نهاية الحكمة - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-623-3
ISBN الدورة:
978-964-470-005-7

الصفحات: ٢٨٣

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسّلام على عين الإنسان وإنسان العين ومن دنا من ربّه العليّ فتدلّى فكان قاب قوسين أبي القاسم المصطفى المنزّه من كلّ رين وشين ، وعلى أهل بيته الغرّ الميامين سيّما ناموس الدهر وإمام العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

وبعد ، فإنّ من دواعي الفخر والاعتزاز أن ينهض علماء الشيعة ومحقّقوها الّذين عرفوا بالتحقيق والتدقيق في سائر العلوم والفنون ، فكان لهم الكأس الأوفى والقدح المعلّى في الفقه واصوله والحديث ودرايته والرجال والكلام والتفسير وعلوم القرآن وغيرها ، فيتصدّون لأعقد العلوم وأشرفها رتبة وأعلاها منزلة ، أي الحكمة المتعالية بتعالي موضوعها ومسائلها ، والمشرّفة بشرف غايتها وأغراضها أي معرفة الحقّ عزّ شأنه وصفاته العليا وأسمائه الحسنى وأفعاله في خلقه ، وأسرار المبدأ والمعاد ومكامن التكوين والإبداع في عالم الإمكان ، سيّما ما يتعلّق بشؤون الإنسان وأطواره روحا وبدنا ، نفسا وجسدا ، عقلا وإحساسا ، فإنّه بحر وسيع وسيع وغوره عميق عميق ، فغاصوا ذلك البحر المتلاطم وسبروا غوره المتفاقم فأخرجوا الدرر واللآلئ ونظموها في أتقن نظام ، ووضعوها بين يدي طلّابها ومبتغيها على أحسن ما يرام.

وكيف لا يكونوا كذلك! وقد أتوا مدينة العلم والحكمة من بابها وأناخوا

٣

عقولهم وأرواحهم في فناء ينابيعها الراقية وعيونها الصافية ، فنهلوا من معينها عذبا فراتا وصدروا عنها رواة وأثباتا.

والعلّامة الخبير والمفسّر النحرير السيّد محمّد حسين الطباطبائي قدس‌سره واحد من اولئك الأفذاذ الّذين عزّ نظيرهم وقلّما يجود الزمان بمثلهم ، فقد عمّ خيره وجرت ينابيع الحكمة على لسانه وقلمه ، فكتب في المعقول والمنقول والقرآن والعرفان والكلام والبرهان فأحسن وأجاد وأتقن وأفاد رضوان الله تعالى عليه.

والكتاب الماثل بين يديك ـ عزيزنا القارئ ـ حلقة من سلسلة ذهبيّة رصينة كتبها في الحكمة المتعالية ووسمها ب «نهاية الحكمة» تسليكا للطريق وتمهيدا للسبيل أمام بغاة الحكمة وطلّابها وإعانة لهم في ورود لججها وسبر أغوارها في المراحل المتقدّمة من أسفارها.

ولا يفوتنا ـ ونحن نقدم على طبع هذا الكتاب ونشره ـ أن نتقدّم بجزيل شكرنا وخالص دعائنا لفضيلة حجّة الاسلام الشيخ عبّاس عليّ الزارعيّ السبزواريّ على ما بذله في تصحيح الكتاب وضبط نصوصه وتخريج أقواله وتوضيح مبهماته والتعليق على عباراته وتنظيم فهارسه ، سائلين الله تعالى للمؤلّف الرضا والرضوان وللمحقّق ولنا المزيد في خدمة خير الأديان إنّه الوليّ المستعان ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الّذي علّمنا قواعد العقائد الدينيّة ، ونوّر قلوبنا بالمعارف القرآنيّة ، ودلّ عقولنا على وجوده بالآيات الجليّة ، وقوّى أقدامنا بالبراهين اليقينيّة ، ومنّ علينا بالرسالة المحمّديّة ، وهيّأ لنا النعمات الدنيويّة والاخرويّة. والصلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعد ، فإنّ للإنسان قوّة يمتاز بها من سائر الحيوانات ، وهي القوّة النطقيّة بها يتعقّل المعقولات ويتمكّن من النظر والاستدلال واكتساب المجهولات. ولمّا كانت المجهولات كثيرة وكان العلم بها ذا شعب متكثّرة ، بحيث لا يمكن للواحد الإحاطة بجميعها افترق أهل العلم إلى فرق مختلفة. فذهب بعضهم إلى تحصيل الفقه وتحقيقه ، وبعضهم إلى النحو والصرف ، وبعضهم إلى غيرها ، وبعض آخر إلى علم الفلسفة الّذي يبحث فيه عن أحوال الموجود بما هو موجود ، وهذا العلم له شأن من الشأن بل أقوى العلوم برهانا وأشرفها غاية ، ولهذا صرف كثير من المحقّقين هممهم في تحصيله وتحقيقه ، وألّفوا مؤلّفات قيّمة ، ومنها كتاب «نهاية الحكمة» للعلّامة المحقّق السيّد محمّد حسين الطباطبائي قدس‌سره.

