إعراب القرآن - ج ٣

الزجّاج

إعراب القرآن - ج ٣

المؤلف:

الزجّاج


المحقق: ابراهيم الأبياري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

١

القسم الثالث

من

إعراب القرآن

المنسوب إلى الزجاج

٢

الخامس والأربعون

هذا باب ما جاء في التنزيل وفيه خلاف بين سيبويه وأبي العباس.

وذلك (١) فى باب الشرط والجزاء ، وذلك أنك إذا قلت : إن تأتنى آتيك ، فسيبويه يقدره على التقديم ، أو كأن قال : آتيك أن تأتنى. وأبو العباس يقدره على إضمار الفاء ، على تقدير : أن تأتنى فآتيك.

ومن ذلك قوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (٢) ، فيمن ضم الراء وشدد ، هو على التقديم عند سيبويه ، وعلى إضمار الفاء عند أبى العباس.

وكذلك قوله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣) من جعل قوله «وما عملت من» شرطا أضمر الفاء فى قوله «تود». وهو عند أبى العباس وعند سيبويه يقدّر التقديم فى «تود». ومن جعل «ما» بمعنى «الذي» فله أن يبتدىء بها ويجعل «تود» الخبر. ومن قال : إن «ما» معطوفة على قوله «ما عملت» جعل قوله «تود» فى موضع الحال من «عملت».

قال أبو على : فى قوله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها) (٤) : إن جعلت «تجد» من : وجدان الضالة ، كان «محضرا» حالا ، وقوله «وما عملت من سوء» فى موضع

__________________

(١) الكتاب : (١ : ٤٣٨ ـ ٤٤٠).

(٢) آل عمران : ١٢٠.

(٣) آل عمران : ٣٠.

٣

نصب بالعطف على «ما» الأولى ، و«تود» فى موضع الحال عن «ما» الثانية / لأن فى الجملة ذكرا يعود إلى «ما».

وإن جعلت «تجد» بمعنى تعلم ، كان «محضرا» المفعول الثاني. والمعنى : يوم تجد كل نفس جزاء ما عملت من خير محضرا وتود لو أن بينها وبينه جزاء ما عملت ؛ لا يكون إلّا كذلك ، لأن ما عملته فيما مضى لا يكون محضرا هناك.

وقريب من هذا فى المعنى قوله : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) (١) ، أي : جزاؤه ، لأن الإشفاق منه يجب ألا يقرب منه.

ويجوز أن يكون موضع «ما» الثانية رفعا ، و«تود» فى موضع رفع خبر الابتداء. ولا يجوز أن يكون «ما» بمعنى الجزاء ، إلا أن يكون «تود» : «فهى تود» ، ولو كان : وما عملت من سوء ودت ، (٢) لجاز أن يكون جزاء.

ويجوز على قياس قول أبى الحسن فى قوله : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) (٣) من أن المعنى : فالوصية ، أن يكون جزاء ، ويقدّر حذف الفاء ، ويكون المعنى : فهى تود لو أن بينها وبينه. وهو قياس قول الفراء عندى ، لأنه ذكر فى حد الجزاء أن قوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (٤) على حذف الفاء. فسيبويه حمل هذه المواضع على التقديم ، ولم يجز إضمار الفاء ، وقال فى باب «أي» : إذا قلت : أيها تشألك ، هو على إضمار الفاء ، أي : فلك. ولعله عمل هناك على الموصول إذ أجراها مجراها ، إذا قلت : أيها تشأ لك هو.

__________________

(١) الشورى : ٢٢.

(٢) هذه قراءة عبد الله (انظر : الكشاف ١ : ٣٥٢ ـ البحر ٢ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨).

(٣) البقرة : ١٨٠.

(٤) الأنعام : ١٢١.

٤

وأبو العباس يزعم أنك إذا قلت : إن تأتنى آتيك. فقد وقع الجزاء موقعه فلا ينوى به التقديم ، كما أن الفاعل إذا وقع موقعه لا ينوى به غير موضعه وسيبويه يقول (١) : إن الشرط على وجهين :

أحدهما أن يكون المعتمد المقصود تقديم الشرط وإتباع الجزاء له ، كقولك : إن تأتنى آتك ، وإن تأتنى فأنا مكرم لك. ولا يجوز تقديم الجواب على الشرط.

