أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

استعنت بالله

قال الشيخ الإمام الأجلّ السيد علم الهدى ، شمس الإسلام ، عماد الدين ، إمام الأئمة ، نور الشريعة ، قدوة الفريقين : (١) أبو الحسن علي ابن محمد الطبري ، رحمه الله ورضي عنه :

الحمد لله الذي أكرمنا بتنزيله ، وشرفنا بمعرفة تأويله ، وشفى صدورنا بواضح بيانه ، وهدانا من ظلم الضلالة ، وعماية الجهالة به ، وجعله ميزان قسط لا يحيف عن الحق غرب لسانه ، وضوء هدى لا يجتنى من الشهاب نور برهانه ، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته ، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته ..

نحمده على فنون بلائه ، وضروب آلائه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يعتصم بحبله ، ويأوي في الشبهات إلى حرز عدله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه ونبيه ، أرسله ببيان أوضحه ، ولسان أفصحه ، وشرع شرحه ، ودين فسحه ، فلم يدع صلوات الله عليه فسادا إلا أصلحه ، ولا عنادا إلا زحزحه ، صلوات الله عليه ما هلل ملك وسبحه ، وعلى من نصره وصحبه .. وبعد :

__________________

(١) يقصد اهل الظاهر واهل الباطل.

١

فإني لما تأملت مذاهب القدماء المعتبرين ، والعلماء المتقدمين والمتأخرين واختبرت مذاهبهم وآراءهم ، ولحظت مطالبهم وأبحاثهم ، رأيت مذهب الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أسدها وأقومها ، وأرشدها وأحكمها ، حتى كان نظره في كبر آرائه ، ومعظم أبحاثه ، يترقى عن حد الظن والتخمين ، إلى درجة الحق واليقين.

ولم أجد لذلك سببا أقوى ، وأوضح وأوفى ، من تطبيقه مذهبه على كتاب الله تعالى ، الذي :

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(١) ..

وأنه أتيح له درك غوامض معانيه ، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه ، وأن الله فتح عليه من أبوابه ، ويسر عليه من أسبابه ، ورفع له من حجابه ، ما لم يسهل لمن سواه ، ولم يتأت لمن عداه ، فكان على ما أخبر الله تعالى عن ذي القرنين في قوله :

(وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ، فَأَتْبَعَ سَبَباً)(٢).

ولما رأيت الأمر كذلك ، أردت أن أصنف في أحكام القرآن كتابا أشرح فيه ما انتزعه الشافعي رضي الله عنه ، من أخذ الدلائل في غوامض المسائل ، وضممت إليه ما نسجته على منواله ، واحتذيت فيه على مثاله ، على قدر طاقتي وجهدي ، ومبلغ وسعي وجدي ، ورأيت بعض من عجز عن إدراك مستلكاته (٣) فهمه ، ولم يصل إلى أغراض معانيه سهمه ، جعل عجزه عن فهم معانيه ، سببا للقدح في معاليه. ولم يعلم أن الدر

__________________

(١) سورة فصلت آية ٤٢.

(٢) سورة الكهف آية ٨٤ ـ ٨٥.

(٣) طريق الاستدلال ووسائل الاستنباط التي يسلكها.

٢

در برغم من جهله ، وأن آفته من قصور فهمه ، وقلة علمه ، وما يضر الشمس قصور الأعمى عن إدراكها ، والحقائق عجز البليد عن لحاقها ..

ولن يعرف قدر هذا الكتاب ، وما فيه من العجب العجاب ، إلا من وفر حظه من علوم المعقول والمنقول ، وتبحر في الفروع والأصول ، ثم أكب على مطالعة هذه الفصول بمسكة صحيحة ، وقريحة نقية غير قريحة.