ولمّا كان هذا الكتاب من الكتب الفلسفيّة المتداولة للدراسة عند محصّلي العلوم في الحوزات العلميّة وغيرها ومحطّ أنظار الأساتيذ وأهل العلم والتحقيق قمت بتصحيحه وتحقيق متنه وتخريج أقواله من منابعها ، واعتمدت في ذلك على أهمّ الجوامع الفلسفيّة والكلاميّة.

وكذا علّقت عليه بتعليقات لازمة لإزاحة التشويشات وإيضاح المبهمات وبيان بعض ما خطر ببالي ـ مع قلّة بضاعتي ـ من المناقشات. ولكن لمّا كانت

٥

تعليقاتنا مفصّلة ورأيت أنّ ضبطها ربما يوجب خروج الكتاب من دراسيّته ، وهو من أهمّ الكتب المتداولة للدراسة في السطوح العالية في الجوامع العلميّة حذفت التعليقات في الطبعة الاولى سنة ١٤١٦ ه‍. ق. وطبع مرارا في السنوات اللاحقة لها.

وأمّا بعد طبعه ـ وسيّما حين تدريسه في الدورات بعد الطبع ـ توجّهت إلى مطلبين مهمّين :

الأوّل : أنّه وإن قمت بتصحيح متن الكتاب وصار خاليا من الأخطاء الكثيرة ، إلّا أنّه خفي علينا بعض آخر من الأخطاء. وهذه وإن كانت قليلة إلّا أنّ علوّ شأن الكتاب ومرتبته ـ تأليفا ومؤلّفا حيث كان محطّ أنظار الأساتيذ ـ يستدعي خلوّه منها ، فصحّحت المتن في هذه الطبعة الحديثة وصار خاليا منها.

الثاني : أنّ ضبط التعليقات لازم من جهات :

١ ـ أنّ هذا الكتاب محطّ أنظار الأساتيذ في الجوامع العلميّة ، فينبغي التعليق على بعض عباراته ، توضيحا لمطالبه وتسهيلا لموارده.

٢ ـ أنّ فهم بعض مطالبه صعبة على المحصّلين فيحتاج إلى بيانها تعليقا عليها.

٣ ـ أنّ اللازم علينا تهذيب المطالب العلميّة في كلّ دورة ، وهو لا يتحقّق إلّا بذكر المناقشات.

فبعد ملاحظة هذه الجهات ضبطت التعليقات بعد تلخيصها رعاية لحفظ دراسيّة الكتاب.

وفي الختام أرجو من الأساتيذ أن يعذروني فيما قصر فهمي عن نيله ، ويرشدوا المحصّلين إلى ما عجز قلمي عن أداء حقّه. وأسأل الله تعالى أن يزيد في علوّ درجات العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله وأن يحشره مع أجداده الطيّبين الطاهرين ، والحمد لله ربّ العالمين.

