٧ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ... الختم أخو الكتم. وعن الرضا (ع): هو الطّبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ)(وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أي غطاء. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) والعذاب كالنّكال زنة ومعنى ، ثم سمّي به كلّ ألم فادح وإن لم يكن نكالا أي عقابا. و (العظيم) نقيض الحقير ، كالكبير نقيض الصغير.

٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) ... وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان. (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) تكرّر الباء لادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) تكذيب لقولهم : آمنّا ، على ما حكى عزوجل في صدر هذه الآية. والمراد ب (من) الموصولة : ابن أبي سلول وأضرابه كمعتب بن قسمير ، وجماعة أخرى كانوا مع هؤلاء.

٩ ـ (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ... الخدع (بالفتح والكسر) الختل ، وهو أن يظهر للغير خلاف ما يخفيه ، وما يريد به من المكروه ، وأصل معناه الإخفاء. ومعنى المخادعة أن يعملوا معهم معاملة المخادع من إبطال كفرهم وإظهار الإسلام لديهم. وإنما أضاف مخادعة الرسول إليه تعالى لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة الله كما قال عزوجل : إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله ، والمخادعة مع المؤمنين هو إيذاؤهم بخديعتهم (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي ما يضرّون بتلك الخديعة أحدا وإنما يرجع وبال ذلك عليهم دنيا وآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي : وما يحسّون.

١٠ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ... أي شك ونفاق. ووجه تسمية الشك بالمرض أنّ الشك تردّد بين أمرين ، والمريض مردّد بين الحياة والممات. ويمكن أن تكون إخبارا بأن القلوب المريضة ـ بطبعها ـ يزداد المرض فيها لضعفها ولكونها مستعدة له كالأمزجة الضعيفة إذا ابتلت بالمرض. فلما لم يكن فيها استعداد لمقاومة المرض ينمو فيها المرض ويصير مزمنا ثم يؤدي إلى الموت. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بحيث تاهت قلوبهم وكادت أن تذوب في الدنيا ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة أي مؤلم موجع غاية الإيلام (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) بمقالتهم آمنّا. ولفظ (كان) للاستمرار.

١١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : بإظهار الشّقاق والنفاق بين المسلمين (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي ليس شأننا إلّا الإصلاح. وقد حصروا أمرهم في الإصلاح لتصوّرهم الفساد إصلاحا لمرض قلوبهم.

١٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ... ردّ لدعواهم الكاذبة. (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بكونهم مفسدين مع غاية ظهور فسادهم الذي هو كالشيء المحسوس ، ولكنّ حبّ الشيء يعمي ويصم.

١٣ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا) ... وقد نصحوا بأمرين مكملين لإيمان العبد ، الأول : ترك الرذائل في قوله سبحانه : ولا تفسدوا. والثاني : اكتساب الفضائل بقوله تعالى (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) يراد به النبيّ (ص) ومن آمن من أصحابه الخلّص. (قالُوا) في الجواب أو فيما بينهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). استفهام إنكاري. ولام السفهاء للعهد. والمعهود هم الناس الذين آمنوا مع الرسول (ص) المذلّون أنفسهم لمحمد (ص). والسفه هو ضعف الرأي والخفّة في العقل. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) إنهم سفهاء ، أي أخفّاء العقول أراذل. (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أي يجهلون سفاهتهم. ومن نفي عنهم العلم والشعور فأولئك كالأنعام ، بل هم أضلّ.

١٤ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ... هذا البيان تثبيت لكونهم منافقين ، لأن صاحب اللسانين هو الذي يقال له المنافق ، وهو أيضا بيان لصنعهم مع المؤمنين والكفّار ، أي إذا رأوا المؤمنين (قالُوا آمَنَّا) بما آمنتم به (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أي انفردوا بإخوانهم من المنافقين الذين

٨

يكذّبون الرسول مثلهم فهم كالشياطين في التمرد والعصيان (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بمحمد وأتباعه.

١٥ ـ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ... أي يعاملهم معاملة المستهزئ ، أو يجازيهم على استهزائهم. (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من مدّ الجيش وأمدّه أي زاده لا من المد في العمر ، فالمعنى : أنه يزيد في فسح المجال لطغيانهم. (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون ويتردّدون ، والعمه هو التحيّر في البصيرة كالعمى في البصر.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) ... يعني باعوا دين الله واعتاضوا به الكفر بالله. فالشراء هنا لم يكن مبادلة ، أي أخذا وعطاء ، بل هو ترك وأخذ (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) والتجارة طلب الربح بالبيع والشراء ، والربح الفضل على رأس المال ، فهؤلاء المنافقون ، استبدلوا الهداية بالضلالة ، والطاعة بالمعصية ، والربح بالخسارة! .. فأيّة جهالة أسوأ من هذه؟ .. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق الحق والصواب ، أي للتجارة التي فيها الربح الوافر.

١٧ ـ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) المثل : في الأصل النظير ، ثم أطلق على القول السائر. ولا يضرب إلّا لما فيه غرابة. ومعنى الآية الشريفة : حالتهم العجيبة كحال من استوقد نارا أي طلب إشعال النار لارتفاع لهبها وسطوع نورها ، ليبصر بها ما حوله (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أي انتشر نورها حول مستوقدها ليستضيء مع رهطه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أطفأ نارهم فذهب النور ووقعوا في الظّلمة. وتوضيح التشبيه أن المنافقين بظاهر إيمانهم رأوا الحقّ وشاركوا المؤمنين في أحكام الإسلام. فلما أضاء نور الإيمان الظاهر ما حولهم ، وأبصروا فوائد الإسلام ظلوا على عنادهم وعاشوا في ظلمة ضلالهم. ثم أماتهم الله فصاروا في ظلمات عذاب الآخرة لا يجدون منها مفرّا ولا مناصا (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) خلّى بينهم وبين ما اختاروه من الإصرار على الضلال لا يرون بعيونهم ولا يفقهون بقلوبهم ، وهذا معنى تركه تعالى لهم.

١٨ ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) : صمّ طرش عن سماع الحق ، بكم : عييّون عن النّطق به ، عمي : مكفوفو البصر عن رؤيته ومع أنهم مكلفون بالرجوع عن الضلالة إلى الهدى فهم لا يرجعون.

١٩ ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ... عطف على الذي استوقد. والصيّب المطر الذي يصوب أي ينزل بشدة ، والسماء يراد بها العلاء. ووجه الشّبه هو أن ما خوطبوا به من الحق والهدى كمثل مطر ، وكما أن الأرض تحيا بالمطر ، فإن القلوب تحيا بالحق والهدى. فالتشبيه كان بلحاظ الحياة التي فيهما. (فِيهِ ظُلُماتٌ) أي في الصيّب الذي أريد به المطر. والظّلمات : ظلمة تكاثفه ، وظلمة غمامة ، وظلمة الليل. (وَرَعْدٌ) أي الصوت الذي يسمع حين يتولّد من احتكاك وتماسّ الذرات المؤلّف منها السحاب بعضها مع بعض حين تحرّكها بسرعة ، وهو مثل للتخويف والوعيد (وَبَرْقٌ) وهو ما يلمع منه ، ويتولّد من كهربة الاحتكاك. (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) الصاعقة نار تنزل من السماء عند قصف الرعد الشديد وومض البرق الخاطف. (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوف الموت ، وخشية أن ينزل عليهم البرق بالصاعقة فيموتوا من صوتها الرهيب أو إحراقها. (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) مطوّق لهم.