وأعوذ بالله من الإعجاب بالإبداع ، والميل بالهوى إلى بعض الآراء في مظان النزاع ، وأسأله أن يجعل مجامع مساعينا ، وجل متاعبنا في طلب مرضاته ، إنه ولي قدير ، وبالإجابة جدير ، فأقول :

لما رأيت أقاويل المفسرين في أحكام القرآن متجاوزة حد البيان ، آخذة بطرفي الزيادة والنقصان ، جررت في سرحها هذه الفصول ، المتضمنة من اللفظ والمعنى شفاء كل عليل ، مع انتخابي فيها قصد السبيل ، وتوقي التعليل والتطويل ...

فالأول في (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وما فيه من معنى الضمير ، فإن فيه ضمير فعل لا يستغني الكلام عنه ، لأن الباء من سائر حروف الجر لا بد أن يتصل بفعل ، إما مظهر مذكور ، وإما مضمر محذوف.

والمضمر في هذا الموضع إما أن يكون خبرا أو أمرا.

فإذا كان خبرا فمعناه : ابدأ بسم الله ، ودل الكلام على هذا الضمير لأن القارئ مبتدئ ، والحال المشاهدة منبئة عنه ، ومغنية عن ذكره ..

ومعنى الأمر : ابدءوا بسم الله.

ودل على الأمر قوله تعالى في موضع آخر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(١)

__________________

(١) سورة العلق آية ١.

٣

ويحتمل أن يكون أرادهما بالضمير ، لأن الضمير يحتملهما ، ولو صرح بأحدهما امتنعت إرادة الآخر.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» (١) ، فإن الحكم لما تعلق بضمير يحتمل رفع الحكم رأسا (٢) ، ويحتمل المأثم فلا تبعد إرادتهما ، ولو صرح بأحدهما ولم يجز إرادة الثاني ..

وقد يجيء من الضمير المحتمل للأمرين ، ما لا يصح إرادتهما جميعا معا ، فيلحق ذلك بقسم المجمل ، كقوله : «الأعمال بالنيات» (٣) ، وحكمه. متعلق بضمير يحتمل جواز العمل ، ويحتمل فضيلته ، وإرادة الجواز تنفي إرادة الفضيلة ، وإرادة الفضيلة تقتضي إثبات حكم شيء منه لا محالة ، مع إلحاق النقصان فيه ونفي الفضيلة عنه ، ويستحيل إرادة نفي الفضيلة والأصل جميعا في حالة واحدة ، وليس احتمال الضمير للأمرين موجبا عموما من حيث الصيغة ، ولكنه يحتمل إرادتهما ، فإن معنى العموم : اشتمال اللفظ على معنيين من جهة واحدة ، وليس مجملا أيضا فإن إرادة الكل جائزة.

والفوائد التي ينتظمها قوله : «بسم الله» ..

الأمر باستفتاح الأمور بها تبركا بذلك.

وذكرها على الذبيحة (٤).

__________________

(١) رواه الطبراني عن ثوبان وصححه السيوطي.

(٢) أي دفع المأثم الناجم عنهما عند الله.

(٣) رواه الشيخان وغيرهما.

(٤) قال تعالى في سورة الأنعام الآية ١٢١ : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وقال في سورة الحج الآية ٣٦ : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ ..) أي عند نحرها.

٤

وشعار من شعائر الدين.

وطرد الشيطان ، كما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال : «إذا سمى العبد الله تعالى على طعامه لم ينل منه الشيطان ، فإذا لم يسمه نال منه معه» (١) ..

وفيه إظهار مخالفة المشركين الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين ...

وهو مفزع الخائف.

ودلالة من قائله على انقطاعه إلى الله.

وأنس للسامع.

وإقرار بالألوهية.

واعتراف بالنعمة.

واستغاثه (٢) بالله.

وعبادة له (٣).

وفيه اسمان من أسماء الله تعالى لا يسمى بهما غيره : وهو الله والرحمن ، وهو (٤) أشهر أسماء الله تعالى ، الذي ينسب إليه كل اسم ، فيقال : الرؤوف والكريم من أسماء الله ، ولا يقال : الله من أسماء الكريم.

__________________

(١) رواه مسلم بمعناه.

(٢) في الجصاص وفي نسخة أخرى : واستعانة بالله ، واللفظان صالحان.

(٣) في الجصاص : وعياذة به.