عبّاس عليّ الزارعيّ السبزواريّ

شوّال ١٤٢٣ ه‍. ق

قم ـ الحوزة العلميّة

٦

كلام

بمنزلة المدخل لهذه الصناعة (١) :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

إنّا معاشر الناس أشياء موجودة جدّا ، ومعنا أشياء اخر موجودة ربّما فعلت فينا أو انفعلت منّا ، كما أنّا نفعل فيها أو ننفعل منها (٢).

__________________

(١) يبحث فيه عن امور :

الأوّل : أنّ مدركاتنا واقعيّات ذوات آثار واقعيّة.

الثاني : لمّ الفلسفة ووجه الحاجة إليها.

الثالث : طريقة البحث فيها.

الرابع : موضوع الفلسفة.

الخامس : نسبة المحمولات فيها إلى موضوعها.

السادس : تعريف الفلسفة.

(٢) لا يخفى أنّ ظاهر العبارة وإن يوهم أنّ قوله : «كما أنّا نفعل فيها أو ننفعل منها» زائد ، لدلالة قوله : «ربما فعلت فينا أو انفعلت منّا» على انفعالنا منها وفعلنا فيها ، لكنّه لا يبعد أن يريد بالجملة الاولى الفعل والانفعال ، وبالجملة الثانية أن يفعل وأن ينفعل.

والفرق بينهما من وجهين :

الأوّل : ما نقله الحكيم السبزواريّ في تعليقته على شرح المنظومة من أنّ الفعل يطلق على المؤثّر بعد انقطاع تأثيره ، والانفعال يطلق على المتأثّر بعد انقطاع تأثّره. بخلاف (أن يفعل) و (أن ينفعل) ، فإنّهما لا يطلقان إلّا على المؤثّر والمتأثّر حال التأثير والتأثّر. شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٤٤. ـ

٧

هناك هواء نستنشقه ، وغذاء نتغذّى به ، ومساكن نسكنها ، وأرض نتقلّب عليها (١) ، وشمس نستضيء بضيائها ، وكواكب نهتدي بها ، وحيوان ، ونبات ، وغيرهما (٢).

وهناك امور نبصرها ، واخرى نسمعها ، واخرى نشمّها ، واخرى نذوقها ، واخرى واخرى.

وهناك امور نقصدها أو نهرب منها (٣) ، وأشياء نحبّها أو نبغضها ، وأشياء نرجوها أو نخافها ، وأشياء تشتهيها طباعنا أو تتنفّر منها ، وأشياء نريدها لغرض الاستقرار في مكان أو الانتقال من مكان أو إلى مكان أو الحصول على لذّة أو الاتّقاء من ألم أو التخلّص من مكروه أو لمآرب اخرى.

وجميع هذه الامور الّتي نشعر بها ـ ولعلّ معها ما لا نشعر بها ـ ليست بسدى (٤) ، لما أنّها موجودة جدّا وثابتة واقعا (٥). فلا يقصد شيء شيئا إلّا لأنّه (٦) عين خارجيّة وموجود واقعيّ أو منته إليه ، ليس وهما سرابيّا (٧). فلا يسعنا

__________________

ـ الثاني : ما ذكره صدر المتألّهين في الأسفار من أنّ الفعل والانفعال قد يقالان للإيجاد بلا حركة وللقبول بلا تجدّد ، ككون الباري تعالى فاعلا للعالم وكون العالم منفعلا عنه. و (أن يفعل) و (أن ينفعل) يقالان للإيجاد بالحركة. الأسفار ٤ : ٢٢٤.

(١) أي : نتحوّلها من جانب إلى جانب.

(٢) هكذا في جميع النسخ ، وهو الصحيح ، لأنّ الحيوان والنبات منفصلان عن ما قبلهما ، حيث ذكر بعد كلّ أمر وجه التأثير والتأثّر منه ، وأمّا الحيوان والنبات فلم يذكر وجه التأثير والتأثّر منهما ، فكأنّه قال : وحيوان ونبات وغيرهما ممّا له الإفادة والاستفادة من وجوه اخر. فلا وجه للتصرّف في العبارة وتبديلها ب «غيرها».

(٣) أي : نفرّ منها.