٢٠ ـ (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) : وضعت لفظة (يكاد) لمقاربة الخبر من الوجود. والمعنى : قريب بأن يختلس البرق أبصارهم ، أي يذهب بها سريعا!. (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) كلما صادفوا من البرق فرصة وميض انتهزوها ومشوا ، وإذا هبط الظلام وقفوا وتحيّروا. فكلما أضاء أي ظهر لهؤلاء المنافقين البرهان والحجة على ما يعتقدون (مَشَوْا فِيهِ) أي في نوره (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) وقفوا متحيّرين لا يرون سبيلا يسلكونه إذا رأوا في دنياهم ما يكرهون. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) يذهب سمعهم بقصف الرعد أو ظهور صوت الدعوة الكريمة ، ويذهب بصرهم بومض البرق وسطوع نور الإسلام. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والشيء ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه وهو يعمّ الواجب ، والممتنع ، والممكن. وخصّصه العقل هنا بالممكن. والقدير هو القويّ الفعّال لما يشاء على ما يشاء. والله تعالى لا يعجزه شيء عن شيء.

٢١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ... لفظة «يا» لنداء البعيد ، وربما استعمل في القريب منزّلا منزلته ، وإما لعظمته أو للاعتناء بشأن المدعوّ أو لغفلته. وكلمة «أي» وصلة إلى نداء المعرّف باللام لتعذّر دخول (يا) عليه. وقد أقحمت ياء التنبيه تأكيدا

٩

واهتماما بما خوطب به. و (النَّاسُ) هم الموجودون من المكلّفين لقبح خطاب المعدوم ، وكل من وجدوا بعد ذلك فهم يدخلون في الخطاب بدليل المشاركة. والخطاب مختلف فيه بالنسبة إلى المخاطبين ، بالإضافة إلى الكفّار والبالغين المكلّفين جديدا بإحداث العبادة بشرائطها المتوقفة عليها. وأما بالنسبة إلى المؤمنين فزيادة وتثبيت. (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي الذين خلقهم من قبلكم من الأمم. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يستفاد من الآية الشريفة أن العبادة مقدّمة لتحصيل التقوى التي هي أعلى مراتب العبادة ، أو هي ترك المحرّمات والإتيان بالواجبات. كما أنه يستفاد من قوله «لعلّكم تتّقون» أنه ينبغي أن يكون العبد بين الرّجاء والخوف لا مغترّا بعمله وفعاله.

٢٢ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) : أي مبسوطة تفترشونها تقعدون عليها وتنامون ، كالفراش. (وَالسَّماءَ بِناءً) أي قبة مضروبة عليكم. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني ماء المطر فإنه ينزل إلى الأرض من جهة السماء سحابا ، أو مما فوق السحاب. (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي بسببه. بأن جعله سببا في حياة الأرض. بما فيها من إنسان وحيوان ونبات. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) بعد ما عرفتم أنه تعالى وليّ نعمكم وخالقكم فلم جعلتم له شركاء وأندادا؟ والندّ : المثل. والندّ فعلا هو المثل المخالف.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تعرفون أن هذه الأصنام التي جعلتموها أندادا له تعالى لا تقدر على شيء لأنها جمادات.

٢٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) : عبده ، تعالى : هو النبي (ص). وقد تحدّاهم بما نزّله عليه من القرآن الكريم ، فقال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ... في الفصاحة والبلاغة والإعجاز. وأنّى لهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن الذي أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء! .. (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي استعينوا بكل من بحضرتكم يعاونكم في الإتيان بسورة مثل سور القرآن ، إن كنتم صادقين في دعواكم بأن محمدا قد جاء به من عند نفسه.

٢٤ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَلَنْ تَفْعَلُوا) ... إن لم تعملوا الذي تحدّيتكم به (وَلَنْ تَفْعَلُوا) لعجزكم. (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) جنّبوا أنفسكم النار التي وقودها ـ حطبها ـ الناس والحجارة! .. (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي خلقت وهيّئت لهم.

٢٥ ـ (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... أخبر المصدّقين ومؤدي فروضهم ونوافلهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حدائق ذات بهجة ومساكن طيبة تجري تحت أشجارها وقصورها مياه الأنهار. والنهر : مجرى الماء الواسع وإسناد الجري إليه من باب المجاز في الإسناد. (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) أي كلّما منّ الله تعالى بثمرة يجتنونها ، (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا. (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ... أي جيئوا بالثّمر يشبه بعضه بعضا في الاسم الناشئ عن المشابهة في النوع واللون ، ولكنه مخالف في الطعم اللّذيذ والرائحة الزكية. (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) منظّفة أبدان الأزواج من الحيض والأقذار والأدناس الظاهرية والمعنوية. ونقية أخلاقهن من السوء كالحسد والنفاق وشكاسة الطبع وغيرها من الصفات المكروهة. (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون.

٢٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ... نزلت ردّا على الكفرة والمنافقين الذين قالوا : أما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذّباب والعنكبوت؟ .. وحاصل معنى الآية الشريفة أن الله لا يستحيي : يترك حياء وخجلا ، من ضرب المثل بالبعوضة مع حقارتها. وبما فوقها كالذّباب والعنكبوت مع هوانهما وضعفهما ، لفوائد هامّة يدركها الراسخون في العلم. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني أنه مهما يكن من شيء فإنّ المؤمنين يعلمون أنه الحقّ البتّة. والضمير في (أنّه) عائد للمثل والحق : هو الأمر الثابت الذي لا يجوز إنكاره. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) يقولون استحقارا : أيّ شيء أراد وقصد بهذا المثل. (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) الضلالة والهداية متفرعتان عن الجملتين المتصدّرتين بأمّا. فإن العلم بأن الأمثال حقّ ، هداية ، والجهل بأنها في غير موردها ضلالة. (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الخارجين عن القصد.

٢٧ ـ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ... حدّد صفات فسقهم فهم (يَنْقُضُونَ) أي يردّون ويرفضون (عَهْدَ اللهِ) ما

١٠

أخذه عليهم في عالم الذر من الميثاق له بالربوبية ، (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ذاك ، لأن الضمير في الميثاق عائد للعهد. أي بعد إحكام العهد وتوثيقه وإبرامه. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ينكثون الصلة بالنبيّ والمؤمنين ، والأرحام (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ينشرون الفساد ويدعون إلى الكفر والزّندقة ، وقطع طريق المسلمين بالسرقة والتخويف والقتل والوعيد ، (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وأيّة خسارة أعظم من استبدال نقض العهد بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب؟. فهم كمن ضيّع رأس ماله باختياره وكان عاقبة أمره الخسران الذي ألزمه عذاب الأبد وحرمه النعيم السرمد.

٢٨ ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ... استفهام إنكاريّ في مقام تعجّب. والخطاب لكفّار قريش واليهود. كيف تنكرون الله وكنتم أمواتا : أي عناصر وأخلاطا وأغذية ونطفا في الأصلاب قبل خلقكم ، (فَأَحْياكُمْ) أثناء وجودكم في أرحام أمهاتكم. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد خروجكم إلى دار الدنيا وعند حلول آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبور عند السؤال أو يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعودون للحشر من القبور إلى الحساب والثواب أو الجزاء.

٢٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ... خلق ، أي أوجد لكم الأشياء لانتفاعكم في كل ما تحتاجون إليه في حياتكم من المطاعم والملابس والمناكح والمساكن ونحوها. (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي وجّه قدرته وإرادته لخلقها بعد خلق الأرض وبثّ ما فيها (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي جعلهن مستويات طبق النظام الأحسن والأصلح. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عارف خبير.