(٤) أي اسم «الله» جل شأنه.

٥

سورة البقرة

قوله تعالى في شأن المنافقين وإظهارهم الإيمان مع إضمار الكفر (١) وعدم الأمر بقتلهم يدل على جواز استتابة الزنديق ، فإنه تعالى ما أمر بقتلهم.

قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٩).

هو مجاز في حق الله تعالى ، فإن الخديعة إخفاء الشيء. ولا يخفى على الله شيء. والقوم إن لم يعرفوا الله تعالى فلا يصح أن يقصدوه بالخداع ، وكذلك إن عرفوه ، ولكنهم عملوا عمل المخادع ، ووباله (٢) رجع إليهم ، وكأنهم إنما يخادعون أنفسهم.

أو يقال : يخادعون رسول الله ...

وقوله تعالى : (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١٥).

يجوز أن يكون مقابلة الكلام بمثله ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٣) ، وكذلك (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)(٤) الآية ..

__________________

(١) أي في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) سورة البقرة آية ٨.

(٢) أي نتيجة خداعهم.

(٣) سورة الشورى آية ٤٠.

(٤) سورة البقرة آية ١٩٤ ونص الآية : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ..

٦

وقيل : إنه لما رجع وبال الاستهزاء عليهم فكأنه استهزأ بهم.

ولما كانت جريمتهم أضر على المسلمين ، أخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار ، ودل على أن العقوبات في الدنيا ليست على أقدار الجرائم ، وإنما هي على قدر مصالح الدنيا (١) ، وجائز أن لا تشرع العقوبة في الدنيا أصلا وإنما تشرع في الآخرة.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مأمورا في ابتداء الإسلام بالصفح (٢) عنهم ، والدفع بالتي هي أحسن ، وفرض القتال بعد ذلك للمصلحة.

فيجوز أن يقتل من يظهر الكفر دون من يسر للمصلحة ، ويجوز خلافه.

ويجوز أن يرد الشرع بقتل النسوان (٣) وأن يرد بخلافه ، والعقل لا يمنع من ذلك.

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (٢٢).

إبانة للقدرة بأن جعلها على مثال الفراش ، وليس ذلك لحكم الإطلاق فإنه لو حلف أن لا يبيت على فراش ، فبات على الأرض لم يحنث ، ولو قال : لا أقعد في السراج فقعد في الشمس لم يحنث ، لأن الإطلاق لا ينصرف إليه ... وكذلك في قوله : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً)(٤) .. فأفهم الفرق بين العرف الشرعي واللغوي ، والمذكور على وجه التقييد ..

قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢٩) :

__________________

(١) الرجم للزاني المحصن ، والجلد للقاذف ، والقطع للسارق.

(٢) أي عن الكفار لا عن المنافقين كما يفهم من سياق كلام المؤلف.

(٣) ولكنه لم يرد الا بالنهي الا إذا قاتلن كما في الصحيح.

(٤) سورة النبإ آية ٧.

٧

يدل على إباحة الأشياء في الأصل ، إلا ما ورد فيه دليل الحظر ، وكذلك قوله : (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(١) ..

ودل قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ، إلى قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (٢٤). على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.

وقال : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢٥) : وهو دليل على أنه أول مبلغ إليهم ..

وقال العلماء : إذا قال أي عبد بشرني بولادة فلان فهو حر ، أن الأول من المبشرين يعتق دون الثاني ، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره ، وهو ما يحصل به الاستبشار ويأتي (٢) على بشرة الوجه.

ولو قال : أي عبد أخبرني بولادتها عتق الثاني مثل الأول ، ولذلك يقال : ظهرت تباشير الأمر لأوائله ، ولا تطلق البشارة في الشر إلا مجازا ..

وقيل : هو عام فيما سر وغم ، لأن أصله فيما يظهر أولا في بشرة الوجه من سرور أو غم ، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر ..

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (٤١).