(٤) أي : ليست بباطل.

(٥) أي : وجدانا.

(٦) أي : ما يقصد.

(٧) وإلّا فلا يقصده ، فإنّ ما يقصده الإنسان على أقسام :

الأوّل : ما هو عين خارجيّة ذات آثار خارجيّة ، تدركه الحواسّ الظاهرة.

الثاني : ما هو ليس عينا خارجيّة ، ولكن ينتهي إليها ، كالاعتبارات الّتي اعتبرها العقل لترتيب آثار واقعيّة ، كالملكيّة.

الثالث : ما ليس موجودا خارجيّا ، ولا منتهيا إليه ، بل أمر وهميّ سرابيّ ، كسراب في الفلاة ـ

٨

أن نرتاب في أنّ هناك وجودا ، ولا أن ننكر الواقعيّة مطلقا ، إلّا أن نكابر الحقّ فننكره أو نبدي الشكّ فيه ، وإن يكن شيء من ذلك فإنّما هو في اللفظ فحسب.

فلا يزال الواحد منّا وكذلك كلّ موجود يعيش بالعلم والشعور يرى نفسه موجودا واقعيّا ذا آثار واقعيّة ، ولا يمسّ شيئا آخر غيره إلّا بما أنّ له نصيبا من الواقعيّة.

غير أنّا كما لا نشكّ في ذلك لا نرتاب أيضا في أنّا ربّما نخطؤ ، فنحسب ما ليس بموجود موجودا أو بالعكس ، كما أنّ الإنسان الأوّليّ كان يثبت أشياء ويرى آراءا ننكرها نحن اليوم ونرى ما يناقضها ، وأحد النظرين خطأ لا محالة (١). وهناك أغلاط نبتلي بها كلّ يوم ، فنثبت الوجود لما ليس بموجود وننفيه عمّا هو موجود حقّا ، ثمّ ينكشف لنا أنّا أخطأنا في ما قضينا به.

فمسّت الحاجة إلى البحث عن الأشياء الموجودة وتمييزها بخواصّ الموجوديّة المحصّلة ممّا ليس بموجود (٢) ، بحثا نافيا للشكّ منتجا لليقين ، فإنّ هذا النوع من البحث هو الّذي يهدينا إلى نفس الأشياء الواقعيّة بما هي واقعيّة. وبتعبير آخر : بحثا نقتصر فيه على استعمال البرهان ، فإنّ القياس البرهانيّ هو المنتج للنتيجة اليقينيّة من بين الأقيسة ، كما أنّ اليقين هو الاعتقاد الكاشف عن وجه الواقع من بين الاعتقادات. فإذا بحثنا هذا النوع من البحث أمكننا أن نستنتج به أنّ كذا موجود وكذا ليس بموجود.

ولكنّ البحث عن الجزئيّات خارج من وسعنا (٣) ، على أنّ البرهان لا يجري

__________________

ـ يحسبه الظمآن ماءا حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا.

والإنسان لا يقصد القسم الأخير مشعرا بأنّه من الوهميّات الصرفة الّتي لم تكن منشئا للآثار ، بل إنّما يقصده زعما أنّه عين خارجيّة أو منته إليها. فالإنسان إنّما يقصد الشيء لأنّه عين خارجيّة أو منته إليها ، سواء وصل إلى ما يقصد أو لم يصل إليه لكشف خلافه.

(١) وإلّا يلزم اجتماع النقيضين.

(٢) قوله : «المحصّلة» صفة للخواصّ ، أي الخواصّ الّتي تتحصّل وتتعيّن بها الموجوديّة ويتميّز بها الموجود ممّا ليس بموجود.

(٣) لأنّها غير متناهية.

٩

في الجزئيّ بما هو متغيّر زائل (١) ، ولذلك بعينه ننعطف في هذا النوع من البحث إلى البحث عن حال الموجود على وجه كلّيّ ، فنستعلم به أحوال الموجود المطلق (٢) بما أنّه كلّيّ.