٣٠ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ... أخذ بالتّنبيه إلى نعمة أخرى عليهم ، وهي نعمة خلق أبيهم آدم (ع) وإكرامه وتفضيله على الملائكة. الملائك : جمع ملأك ، كالشمائل والشّمأل. والتأنيث للجمع. وهم أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة. (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وهو من يخلف غيره ، والمراد هنا آدم (ع). (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي كما فعل الجنّ من قبل إذ نشروا الفتن وأراقوا الدماء!. وقد قالوا ذلك سؤالا لا اعتراضا عليه سبحانه. (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نفعل ما تريد من آدم من التنزيه والتطهير عما لا يليق بجنابه تعالى ويكرهه. (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أعرف ما لا تدركونه ما الغاية.

٣١ ـ ٣٢ ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) ... أي أظهرها ثم طلب منهم بلين ورفق قائلا (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أي أخبروني بأسماء هذه الأشباح التي ستتكوّن من آدم ـ وبعده ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأنكم أولى بالخلافة في الأرض من آدم؟ (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) إذ أحسّوا بأنه تعالى كره جوابهم الذي جاء على مقتضى خلقهم وأنهم لا يعرفون إلّا ما علّمهم بعد خلقهم. فحصروا العلم بذاته القدسية ، واعترفوا بحكمته التي لا يدركونها ، وتأدّبوا في إظهار جهلهم أمام (الْعَلِيمُ) العارف (الْحَكِيمُ) المتقن في أفعاله المصيب في أقواله.

٣٣ ـ (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ... أي أخبرهم بالأسماء ، وعرّفهم المسمّيات في مقاماتها الراقية ، والضمائر في الآية الكريمة معهودة ومعروفة عند الملائكة ، ولولا ذلك لكان تعليم أسماء المسمّيات المجهولة غير ذي فائدة ، حتى مع الوعد بتعريفها فيما بعد. (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أخبرهم بها فعرفوها بتطبيق الأسماء على المسمّيات. قال تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أعرف مكنوناتها وأسرارها (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وأعرف ما تظهرون من ردّكم عليّ ، وما تخفون في ضمائركم بأنه ليس أحد أفضل منكم.

٣٤ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ... أخذ سبحانه في بيان نعمة أخرى على بني آدم وفضيلة ثانية ، إذ أمر الملائكة بالسجود لأبيهم. (وَإِذْ) : نصب بمضمر ، أي : اذكر يا محمد. والمأمورون هم الجميع لعموم اللّفظ ولقوله تعالى في مورد آخر : فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلا إبليس. والسجود ، لغة : التذلل والخضوع ، وشرعا : وضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة. وسجود الملائكة كان تعظيما لله وتكرمة لآدم (ع). (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الذي إنما دخل في الأمر لكونه منهم بالولاء. ولم يكن من جنسهم لأنه كان من الجن

١١

(أَبى وَاسْتَكْبَرَ) عما أمر به ، وترفّع على آدم ، وخالف أمر ربّه (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) في علم الله وصار منهم باستكباره واحتقاره لنبيّه (ع)!.

٣٥ ـ (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ... أنت : تأكيد للمستكن ليعطف عليه (الجنّة) اللام فيها للعهد ، والمعهود هو هذه. وقيل هي من جنان الدنيا وتغرب فيها الشمس والقمر. ولكنّ الظاهر من الآيات ومن لفظة (اهبطوا) وخلق آدم في السماء كما هو ظاهر كثير من الروايات ، بل صريحها. أنّ الجنة هي جنة سماوية ، أكانت جنة الخلد أم غيرها. (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أي أكلا واسعا وافرا بلا عناء من أي مأكول تريدان (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي شجرة الحنطة على ما هو المشهور. وهذا النّهي تنزيهيّ لا تحريميّ. وقد علّق النهي فيه على الاقتراب من الشجرة ، لأن القرب من الشيء يغري به ويكون مقدّمة لفعله. والنهي عن المقدمة نهي عن ذيها أكيدا ، ولذلك قال سبحانه (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسيكما بالإقدام على ما ليس فيه صلاح لكما. والظّلم هو النقص في الحظّ والنّصيب ، فكأنّهما لمّا أكلا من الشجرة أنقصا حظّهما الذي قدّر لهما في حال عدم الأكل منها. والمعنى الآخر للظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه. وهذا ينطبق أيضا على المقام لأنهما وضعا الأكل في موضع الكف ، فتركا الأولى.

٣٦ ـ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) : أي حملهما على عدم الثبوت في أمرهما وأزاحهما عن فكرة الكف. (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من النّعم الجزيلة والمواهب السنيّة (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) والخطاب من الله تعالى ، صدر بنزول آدم وحواء بما استبطناه من ذريتهما وإبليس. وهكذا أصبح آدم وحواء وما ولدا من الذّرية ، أعداء لإبليس وذريته ، وهو وذريته لهم عدوّ. إلى الوقت الذي حدّد تعالى بقوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) فالأرض هي مكان بقائكم وموضع سكنكم ومنافعكم ومتعكم ومعاشكم ومعادكم ، وأنتم فيها إلى وقت آجالكم ، أو إلى يوم قيامتكم.

٣٧ ـ (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) : أي استقبلها وأخذها بالقبول. والكلمات يحتمل أن تكون قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ... الآية. أو الأسماء الطيبة الخمسة لأهل الكساء (ع) ففيها أقوال عرضت لها التفاسير المفصّلة (فَتابَ عَلَيْهِ) قبل الله توبته (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) كثير القبول للتوبة. (الرَّحِيمُ) الواسع الرحمة والإشفاق على العباد.

٣٨ ـ (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) : انزلوا من السماء إلى الأرض كلكم ، بعد تلقّي الكلمات وبعد التوبة ، نزولا وهبوطا حقيقيا فعليا تكليفيا إثباتيّا. والضمير في (منها) راجع إلى السماء أو الجنّة. والجميع : تعني المخالفين للنهي ، والسّاعين لهما في المكيدة ، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي إن يأتكم منّي هدى على لسان رسول أو بكتاب (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فمن اقتنع ومشى بحسب هداي وطريقتي نجا وفاز ولا خوف ولا حذر عليه ، ولا يصيبه ما يحزنه ويكدّره.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) ... أي جحدوا ولم يصدّقوا بآياتي ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فهم أهل النار ، وسأخلّدهم في جهنّم خلودا سرمديا جزاء استكبارهم وكفرهم.

٤٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ... يا أولاد يعقوب الذي هو إسرائيل ، (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). لا تنسوا أبدا نعمي التي أهمّها إنجاء آبائكم من فرعون والغرق (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي أوفوا بميثاقي عليكم في عالم الذّر ، من الإيمان بي وبرسلي وكتبي المنزلة إليكم ، وبما فيها من الشرائع والأحكام. فإذا وفيتم بهذه المذكورات وفيت بما عاهدتكم عليه من الأجر والثواب (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي خافوني. والرهبة خوف التحرّز.