والآخر أن يكون الاعتماد على فعل وفاعل ، أو مبتدأ وخبر ، يبتدئه المتكلم ويعلقه بشرط كما يعلقه بظرف ، فيقول : أكرمك إن أتيتنى ، وأنا مكرمك إن زرتنى ، كما تقول : أكرمك يوم الجمعة. فإذا قال : إن أتيتنى أكرمك ، فليس «أكرمك» بجواب ، فيكون تقديما إلى غير موضعه ، وإنما هو الفعل ، الذي القصد فيه التقديم.

__________________

(١) الكتاب (١ : ٤٣١ ـ ٤٣٧).

٥

السادس والأربعون

هذا باب ما جاء في التنزيل من إدخال همزة الاستفهام على الشرط والجزاء

وهذه (١) أيضا مسألة فيها اختلاف بين سيبويه ويونس ، وصورتها : أإن تأتنى آتك ، بجزم الجواب عند سيبويه.

ويونس يقول : أإن تأتنى آتيك ، بالرفع ، ويقول : هو فى نية التقديم ، ويقدره : أآتيك إن تأتنى.

فمن ذلك قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٢).

وقال الله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٣).

فهاتان آيتان يحتج بهما سيبويه على يونس ، وذلك أنه إذا نوى بالجزاء التقديم وجب أن يكون التقدير فى الآية الأولى : انقلبتم على أعقابكم فإن مات؟ وفى الآية الاخرى : أفهم الخالدون فإن مت؟ وهذا ليس وجه الكلام ، وإنما وجه الكلام : أفهم الخالدون إن مت؟ وكذا : انقلبتم على أعقابكم إن مات! لأن من قال : أنت ظالم إن فعلت ، لم يقل: فأنت ظالم إن فعلت ؛ فإن قيل : فإن الفاء زيادة ، قيل : الفاء هاهنا نظير «ثم» فى قوله: (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) (٤). وكما لا يجوز تقدير الزيادة فى «ثم» فكذا هاهنا.

__________________

(١) الكتاب (١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤).

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) الأنبياء : ٣٤.

(٤) يونس : ٥١.

٦

السابع والأربعون

هذا باب ما جاء في التنزيل من إضمار الحال والصفة جميعا

وهو شىء لطيف غريب ، فمن ذلك قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) (١) ، أي : فمن شهده منكم صحيحا بالغا.

ومن ذلك قوله فى الصفة : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) (٢) والتقدير : وله أخ أو أخت من أم ، فحذف الصفة.

وقال : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) ، (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (٤) ، كان المعنى : كل شىء أحبّته ، وكل شىء أحبوه.

وقال فى الريح : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٥).

وقال : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) (٦) ولم تجتح هودا والمسلمين معه.

وقوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) (٧) يعنى «الكافرين» لأن فيهم حمزة وعليّا وجعفرا.

وقال : (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (٨) ، أي : شيئا مما ظنه وقدّره ، يبين ذلك قول العباس بن مرداس :

وقد كنت فى الحرب (٩) ذا تدرأ (١٠)

فلم أعط شيئا ولم أمنع

/ أراد شيئا مما قدّرت إعطائى إياه. وبعد هذا البيت :

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) النساء : ١١.

(٣) النمل : ٢٣.

(٤) الأنعام : ٤٤.

(٥) الذاريات : ٤٢.

(٦) الأحقاف : ٢٥.

(٧) الأنعام : ٦٦.

(٨) النور : ٣٩.

(٩) الرواية في اللسان «درأ» : «القوم».

(١٠) ذو تدرأ : ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب ، ففيه قوة على دفع أعدائه.

٧

إلّا أفائل أعطيتها عديد قوائمه الأربع (١) فقال : لم أعط شيئا. ثم قال : إلا أفائل أعطيتها.

وعلى هذا قولهم : ما أنت بشىء ، أي : شىء يقع به اعتداد. فهذا قريب من قولهم: تكلمت ولم تتكلم.

وقريب من هذا قول الكميت :

سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا

فسيّان لا ذمّ عليك ولا حمد

كأنه لم يعط عطاء يكون له موضع ، أو يكون له اعتداد.

وقريب من هذا قوله تعالى : (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٢) والذي لا يموت يحيا ، والذي لا يحيا يموت ؛ ولكن المعنى : لا يحيى حياة طيبة يعتد بها ولا يموت موتا مريحا ، مما دفعوا إليه من مقاساة العذاب ، وكأن الإحياء للعذاب ليس بحياة معتدّ بها.

