إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

د. محمّد فيّاض

إعجاز آيات القرآن في بيان خلق الإنسان

المؤلف:

د. محمّد فيّاض


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤١

      

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أستهل حديثى هذا بالإجابة عن سؤال هام هو : لماذا هذا الكتاب؟ فأقول إننى ، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن من الزمان ، قد حبانى الله بنعمة كبرى بصفتى طبيبا للنساء والحمل والولادة ، وذلك بأن أعايش فى كل يوم ـ بل كل لحظة ـ إبداعه سبحانه وتعالى فى معجزة الخلق البشرى ، فتعودنى المرأة وقد بدأ حملها ، وبالأجهزة الحديثة والعلم المتقدم ، أتابع مسيرتها حتى تضع وليدها ، وأراقب تطورات الحمل لديها وجنينها ينمو من نطفة فعلقة فمضغة فعظام ، حتى ينشأ نشأة بشرية خالصة. ومع كل مرحلة من مراحل هذا الحمل يظل لسانى يلهج بالحمد ، وفؤادى يشتعل بالخشوع ، أمام قدرة الخالق جل جلاله ، وإعجازه البالغ ، وهو يوالى تصوير وتقويم الجنين الصغير ، حتى يكتمل إنسانا له كل مقومات الحياة.

وفى لحظة معينة خطر على بالى خاطر لطيف .. وهو لماذا لا أشرك معى قارئى العزيز فى تذوق حلاوة هذا الإبداع ، ولمس ضخامة هذا الإعجاز. وإذا كان الله قد من على بنعمة هذا العلم ؛ فلما ذا لا أسعى إلى توسيع نطاقه ونشره على غيرى من البشر ، لعل ذلك يعينهم على تعميق إيمانهم وترسيخ عقيدتهم بعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

ولهذا كان هذا الكتاب.

وكان القرآن الكريم هو سندى الأوحد ، والمرجع الأساسى لى. فالإعجاز والإقناع فى كتاب الله العظيم علميان وعقليان ، يقدمان الحقائق والمشاهد الطبيعية كآيات لله تثبت وجوده وتؤكد ألوهيته. ولهذا كانت الدعوة فى القرآن الكريم واضحة وصريحة لكل البشر بأن يتدبروا ويتفكروا وينظروا فى هذه الآيات لتستريح

٥

أفئدتهم وتهدأ نفوسهم وتطمئن إلى قدرة الله وعظمته ، ورحمته أيضا. وفى يقينى أن تحقيق هذه الأهداف السامية يتأتى ـ بشكل خاص ـ حين التفكر والنظر فى كيفية الخلق البشرى. وإذا كنا نعايش عملية الخلق بكافة مراحلها وأطوارها ، فإن بيان القرآن الكريم عنها فى آياته يصبح بمثابة التوجيهات والتعليمات التى تقدمها الشركة الصانعة لجهاز أو آلة ، حتى يقرأها ويستنير بها مستعمل الجهاز.

وكمثال لدقة العنوان الذى اخترته لهذا الكتاب ، فإننى أتوقف بقارئى عند كلمة الخلق. فالخلق ـ فى اللغة ـ هو الإيجاد من العدم. وقد أشار سبحانه للخلق ببيانه فى القرآن الكريم أن الانسان أتى عليه فترة زمنية لم يكن فيها شيئا مذكورا : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١]

هنا أرجو ـ أيها القارئ العزيز ـ أن تلاحظ جمال التعبير الإلهى ودقته ، فهو تعالى لم يقل" لم يكن شيئا" وإنما قال (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ،) أى أنه قد كان شيئا ولكن لا يكاد يذكر فى قلة الاهتمام والاحتفال به ، ولعمرى إنها لقمة البلاغة فى البيان.