٤١ ـ (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) ... صدّقوا بالقرآن الذي أنزلت على محمد (ص) فهو يصدّق كتبكم السماوية من التوراة والإنجيل وغيرهما ، (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فهو يحذّرهم إنكار ما أنزل ، ويعرّض بهم خاصة ، لأنهم أهل كتب والواجب عليهم أن يكونوا أول المؤمنين به ، لكونهم عارفين به وبصفاته وبكيفية بعثته. قد قرءوها في كتبهم ، وأخبرهم بها أحبارهم ورهبانهم. فهذا الذي كان مترقّبا منهم ، لا أن يكونوا أول الكافرين به. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) لا تستبدلوا حججي برئاسة دنيويّة مؤقّتة هي لكم في قومكم ، تنالون فيها الرّشى

١٢

والتحف والهدايا على تحريف الحق وكتمانه. (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) تجنّبوا بطشي باتباع الحق ومجانبة غيره.

٤٢ ـ (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ... أي لا تجعلوا الحق الواضح مشتبها بالباطل ومختلطا به. (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) تخفوا نعوت محمد (ص) الموجودة في كتبكم المنزلة من عند ربّكم ، وتخفون الحق (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تعرفون ذلك.

٤٣ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ... أي أقيموا صلاة المسلمين وادفعوا زكاتهم. وهي صريحة بأن الكفّار مخاطبون بالفروع كالأصول. والظاهر في خصوص الزكاة في خصوص هذا المورد وأمثاله أنها الزكاة المالية ، وقيل هي زكاة الفطرة. (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). ذكر سبحانه الركوع بعد ذكر ما تشتمل عليه الصلاة ، لأنه يكشف عن الخضوع الخاصّ الذي ليس في غيره ، ولذا خصّه تعالى بالذّكر. وقيل إن صلاة اليهود ليس فيها ركوع ولذا أمرهم به.

٤٤ ـ (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) ... جاءت في مقام التعجّب والتوبيخ. والبرّ العطاء ، والمراد منه هنا كلّ خير (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) تتركونها معفاة من ذلك؟ .. (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) تقرأون التوراة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تدركون أيّ قبح يترتّب على عدم امتثالكم وتناسيكم أنفسكم؟.

٤٥ ـ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ... أطلبوا العون لأنفسكم بالصّبر على اتّباع الحق ورفض المال والجاه ، وبكف النفس عن مشتهياتها وميلها إلى المعاصي ، وضعفها عن الطاعات. وقيل إن الصبر في الآية هو الصيام. (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) أي الصلاة. ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الاستعانة. والمراد بكبرها كونها ثقيلة شاقة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) المتواضعين الخاضعين لله تعالى.

٤٦ ـ (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ... يظنّون هنا : يعتقدون لقاء الله وحسابه يوم البعث. فالظنّ هنا : العلم ، لأن الخاشعين بعيدون غاية البعد عن الظّن بلقاء ربّهم وبالبعث والنشور والثواب والعقاب ، بل هم العالمون بذلك علما يقينا ، وخشوعهم يكشف عن علمهم الذي ذكرناه. (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) معادون يوم القيامة للنّعيم والجنان والجزاء الأوفى.

٤٧ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ... كرّر الخطاب لتنشيط السامع وترغيبه بلذة المتابعة. فقد روى أن لذّة النّداء أزالت مشقّة التكليف. فالتكرار هنا ليس مستهجنا ، بل له فوائد جليلة ، وتترتّب عليه آثار كثيرة. فعلى هذا الأساس قال سبحانه (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) حيث إني بعثت منكم نبيّا ـ موسى (ع) ـ وخلّصتكم من ظلم فرعون وقومه ، وأنزلت عليكم المنّ والسّلوى (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي فضّلت أسلافكم على عالمي زمانهم تفضيلا دينيّا لأنهم آمنوا برسلي وأجابوا دعوتي ، وجعلت منكم ملوكا دنيويّين ورزقتكم من الطيّبات.

٤٨ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) : أي تجنّبوا يوم عذاب لا ينقضي ، ولا تتحمّل فيه نفس عن نفس شيئا ولا تقضي عنها حقّا ولا تخفّف عن كاهلها جزاء. (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) إذ ترفض شفاعة نفس عن نفس. والشفاعة من الشّفع ، وهو الزّوج من العدد ، فكأن المشفوع له (الفرد) يصير شفعا (زوجا) بضمّ الشفيع نفسه إليه. (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي لا يقبل منها فدية تعدل الجرم وتوازنه ... (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ولا ينجحون وينجون من العذاب بإعانة معين ولا بنصرة ناصر ، بل يبقون فيه أبد الأبد.

٤٩ ـ (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ... أصل الآل : أهل ، لأنه يصغّر على أهيل. وفرعون : لقب كل ملك من العمالقة في مصر ، كقيصر وكسرى لملكي الرّوم والفرس. وفرعون موسى (ع) هو مصعب بن الرّيان أو ابنه وليد. وفرعون يوسف (ع) الرّيان. وبينهما أكثر من أربعمائة سنة. (يَسُومُونَكُمْ) أي يهينونكم ويذلّونكم ويذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أشدّه وأسوأه (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) يقتلون الذكور من أولادكم إمّا ببقر بطون الحوامل وإخراجهم وقتلهم ، وإمّا بذبحهم بعد الولادة. (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يستبقونهن إماء للخدمة والنكاح. (وَفِي ذلِكُمْ) أي في صنيعهم معكم ، وإنجائكم منهم (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) محنة واختبار صعب كبير.

٥٠ ـ (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ... أي اذكروا حينما فصلنا البحر فرقا وجعلنا فيه مسالك تعبرون منها للخلاص (فَأَنْجَيْناكُمْ) خلّصناكم من كيدهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أطبقنا لجج الماء عليهم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ترون إغراقهم ..

٥١ ـ (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ

١٣

لَيْلَةً) ... واعده : ضرب معه موعدا وجعل له ميقاتا بأن ينزل عليه التوراة بعد هلاك فرعون بثلاثين يوما ، هي ليالي تمام ذي القعدة وعشرة من ذي الحجة. وقد عبّر عن الفترة بالليالي لأنها غرّة الشهور ، وفي الليالي يستهلّ القمر الذي يحدّد الشّهر بمنازله يوما بعد يوم. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) اتّخذتموه إلها تعبدونه بتسويل السامريّ (مِنْ بَعْدِهِ) بعد مضيّ ميقات عودة موسى بالتوراة. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بشرككم.

٥٢ ـ (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) : غفرنا لكم عبادة العجل بعد التوبة وتجاوزنا عن جرمكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله الذي عفا عنكم.

٥٣ ـ (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أعطيناه التوراة (وَالْفُرْقانَ) آياته ومعجزاته المفرّقة بين الحق والباطل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أملا بأن ترشدوا بما فيه.

٥٤ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ... أذكر يا محمّد يوم خاطب موسى قومه قائلا (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) أي ارجعوا إلى عبادة خالقكم ، وأقلعوا عن ذنبكم العظيم. والبارئ من برأ : خلق من العدم ، ومنه البريّة أي الخليقة وجمعها البرايا. (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إظهارا للتوبة وفرط النّدم. والظاهر أن التائب كان يقتل نفسه إمّا بأن يباشر المرء قتل نفسه ، وإمّا بأن يقاتل العبدة فيقتل بعضهم بعضا حتى يجيء أمر الله بقبول التوبة فيرفعوا اليد عن المقاتلة بعدها (ذلِكُمْ) أي قتل أنفسكم توبة وندما (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أحسن بنظر خالقكم من بقائكم أياما قليلة في الدنيا تموتون بعدها فتخلّدون في النار .. وفي ذكر لفظة (بارئكم) مرة ثانية تقريع لبني إسرائيل على تركهم عبادة البارئ إلى عبادة العجل. وإذ فعلتم ذلك (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول موسى (ع). والتقدير : ما زلتم قد فعلتم ما أمركم ربكم فقد تاب عليكم. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) القابل للتوبة مرة بعد مرة.