يدل على أن الكفر وإن كان قبيحا ، فالأول من السابق أشد قبحا ، وأعظم لمأتمه وجرمه ، لقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ)(٣) .. الآية

__________________

(١) سورة لقمان آية ٢٠ وسورة الجاثية آية ١٣.

(٢) أي ويظهر ..

(٣) سورة العنكبوت آية ١٣ : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).

٨

وقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(١). وقوله : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)(٢) ، وقال عليه السلام : «إن على ابن آدم القاتل من الإثم في كل قتيل ظلما لأنه أول من سن القتل» (٣).

وقال : «من سن سنة حسنة» (٤) الحديث.

وقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٤٣).

يجوز أن يرجع إلى صلاة معهودة ، متقدمة ، ويجوز أن يكون مجملا موقوفا على بيان متأخر عند من يجوز ذلك.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) :

لعله ذكره لأن صلاة أهل الكتابين لا ركوع فيها ، فأراد أن يخصص الركوع ليعلم به تميز صلاتنا عن صلاتهم ..

قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) (٥٩).

يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها ، وأنه يتعين اتباعها.

__________________

(١) سورة النحل آية ٢٥.

(٢) سورة المائدة آية ٣٢.

(٣) رواه البخاري ، ج ٤ ، ص ١٠٦ ، ج ٩ ، ص ٣ ـ ٤ ، ومسلم ج ١١ ، ص ١٦٦ نووي ، والترمذي ج ٧ ص ٤٣٦ تحفة الأحوذى ، وابن ماجة رقم ٢٦١٦ ، ومسند أحمد ج ٣ ص ٣٨٣ والنسائي كتاب التحريم ، وهو هنا بالمعنى ..

(٤) رواه مسلم ، ج ١٦ ص ٢٢٦ ، والترمذي ج ٤ ص ١٤٩ ، وقال حسن صحيح ، وأحمد ج ١ ص ١٩٢ ، وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو في الموطأ ص ١٥٢ ط : الشعب.

٩

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (٦٧).

هو مقدم في التلاوة.

وقوله : (قَتَلْتُمْ نَفْساً)(١) (٧٢) مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة (٢).

ويجوز أن يكون في النزول مقدما وفي التلاوة مؤخرا ..

ويجوز أن يكون ترتيب نزولها ، على حسب ترتيب تلاوتها ، فكان الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل ، فأمروا أن يضربوه ببعضها (٣) ..

ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها وإن كان مقدما في المعنى ، لأن الواو لا توجب الترتيب ، كقول القائل : أذكر إذ أعطيت زيدا ألف درهم إذ بنى داري ، والبناء متقدم العطية. ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله :

(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ إلى قوله ـ (إِلَّا قَلِيلٌ)(٤) ..

فذكر إهلاك من أهلك منهم ، ثم عطف عليه بقوله :

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)(٥).

__________________

(١) ونص الآية : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

(٢) أي لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سببه قتل النفس كما في الجصاص.

(٣) قال الألوسي : والمشهور خلافه.

(٤) سورة هود آية ٤٠.

(٥) سورة هود آية ٤١.

١٠

فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ ، ويستدل به على جواز تأخير بيان المجمل ..

وقد قيل : إنه كان عموما وكان ما ورد بعده نسخا ..

فقيل له فهو نسخ قبل مجيء وقته.

فأجابوا : بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء.

وقد قيل فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة؟

فأجابوا : بأن التغليظ ضرب من الكبر.

ودل عليه قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٧١).

وقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (٦٨).

لا يعلم إلا بالاجتهاد ، فهو دليل على جواز الاجتهاد ، ودليل على اتباع الظواهر مع جواز أن يكون الباطن على خلافه.

وقوله : (مُسَلَّمَةٌ) (٧١) :

يعني من العيوب ، وذلك لا يعلم حقيقة وإنما يعلم ظاهرا ..

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ... الآية) (٧٥).

دليل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد عن الرشد ، لأنه علم الوعد والوعيد ولم يثنه ذلك عن عناده ..

قوله تعالى : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٨٠) ، فيه رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله عليه السلام : «دعي الصلاة أيام حيضتك» (١) .. في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض ، وأقلها ثلاثة

__________________

(١) في حديثه صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش.