ثم انظر معى إلى إبداع الخالق فى الخلق .. حيث يتنوع البشر ويختلفون ، ويصبح كل فرد منهم مميزا عن الآخرين. صحيح أن الأصل واحد ، والناس لآدم ، وآدم من تراب ، ولكن شتان بين معادن الخير ومعادن الشر ، وشتان بين نوح وابنه ، وبين لوط وامرأته. وسبحان الخالق البارئ المصور الذى أطلق عوامل الوراثة والاصطفاء لترسم الملامح والصفات ، وتحدد الطول والقصر. سبحانه عز من قائل (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) [الروم : ٢٢]

وقد وجهت اهتماما خاصا إلى محاولة معاونة قارئ هذا الكتاب على متابعة الموضوع دون الحاجة إلى تحمل مشقة البحث عن الآيات القرآنية التى أتعرض لذكرها فى المصحف ؛ لعلمى بمدى صعوبة هذا الأمر وعدم تيسره لمن ليس له إلمام

٦

بجميع آيات الذكر الحكيم. ولذا فقد حرصت فى كل مرة على ذكر الآيات القرآنية بنصها ورقمها وموقعها من السور ، فضلا عن تبويب موضوعى لبعض الآيات التى تحدثت عن الخلق ، لعل ذلك يكون إحكاما لهدف أساسى عندى وهو أن يكون هذا الكتاب فى النهاية مرجعا من المراجع ، إليه قد يعود الباحثون.

وفوق ذلك فقد ألزمت نفسى بأسس العلم الذى تعلمته من ممارستى الطويلة فى مجالى الحمل والولادة ، مع المطابقة بينها وبين آيات القرآن الكريم. وصدرت فى ذلك عن إيمان عميق لدى بأن ما نعلمه وما نمارسه يجب أن يتطابقا مع كل ما ذكره الحق فى كتابه الكريم ، وفى الحديث النبوى الشريف ، وإلا كان علما ناقصا وغير صحيح .. ذلك أنهما من وحى الله تعالى الذى خلق الإنسان وهو أعلم بخلقه سبحانه.

ولست أدعى تبحرا فى الدين أو تفسير آى الذكر الحكيم ، لكننى أفخر بكونى مسلما يسكن الإيمان أعماقه ، ويزداد اقترابا من الله فى كل لحظة يعايش فيها إبداع الخالق جل وعلا ويلمس إعجازه.

من هذا المنطلق ـ مسلحا بالعلم الحديث ـ فإننى أقرأ فى الآية (٦) من سورة الزمر وصفا علميا مفصلا عن أطوار خلق الجنين فى قول الله تعالى (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ.) وأفهم من نص الآية ـ بحقائق العلم ـ أن الجنين يمر فى أطوار من بعد أطوار وخلق من بعد خلق. لقد جعل الله الجنين فى ظلمات ثلاث ، هى ظلمة الكيس الأمينوسى حول الجنين .. ثم ظلمة الرحم وجداره .. ثم ظلمة جدار البطن ؛ وقد تكون هذه هى الظلمات الثلاث. والجنين فى أول مراحله يكون من ثلاث طبقات ، وجدار الرحم أيضا ثلاث طبقات. كل هذه الظلمات ثلاث ، وكل منها يمكن أن تفسر الآية الكريمة.

وكان واضحا تمام الوضوح أمامى أننى أخوض حقلا ليس بالسهل. صحيح أن الله قد وهبنى نعمة العلم والخبرة ، لكننى كنت أريد أن أقدم كل ما مارسته طوال عمرى فى إطار إبداع الله سبحانه فى الخلق ، وكيفية بيان آيات القرآن لهذا

٧

الإعجاز ؛ وتلك مهمة صعبة بالفعل. لكن ما شجعنى على التوكل على الله فى إتمام هذا الكتاب ، أننى وجدت البعض قد سبقنى إلى الكتابة فى هذا الموضوع ، كما أن هناك آخرين عاكفون على الكتابة فيه أيضا. كذلك فقد وجدت لدى البعض رؤى جديدة تحمل تفسيرات جديدة فى ضوء ما كشفه العلم الحديث. ولعل المفاجأة التى أسعدتنى حقا عند آخر زياراتى لبلد عربى شقيق أن وجدت واحدا من أبنائه النابغين قد ألف كتابا حول نفس الموضوع ، وأن عرفت أنه كان من بين الطلبة الذين درسوا الطب على يدى.