قال عثمان : وأما حذف الحال فلا يحسن ، وذلك أن الغرض فيها إنما هو توكيد الخبر بها ، وما طريقه طريق التوكيد غير لائق به الحذف ، لأنه ضد الغرض ونقيضه ، ولأجل ذلك لم يجز أبو الحسن تأكيد «الهاء» المحذوف من الصلة ، نحو : الذي ضربت نفسه زيد ، على أن يكون «نفسه» توكيدا للهاء المحذوفة من «ضربت» وهذا مما يترك مثله كما يترك إدغام الملحق إشفاقا من انتقاض الغرض بإدغامه.

__________________

(١) الأفائل : صفار الإبل.

(٢) طه : ٧٤.

٨

فأما ما أجزناه من حذف الحال فى قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(١) ، أي : فمن شهده صحيحا بالغا ، فطريقه : أنه لما دلّت الدلالة عليه من الإجماع والسنة جاز حذفه تخفيفا.

وأما إذا عرّيت الحال من هذه القرينة ، وتجرد الأمر دونها ، لما جاء حذف الحال على وجه.

وحكى سيبويه : سير عليه ليل ، وهم يريدون : ليل طويل ، وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دلّ من الحال على موضعها ، وذلك أنك تحس فى كلام القائل لذلك من التّطويح والتّطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقامه قوله : «طويل» / ونحو ذلك ، وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته ، وذلك أن يكون فى مدح ، فتقول : كان والله رجلا ، فتزيد فى قوة اللفظ «بالله» هذه الكلمة ، وتمكن فى تمطيط اللام وإطالة الصوت عليها ، أي : رجلا فاضلا شجاعا ، أو كريما ، أو نحو ذلك ؛ وكذلك تقول : سألناه فوجدناه إنسانا ، وتمكن الصوت بإنسان وتفخمه ؛ فتستغنى بذلك عن وصفه ، وتريد : إنسانا سمحا ، أو جوادا ، أو نحو ذلك ؛ وكذلك إن ذممته ووصفته بالضّيق ، قلت : سألناه وكان إنسانا. وتزوّى وجهك وتقطّبه ، فيغنى عن ذلك قولك : إنسانا لئيما ، أو بخيلا ، أو نحو ذلك. فعلى هذا وما يجرى مجراه تحذف الصفة.

فأمّا إن عرّيت من الدلالة عليها من اللفظ أو الحال فإن حذفها لا يجوز ، ألا تراك لو قلت : وردنا البصرة فاجتزنا بالأبلة على رجل ، أو رأينا بستانا ،

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

٩

وسكتّ ، لم تفد بذلك شيئا ، لأن هذا ونحوه مما لا يعرّى منه ذلك المكان ، وإنما المتوقّع أن تصف من ذكرت وما ذكرت ، فإن لم تفعل كلّفت علم ما لا يدل عليه ، وهو لغو من الحديث ، وتجوّز فى التكليف.

ومن ذلك ما يروى فى الحديث : «لا صلاة لجار المسجد إلّا فى المسجد». أي : لا صلاة كاملة أو فاضلة ، ونحو ذلك. ومثله : لا سيف إلّا ذو الفقار ، ولا فتى إلّا علىّ،عليه‌السلام.

١٠

الباب الثامن والأربعون

هذا باب ما جاء في التنزيل من الجمع يراد به التثنية

فمن ذلك قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) (١). وأجمعوا ، غير ابن عباس ، أن الأخوين يحجبان الأم من الثّلث إلى السّدس ، خلافا له ، فإنه لا يحجب إلّا بوجود ثلاثة إخوة.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) ، أي : يديهما.

ومن ذلك قوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٣) ، أي : قلباكما.

مثل هذا لا يجوز فيه الإفراد استغناء بالمضاف إليه ، وتجوز فيه التثنية اعتبارا بالحقيقة ، ويجوز فيه الجمع اعتبارا بالمعنى ، لأن الجمع ضم نظير إلى نظير كالتثنية.

وقالوا : كل شىء من شيئين فتثنيتهما جمع ، كقولك : ضربت رءوس الزيدين ، وقطعت أيديهما وأرجلهما ؛ وهذا أفصح عندهم من «رأسيهما» ، كرهوا أن يجمعوا بين تثنيتين فى كلمة واحدة ، فصرفوا الأول إلى لفظ الجمع ، / لأن التثنية جمع فى المعنى ، لأن معنى الجمع ضمّ شىء إلى شىء ، فهو يقع على القليل والكثير ، وأنشدوا :

ومهمهين قذفين مرتين

ظهراهما مثل ظهور التّرسين (٤)

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) التحريم : ٤.