ولمّا كان من المستحيل أن يتّصف الموجود بأحوال غير موجودة (٣) انحصرت الأحوال المذكورة في أحكام تساوي الموجود من حيث هو موجود ، كالخارجيّة المطلقة والوحدة العامّة والفعليّة الكلّيّة (٤) المساوية للموجود المطلق ، أو تكون أحوالا هي أخصّ من الموجود المطلق ، لكنّها وما يقابلها جميعا تساوي الموجود المطلق ، كقولنا : «الموجود إمّا خارجيّ أو ذهنيّ» و «الموجود إمّا واحد أو كثير» و «الموجود إمّا بالفعل أو بالقوّة» ، والجميع ـ كما ترى ـ امور غير خارجة من الموجوديّة المطلقة ، والمجموع من هذه الأبحاث هو الّذي نسمّيه : «الفلسفة» (٥).

__________________

(١) إنّ الباء في قوله : «بما هو متغيّر زائل» سببيّة ، كأنّه قال : «الجزئي متغيّر زائل ، وكلّ متغيّر لا يجري فيه البرهان ، فالجزئيّ لا يجري فيه البرهان».

(٢) قوله : «المطلق» صفة للموجود. ومراده من الوجود المطلق هو مطلق الوجود.

(٣) وذلك لأنّ الأحوال غير الموجودة من العدميّات ، والعدم نقيض الوجود ، ولو اتّصف الموجود بالأحوال غير الموجودة يلزم اتّصافه بالعدم ، واتّصاف الشيء بنقيضه محال.

إن قلت : كيف وتتّصف الوجودات بالأعدام ، كاتّصاف زيد ـ مثلا ـ بالعمى ، وهو عدم البصر ، واتّصاف الواجب بالصفات السلبيّة؟

قلت : أمّا في الممكنات فاتّصافها بالأعدام اتّصاف مجازيّ ، حقيقته عدم الاتّصاف بالوجوديّات المقابلة لها. وأمّا في الواجب فالصفات السلبيّة راجعة بالحقيقة إلى الصفات الثبوتيّة ، لأنّها سلب سلب الكمال ، وسلب السلب إيجاب.

(٤) المراد من العامّة والكلّيّة هو المطلقة ، أي الخارجيّة والوحدة والفعليّة الّتي ليست بنسبيّة.

فالخارجيّة المطلقة هي الخارجيّة الّتي ثبتت لكلّ موجود في نفسه ، فتشمل الوجود الذهنيّ حيث إنّه في نفسه وجود خارجيّ وإن كان ذهنيّا بالقياس إلى الوجود الخارجيّ الّذي بإزائه.

والوحدة المطلقة هي وحدة الشيء إذا لوحظ في نفسه ، فتشمل الكثير أيضا. والفعليّة المطلقة هي فعليّة الشيء في نفسه ، فتشمل الموجود بالقوّة ، فإنّ كلّ موجود أمر بالفعل في نفسه.

(٥) فالفلسفة هي العلم الباحث عن أحوال الموجود بما هو موجود. ويسمّى أيضا «الفلسفة ـ

١٠

وقد تبيّن بما تقدّم :

أوّلا : أنّ الفلسفة أعمّ العلوم جميعا ، لأنّ موضوعها أعمّ الموضوعات ، وهو «الموجود» (١) الشامل لكلّ شيء (٢). فالعلوم جميعا تتوقّف عليها في ثبوت موضوعاتها (٣). وأمّا الفلسفة فلا تتوقّف في ثبوت موضوعها على شيء من العلوم ، فإنّ موضوعها الموجود العامّ الّذي نتصوّره تصوّرا أوّليّا ونصدّق بوجوده كذلك ، لأنّ الموجوديّة نفسه (٤).