١١

وأكثرها عشرة ، لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما أو يومين ، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ..

فيقال لهم : فقد قال الله تعالى في الصوم : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)(١) وعنى به جميع الشهر ، وقال : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وعنى به أربعين يوما ، وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد ، بل يقال : أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد.

ولعله (٢) أراد ما كان معتادا لها ، والعادة ست أو سبع (٣).

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) (٨١).

فيه دليل على أن المعلق من اليمين على شرطين لا يتنجز بأحدهما (٤) ومثله قوله تعالى:

(.. الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)(٥) ..

قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٨٣).

يجوز أن يكون مخصوصا بالمسلمين.

ويجوز أن يكون قد نسخه الأمر بقتال المشركين ولعنهم.

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٨٤.

(٢) أي النبي صلّى الله عليه وسلم.

(٣) وهي المدة العادية للحيض.

(٤) حيث علق الجزاء وهو الخلود في النار بوجود الشرطين لأن الخطيئة لا تحيط الا بالكافر ..

(٥) سورة فصلت آية ٣٠ ، وسورة الأحقاف آية ١٣.

١٢

ويجوز أن يكون في الدعاء إلى الله تعالى (١) ..

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) (١١٤) :

قوله «منع» : نزل في شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام ، وسعيهم في خرابه بمنعهم من عمارته بذكر الله وطاعته.

وقوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) (١١٤).

يدل على أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها ، لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها.

ويدل على مثل ذلك قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ)(٢) :

وعمارتها تكون ببنائها وإصلاحها ، والثاني : حضورها ولزومها .. كما يقال : فلان يعمر مسجد فلان ، أي يحضره ويلزمه ..

قوله عز وجل : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (١١٥).

يدل على جواز التوجه إلى الجهات في ، النوافل ، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع ..

وقوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) الآية (١١٦) :

__________________

(١) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما الشامل للجهاد.

(٢) سورة التوبة آية ١٧.

١٣

يدل على امتناع اجتماع الملك والولادة ، إلا جواز الشراء توسلا إلى العتق بقوله عليه السّلام : «فيشتريه فيعتقه» (١) .. أي بالشراء يعتقه ، كقوله عليه السّلام «الناس عاريان: فبائع نفسه فموبقها؟؟؟ ، ومشتر نفسه فمعتقها» (٢) .. يريد أنه يعتقها بالشراء لا باستئناف عتق.

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ، الآية (١٢٤).

دلت على أن التنظف ونفي الأوساخ والأقذار عن الثياب والبدن مأمور به ، وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل : أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفاري طولا ، فقال :

جاء رجل إلى النبي عليه السّلام يسأل عن أخبار السماء ، فقال : يجيء أحدكم فيسأل عن أخبار السماء وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الوسخ والنفث؟

وقالت عائشة رضي الله عنها :

«خمس لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم : يدعهن في سفر ولا حضر :

المرآة ، والكحل ، والمشط ، والمدري ، والسواك» (٣).

قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (١٢٤).

__________________

(١) روى مسلم بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «لا يجزى ولد والدا الا ان يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» ورواه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد ..

(٢) والحديث في مسلم : كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.

(٣) قال العراقي في تخريج الأحياء : رواه الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في سننه ، والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له ، وطرقه كلها ضعيفة.

١٤

الإمام : من يؤتم به في أمر الدين ، كالنبي عليه السّلام ، والخليفة والعالم.

أخبر الله تعالى إبراهيم أنه جاعله للناس إماما ، وسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة ، فقال تعالى :

(لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤).

ودل قول الله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على أن الإجابة قد وقعت له في أن من ذريته أئمة ، ولكن لا إمامة لظالم حتى لا يقتدى به ، ولا يجب على الناس قبول قوله في أمر الدين.