(٤) الشعر لخطام المجاشعي ، وقيل : هميان بن قحافة. والقذف : البعيد. والمرت : الذي لا ينبت.

(الكتاب ١ : ٢٤١ ، ٢ : ٢٠٢ ـ اللسان : مرت).

١١

فأما قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) (١) ، فقيل : هو من هذا الباب ، لقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (٢) ، فعبّر عن التثنية بالجمع.

ومعنى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) ، قيل : المشرقان : الشتاء والصيف ، وكذا المغربان (٣). عن ابن عباس.

وقيل : مشرق الشمس والفجر ، ومغرب الشمس والشّفق.

قوله : يا ليت بينى وبينك بعد المشرقين. قيل : معناه : بعد المشرق والمغرب. فهذا كالقمرين والعمرين.

وقيل : مشرق الشّتاء والصيف.

وأما قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٤). وهم لم يدّعوا إلهية مريم كما ادعوا إلهية المسيح ، فيما يزعمون ، فإن ذلك يجىء على :

لنا قمراها والنّجوم الطوالع (٥)

والعجّاجان ، لرؤبة والعجّاج ؛ والأسودان ، للماء والتمر ، أطلق على أحدهما اسم الآخر ، وإن لم يكن ذلك اسما له.

واعلم أنه قد جاءت التثنية يراد بها الكثرة والجمع ، كما جاء الجمع يراد به التثنية. قال الله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٦)

__________________

(١) المعارج : ٤٠.

(٢) الرحمن : ١٧.

(٣) يريد : مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما.

(٤) المائدة : ١١٦.

(٥) عجز بيت للفرزدق ، صدره : أخذنا بآفاق السماء عليكم

(٦) المائدة : ٦٤.

١٢

وقال : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (١).

أي : كرّتين اثنتين. وإنما ذاك بكرات ، وكأنه قال : كرة بعد كرة ، كما قالوا : لبّيك ، أي : إلبابا بعد إلباب ، وإسعادا بعد إسعاد ، فى : سعديك ، وحنانيك : تحننا بعد تحنن ، قال :

ضربا هذا ذيك وطعنا وخضا (٢)

أي هذّا بعد هذّ. وأنشدوا للكميت :

وأنت ما أنت فى غبراء مظلمة

إذا دعت أللها الكاعب الفضل (٣)

أي : أللا بعد ألل.

وهذا حديث يطول.

وأما قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤). الفرّاء يريد به المفرد ، كقوله: (ومهمهين) (٥) ، ثم قال : قطعته ، وهذا لا يصح ، كقوله (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) (٦) ، وقوله: (جَنَّةً وَحَرِيراً) (٧) ، (وَدانِيَةً) (٨) ، وقوله «قطعته» كقوله : «معيّن بسواد» (٩) فى الرّد إلى الأول ومن ذلك قوله : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ) (١٠) يعنى : عائشة وصفوان.

وقال : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) (١١) ، وفى التفسير : كان معه لوحان.

__________________

(١) الملك : ٤.

(٢) الهذ : القطع. والوخض : الطعن (اللسان : هذ ، وخض).

(٣) البيت في وصف رجل. والألل : الصوت. يريد : حكاية أصوات النساء إذا صرخن. (اللسان. ألل).

(٤) الرحمن : ٤٦.

(٥) انظر الرجز (ص ٧٨٤).

(٦) الرحمن : ٥٤.

(٧) الدهر (الإنسان) : ١٢.

(٨) الدهر (الإنسان) : ١٤.

(٩) جزء من بيت الأعشى. والبيت كاملا :

وكأنه لهق السراة كأنه

ما حاجبيه معين بسواد

ومعين بسواد ، أي بين عينيه سواد. (الكتاب ١ : ١٠ ـ اللسان : عين).

(١٠) النور : ٢٦.

(١١) الأعراف : ١٥٠.

١٣

وقال : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (١) والمتقدم : داود وسليمان.

وأما قوله تعالى : / (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٢).

هو على حذف المضاف ، أي : فى موضع قعود.