٥٥ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ). لن نصدّقك ونعترف بنبوّتك وبأن الله تعالى أرسلك (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ننظر إليه عيانا وعلنا. (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذلك أنهم سألوا أمرا عظيما عنده سبحانه إذ طلبوا رؤيته مع أن المرئيّ ينبغي أن يكون مواجها وأن يكون جسما وهذا محال بحقه تعالى. فأخذتهم الصاعقة السماوية بغتة لخطورة ما رغبوا فيه ، فأحرقتهم بلا مهلة حريق استئصال. أو أنها كانت صيحة عذاب ، أو قصف رعد مهلك ، فماتوا في الحال التي هم عليها وهم ينظرون إلى الصاعقة تنزل عليهم.

٥٦ ـ (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) ... أي أحييناكم. بعد الموت. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله على إحيائكم بعد إماتتكم بالصاعقة.

٥٧ ـ (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ... بسطنا عليكم ظلّ الغمام في صحراء التّيه ، وجعلناه فوق رؤوسكم ليقيكم حرّ الشمس (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) يقال إنه كان كالصّمغ يسقط على الأشجار. وهو ألذّ من الشّهد وأنصع من الثلج (وَالسَّلْوى) الطير الدّسم المعروف ، وهو من أطيب الطيور. وقيل إنه كان ينزل عليهم مشويّا عند العشاء فإذا أكلوا وشبعوا منه رفع. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) يعني قلنا لهم. كلوا من هذا المباح اللذيذ. (وَما ظَلَمُونا) لم يلحقوا بنا ظلما بكفرهم هذه النّعم وتبديل الكفر بالشكر (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يضرّونها ويجحفون بحقّها.

٥٨ ـ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) ... أي بيت المقدس بدليل قوله تعالى في مكان آخر : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) بعد خلاصهم من التيه. (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) كلوا ما أردتم من أنواع الأطعمة أكلا رغدا : واسعا هنيئا. (وَادْخُلُوا الْبابَ) مدخل القرية أو القبّة التي كانوا يصلّون إليها (سُجَّداً) خاضعين ساجدين شكرا لله (وَقُولُوا حِطَّةٌ) من حطّ الحمل عن ظهر الدابّة : أنزله. يعني : قولوا حال سجودكم : نرجو أن يكون فعلنا سببا لحطّ ذنوبنا وكفارة لخطايانا. فإذا قلتم ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) نتجاوز عن ذنوبكم السالفة ، (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) مع المغفرة زيادة أجر ، ونكثر لمن أطاع وأحسن منكم.

٥٩ ـ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) ... أي غيّروا ، ووضعوا مكان الدعاء بحطّ الذنوب قولا غيره كقول بعضهم : حنطة ، استهزاء بالتكليف!. وقيل إن بعضهم وضع مكان السجدة الزحف على استه نحو الباب ، سخرية واستخفافا بأمر الله عزوجل!. (فَأَنْزَلْنا

١٤

عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) عتوا ولم ينقادوا لموسى (ع) في الأقوال ولا في الأفعال (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) عذابا مقدّرا ، قيل إنه الطاعون الذي مات فيه أربعة وعشرون ألفا في ساعة واحدة ، وقيل مائة وعشرون ألفا!. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم الذي كانوا لا يرجعون عنه ولو عاشوا أبد الدهر ..

٦٠ ـ (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) ... تذكّر يا محمد حين سأل موسى قومه الماء لمّا عطشوا في التّيه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) عصاه. هي العصا التي دفعها إليه شعيب (ع) ، وكانت من آس الجنّة أهبطها آدم معه. و «الحجر» : حجر طوريّ مربّع تنبع من كل وجه منه ثلاث أعين ، فلكلّ سبط تسيل عين في جدول يستقون منه. (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) لكل سبط عينه (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) نعمه الجزيلة كالمن والسّلوى وماء الحجر (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لا تطغوا فيها وتظهروا الفساد.

٦١ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ... أي لا صبر لنا على نوع واحد من الطعام الذي هو المن والسّلوى دون غيرهما. (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) اطلب منه لأجلنا (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) أي خضرها وأطايب أنواعها. (وَقِثَّائِها) النبات المعروف الذي ثمره يشبه ثمر الخيار (وَفُومِها) الفوم هو الثوم (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) وهما معروفان (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أتطلبون تغيير الطعام الأقرب مكانة ، والأسهل تناولا ، والأقل كلفة؟ ، (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أحسن وأرفع منزلة ، وأطيب طعما ، وأبعد عن الكدّ والتعب بسبيله؟. (اهْبِطُوا مِصْراً) أي انزلوا مصرا من الأمصار : أي بلدا من البلدان ، لا مصر فرعون التي خرجوا منها (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) حيث تجدون ما طلبتم من تغيير النعمة بأدونها وأخسّها. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) وهذه من الأخبار الغيبيّة التي ظهرت آثارها على اليهود من زوال ملكهم حتى أيّامنا هذه ، وستبقى إلى الأبد بلا ريب. والذلة : هي الهوان. وضربت : جعلت والمسكنة : أثر الفقر من السكون والخزي. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا بعد صفاتهم هذه كلّها مغضوبا عليهم ملعونين مستحقّين للغضب واللّعن. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) ينكرونها ، والثاني أنّهم كانوا لا يتورّعون عن الوقوف في وجه دعوة الله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) كزكريّا ويحيى ، (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ذلك : إشارة إلى ما ذكر من كفرهم وعصيانهم واستهزائهم بالله وملائكته ورسله وكتبه.

٦٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ممّن حولك يا محمّد من المسلمين. (وَالَّذِينَ هادُوا) دخلوا في اليهودية. وهاد بمعنى رجع إلى الحق وتاب. وسمّوا يهودا لتوبتهم ورجوعهم عن عبادة العجل. (وَالنَّصارى) جمع نصران ، كسكارى وسكران. دعوا بهذا الاسم إمّا لأنهم تناصروا فيما بينهم ، أو لانتسابهم إلى قرية الناصرة التي كان يسكنها عيسى (ع) بعد دعوته مع أمّه من مصر أو هو مأخوذ من قوله : من أنصاري إلى الله؟ قال له الحواريون : نحن أنصار الله. (وَالصَّابِئِينَ) وهم جيل صبوا إلى دين الله أي : مالوا ، وهم كاذبون في دعواهم. أو ـ كما قيل ـ كانوا يعبدون الكواكب أو الملائكة ، من : صبأ إذا خرج. أو أنهم من صبا : مال ، وقد مالوا عن جميع الأديان (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) صدّق بالله وبالبعث يوم القيامة ، ونزع عن كفره من هؤلاء (وَعَمِلَ صالِحاً) فعل ما أمره الله به خالصا عن الشوائب ، لا يبغي إلّا رضى الرّب (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لهم ثوابهم الذي يستوجبونه على الإيمان الكامل الخالص من كل ما كرهه الله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا خوف عليهم في الآخرة ولا يحزنون على الدنيا ، وينجون من هذين الأمرين اللّذين قد يعرضان لكل أحد.