نعم : كان يجوز أن تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم ، ويجب قبول قوله لوجود الدليل ، وإن لم يجب قبول قول الفاسق ، لعدم ظهور الصدق الذي هو دليل قبول قوله ، فأما دليل المعجزة فلا يختلف بالظلم وعدمه عقلا ، غير أن العصمة وجبت للأنبياء سمعا.

ويجوز عقلا وجوب قبول قول الفاسق ، ولكن دلت هذه الآية على أن عهد الله تعالى لا ينال الظالمين.

فيحتمل أن يكون ذلك النبوة ، ويحتمل أن يكون ما أودعهم من أمر دينه ، وأجاز قولهم فيه ، وأمر الناس بقبوله منهم.

ويطلق العهد على الأمر ، قال الله تعالى :

(إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا)(١) ، يعني أمرنا ، وقال :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ)(٢). يعني : ألم أقدم إليكم الأمر به.

__________________

(١) سورة آل عمران آية ١٨٣.

(٢) سورة يس آية ٦٠.

١٥

وإذا كان عهد الله هو أوامره ، فقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، لا يريد به أنهم غير مأمورين لأن ذلك خلاف الإجماع ، فدل على أن المراد به أن يكونوا بمحل من تقبل منهم أوامر الله ، ولا يؤمنون عليها.

قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً (١) لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ، يحتج به في كون الحرم مأمنا ، ويحتمل أن يكون معناه جميع الحرم ، كقوله :

(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٢). وقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(٣). إلا أن معناه أنه مأمن عن النهب والغارات ، ولذلك قال النبي عليه السّلام في خطبته يوم فتح مكة :

«إن الله حبس عن مكة الفيل ، وملك عليها رسوله والمؤمنين ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم هي حرام إلى يوم القيامة ، لا يقطع شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» (٤).

نعم ، قد روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ، فلا يسفكن فيها دم ، وإن الله تعالى حلها لي ساعة ولم يحلها للناس» (٥).

__________________

(١) مثابة أصله من ثاب يثوب إذا رجع ، أي يرجعون اليه في كل عام ، ولا ينصرف عنه أحد فيرى نفسه قد قضى غرضه. والآية ١٢٥ من سورة البقرة.

(٢) سورة البقرة آية ١٩١.

(٣) سورة التوبة آية ٢٨.

(٤) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب تحريم مكة وتحريم صيدها.

(٥) أخرجه البخاري بنحوه في الحج ، ومسلم في صحيحه ج ٩ ص ١٢٦ نووي ..

١٦

ويحتمل أن يكون جعلها مأمنا ما جعل فيها من العلامة العظيمة على توحيد الله تعالى ، واختصاصه لها بما يوجب تعظيمها ما شوهد من مر الصيد فيها ، فإن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض ، ويجتمع فيها الكلب والظبي ، فلا يهيج الكلب ، ولا ينفر منه الظبي ، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه ، وعاد إلى النفور والهرب.

وقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (١٢٥).

يدل على ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات.

وقوله : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥).

يدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل ، والصلاة للمقيمين والعاكفين بها أفضل ..

ويدل على اشتراط الطهارة للطواف ، ويدل على جواز الصلاة في نفس الكعبة ردا على مالك في منع الصلاة المفروضة في الكعبة (١). دون النفل.

وأمره بتطهير نفس البيت يدل على الصلاة ـ التي شرعت الطهارة فيها ـ في نفس البيت.

ودل أيضا قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(٢) على جواز الصلاة (٣) ، إذ الشطى الناحية ، والمصلّى في البيت متوجه إلى ناحية منه.

__________________

(١) في الأحكام للجصاص «في البيت» وما هنا أوضح ، وهذا الاستدلال مأخوذ من الأمر بتطهير نفس البيت ، ومنه الكعبة ، ولو لم يشمل ذلك تطهير داخلها للركع السجود لكان المطلوب تطهير ما حولها فقط وهو ما أشار اليه هنا.

(٢) سورة البقرة آية ١٤٤.

(٣) أي فهي البيت.

١٧

قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (١٢٦).