وكذا قراءة من قرأ ، (فِي مَسْكَنِهِمْ) (٣) ، أي : فى موضع سكناهم ، لأن الاستغناء بالجمع عن المضاف إليه أكثره فى الشعر ، نحو :

(فى حلقكم عظم) (٤) و(بعض بطنكم) (٥).

نقل فارسهم.

__________________

(١) الأنبياء : ٧٨.

(٢) القمر : ٥٤ و ٥٥.

(٣) سبأ : ١٥. قراءة النخعي وحمزة وحفص : مسكن : مفردا بفتح الكاف ، والكسائي : مفردا بكسرها ، وهي قراءة الأعمش وعلقمة.

(٤) جزء من بيت للمسيب بن زيد مناة الغنوي ، والبيت بتمامه :

لا ننكر القتل وقد سبينا

في حلقكم عظم وقد شجينا.

(٥) جزء من بيت. والبيت بتمامه :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

يريد : بطونكم. (البحر ٧ : ٢٦٩ ـ الكتاب ١ : ١ : ١٠٨).

١٤

التاسع والأربعون

هذا باب ما جاء في التنزيل منصوبا على المضاف إليه

وهذا شىء عزيز ، قال فيه فارسهم : إن ذاك قد أخرج بطول التأمل والفكر.

فمن ذلك قوله عز من قائل : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (١) «خالدين» حال من «الكاف والميم» المضاف إليهما «مثوى» ومثله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٢) ، ف «مصبحين» حال من «هؤلاء».

وكذلك قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) (٣) ، «إخوانا» حال من المضاف إليهم فى قوله فى «صدورهم».

ومثله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) (٤).

قال أبو إسحاق : «المثوى» : المقام ، و«خالدين فيها» منصوب على الحال ، أي : النار مقامكم فى حال خلود دائما.

قال أبو على : «مثوى» عندى فى الآية اسم للمكان دون المكان ، لحصول الحال فى الكلام معملا فيها ، ألا ترى أنه لا يخلو من أن يكون موضعا أو اسم مصدر ، فلا يجوز أن يكون موضعا ، لأن اسم الموضع لا يعمل عمل الفعل ، لأنه لا معنى للفعل فيه ، فإذا لم يكن موضعا ثبت أنه مصدر ، والمعنى : النار ذات إقامتكم ، أي : النار ذات إقامتكم فيها خالدين ، أي : هم

__________________

(١) الأنعام : ١٢٨.

(٢) الحجر : ٦٦.

(٣) الحجر : ٤٧.

(٤) يونس : ٤.

١٥

أهل أن يقيموا ويثبتوا خالدين ، فالكاف والميم فاعل فى المعنى ، وإن كان فى اللفظ خفض بالإضافة. وأما قوله :

وما هى إلّا فى إزار وعلقة

مغار ابن همّام على حىّ خثعما (١)

فهو أيضا على حذف المضاف. المعنى : وما هى إلّا فى إزار وعلقة وقت إغارة ابن همّام. ألا ترى أنه قد عدّاه ب «على» إلى «حى خثعما» ، فإذا عدّاه ثبت أنه مصدر ، إذ اسما المكان والزمان لا يتعديان ، فهو من باب / : خفوق النجم ، ومقدم الحاج ، وخلافة فلان ، ونحو ، من المصادر التي استعملت فى موضع الظرف ، للاتساع فى حذف المضاف ، الذي هو اسم زمان ، وإنما حسن ذلك فى المصادر لمطابقتها الزمان فى المعنى ؛ ألا ترى أنه عبارة عن منقض غير باق ، كما أن الزمان كذلك ، ومن ثم كثر إقامتهم «ما» التي مع الفعل بمعنى المصدر مقام ظرف الزمان ، لقولهم : أكلمك ما خلا ليل نهارا ، وما خلقت جرة درة ، (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (٢) ؛ حتى إن قوما من النّحويين يسمونها : «ما» الوقت ، وحقيقته : ما أعلمتك.

وقال فى «التذكرة» : القول فى «مثوى» : إنه لا يخلو من أن يكون اسم مكان أو مصدرا ، والأظهر المكان ، فإذا كان كذلك فالحال من المضاف إليهم ، كما إن قوله ـ يعنى الجعدي :

كأنّ حواميه مدبرا

خضبن وإن كان لم يخضب (٣)

__________________

(١) البيت لحميد بن ثور. والعلقة : ثوب قصير بلا كمين تلبسه الصبية تلعب فيه.

