أسرار الحروف

كاظم محمّد علي شكر

أسرار الحروف

المؤلف:

كاظم محمّد علي شكر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١٥

١

٢

٣
٤

١ ـ المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحروف في بعض حقائقها رموز للأصوات ، فكل حرف يمثل صوتا معينا ومجموع هذه الأصوات يختص جميع اللغات في العالم.

فاللغة العربية مثلا لديها ثمانية وعشرون حرفا ، والمعتقد أن بقية لغات العالم لديها عدد مماثل أو مقارب.

إن أصوات تلكم الحروف هي الأساس الذي تقوم عليه جميع لغات العالم التي يتفاهم بها جميع الناس في الكرة الأرضية ، على الرغم من اختلاف تلكم اللغات في تركيب الألفاظ والمعاني ، إن تلك الأمور تشعرنا بكل وضوح بوحدة اللغات قبل تشعبها وتفرعها إلى لغات عديدة ، الأمر الذي يدل على وحدة الخالق سبحانه وتعالى الذي وهب اللغة الأصلية وكذلك اللغات الفرعية ما شاء من إمكانات وقابليات وقدرات ، احتضنت جميع العلوم على اختلافها في الضروب في العالم أجمع ، منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا ، وستبقى كذلك إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى.

فما هي حقيقة هذا الحرف؟! وهل استطاع العلماء الوصول إلى معرفة تلك الحقيقة؟! أم ما زالوا يبحثون عنها ولم يصلوا إلى كنهها؟ كما أراد الله سبحانه وتعالى؟.

إن الجواب على هذه التساؤلات ما زال صعب المنال ، ومن هنا سيظل الحرف لغزا لا يفهمه إلا القليلون من العرفانيين الذين أودعهم الله سبحانه بعض أسرار الحروف.

٥

وعلى الرغم مما قاله العلماء والمختصون في اللغات ومبادئ تكوين تلك الحروف والأصوات ، فإنهم لم يتوصلوا إلى أسرار الحروف ، وراحوا يصولون ويجولون في أوهامهم ويقيمون التجارب تلو التجارب على الأمور الكبار والصغار لعلّهم يضعون أيديهم على كيفية نشوء الحروف ، وكيفية نشوء اللغات ، وكيفية تشعبها إلى لغات عديدة يتفاهم بها بنو البشر جمعاء قديما وحديثا.

وسوف تظل البشرية تنطق بلغاتها المحصورة بثمانية وعشرين حرفا تقريبا ، دون معرفة الأسرار الكامنة في كل حرف من تلك الحروف ، أو بالأحرى دون معرفة سر الأسرار المحيّر الذي يكشف الحروف ويحيط بها وينظمها لغة نطق وسمع وتفاهم وكتابة وقراءة من قبل جميع الناس في العالم ، على الرغم من بعض الاختلافات الصوتية أو كتابة الحروف ، وهذه كلها يمكن أن تكون بفعل الإدغام أو المد أو القصر ، أو المخارج. ولكن الأصل يبقى واحدا ، وتبقى المخارج واحدة في الحلق والبلعوم والشفتين حسبما حدده فقهاء اللغة وعلماء الأصوات.

فبعد تتبع مضن ودراسة واسعة تمكن عدد من علماء أسرار الحروف ـ والله أعلم ـ من إدراك النزر اليسير من أسرار الحروف ، وهي في اعتقادنا ، أن الحروف كائنات مخلوقة ، وهي حية وعاقلة. فكل حرف هو في الواقع ذات مكلفة بالإذعان والطاعة لمن يدرك سرها بالإضافة إلى النطق والكتابة لمن يحسنها ، وبحسب إرادة البشر الذي خلقت لأجله اللغة ، هذا ما فصلنا فيه القول في كتابنا «أصل اللغة عند الإنسان القديم».

فالحروف مأمورة ومكلفة كما أن البشر مكلفون ومأمورون ، والعاصي من أي نوع كان يحاسب من قبل الله تعالى ويعزر بما يستحق.

٦

هذا والمسلمون بعامة يؤمنون بما أنزل الله سبحانه على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم ، وفيه قوله عزّ من قائل : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) الآية. وهذا النص القرآني الكريم يفيدنا أن آدم عليه‌السلام أبا البشر عند ما أسكنه الله تعالى الأرض ما كان أخرسا ولا خاليا من اللغة ، بل كان مزودا بجميع مفاهيم اللغة ، ولغته متكاملة ، تصلح للتفاهم ، ومن الطبيعي أنه علّمها لأولاده وأحفاده ، وهكذا عمّت لغته أبناء نسله جيلا بعد جيل.