٦٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... أي اذكروا العهد الذي أخذناه عليكم بالعمل بما في التّوراة من التكاليف ، ومن الاعتراف بنبوّة محمّد (ص) (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وهو جبل في صحراء التّيه بسيناء. (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) اقبلوه. و «ما» موصول يعني التوراة. (بِقُوَّةٍ) أي بجدّ وإيمان صادق. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي لا تنسوا ما في التوراة واعملوا بموجبها ولا تغفلوا شيئا منها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتجنّبوا عذابي وتتّقوني وتخافوا عقابي.

٦٤ ـ (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ... أي :

١٥

أعرضتم عن العهد والميثاق والوفاء بهما (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد أخذكم ما عاهدتم عليه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لولا تفضّله عليكم بقبول التوبة ، وإمهاله لكم بعد أن راجعتموه فيما فرض عليكم ، ورحمته التي شملتكم بإنعامه عليكم بالإسلام لولا ذلك (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) مع من خسر من الذين لم يوفّقوا للتوبة ولا للإقرار بمحمّد (ص) بعد ظهور دعوته.

٦٥ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) ... عرفتم الذين تجاوزوا حدود ما شرع لهم من النهي عن صيد الحيتان يوم السبت. (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فجعلهم ـ بالمسخ ـ قردة مبعدين عن رحمته في الدنيا والآخرة.

٦٦ ـ (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها) : الضمير في جعلنا يعود إلى الأمة التي مسخت قردة. وهم أهل أيلة ، القرية التي على شاطئ البحر. وقيل إنه قصد المسخ والقرديّة (نَكالاً) عقوبة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) لمن حضرها وشاهدها (وَما خَلْفَها) ولمن يأتي بعدها من الأمم. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي أنها نصح وتذكير لمن كان متّقيا منهم أو من غيرهم.

٦٧ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ... اذكروا ـ يا بني إسرائيل ـ يوم قال موسى ليهود عصره : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وسبب الأمر بذبحها : أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ، ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاء يطلب بدمه. فقالوا لموسى : سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله. فقال (ع) : «إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة» ائتوني ببقرة ، (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي تستهزئ وتسخر منّا؟. (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) استعاذ به تعالى من أن يسخر ويستهزئ. ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأهم ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم.

٦٨ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سل ربّك لأجلنا (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) وما صفتها لنمتثل أمره (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ) بعد ما سألته (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي أنها لا مسنّة ولا فتيّة بل هي وسط بينهما. (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) فنفّذوا ما أمركم الله تعالى به.

٦٩ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) ... سألوا عن لونها (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) صفراء شديدة الصّفرة حتى قرنها وظلفها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ترتاح نفس الناظرين إليها.

٧٠ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سألوه أن يسأل ربه (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تكريرا لزيادة الاستيضاح وبيانا لكثرة لجاجهم وشدة خصومتهم مع نبيّهم (ع) فقالوا : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي اشتبهت صفته التي أمر الله بها. (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفتها بتعريف الله.

٧١ ـ (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) ... أجاب موسى (ع) أن الله تعالى يقول إنها (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) لم تذلّل بحراثة الأرض وقلبها بالفلاحة وبأظلافها (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) وليست من النواضح التي تدير النواعير فتسقي الزرع (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) سليمة من العيوب ، لا وضح فيها ولا لون يخالط لونها. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي ظهرت حقيقة صفاتها. فلمّا تمّت صفات البقرة اشتروها (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي فعلوا ذلك ببطء وكانوا يريدون أن لا يفعلوا ذلك : إمّا لغلاء ثمنها. وإمّا خوف فضيحة القاتل ، وإمّا لجاجا في العناد كما هي عادتهم.

٧٢ ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ... خوطب الجميع لوجود القتل فيهم أو لمداهنة غير المباشرين معهم ، الكاشفة عن رضاهم بفعلهم ، لكون القاتل معلوما عند أكثرهم من القرائن. (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي تدافعتم فدفع كلّ متّهم التّهمة عن نفسه (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي مظهره ومبرزه.

٧٣ ـ (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ... أي خذوا جزءا من البقرة التي ذبحتموها ، كذنبها أو فخذها أو لسانها ، ثم اضربوا القتيل به فإنه يحيا ويخبر بقاتله. وهكذا كان. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي يعيد لهم الحياة. وهو خطاب منه سبحانه لمشركي قريش وغيرهم يبيّن فيه سهولة البعث. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائل قدرته وأعلام الدلالة على صدق محمّد (ص) (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تفكّرون وتستعملون عقولكم كيلا تكونوا كمن لا عقل له.

٧٤ ـ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ... خلت من اللين والرحمة وتصلّبت (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد إحياء القتيل. (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في صلابتها وعدم لينها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) من الحجارة ولم يقل سبحانه : أقسى ، بل قال : أشد لأنها أبلغ في إظهار القسوة ، وقد بيّن تلك الأشديّة بقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ

١٦

الْأَنْهارُ) أي من الحجارة ما هو أنفع للناس منكم لأنفسكم. فمن الحجارة ما ينبع منه الماء وتفيض العيون (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ينزل ويتردّى من أعالي الجبال خشية وانقيادا وخضوعا وخوفا من الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيّها المكذّبون بآياتي ، الجاحدون لنبوّة خاتم رسلي محمد (ص).

٧٥ ـ (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ... الخطاب للنبيّ (ص) ، ولصحبه. يعني : هل أنتم تحرصون وترغبون بأن يؤمن لكم هؤلاء اليهود ، ويصدّقوا بالنبيّ وكتابه ويقبلوا ما فيه (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) فئة ، منهم ـ أسلافهم ـ كانوا يسمعون كلام الله تعالى على لسان نبيّه موسى (ع) في طور سيناء ، وكانوا يفهمون أوامره ونواهيه وجميع مواعظه ونصائحه ، (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) يغيّرونه ويحوّلونه عن حقيقته ، ويؤوّلونه وفق ميولهم بعد أن كانوا قد فهموا المراد منه. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) علما وجدانيّا أنهم مفترون كذبة فيما ينقلونه لأصحابهم من صفات محمّد (ص) وموعد بعثته.

٧٦ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ... بمحمد (ص) وبرسالته (قالُوا) أي قال هؤلاء المنافقون : (آمَنَّا) صدّقنا بأن محمدا (ص) على الحق وأنّه المبشّر به في التوراة. (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) جمعتهم خلوة مع أقرانهم من منافقي اليهود ـ بعيدا عنكم ـ قال المنافقون لأندادهم ممّن قابلوا المؤمنين : لم حدّثتم المؤمنين بمحمّد بما بيّن الله لكم في التّوراة من صفاته؟. ولم أخبرتموهم بذلك وفتحتم لهم باب الاحتجاج عليكم وعلينا ـ اليوم وفي يوم القيامة ـ حين أظهرتم لهم ما نطق به كتابكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتدركون أن الذي اعترفتم به لهم ، صار حجة في يدهم علينا جميعا عند ربّنا!.

٧٧ ـ (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ... أفلا يعرف اليهود القائلون لإخوانهم : أتحدّثونهم بالحقّ ليحاجّوكم به أنّ الله يعرف (ما يُسِرُّونَ) ما تحكونه في سرّكم ، وما تضمرونه من عداوة محمّد (وَما يُعْلِنُونَ) من إيمانكم الكاذب لأنكم تظهرون الإيمان وتبطنون الكفر ..

٧٨ ـ (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) ... جاهلون للقراءة والكتابة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أي التوراة (إِلَّا أَمانِيَ) جمع : أمنية ، وهي التعليل بالكذب ، فهم لا يعرفون من التوراة إلّا أكاذيب أحبارهم المختلقة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) بما يقلّدون به رؤساءهم.