وتعميما لفائدة القارئ فقد حرصت على أن يكون لكل من سبقنى نصيب فى هذا الكتاب بالإشارة أو العرض أو التلخيص.

ويهمنى أيضا أن أعبر عن الشكر والتقدير البالغين للسيدLENART NILSSON مؤلف الكتاب الرائع A CHILD IS BORN ، والذى لم أتمالك نفسى إزاء روعة الصور الواردة فيه من الاستعانة ببعضها ، والتى بلغت دقتها الاقتراب تماما من حقيقة الأمر الذى يحدث داخل الرحم.

ويبقى أن أقدم الشكر لكل يد امتدت لى بالعون والمساعدة. وأول الشكر ومنتهاه لله سبحانه وتعالى. إننى أسجد لله عرفانا بفضله وشكرا على نعمه الواسعة التى أسبغها على شخصى الضعيف ، فكان هذا الكتاب واحدا من نعمائه ، أتقرب به إليه طمعا فى مغفرته ورضوانه.

وتبقى بعد ذلك كلمات شكر ثلاث ، أولاها للأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان ، أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر ، الذى منحنى من وقته الثمين ما كان ضروريا ؛ لأن يراجع بعلمه الغزير كل ما احتواه هذا الكتاب من اجتهادات فقهية ودينية ولغوية ، فكانت له إضافته القيمة ، فله منى أبلغ الشكر والتقدير على جهده ، وله الشكر على كلمته الرقيقة فى تقديم هذا الكتاب.

٨

أما كلمة الشكر الثانية فهى للفنان شريف تونى ، الذى أثرى بعمله الفنى هذا الكتاب.

وأما كلمة الشكر الثالثة فهى للأخ والصديق عزيز أحمد عزمى. إن لقائى بهذا الرجل يمثل نقطة تحول بارزة فى حياتى.

وفقنا الله ، والله من وراء القصد.

د. محمد فياض

ذى الحجة ١٤١٧ ه‍ ـ مايو ١٩٩٧

٩
١٠

تقديم

القرآن الكريم هو كلام الله عزوجل ، المنزّل على سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله لهداية البشر وتنظيم أمور حياتهم ، وتحقيق سعادتهم الدنيوية والأخروية ، المعجز بأقصر آية منه.

وقد كتب العلماء والمفكرون فى بيان إعجاز القرآن من ناحية أسلوبه فى البلاغة وسمو كلماته ، كما كتبوا فى بيان إعجازه فى إخباره بأمور بيّن أنها ستحدث ، وقد حدثت كما أخبر القرآن الكريم ، كإخباره عند ما انهزم الروم أمام الفرس بأن الدائرة ستدور على الفرس ويغلبهم الروم ، وقد كان كما أخبر القرآن الكريم.

كما كتب العلماء عن إعجاز القرآن الكريم عند ما يعرض لمجالات علمية أكدتها بحوث العلماء فى العصر الحديث ، وكان أحد هذه المجالات مجال خلق الإنسان ومراحل وأطوار هذا الخلق فى أرحام الأمهات.

وقد اختار عالمنا الكبير الأستاذ الدكتور محمد فياض مجالا تخصص فيه ، وكان أحد علمائه المبرزين ، فبذل جهده العلمى فى إخراج هذا الكتاب الثرى يلقى فيه الأضواء العلمية التى تكشف وتبين الإعجاز القرآنى فى بيان خلق الإنسان ، وعرض ذلك بأسلوب ينم عن إيمان كاتبه العميق بالخالق تبارك وتعالى ، وطلاقة قدرته ، وكمال إبداعه.