والمسلمون يؤمنون أن للحروف التي هي أساس اللغة أسرارا ومفاهيم ليس من الحكمة أن يفهمها كل الناس ، ومن هنا فقد وهب الله تعالى بطريقة ما بعض أسرارها للمقربين منه من عباده الصالحين ، وهؤلاء قد أبانوا لنا بعض أسرار الحروف بالقدر الذي يأذن به الله سبحانه وتعالى.

ونحن في كتابنا هذا سنحاول أن نذكر ما استطعنا التوصل إليه من جمع بعض الأسرار نقلناها مما توفر لدينا من المصادر المنتقاة ، وأعرضنا عن الكثير مما وقفنا عليه تحاشيا للإطالة وتوخيا للإيجاز والاختصار. وسوف نذكر إن شاء الله تعالى ما يناسب المقام من أسرار بعض الآيات والسور القرآنية الكريمة ، والاسم الأعظم والحروف المقطعة في أوائل بعض السور القرآنية ، وكتاب الجفر ، وأرقام حساب الجمل ، والأدعية والطلاسم ، وتركيبات بعض الحروف ، وأسرار ذاتية الحرف وحياته.

هذا وليست لنا القدرة ولا الاطلاع ولا العلم عن كيفيات التعليم الأساسية للوصول إلى حقائق تلكم الأسرار ، لأنها هي الأخرى من أكبر الأسرار التي أخفاها الباري عزوجل عن عامة عباده ووهب منها ما شاء لعباده الصالحين المقربين بوسيلة من الوسائل الكشفية أو الإلهامية أو العبادية ، وما أجلّ وأكثر الوسائل عنده سبحانه وتعالى.

٧

فنحن في كتابنا هذا نذكر الأسرار فقط وما علمناه من آثارها فحسب ، وعلى المؤمن العاشق الذي يريد الوصول إلى أكثر من ذلك أن يتقرب إلى خالقه عزوجل بوسائل العبادة المعروفة وفي طليعتها نبذ الدنيا جملة وتفصيلا ، والاتجاه إلى الآخرة ، والتوجه والتوكل على الله وحده لا شريك له ، وعندها قد يرى الله سبحانه استجابة طلبه وتحقق توجهه ، فيعطيه ما يشاء من أسرار الحروف.

وفي الختام نقول : إن الأسرار على ضربين : فالأول الأسرار ذات الآثار الفعلية عاجلا أو آجلا. والضرب الثاني الأسرار ذات المعاني الظاهرة والمعاني الباطنة. هذا وسوف نذكرها جميعا إن شاء الله تعالى ، موضحين الصفة التي يمتاز بها السر ، فعلية أو معنوية ، والحمد لله رب العالمين.

٨

٢ ـ تمهيد

الحمد لله الذي لم يجعل لفلاسفة الإلحاد وعلمائه ، نصيبا يذكر في معرفة أسرار الحروف ، والحمد لله الذي سلب من عقولهم نعمة التميّز بأسرار الحروف ، وأبعدهم عن مفاهيمها لئلا يستغلوها ويستخدمونها لمصلحة أهوائهم الخبيثة وأغراضهم المصلحية الدنيوية الدنيئة والحمد لله رب العالمين الذي جعل جهلهم في كتبه وفي هذه الأسرار ، يصب في مصلحة المؤمنين العابدين العارفين من عباده الصالحين فقط ، ولو لا ذلك لاضطربت الحياة في جوانب عديدة من نواحيها الطبيعية والاجتماعية ، ولاختل النظام وسادت فوضى التخرصات والأطماع والاستحواذ في هذا الكوكب الأرضي الذي كان ولما يزل يحتضن الجم الغفير من مخلوقات الباري عزوجل.

ولو لا ذلك وحكمة الله المهيمن العالم بما يصلح الأمر من مخلوقاته وما يفسدها ، لعبث شياطين الإنس بعقول ومصالح الكائنات بتوجيه وتسديد من شياطين الجن ، ولأصبحت الحياة جحيما لا يطاق تنعدم فيه الحياة التي أرادها الباري المكون لعباده من إنس وجن وحيوان ونبات وجماد.