وثانيا : أنّ موضوعها لمّا كان أعمّ الأشياء ولا ثبوت لأمر خارج منه كانت المحمولات المثبتة فيها (٥) إمّا نفس الموضوع ، كقولنا : «إنّ كلّ موجود فإنّه ـ من حيث هو موجود ـ واحد أو بالفعل» ، فإنّ الواحد وإن غاير الموجود مفهوما لكنّه عينه مصداقا ، ولو كان غيره كان باطل الذات غير ثابت للموجود (٦) ؛ وكذلك ما بالفعل. وإمّا ليست نفس الموضوع ، بل هي أخصّ منه ، لكنّها ليست غيره ، كقولنا : «إنّ العلّة موجودة» ؛ فإنّ العلّة وإن كانت أخصّ من الموجود

__________________

ـ الاولى» كما قال الشيخ الرئيس في الفصل الثاني من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء : «وهو الفلسفة الاولى ، لأنّه العلم بأوّل الامور في الوجود ، وهو العلّة الاولى وأوّل الامور في العموم».

(١) بخلاف من قال : «إنّ موضوعه هو الإله» ومن قال : «إنّ موضوعه هو العلل الأربع» ، راجع شرح عيون الحكمة ٣ : ٨ ـ ٩.

(٢) إن قلت : قد يبحث في الفلسفة عن أحوال المعدوم ولا يعتبر فيها الوجود فكيف يشمله الموجود؟ قلنا : الموجود أعمّ من الذهنيّ والخارجيّ ـ كما سيأتي ـ ، والمعدوم وإن كان معدوما بالحمل الأوّليّ لكنّه موجود بالحمل الشائع الصناعيّ.

(٣) فإنّ التصديق بوجود موضوع العلم يعدّ من مباديه ، وإذا لم يكن بديهيّا فيحتاج إلى علم أعلى حتّى يثبت فيه. فمراد المصنّف من «العلوم جميعا» هو غير العلوم الّتي وجود موضوعاتها بديهيّة. كما صرّح به في تعليقته على الأسفار ١ : ٢٥ ، فقال : «ويتبيّن به أيضا أنّ سائر العلوم محتاجة إليها من جهة إثبات وجودها لو لم تكن بديهيّة».

(٤) أي : نفس الوجود.

(٥) أي : الفلسفة.

(٦) أي : لو كان الواحد غير الوجود مصداقا كان باطل الذات ، فإنّ غير الوجود هو العدم ، ولا مصداق للعدم ، فلا يثبت للموجود.

١١

لكنّ العلّيّة ليست حيثيّة خارجة من الموجوديّة العامّة ، وإلّا لبطلت.

وأمثال هذه المسائل مع ما يقابلها تعود إلى قضايا مردّدة المحمول ، تساوي أطراف الترديد فيها الموجوديّة العامّة ، كقولنا : «كلّ موجود إمّا بالفعل أو بالقوّة» (١). فأكثر المسائل في الفلسفة جارية على التقسيم ، كتقسيم الموجود إلى واجب وممكن ، وتقسيم الممكن إلى جوهر وعرض ، وتقسيم الجوهر إلى مجرّد ومادّيّ ، وتقسيم المجرّد إلى عقل ونفس ، وعلى هذا القياس.

وثالثا : أنّ المسائل فيها مسوقة على طريق عكس الحمل ، فقولنا : «الواجب موجود والممكن موجود» في معنى : «الوجود يكون واجبا ويكون ممكنا» ، وقولنا : «الوجوب إمّا بالذات وإمّا بالغير» معناه : «أنّ الموجود الواجب ينقسم إلى واجب لذاته وواجب لغيره».

ورابعا : أنّ هذا الفنّ لمّا كان أعمّ الفنون موضوعا ولا يشذّ عن موضوعه ومحمولاته الراجعة إليه شيء من الأشياء لم يتصوّر هناك غاية خارجة منه يقصد الفنّ لأجلها. فالمعرفة بالفلسفة مقصودة لذاتها من غير أن تقصد لأجل غيرها وتكون آلة للتوصّل بها إلى أمر آخر كالفنون الآليّة ، نعم هناك فوائد تترتّب عليها (٢).