ندعو الله عزوجل أن يجزيه خير الجزاء على هذا الإسهام العلمى ، وأن يجعله فى ميزان حسناته ، إنه سميع مجيب الدعاء.

دكتور محمد رأفت عثمان

أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر

١١
١٢

الفصل الأول

بداية خلق الكون وخلق آدم وحواء

تمهيد

يدور هذا الكتاب حول موضوع جوهرى رئيسى ، هو كيفية إبداع الله جل جلاله فى الخلق ، وكيفية بيان هذا الإبداع والإعجاز فى محكم آيات القرآن الكريم. وكأنما أراد الله أن يلجم ألسنة البشر الجاحدين ، فإذا به جل جلاله يوحى بهذا القرآن المحكم إلى رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لينطق بهذا الإعجاز العلمى الفريد ، دون أن يكون قارئا ولا صاحب خبرة علمية سابقة ، لا فى هذا المجال ولا فى غيره.

وما دمنا نتحدث عن إبداع الخالق فى خلقه ، وعن إعجاز بيان القرآن الكريم لهذا الإبداع ، فخير ما نبدأ بالحديث عنه كيفية بداية خلق الكون ، ومن ثم خلق البشر بداية من آدم وحواء.

١٣

بداية خلق الكون

عن أبى هريرة قال ، أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدى فقال : «خلق الله عزوجل التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النون يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم ـ عليه‌السلام ـ بعد العصر من يوم الجمعة ، فى آخر الخلق ، فى آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل». (شرح صحيح مسلم)

نحن هنا أمام نص واضح يتحدث عن مراحل بداية الخلق بتفصيل تام ، عبر ستة أيام متساويات ، أو ستة أزمنة ، على اعتبار أن يوما عند ربك يختلف كلية عن الأيام المعلومة لنا فى هذه الحياة الدنيا.

ففى يوم السبت ، أى فى المدة الأولى ، فى الطور الأول ، خلق الله التربة ، أى الأرض الخام الأولى.

وفى يوم الأحد ، أى فى الطور الثانى ، خلق الله تعالى الجبال.

وفى يوم الاثنين ، أى فى الطور الثالث ، خلق الله تعالى الشجر أى كل ما ينبت على الأرض من شجر.

وفى يوم الثلاثاء ، أى فى الطور الرابع ، خلق الله تعالى «المكروه» وهو ما يقوم به المعاش ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض.

وفى يوم الأربعاء ، أى فى الطور الخامس ، خلق الله تعالى «النون» أى الحيتان ، أى الأسماك والحيوانات البحرية.

وفى يوم الخميس ، أى فى الطور السادس ، خلق الله الدواب ، وهى كل ما يدب على الأرض من طير وحيوان.

١٤

وهنا اكتمل خلق الأرض ، بجبالها ، وشجرها ، ومعادنها ، وأسماكها ، وطيرها ، وحيوانها ، هكذا بدأ الخلق.

وفى يوم الجمعة ، أى فى الطور السابع ، فى آخر الخلق ، فى آخر ساعة من ساعات الجمعة ، خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام.

عن هذا اليوم ، قال سيد الخلق ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن أبى هريرة : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة». (مسلم)

الخليفة فى الأرض

يحسن فى البداية أن نبين أن الله استخلف الإنسان فى الأرض بمعنى أن يرسى قواعد العدل ويحكم بأحكام الله فيها.

وقد اختار الله آدم (١) ليكون خليفته فى الأرض (٢). لكنه قبل ذلك أكمل ـ عز

__________________

(١) آدم اسم مشتق من أديم الأرض. وتتعدد الأحاديث الشريفة فى هذا الصدد ، ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلكم لآدم وآدم من تراب» ، وقوله «إن الله خلق آدم من قبضة من جميع الأرض».