(٢) المائدة : ١١٧.

(٣) الحوامي : ميامن الحافر ومياسره. يصف فرسا.

١٦

حال من المضاف إليه.

وإن جعلت «المثوى» مصدرا ألزمك أن تقدّر حذف المضاف ، كأنه : موضع ثوائكم خالدين ، فيكون الحال من المصدر والعامل فيها ، كأنه : يثوون فيها خالدين. فالعامل فى الحال ـ على هذا ـ المصدر ، وفى الوجه الأول معنى الإضافة ، مثل قوله تعالى: (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١) ، الحال عن الإضافة ، وما فيه من معنى الفعل هو العامل ، والدليل على ذلك أنه لا يخلو من أن يكون العامل المضاف إليهم أو معنى اللام ، فلا يكون معنى اللام ، لأنه لو كان كذلك لم تكن الحال مجموعا بالواو والنون ؛ ألا ترى أن «ما لهم» ، أي : شىء ، وأي شىء ثبت لهم ، لا يكون جميعا مما يعقل ، فلا يكون الحال عنه ، وإذا لم يكن عنه علمت أنه من المضاف إليهم ، وأن العامل فى الحال ما فى الإضافة من معنى الفعل ، وحروف الجر فى هذا بمنزلة الأسماء كما كانت الأسماء بمنزلتها ، فى نحو : غلام من تضرب أضرب ، وفى الاستفهام : غلام من تضرب؟ كما تقول : بأيهم تمرر ؛ وغلام من تضرب أضرب ، بمنزلة : من تمرر أمرر.

وقال فى موضع آخر من «التذكرة». القول فى قوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٢) : إن الحال لا يخلو فيه من أن يكون : عما فى اللام ، أو عن المضاف إليهم ، فلا يجوز أن يكون عما فى اللام ، فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه عن المضاف إليهم ، والمضاف إليه إنما جاز انتصاب الحال عنه لأنه لا تخلو الإضافة فيه / من أن تكون بمعنى اللام ، أو بمعنى «من» ، فمن أي القسمين كان فمعنى الفعل فيه حاصل ، فانتصابهما عن معنى الفعل ، ولا يكون ذلك معنى مضمرا ، كما ذهب إليه أبو عثمان فى قوله :

وإذ ما مثلهم بشر (٣)

__________________

(١) المدثر : ٤٩.

(٢) جزء من بيت للفرزدق ، والبيت بتمامه :

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

(الديوان ـ الكتاب : ١ : ٢٩).

١٧

ولكنّ حكم منزلة الحرف المراد فى الظرف فى ذلك حكم الإظهار ، لأن الإضمار لا يلزمه ، ألا ترى أنك إذا كنّيت عنه ظهر الحرف ، فكذلك حكم الظرف المراد فى الإضافة لمّا لم يلزم حذفه ، لقولك : ثوب زيد ، وثوب لزيد ؛ وحلقة حديد ، وحلقة من حديد ؛ بمنزلة الحرف الذي يراد فى الظرف ولا يلزم حذفه ؛ فعن هذا يلتزم الحال عن المضاف إليه.

ومما يبين ذلك قوله :

كأن حواميه مدبرا (١)

ألا ترى أن الحال لا تكون من المضاف إليه ولا تكون من «كان» ، لأنه لا عمل لها فى ذى الحال ، ولا من خبرها ، فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه من المضاف إليه ، كما أنها فى الآية من المضاف إليه.

فأما قوله :

فهل فى معدّ فوق ذلك مرفدا (٢)

فلا يخلو من أحد أمرين :

أحدهما : على ما يذهب إليه أبو الحسن فى قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) (٣) ونحوها فيكون فى موضع رفع.

والآخر : أن يكون صفة والموصوف محذوف.

فيجوز انتصاب «المرفد» أن يكون حالا عن كل واحد من القولين ، ويجوز أن يكون من المضاف إليه ، ويجوز أن يكون تبيينا عن ذلك ، مثل. أفضلهم رجلا.

ومن ذلك قوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٤) ف «مصبحين». حال من المضاف إليهم ، أعنى : «هؤلاء».

__________________

(١) صدر بيت للجعدي ، وقد مر (ص : ٧٩٢).

(٢) عجز بيت لكعب بن جعيل ، وصدره :

لنا مرفد سبعون ألف مدجج

والمرفد : الجيش. (الكتاب ١ : ٢٩٩ و ٣٥٣).