وخامسا : أنّ كون موضوعها أعمّ الأشياء يوجب أن لا يكون معلولا لشيء خارج منه ، إذ لا خارج هناك ، فلا علّة له. فالبراهين المستعملة فيها ليست ببراهين لمّيّة (٣). وأمّا برهان الإنّ فقد تحقّق في كتاب البرهان من المنطق أنّ السلوك من المعلول إلى العلّه لا يفيد يقينا ، فلا يبقى للبحث الفلسفيّ إلّا برهان الإنّ الّذي يعتمد فيه على الملازمات العامّة ، فيسلك فيه من أحد المتلازمين العامّين إلى الآخر.

__________________

(١) فهو في قوّة أن يقال : «الوجود منقسم إلى بالفعل وبالقوّة».

(٢) ولعلّ مراده من الفوائد ما ذكره غاية للفلسفة في بداية الحكمة : ٧ ، من تمييز الموجودات الحقيقيّة من غيرها ، ومعرفة العلل العاليّة للوجود.

(٣) وناقش فيه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف ، فراجع تعليقته على نهاية الحكمة : ١٤ ـ ١٥.

١٢

المرحلة الأولى

في أحكام الوجود الكلّيّة (١)

وفيها خمسة فصول

__________________

(١) أي : في الأحكام الكلّيّة للوجود ، وهي الأحكام الثابتة لمطلق الوجود ، لا المختصّة بقسم من أقسامه.

١٣
١٤

الفصل الأوّل

في أنّ الوجود مشترك معنويّ

الوجود بمفهومه مشترك معنويّ يحمل على ما يحمل عليه بمعنى واحد (١). وهو ظاهر بالرجوع إلى الذهن حينما نحمله على أشياء أو ننفيه عن أشياء ، كقولنا : «الإنسان موجود» و «النبات موجود» و «الشمس موجودة» و «اجتماع النقيضين ليس بموجود» و «اجتماع الضدّين ليس بموجود». وقد أجاد صدر المتألّهين قدس‌سره حيث قال : «إنّ كون مفهوم الوجود مشتركا بين الماهيّات قريب من الأوّليّات» (٢).

__________________

(١) إعلم أنّ البحث عن اشتراك الوجود إمّا لفظيّ وإمّا عقليّ. أمّا الأوّل وهو البحث عن أنّ لغة الوجود هل هي موضوعة لمعنى واحد فلا اشتراك لفظيّا ، أو موضوعة لمعان متعدّدة فيكون اللفظ مشتركا؟. وهذا البحث من مباحث علم اللغة ولا يليق بالمباحث العقليّة. وأمّا الثاني وهو البحث عن أنّ الوجود هل هو معنى واحد في جميع ما يحمل على الماهيّات أم معان متعدّدة بحسب تعدّد الماهيّات؟. وهذا هو محلّ النزاع ومعركة الآراء في المقام. فذهب جمع إلى الأوّل ، ويعبّر عنه بالاشتراك المعنويّ للوجود ؛ وجمع آخر ـ كالأشاعرة ـ إلى الثاني ، ويعبّر عنه بالاشتراك اللفظيّ للوجود.

(٢) راجع تعليقة صدر المتألّهين على شرح حكمة الإشراق : ١٨٢ ، والأسفار الأربعة ١ : ٣٥. واعترف كثير من المحقّقين بأنّ كون مفهوم الوجود مشتركا بين الماهيّات بديهيّ ، ثمّ استدلّوا عليه تنبيها ، فراجع المباحث المشرقيّة ١ : ١٨ ـ ٢٢ ، وشرح المقاصد ١ : ٦١ ـ ٦٢ ، وشرح المواقف : ٩٠ ـ ٩٢ ، وقواعد المرام : ٣٩ ، وكشف المراد : ٢٤.

وقوله : «قريب من الأوّليّات» تلويح إلى أنّه ليس من الأوّليات الّتي يكون مجرّد تصوّر ـ

١٥

فمن سخيف القول ما قال بعضهم (١) : «إنّ الوجود مشترك لفظيّ ، وهو في كلّ ماهيّة يحمل عليها بمعنى تلك الماهيّة».

ويردّه لزوم سقوط الفائدة في الهليّات البسيطة (٢) مطلقا (٣) ، كقولنا : «الواجب موجود» و «الممكن موجود» و «الجوهر موجود» و «العرض موجود».