(٢) لعلماء الإسلام أربعة اتجاهات فيمن تكون عنه الخلافة :

* الاتجاه الأول : أن الخلافة تكون عن الله تعالى ، فيقال فى رئيس الدولة خليفة الله ، لأن رئيس الدولة يجب أن يقوم على رعاية حقوق الله فى خلقه ، واحتج صاحب هذا الرأى بقول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام : ١٦٥].

* الاتجاه الثانى : وحكاه الإمام النووى فى كتابه «الأذكار» عن الإمام النبوى ، أنه لا يجوز أن يقال على أحد إنه خليفة الله ، إلا آدم وداود عليهما‌السلام. وذلك لقول الله سبحانه فى حق آدم :

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، ولقوله سبحانه فى حق داود : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص : ٢٦].

* الاتجاه الثالث : وأجازه الزمخشرى فى تفسيره (الكشاف للزمخشرى ج ١ ص ٤٤) أنه يجوز إطلاق اسم خليفة الله على سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

* الاتجاه الرابع : وبه قال جمهور الفقهاء أى الغالبية من الفقهاء ، أنه لا يجوز أن يقال : خليفة الله ، ونسبوا قائل ذلك إلى الفجور ، وإنما يقال الخليفة بإطلاق ، أو خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تحرير الأحكام لابن جماعة ـ مخطوط بمكتبة الأزهر برقم (١٢٨١) رافعى ٢٧٥٠٠ من الورقة رقم ١٠ والأحكام السلطانية للماوردى ص ١٥). أما أنه لا يجوز أن يقال خليفة الله ؛ فلأنه إنما يكون الاستخلاف فى حال الموت أو الغيبة ، والله سبحانه وتعالى باق إلى الأبد ـ

١٥

وجل ـ خلق الأرض ، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها. جعل جبالها شامخة شاهقة ، وأمطارها نازلة ، وأنهارها جارية ، وأشجارها نامية ، وأطيارها تعلو إلى السماء وتهوى إلى الأرض ، وحيوانها يجرى فى نواحيها ، وباطنها عامرا بالجواهر والدرر.

المطلوب الآن هو مخلوق يسود سيادة مباشرة على هذا كله. مخلوق فيه من صفات هذه الأرض ليتمكن من التفاعل مع ما فيها. وفيه من الصفات ما يؤهله لتلقى تشريعات الله عزوجل وإرساء قواعد الحق والعدل فى الأرض.

لتحقيق ذلك اتجهت إرادة الله سبحانه إلى خلق هذا النائب وهذا الخليفة. وبشر سبحانه الملائكة أجمعين بالنبأ العظيم ، وقال لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].

إقرار ذرية آدم بربوبية الله

قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [الأعراف : ١٧٢ ، ١٧٣]

هذا مشهد عظيم أراد الله تعالى فيه أن يبين لبنى آدم وجميع ذريتهم الغاية التى

__________________

ـ لا يلحقه موت ولا يجوز عليه غيبة (مآثر الأنافة فى معالم الخلافة للقلقشندى ج ١ ص ١٥). وأما إنه يقال لرئيس الدولة خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلأنه خلفه فى أمته فى رياسته العامة فى أمور الدين والدنيا.

وهذا هو أرجح الآراء ، ويؤيد هذا ما روى أن رجلا قال لأبى بكر الصديق رضى الله عنه : يا خليفة الله ، فأنكر عليه أبو بكر ذلك ، وقال لست بخليفة الله ، ولكنى خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال رجل لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه ـ أحد خلفاء الدولة الأموية ـ : يا خليفة الله ، فقال له عمر ، ويلك ، لقد تناولت متناولا بعيدا ، إن أمى سمتنى عمر فلو دعوتنى بهذا الاسم قبلت ، ثم كبرت فكنيت أبا حفص ، فلو دعوتنى قبلت ، ثم وليتمونى أموركم فسميتمونى أمير المؤمنين ، فلو دعوتنى بذلك كفاك. (الأذكار للنووى ج ٧ ص ٣٨ ، ومآثر الأنافة فى معالم الخلافة للقلقشندى ج ١ ص ٥١ ، ورياسة الدولة فى الفقه الإسلامى للدكتور محمد رأفت عثمان ص ١٤ ، ٢٤).