(٣) الجن : ١١.

(٤) الحجر : ٦٦.

١٨

الباب المتم الخمسين

باب ما جاء في التنزيل «أن» فيه بمعنى «أي»

فمن ذلك قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(١). / المعنى : أي لا تشركوا به شيئا ، ف «لا» ناهية جازمة ، و«أن» بمعنى «أي».

وقيل : بل التقدير فيه : ذلك ألّا تشركوا فيه ؛ فيكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : المتلو ألّا تشركوا ؛ وليس التقدير : المحرم ألّا تشركوا ؛ لأن ترك الشرك ليس محرما ، كما ظنّه الجاهل ، ولا أنّ «لا» زائدة.

وقيل : التقدير : حرم عليكم بألّا تشركوا.

وقيل : التقدير : أتلو عليكم ما حرم ، أي : أتلو المحرم لئلا تشركوا.

وقيل : التقدير : عليكم ألّا تشركوا ، و«أن» هذه نابية عن القول ، وتأتى بعد فعل فى معنى القول وليس بقول ، كقولك : كتبت إليك أن قم. تأويله : قلت لك قم. ولو قلت : قلت لك أن تقوم ، لم يجز ؛ لأن : القول يحكى ما بعده ، ويؤتى بعده باللفظ الذي يجوز وقوعه فى الابتداء ، وما كان فى معنى القول وليس بقول فهو يعمل ، وما بعده ليس كالكلام المبتدأ. وهذا الوجه فى «أن» لم يعرفه الكوفيون ولم يذكروه ، وعرفه البصريون وذكروه وسمّوه : «أن» التي للعبارة ، وحملوا عليه قوله :

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) (٢). وفى تقديره وجهان :

أحدهما : انطلقوا فقالوا : قال بعضهم لبعض : امشوا واصبروا ؛ وذلك أنهم انصرفوا من مجلس دعاهم فيه النبىّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله ـ

__________________

(١) الأنعام : ١٥١.

(٢) ص : ٦.

١٩

إلى توحيد الله تعالى وذكره وترك الآلهة دونه ، وصار «انطلق الملأ» لمّا أضمر القول بعده لمعنى فعل يتضمن القول ، نحو : «كتبت» وأشباهه.

والوجه الآخر : أن يكون «انطلقوا» بمعنى : «تكلموا» كما يقال : انطلق زيد فى الحديث ، كأنّ خروجه عن السكوت إلى الكلام هو الانطلاق. ويقال فى «أن امشوا» : أن أكثروا وانموا. وليس «المشي» هاهنا قطع الأماكن ؛ بل المعنى هو الذهاب فى الكلام ، مثل : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) (١). ومعنى «المشي» هو الدّؤوب والملازمة والمداومة على عبادتها ، مثل : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) (٢) ليس يريد الانتصاب ، وإنما يريد الاقتضاء ، ومثل : (الْقَيُّومُ) (٣) ، أي : المديم حفظه خلقه.

فإن قيل : فإذا كان تأويل المشي على ما ذكرتم فغير ممتنع أن يكون التقدير : انطلقوا بالمشي ؛ لأنه يكون على هذا المعنى : أوصوهم بالملازمة لعبادتها ، قيل «الوصية» وإنما هى العبادة فى الحقيقة لا بغيرها ، فلا يجوز تعليق «الوصية» بغير العبادة. وأيضا ليس المعنى : ذهبوا فى الكلام وخاضوا فيه بالمداومة والملازمة بالعبادة.

وأما قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) (٤). «أن» بمعنى : أي ، وهى تفسير «أمرتنى» ، لأن فى الأمر معنى «أي» : ولو قلت : ما قلت لهم إلّا ما قلت لى أن اعبدوا الله ، لم يجز ، لأنه قد ذكر القول ، وإنّ «أن» إذا كانت بمعنى «أي» ، فهى تحتاج إلى ثلاثة شرائط : أولها : أن يكون الفعل والذي يفسره ، أو يعبر عنه ، فيه معنى القول وليس بقول ، وقد مضى هذا.

__________________

(١) سبأ : ٣٨.

(٢) آل عمران : ٧٥.

(٣) البقرة : ١٥٥ ـ آل عمران : ـ طه : ١١١.

(٤) المائدة : ١٢٠.

٢٠