جلت قدرة الله عزوجل الذي جعل عقول الملحدين قاصرة عاجزة عن إدراك سر ذلكم الكائن الحي «الحرف» وجعل القليل جدا من إدراكه في متناول عقول أنبيائه ورسله وأوصيائهم والأئمة الهداة والمقربين منه من العلماء والصالحين. وهذا ما وفر لنا مغبة الكثير من التعب والوقت لمخاض الحوار والنقاش مع علماء الإلحاد وفلاسفته لتبيان خصائص ومميزات أسرار

٩

الحروف وفعاليتها وتأثيرها في الكائنات. وإذا نحن بحاجة فقط إلى إعلام الطبقة العالية من المؤمنين بأن للحرف أسرارا فعّالة لا يدرك كنهها إلا من وهبه الله تعالى سعة في العقل تساعده على تقبل وحمل الأسرار بالقدر الذي يهبه الله سبحانه للصالحين من عباده بطريقة خاصة تناسب كل طبقة من اولئك المقربين.

ونحن ليس بمقدورنا أن نتوصل إلى معرفة أسرار كل حرف ، وليس بمقدورنا أن نعلّم هذه الأسرار إلى كل من هب وكل من دب ، لأن ذلك أمر خارج عن إرادة من يمتلك تلكم الأسرار ، ولكن الكشف عن أسرار بعضها لحاجة المؤمنين من الضرورات التي أباحها الله سبحانه إلى حملة الأسرار لاستخدامها فيما يرضي الله من شئون خلقه ، لا فيما يسخطه ويجلب على عباده الضرر في أي جانب من جوانب حياة المخلوقات الإلهية.

ومن هنا سوف نذكر قسما قليلا جدا مما توصل إليه علماء أسرار الحروف وحملت آثارها في كتابنا هذا لغرض الاطلاع فقط ، أما إذا أراد الصالحون أن يكونوا من حملة الأسرار الخاصة بالحروف فعليهم اتباع الطرق الربانية التي تقربهم من الباري جل وعز وهو وحده القادر على إرشادهم إلى أفضل وأسهل الطرق التي تأخذ بأيديهم وعقولهم إلى حيث يريدون ، فليس لنا تلك القدرة التي نستطيع تعليمها إلى أي صالح لتقوده إلى صفوف العارفين من عباد الله المؤمنين القادرين على حمل أسرار الحرف واستعمالها فيما يرضي الله عزوجل ، والحمد لله رب العالمين.

وقبل أن نصل إلى خاتمة هذا التمهيد ، يجدر بنا تنبيه القارئ الكريم بما يلي :

ـ إن هذه الأسرار لا يحصل على فوائدها ويستفيد من تأثيراتها إلا من

١٠

آمن بالله العلي العظيم ، وأنها هبة من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين الصالحين ، فهي بحد ذاتها لا تستطيع عمل شيء ، وليست لها القدرة على الفعالية دون إذن من الله عزوجل ، وأن هذه الحروف مدركة عاقلة ، ولكن استجابتها للطلب رهن بإرادة الله سبحانه وتعالى ، فبدون الإرادة الإلهية تصبح مجرد حروف ورموز لا عمل ولا فعالية لها على الإطلاق ، وحكمة ذلك ، أن لا يعتقد الإنسان أنها آلهة ، وأنها قادرة بمفردها على التأثير فتعبد من دون الله تعالى الواحد القهار ، ولئلا تستخدم من قبل من لا يخاف الله تعالى لأمور تسيء إلى البشر ، وتضر بالمصالح الاجتماعية العامة أو الخاصة.

إن هذا المفهوم جدير بالمعرفة قبل الخوض في الاطلاع على أسرار الحروف ، والحمد لله رب العالمين.