١٦

من أجلها خلقهم أجمعين. فأشهد الله أرواح بنى آدم على أنفسهم ، أشهدهم أنه ربهم لا شريك له ، وأنه خالقهم ، لئلا يتعللوا يوم القيامة بأنهم كانوا لا يعلمون هذه الحقيقة ، أو أنهم كانوا مقلدين لآبائهم فى الغفلة عنها ، فلا يحاسبون عليها.

وكان هذا هو الميثاق الأول الذى أخذه الله على جميع الناس فى عالم الأرواح ، وقبل هذه الحياة الدنيا.

آدم أولا ثم حواء

أمامنا نص واضح وصريح ، يقول فيه جل وعلا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١] ويدلنا هذا النص الواضح الصريح على ما يأتى :

(أولا) أن المقصود بالآية الكريمة هو أمر الله تعالى للناس بتقوى الله عزوجل ، وبيان أن الله خلق الناس من آدم وحواء ، فهى تشير إلى بثه تعالى لخلق كثير من الرجال والنساء ، من نفس واحدة وزوجها ، وهى أصل كل الناس فى الأرض ، ولا يكون ذلك إلا من آدم عليه‌السلام وحواء.

(ثانيا) أن آدم وحواء لم يخلقا فى آن واحد وإنما خلقا فى وقتين اثنين ، ف «النفس الواحدة» هى آدم ، و «زوجها» الذى خلقه الله منها هى حواء ، فهو معطوف على القول الأول. أى أن «النفس الواحدة» (آدم) خلقت أولا ، ثم خلق منها «زوجها» (حواء) بعد ذلك.

وهناك إشارات ودلائل تؤكد ذلك :

(أ) فلو كان سبحانه قد خلق آدم وحواء فى وقت واحد لجاء ذلك مذكورا بوضوح فى كتابه العزيز الذى (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

(ب) قد لا يفيد حرف العطف (الواو) ترتيبا بين المعطوف والمعطوف عليه فى قوله (وخلق) ، لأن حرف (الواو) كما يقول علماء اللغة لا تفيد إلا مطلق الجمع ، فلا تفيد الترتيب ، فإنك إذا قلت مثلا : جاء خالد وأيمن ، فإن الواو هنا لا

١٧

تفيد أن خالدا جاء أولا ثم جاء أيمن ، وإنما أفادت فقط مجيئهما ، لكنه من الثابت أن استعمال حرف الواو غالبا ما يسبق فيه الأول.

(ج) بنفس الطريقة يتكرر الحديث عن موضوع الخلق فى القرآن الكريم ، الأمر الذى يؤكد المعنى المشار إليه. فيقول جل جلاله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩]

(د) يتكرر الحديث فى القرآن الكريم عن مشهد الخلق والأمر بالسجود ، فيقول عز جلاله ـ مثلا ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [البقرة : ٣٤] ، وهو مشهد يخلو من ذكر وجود حواء.

(ه) ولماذا الحاجة لكل هذه الأدلة وأمامنا القول الفصل فى قوله سبحانه (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦]

هل نحتاج إلى بينة بعد ذلك وهو سبحانه يقول إنه خلق الإنسان من نفس واحدة ، (ثم) خلق منه الأنثى ، ومعروف أن (ثم) هى حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخى أى التأخير.