٧٩ ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ... الويل : حلول الشّر. والهلاك. أو أدنى وأسوأ بقاع جهنم ، والمراد بالذين يكتبون الكتاب : اليهود. أي الذين يكتبون التوراة المحرّفة ، بأيديهم ـ تأكيدا ، كما يقال : رآه بعينه ، وسمعه بأذنه. (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وذلك أنهم كتبوا صفات النبي (ص) عن التوراة بعد ما حرّفوها ، ثمّ نسبوها إلى التوراة المنزلة. (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي ليعتاضوا بما يأخذونه من أعراض الدنيا. كالهدايا والرّشى والوجاهة ، وغير ذلك مما هو قليل زائل مهما كان جليلا. (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الحرام ، والمعاصي بإزاء هذه المقالات الكاذبة.

٨٠ ـ (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) ... هذا جوابهم لذوي أرحامهم حين سألوهم : لم تفعلون هذا النفاق مع أنكم تنالون غضب الله وسخطه وستخلدون في النار؟. فأجابوا قائلين : ليس الأمر كما تزعمون ، ولن يعذّبنا الله بالنار (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) كمقدار ما عبدنا العجل ـ أربعين يوما ـ ثم نصير إلى الجنان. (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) أي : يا محمّد قل لهؤلاء المنافقين : بأي برهان تستدلّون على دعواكم الباطلة؟. هل عقدتم مع الله سبحانه عهدا بأن لا يعذّبكم إلّا بمقدار ما عبدتم العجل؟. (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أم تدّعون الكذب وتفترون على الله؟. ما ليس لكم به علم.

٨١ ـ (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ... نعم قد تمسّكم النار ، أنتم وكل (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) عمل عملا قبيحا وفعلا شنيعا (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) طوّقته من جميع نواحيه. (فَأُولئِكَ) أي المرتكبون للسيئات ، الذين تحيط بهم خطاياهم ، هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنّ نيّاتهم في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا.

٨٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... لمّا توعّد الله المسيئين الخاطئين بالنار ، ثنّى بوعده الكريم للمؤمنين

١٧

الذين يفعلون الواجبات ويلتزمون بالتّروك فقال : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

٨٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ... واذكر يا محمد حيث ألزمناهم إلزاما مؤكدا (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) إخبار معناه النّهي ، وهو أبلغ من صريحه فكأنّه قد سورع إلى امتثاله فأخبر عنه. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي تحسنون لهما إحسانا. (وَذِي الْقُرْبى) أي بذي القربى ، تصلونه وتحفظون قربه منكم (وَالْيَتامى) أن ترأفوا بهم وتعطفوا عليهم وتعاملوهم بالشفقة (وَالْمَساكِينِ) وأن تؤتوا المساكين حقوقهم المشروعة لهم. والمسكين بوزن مفعيل من السكون. فكأنّ الفقر أسكنهم في بيوتهم أو قعد بهم عن الطّلب وأخجلهم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) يعني قولا حسنا ، بأن تعاملوهم بالخلق الجميل. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في أوائل أوقاتها ويتضمن الأمر بإقامتها : إتيانها بجميع شرائطها التي لها دخل في صحتها وكمالها (وَآتُوا الزَّكاةَ) بإيصالها إلى أهلها على ما فرضه الله سبحانه في كتابه (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم أيها اليهود عن الوفاء بالعهد (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) أي من أسلم منكم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) منصرفون.

٨٤ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... أي : يا بني إسرائيل اذكروا حين أخذ العهد على أسلافكم وعلى من يصل إليه هذا الأمر (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا يريق بعضكم دماء بعض (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أن لا تفعلوا ما يبيح قتلكم وإخراجكم عن بلادكم وأوطانكم. وقد جعل غير الرجل نفسه لاتّصاله به أصلا أو دينا. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) اعترفتم بذلك الميثاق كما اعترف به أسلافكم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) على إقرار أسلافكم.

٨٥ ـ (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ... أيها المنافقون الناكثون المخاطبون (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) بفعلكم ما يكون سببا لقتلكم ، أو أن المراد : قتل بعضهم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) تظاهرون : تتظاهرون أي تتعاونون عليهم بما هو إثم : أي قبيح يستحقّ فاعله اللّوم عليه. والعدوان : هو الإفراط في الظّلم والتعدّي. (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) يعني أن الذين تخرجونهم من ديارهم ، وتتعاونون على ذلك وعلى ظلمهم وقتلهم ، إن أسرهم أعداؤكم أو أعداؤهم تدفعون عنهم فدية للأعداء ، من أموالكم ، وتأخذونهم من أيديهم بكلّ قيمة وبكل وسيلة كانتا (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) كرّر سبحانه تحريم إخراجهم من ديارهم لئلّا يتوهّم تحريم المفاداة. والضمير في قوله (وَهُوَ) للشأن. (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) بصيغة اسم المفعول ورفع قوله (إِخْراجُهُمْ). (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فالذي أوجب المفاداة هو الذي حرّم القتل وإخراج العباد من ديارهم. فما بالكم تطيعونه في بعض وتعصونه في الآخر؟. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) ما قصاص من يعمل عملكم (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ذل بضرب الجزية عليهم مع ما يستبطن ذلك من الهوان. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يرجعون إلى عذاب في الآخرة يتفاوت على قدر مراتب معاصيهم ومخالفتهم له سبحانه.

٨٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) : ابتاعوا حظّ الدنيا الفانية وحطامها الزائل ، بنعيم الآخرة الباقية الخالدة (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) فما لهم في الآخرة إلّا النار (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعانون ويساعدون بدفع العذاب عنهم.

٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أتبعنا به وأرسلنا على أثره الرّسل : الأنبياء ، واحدا بعد واحد (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحة : كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، والإخبار بالمغيّبات. (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي قوّيناه به. ويقال إن روح القدس هو جبرائيل (ع). وقيل إنه ملك موكّل بحراسة الأنبياء من الحوادث ، وإلهامهم العلوم والمعارف ، وقيل أيضا هو الاسم الأعظم الذي به يحيي الموتى وبه يحصل تنفيذ سائر الأمور الخارقة للعادة. (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) يا معشر اليهود : ما لكم كلّما أرسلنا نبيّا لا يجيئكم بما تحبّون (اسْتَكْبَرْتُمْ) أخذتكم الكبرياء عن اتّباعه وإطاعته (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كموسى وعيسى عليهما‌السلام (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كما فعل أسلافهم.

٨٨ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) ... أي مغشاة بأغطية تحول دون وصول ما تقوله يا محمّد لنا. (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أبعدهم من الخير والرّحمة ،

١٨

وأخزاهم بسبب كفرهم. (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) تصديقهم في غاية القلّة أما كلمة (ما) فمزيدة ، وفائدتها التأكيد لما تدخل عليه.

٨٩ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ... أراد بالكتاب القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي : التوراة ، فإنّ القرآن يصدّق بأنها كتاب سماويّ نزل من عند ربّ العالمين (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل ظهور محمّد (ص) بالرسالة والدّعوة ، (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يطلبون الفتح والظّفر والنّصر على المشركين ويقولون : اللهم انصرنا بالنّبيّ المبعوث في آخر الزمان ، الذي نجد وصفه ونعته في التّوراة. (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) حين أتاهم ما عرفوا من الحقّ المذكور في كتابهم ، وهو نعت محمد (ص) وأوصافه الدّالة عليه وعلى نبوّته (كَفَرُوا بِهِ) أنكروه وجحدوه (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) المنكرين الذين صاروا مطرودين من رحمة الله.