١١

٣ ـ قبس من أسرار الحروف

لدى الأنطاكي

قال الحافظ داود بن عمر الأنطاكي في ص ٨٨ ج ٢ في كتابه القيم (تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب) «علم الحروف» : هو ما قرره الشيخ باحث عن خواص الحروف إقرارا وتركيبا وموضوعه : الحروف الهجائية ومادتها ، الأوفاق والتراكيب وصورة تقسيمها كما وكيفا وتأليف الأقسام والعزائم وما ينتج منها وفاعله المتصرف وغايته التصرف على وجه يحصل به المطلوب إيقاعا وانتزاعا ، ومرتبته الروحانيات والفلك والنجامة ، ويحتاج إلى الطب من وجوه كثيرة ، منها معرفة الطبائع والكيفيات والدرج والأمزجة ، ومن الجهل به يقع الخطأ في هذا غالبا ، فإن ذا المزاج الحار إذا استعمل الحروف الحارة وقع في نحو الاحتراق ، وبالعكس ، ومنها معرفة البخورات نباتية كانت أو غيرها ، وإلا فسد العمل بتبديلها ، والطب ليس محتاجا إليه إلا إذا رأينا الكتابات والأخلاط والأمزجة ، فإن العزائم والأسماء كالأدوية ، إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه على التفصيل ، إن شاء الله تعالى ، واعلم أن الحرف تارة يكون فلكيا وهو الحرف العلوي الطبيعي الروحاني الحقيقي ، وتارة يكون وسطيا وهو الحرف اللفظي ، وتارة يكون سفليا جسديا ، وهو الحرف الرقمي الخطي ، وهذا يكثر اختلافه ولا يمكن حصر صورته ، إذ منه الحروف المجازية أعني الدالة على غيرها ولا يتصرف بها إلا إذا عرف طبع الواضع لها وقطره وإن كان بين حرفين فنسبة ما بينهما ، واعلم أن للحروف جسما وروحا ونفسا وقلبا وعقلا وقوة كلية وقوة طبيعية ، فصورة

١٢

الحرف جسمه وضربه في مثله روحه وفي ثلاثة أمثاله نفسه وفي أربعة أمثاله قلبه وتمام ظهور قلبه عقله ومربع عقله قوته الطبيعية ، وضرب قوته الطبيعية في عشرة قوته الكلية ، مثال ذلك :

وللحروف جملة وتفصيل فعدد الحروف جملته وتفصيله حروف نطقه ، وله من العدد ثلاثة أطوار ضربه فيما قبله قوته في باطن العلويات ومجموع عدد نطقه قوته في باطن السفليات ، وضربه في مجموع عدد تفصيله قوته في ظاهر السفليات.

مثال حرف الجيم عدده (٣) قوته في باطن العلويات (٦) قوته في باطن السفليات (٥٣) قوته في ظاهر السفليات (١٥٩). واعلم أن الحرف يحب ما تحته ويكره ما فوقه ، ولما كان الأصل الذي عليه الاعتماد حرف «الفاقيطوس» أعني حروف أبجد إلى آخرها واستعمالها عند المشارقة والمغاربة بحسب قطرها وتسمى الحروف المفردة ، وقد قسموها على الطبائع والبروج والمنازل والكواكب وغير ذلك ، وللعلماء في ذلك اختلاف كثير فإن وضعتها رباعية أدوارا خرج طولا حروف الطبائع الأربعة ، أو سباعية خرج طولا حرف الكواكب السبعة ، وهكذا كما تراها فافهم ترشد.

إلى هنا نكتفي بما اقتبسناه من كتاب تذكرة أولي الألباب لغرض الاستدلال على علم أسرار الحروف ، أما كيفية الوصول إلى تحصيل آثار تلكم الأسرار وتطبيقاتها العلمية والعملية لغرض الاستفادة منها في ميادين عديدة مختصة بها فقد ضربنا عنها صفحا لكثرتها وتعقيدها وملابساتها. فالخوض فيها صعب مستصعب تستحيل معرفته دون عالم معلم مجرب

١٣

ممارس ، هذا وقد فصل القول فيها عالم الحروف الشيخ الأنطاكي ورسم الجداول. ووضع الأمثلة وأسهب في التعليمات وذكر الفوائد والتطبيقات أو ما شاكل ذلك ، وحيث أن هذه الأمور جميعها خارجة عن منهاج كتابنا فقد أعرضنا عن نقلها ، ومن أراد الاستزادة والخوض في التفاصيل فليراجع كتاب الأنطاكي المذكور ففيه الكثير مما ذكرناه ومما لم نذكره ، والحمد لله رب العالمين.