الخلاصة الواضحة ، أننا أمام الحقائق التالية :

* آدم خلق أولا

* حواء قد خلقت بعد آدم

* حواء خلقت من آدم نفسه

كيف خلقت حواء من آدم

السؤال جوابه واضح .. فالحقائق تقول إن آدم خلق من تراب ، وإن حواء خلقت من آدم. بهذا نجد أن آدم قد خلق وحده أولا ، ومن التراب ، فإن خلق حواء بعده ، قد لا يستدعى منه تعالى أن يخلقها من تراب أيضا ، ما دام الصنو والمثل موجودين فى آدم. وقد أرادت حكمته أن يخلق حواء من أحد أجزاء آدم ، لكى يأنس إليها ويسكن إليها ، لا يفزع منها ولا ينفر.

ويعطينا الحديث النبوى الشريف دليلا آخر.

١٨

فقد جاء فى المروى من الحديث الشريف فى صحيح البخارى : «استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع ..» والضلع المقصود فى حديث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ضلع آدم. هكذا بيّن العلماء.

وجاء فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى أن آدم بقى وحيدا فى الجنة بعض الوقت ولم يكن معه من يستأنس به ، فألقى الله تعالى عليه النوم وأخذ ضلعا من أضلاعه اليسرى ووضع مكانه لحما ، وخلق منه حواء ، فلما استيقظ وجد امرأة عند رأسه ، فسألها : من أنت؟ قالت : امرأة ، قال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إلىّ.

وإلى مثل ذلك ذهبت التوراة إذ جاء فى الإصحاح (٢ ـ ٢١ ـ ٢٢) ما ترجمته : «ألقى الله على آدم نوما عميقا ثم أخذ منه أحد أضلاعه. ومن الضلع الذى أخذه الله من الرجل خلق المرأة».

وحرصا منى على ذكر كافة الآراء التى دارت حول هذا الموضوع ، فيهمنى الإشارة إلى أن الدكتور محمد وصفى فى كتابه (الارتباط الزمنى والعقائدى بين الأنبياء والرسل) يرفض فكرة خلق حواء من أحد ضلوع آدم ، ويرى أنها خلقت من نفس العناصر والمكونات التى خلق منها آدم. وفى رأيه أن حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على معنى مجازى وهو أن الرجل يفقد المرأة ويضيعها إذا ما حاول مقارنة ضعفها وأنوثتها بصفات الرجولة ، فهى كالضلع الذى وضعه الله فى القفص الصدرى معوجا فإذا حاول أحد تقويمه أضاعه وأفقده وظيفته.

مم خلق آدم؟

آدم ـ كما أسلفنا ـ اسم مشتق من أديم الأرض. فسمى آدم ـ كما يقول بعض العلماء ـ بما خلق منه. وشاء الله أن يخلق جسم آدم طورا بعد طور ، رغم أنه سبحانه قادر على خلقه فى التو واللحظة ، فهو القائل جل جلاله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠].

فكان خلق آدم على مراحل وأطوار .. فى البداية كان التراب والماء ، فكان الطين ، كما قال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ

١٩

طِينٍ) [السجدة : ٧]. وترك الطين أجلا معلوما حتى صار لازبا أى شديد التماسك فيقول تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١]. ثم ترك جسد آدم زمنا حتى صار صلصالا من حمأ مسنون. والحمأ هو الطين الذى تغير لونه واسود ، والمسنون : المصبوب لييبس. وهو ما يقول عنه سبحانه (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦]. وبعد هذا الطور مضى أجل مسمى عند الله تعالى حتى صار الحمأ المسنون صلصالا كالفخار ، وهو ما يقول عنه جل جلاله (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤]. والمعروف أن لفظ الصلصال يشير إلى أجزاء التربة الخصبة الغنية بالعناصر الستة عشر التى يتكرر وجودها فى التربة الزراعية ، وفى جميع النباتات والحيوانات. وفيما يلى جدول يبين هذه العناصر ، مرتبة بنسبة وجودها فى كل من التربة الزراعية ، وفى جسم الإنسان.

٢٠