يعني من القحط والغارة لا على ما ظنه بعض الجهال أنه يمنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل. فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم عليه السّلام حتى يقال : إنه طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم ممن حرم الله تعالى عليه دخول الحرم والمقام فيه وأمره بالخروج ومنع من معاملته. وتعزيره على ظلمه دون أن يكون مراده منه رفع القبّر؟؟؟ (١) والغارات والنهوب والقتال خاصة إذا قيل : يجوز قطع الأيدي في السرقة وإقامة الجلدات في الجرائم الموجبة لها. وكيف يحصل معنى الأمن مع هذا؟

ودل سياق الآية على ذلك. فإنه تعالى قال :

(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ)(٢).

وقال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(٣).

ومنع الله تعالى من اصطلام (٤) أهلها ومنع من الخسف والغرق الذي لجوّ غيرها وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار أهلها متميزين بالأمن عن غيرهم من أهل القرى.

قوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٥) ، يوجب الطواف

__________________

(١) القتر : جمع قترة وهي بيت الصائد الذي يستتر به عند تصيده وقتر اللحم من باب ضرب وقتل ارتفع قتاره أي دخانه إذا طبخ والمراد المنع من الصيد وأكله فيه.

(٢) سورة ابراهيم آية ٣٧.

(٣) سورة ابراهيم آية ٣٧.

(٤) الاصطلام : الاستئصال واصطلم القوم أبيدوا.

(٥) سورة الحج آية ٢٩.

١٨

لجميع البيت فمن سلك الحجر أو علا شاذروان (١) الكعبة وهي من البيت فلم يطف جميع البيت فلا يجوز.

قوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) (١٢٧).

معناه : يقولان ربنا كما قال تعالى :

(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)(٢) معناه : يقولون : أخرجوا أنفسكم.

قوله تعالى : (أَرِنا مَناسِكَنا) (١٢٨).

يقال أن أصل النسك في اللغة الغسل يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله وهو في الشرع اسم للعبادة يقال : رجل ناسك إذا كان عابدا.

وقال البراء ابن عازب :

خرج النبي عليه السّلام يوم الأضحى فقال :

«إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح» (٣).

وقال عز وجل : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)(٤) يعني ذبح شاة.

ومناسك الحج : ما يقتضيه من الذبح وسائر أفعاله.

وقال عليه السّلام حين دخل مكة محرما :

«خذوا عني مناسككم» (٥).

__________________

(١) شاذروان الكعبة : البناء المحدودب الذي في جدار البيت وأسقط من أساسه ولم يرفع على استقامته.

(٢) سورة الأنعام آية ٩٣.

(٣) أخرجه أبو داود الطيالسي ووهب بن جرير عن شعبة عن زبيد اليامى عن الشعبي عن البراء بن عازب. انظر شرح معاني الآثار للطحاوي ج ٤ ص ١٧٣ وهو في البخاري كتاب العيدين بنحوه.

(٤) سورة البقرة آية ١٩٦.

(٥) الحديث رواه الامام مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي.

١٩

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) الآية (١٣٠).

يدل على لزوم اتباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبت نسخه.

وقوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢).

يدل على جواز النسخ : لقوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ومعناه : أن الجهات لا تقتضي التوجه في الصلاة إليها لذواتها وإنما وجود التوجه إليها بإيجاب الله تعالى.

وقد دلت الآية أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن (١) لأن النبي عليه السّلام كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس ـ وليس في القرآن ذكر ذلك ـ ثم نسخ.

ومن يأبى ذلك يقول : قد ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى :

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(٢). وكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة.

ولما نسخت القبلة إلى بيت المقدس وصل الخبر إلى أهل قباء في صلاتهم فاستداروا ففهم منه أن الأمة إذا عتقت وهي في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبني وهذا أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين.

ويدل على جواز ثبوت نسخ بقاء الحكم بعد الأمر الأول بقول الواحد.

وأن الدليل الموجب للعلم بثبوت الحكم غير الدليل المبقي ولذلك

__________________

(١) راجع القرطبي.

(٢) سورة البقرة آية ١١٥.

٢٠