١٤

٤ ـ قبس من أسرار الحروف

لدى محيي الدين بن عربي

وهذا العيلم الشهير بعلوم التصوف والأسرار محيي الدين بن عربي أسهب في الحديث عن أسرار الحروف في كتابه الفتوحات المكية وذلك في المجلد الأول في الصفحات من (ص ٥١ ـ ص ٩١) ، وقد قسّم بحثه إلى فصلين : الأول في معرفة الحروف ومراتبها والحركات وهي الحروف الصغار وما لها من الأسماء الإلهية ، وقد لخصها شعرا بما يلي :

إن الحروف أئمة الألفاظ

شهدت بذلك ألسن الحفاظ

دارت بها الأفلاك في ملكوته

بين النيام الخرس والايقاظ

ألحظنها الأسماء في مكنونه

فبدت تعز لذلك الألحاظ

وتقول لو لا فيض جودي ما بدت

عند الكلام حقائق الألفاظ

وقال : اعلم ـ أيدنا الله وإياك ـ أنه لما كان الوجود مطلقا من غير تقييد يتضمن المكلف وهو الحق تعالى والمكلفين وهم العالم والحروف جامعة لما ذكرنا ، أردنا أن نبيّن مقام المكلف من هذه الحروف من المكلفين من وجه دقيق محقق لا يتبدل عند أهل الكشف إذا وقفوا عليه .. إلخ.

ثم فصل القول في هذا الفصل وقد أعرضنا عنه لطوله وخروجه عن منهجية كتابنا ، ثم ذكر مراتب الحروف ، وقال : اعلم وفقنا الله وإياك أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون ، وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا ، وعالم الحروف أفصح العالم لسانا وأوضحه بيانا وهم على أقسام كأقسام العالم

١٥

المعروف في العرف ... ثم فصل القول في ماهية كل حرف اعتبارا من الألف ولغاية الياء.

وفي الفصل الثاني فصل القول في معرفة الحركات التي تتميز بها الكلمات وهي الحروف الصغار ، ولخصها شعرا فقال :

حركات الحروف ست ومنها

أظهر الله مثلها الكلمات

هي رفع وثم نصب وخفض

حركات للأحرف المعربات

وهي فتح وثم ضم وكسر

حركات للأحرف الثابتات

وأصول الكلام حذف فموت

أو سكون يكون عن حركات

هذه حالة العوالم فانظر

لحياة غريبة في موات

وقال : اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه إنا كنا شرطنا أن نتكلم في الحركات في فصل الحروف لم أطلق عليها الحروف الصغار؟ ثم أنه رأينا أنه لا فائدة في امتزاج عالم الحركات بعالم الحروف إلا بعد نظام الحروف وضم بعضها إلى بعض ، فتكون كلمة عند ذلك في الكلم وانتظامها ينظر إلى قوله تعالى في خلقنا : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وهو ورود الحركات على هذه الحروف بعد تسويتها فتقوم نشأة أخرى تسمى كلمة كما يسمى الشخص الواحد منا إنسانا فهكذا انتشأ عالم الكلمات وألفاظ من عالم الحروف ، فالحروف للكلمات مواد كالماء والتراب والنار والهواء لإقامة نشأة أجسامنا ، ثم نفخ الروح فيه الأمريّ فكان إنسانا .. إلخ.

وهكذا راح يفصل القول في هذا الفصل إلى أن جاء إلى آخره وقد أعرضنا عنه لطوله وعدم مطابقته منهج كتابنا هذا.

إن المنهج الذي سلكه محيي الدين بن عربي في أسرار الحروف يختلف عن المنهج الذي اتبعه الأنطاكي فبعض الأسرار عند ابن عربي هي

١٦

غيرها عند الأنطاكي ، ولكن كل منهما يتفق مع الآخر على الروحانية في الحروف وأنها ذوات وخلق من خلق الله تعالى ، وأن الإحاطة بأسرارها جميعا مستحيلة ، وما لدى العلماء منها إلا القليل ، فسبحان الذي صور كل شيء وأتقن صنعه.

هذا ولا نريد أن نلاحق علماء الحروف وندون ما قالوه وما ظهر وبان لهم من أسرارها ، لأن ذلك ضرب من المستحيل ، وخارج عن نطاق البحث والقدرة ، وما وقفنا عنده كان للدلالة على احتضان الحروف لعلوم الأسرار التي يستحيل على البشرية معرفتها إلا بالقدر الذي شاء الله تعالى أن يهبه إلى أنبيائه وأوصياء أنبيائه ورسله ، والأئمة والعلماء المقربين منه ، والحمد لله رب العالمين.