٩٠ ـ (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ... أي بئس الشيء شيئا باعوا به أنفسهم. (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) الجملة بيان ل (ما) الموصولة التي في (بئسما) وهذه هي المخصوصة بالذّم. فالله سبحانه ذمّ اليهود وعابهم لكفرهم بما أنزل على موسى بن عمران (ع) من التوراة التي تصدّق محمدا (ص) وتبيّن أوصافه وعلاماته ، واليهود قد عرفوا ذلك وجحدوه (بَغْياً) أي عدولا عن الحق (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي لأن ينزّل القرآن على محمّد (ص) حيث أبان فيه نبوّته ، وأظهر فيه ، أو به ، آيته التي هي معجزته الباقية إلى الأبد. (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) رجعوا خائبين مستحقّين لغضب فوق غضب. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) مذلّ.

٩١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ... أي صدّقوا بما أنزل على محمد (ص) أو بكل كتاب أنزله على الرّسل. (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) ينكرون ما دونه من الكتب السماوية كالإنجيل والقرآن (وَهُوَ الْحَقُ) الصادق الثابت الناسخ لما قبله. (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) ومصدقا : حال مؤكدة من مرجع الضمير في : وهو الحق ، وردّ لمقالتهم ، لأنّ كفرهم بما يوافق التوراة ويصدّقها ـ أي القرآن ـ كفر بها أيضا. (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قل يا محمّد لليهود : لو كنتم مؤمنين بالتوراة وبما فيها فلم تقتلون أنبياء الله في الأعصار الماضية مع أن صريح التوراة حرّم قتل النّفس المحترمة فكيف بالنفوس المقدّسة ، كنفوس النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين؟.

٩٢ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ... البيّنات هي الآيات التّسع الواضحات التي من أعظمها جعل العصا حيّة ، واليد البيضاء. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) جعلتم العجل إلها بعد انطلاقه لميقات ربه. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بعبادة العجل.

٩٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... ألزمناكم بالعهد على أن تفوا به ولا تعبدوا إلّا الله ولا تشركوا به شيئا. (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) : جبل في صحراء سيناء. (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي قلنا لهم : خذوا ما آتيناكم من الدين وأحكامه وفروضه بعزم وثبات (وَاسْمَعُوا) ما أمرتم به سماع طاعة (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي سمعنا ما دعانا إليه محمّد (ص) وما أطعناه. (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) دخل حبّ العجل في أعماقهم كما يدخل الصبغ الثوب فيتخلّله بكافة أجزائه ، وتغلغل في قلوبهم كتغلغل الشّراب في جوف الظمآن (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم. (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي التوراة فإنها ليس فيها عبادة عجول ولا أمر بالكفر بالله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بموسى وكتابه كما تزعمون.

١٩

٩٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) ... أي الجنّة ونعيمها (عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) أي مختصة بكم كما زعمتم. (مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي ليست لأحد غيركم من الناس. إن كنتم تعتقدون ذلك (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ) في دعواكم (صادِقِينَ) فإنّ من أيقن أنه من أهل الجنّة يأنس ويشتاق إليها أكثر من أيّ شيء ويتمنّى الموت آنا بعد آن ليخلص من دار العناء والفناء ، ويصير إلى دار النّعيم والبقاء. ففي التوراة مكتوب : إنّ أولياء الله يتمنّون الموت ولا يرهبونه.

٩٥ ـ (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ... جملة نفي وتأبيد. فهم لا يتمنّونه إلى الأبد (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما أسلفوا من المعاصي وأسباب دخول النار حتما ، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) : هذه جملة تضمّنت الوعيد لهم لكونهم من الطاغين لما في دعواهم مما ليس لهم. والكاذب ظالم لنفسه ولغيره.

٩٦ ـ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) ... أي : يا محمّد إنهم ـ مضافا إلى أنهم لن يتمنّوا الموت ـ هم حريصون على حياة متطاولة أكثر من بقية الناس ممن يئس من الجنة ونعيمها. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إذا قيل فيها : ما فائدة قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، وهم جملة من الناس؟. قلنا : إنما خصّوا بالذّكر بعد العموم لأن حرصهم على الحياة أشد من غيرهم ، لأنهم لا يؤمنون بالغيب ، ويكفرون بالبعث ، ولا يرون غير الدنيا دارا أخرى ففيها توبيخ شديد لليهود خاصة لأنّهم يدّعون الإقرار بالجزاء. فحرصهم أشدّ من حرص المنكرين ، فهو إذا يدل على علمهم بأن مصيرهم إلى النار!. (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أي أنّ منهم من يحب أن يعيش ألف سنة. (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) ليس بمبعده عنه (أَنْ يُعَمَّرَ) يعيش كثيرا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) يراهم ويطّلع على أعمالهم.

٩٧ ـ (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ... كقنديل. وهو الأمين على الوحي لجميع رسل الله صلوات الله عليهم. يأمر تعالى نبيّه أن يقول لليهود الذين عادوا جبرائيل أنهم ظالمون (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) لأنه هو الذي أنزل القرآن على قلبك (بِإِذْنِ اللهِ) ومن عنده (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أن القرآن يصدّق ما قبله من الكتب السماوية ومنها كتابهم التوراة. (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) هدى من الضلالة ، ومبشّرا بمحمّد (ص).

٩٨ ـ (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ) ... المراد بالعداوة لله مخالفة أوامره ونواهيه ، والعناد في إنعامه على المقرّبين من عباده. أمّا الملائكة فلعلّهم ملائكة النّصر المبعوثون لنصرة أولياء الله وإعانتهم في موارد الحاجة (وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) أفردا بالذكر مع دخولهما في الملائكة لفضلهما ، فإذا كنتم أيها اليهود أعداء لهؤلاء (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) فإنه تعالى عدو لكم ولكل الكافرين بسبب كفركم ، وسيفعل بكم جميعا ما يفعله العدوّ بالعدو.

٩٩ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ... يا محمد : قل لجماعة اليهود ، قد أنزل الله آيات واضحات من حيث الدلالة على صدق دعواي بأني نبي مرسل من قبله ، فانظروا فيها. (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) وما يجحد بها إلا المتمرّدون الخارجون عن دين الله وطاعته طلبا للرياسة وعنادا للحق.

١٠٠ ـ (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) ... فما بالهم كلّما واثقوا ميثاقا (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طرحوه وألقوه. وقد قال «منهم» لأن بعضهم لم ينقض العهد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني لا يؤمنون بالتوراة وما جاء فيها.

١٠١ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ... أي جاء إلى اليهود. والرسول هو محمّد (ص) الذي صدّق التوراة ومن جاء بها. وقيل : هو الكتاب ـ أي القرآن ـ المرسل من عند الله تصديقا للتوراة ونبوّة موسى (ع) ، مع أنه (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة ، ومع ذلك (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) والفريق يقال لجماعة أكثر من الفرقة ، ويطلق على الطائفة. والمراد به هنا جماعة اليهود الذين طرحوا القرآن وراء ظهورهم ولم يقبلوه ولا عملوا به. وبما أنهم نبذوا المصدّق لتوراتهم فقد نبذوا التوراة معه. ولذا قال بعض المفسرين : الكتاب المنبوذ هو التوراة. (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بحيث يتراءى لمن يلاحظهم أنهم لا يعرفون أن هذا الكتاب كتاب الله ، مع أنهم علموا ذلك وعاندوه.

٢٠