ومن هنا قد نجد عند علماء أسرار الحروف من العلم ما لا نجده عند غيرهم لأنها من العلوم الإلهية الموهوبة ربانيا بالدرجة الأولى أو المعطاة بإجازة من علمائها إلى من يخلفهم في حمل تلكم الأسرار بالدرجة الثانية ، والله أعلم.

١٧

٥ ـ قبس من أنوار أئمة أهل البيت وعلوم أسرار الحروف

يروى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : «أيها الناس إن جميع أسرار الكتب السماوية في القرآن ، وأن جميع أسرار القرآن في سورة الحمد ، وجميع أسرار سورة الحمد في البسملة ، وجميع أسرار البسملة في الباء التي هي في أول البسملة ، وجميع أسرار الباء في النقطة التي تحت الباء ، أيها الناس ، وأنا النقطة التي تحت الباء».

وقد ضمن هذا المعنى الشاعر المشهور عبد الباقي العمري فقال واصفا فيه الإمام عليا عليه‌السلام :

ذهبية رمقتها السماء بطرف

جللتها هيبة المليك الجليل

هي باء مقلوبة فوق تلك

النقطة المستحيلة التأويل

فالقرآن الكريم فيه مجمع الأسرار الإلهية التي أودع الله سبحانه ما شاء منها إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. هذا والمؤمنون يروون بسند عالي المضامين أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن عليا عديل القرآن ، وهذا يعني أن أمير المؤمنين سلام الله عليه مستودع الأسرار الإلهية القرآنية التي أسرها الله تعالى إلى نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه استودعها لدى سبطي الرسول الحسن والحسين سلام الله عليهما والرسول هو القائل بحقهما :

الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، والحسين سلام الله عليه قبل استشهاده في واقعة كربلاء استودعها لدى ولده الإمام زين العابدين علي بن الحسين سلام الله عليه الذي استودعها لدى ولده الإمام محمد الباقر سلام الله عليه

١٨

الذي استودعها لدى ولده الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه الذي استودعها لدى ولده الإمام موسى بن جعفر سلام الله عليه الذي استودعها لدى ولده الإمام علي بن موسى الرضا سلام الله عليه الذي استودعها لدى ولده الإمام محمد الجواد سلام الله عليه الذي استودعها لدى ولده الإمام علي الهادي سلام الله عليه الذي استودعها لدى ولده الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه الذي استودعها لدى ولده الإمام محمد بن الحسن صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه عليه أفضل الصلاة والسلام.

إن أولئك هم أئمة أهل البيت النبوي الطاهرين المطهرين الذين ذكرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه «الأئمة من بعدي اثنا عشر إماما كلهم من قريش» رواه البخاري ومسلم. ونستنتج من ذلك أن خزائن أسرار الله سبحانه وتعالى من القرآن الكريم لدى الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم‌السلام ، هذا ولدينا من الأخبار الموثوقة أن أئمة أهل البيت النبوي الطاهرين أفاضوا على أصحابهم المقربين ما يستطيعون حمله من الأسرار الإلهية ، ولدينا الكثير من الروايات التي تشير إلى صحة ذلك ، ولكثرتها وتواترها عندنا وعند غيرنا أيضا فهي لا تحتاج إلى دليل أو برهان. وقد أسهبت بذكرها أمهات الكتب التاريخية وسير الأئمة الأطهار عليهم‌السلام.

ونحن إنما ذكرنا ذلك لتنبيه القارئ الكريم أن الأصل من مستودع الأسرار الإسلامية هو النبي محمد صلوات الله عليه وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل القرآن الكريم ومن ثم أوصياء النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي أمير المؤمنين وأولاده المعصومين الذين أسلفنا ذكرهم سلام الله عليهم أجمعين ، أو العلماء الأعلام فقد تسربت لديهم بعض الأسرار من الأصحاب المقربين للرسول والأئمة الأطهار أو عن طريق الكشف أو الرياضات أو الأدعية وكلها

١٩

من واقع الحال ترشيحات من المستودع الكبير القرآن ومحمد والأئمة الأطهار.

هذا وعلماء المسلمين مجمعون على صحة ما قلناه ما عدا من لم يهده الله تعالى إلى صراطه المستقيم ، فقد ظل مكابرا معاندا قد سحق الغيظ قلبه وأكل الحسد روحه وسيئوب إلى جهنم وبئس المصير ، ونستغفر الله رب العالمين والحمد لله وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

٢٠