على أنّ من الجائز أن يتردّد بين وجود الشيء وعدمه مع العلم بماهيّته ومعناه (٤) ، كقولنا : «هل الاتّفاق (٥) موجود أو لا؟». وكذا التردّد في ماهيّة الشيء مع الجزم بوجوده ، كقولنا : «هل النفس الإنسانيّة الموجودة جوهر أو عرض؟» والتردّد في أحد شيئين مع الجزم بالآخر يقضي بمغايرتهما.

ونظيره في السخافة ما نسب إلى بعضهم (٦) : «أنّ مفهوم الوجود مشترك لفظيّ

__________________

ـ طرفي القضيّة كافيا في التصديق بها ، ضرورة أنّ الاشتراك المعنويّ للوجود ليس كذلك ، فإنّ العقل لا يمنع تعدّد مفهوم الوجود ، بل اشتراكه كذلك من الوجدانيّات ، لأنّ من راجع إلى وجدانه يجد أنّ مفهوم الوجود يحمل على ما يحمل عليه بمعنى واحد. والوجدانيّات قريبة من الأوّليّات ، لوضوحها.

(١) وهو أبو الحسن الأشعريّ وأبو الحسين البصريّ على ما في شرح المواقف : ٩٢ ، وشرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٦ ، وشرح المقاصد ١ : ٦١ ، وإرشاد الطالبين : ٢٠.

(٢) أمّا الملازمة فقال الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٢٣ : «لكان قول القائل : (الجوهر موجود) مثل قوله : (الجوهر جوهر). وبالجملة : لا يكون الحمل والوضع هاهنا إلّا في اللفظ ، ولمّا لم يكن كذلك علمنا أنّ الوجود مغاير للجوهريّة» إنتهى كلامه.

ولكن يرد عليه : أنّ المعتبر في الحمل هو المغايرة بين الموضوع والمحمول ولو اعتبارا.

نعم يردّه لزوم سقوط الفائدة في الهليّات البسيطة ، لأنّ المطلوب بها وجود الشيء ، وإذا كان الوجود بمعنى ماهيّة يحمل عليها فلا فائدة لطلبه بها.

(٣) أي : سواء كان ما يطلب بها هو الواجب تعالى أو غيره.

(٤) كذا في المباحث المشرقيّة ١ : ٢٥ حيث قال : «إنّه يصحّ منّا أن نعقل الماهية ونشكّ في وجودها ، والمشكوك ليس نفس المعلوم ولا داخلا فيه» انتهى كلامه.

(٥) وهو الأثر الحاصل من دون تأثير مؤثّر فيه.

(٦) وهو الكشّيّ وأتباعه على ما في شرح المواقف : ٩٢ حيث قال : «وهاهنا مذهب ثالث نقل عن الكشّيّ وأتباعه ، وهو : أنّ الوجود مشترك لفظا بين الواجب والممكن ، ومشترك معنى بين ـ

١٦

بين الواجب والممكن».

وردّ (١) بأنّا إمّا أن نقصد بالوجود الّذي نحمله على الواجب معنى أو لا ، والثاني يوجب التعطيل (٢) ، وعلى الأوّل إمّا أن نعني به المعنى الّذي نعنيه إذا حملناه على الممكنات وإمّا أن نعني به نقيضه ؛ وعلى الثاني يلزم نفي الوجود عنه عند إثبات الوجود له ، تعالى عن ذلك ؛ وعلى الأوّل يثبت المطلوب ، وهو كون مفهوم الوجود مشتركا معنويّا.

والحقّ ـ كما ذكره بعض المحقّقين (٣) ـ أنّ القول بالاشتراك اللفظيّ من الخلط بين المفهوم والمصداق (٤) ، فحكم المغايرة إنّما هو للمصداق دون المفهوم.

__________________

ـ الممكنات كلّها. وهذا لسخافته لم يلتفت المصنّف إليه».

(١) راجع شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٦ ـ ١٧.

(٢) أي : يوجب تعطيل عقلنا عن معرفة ذاته وصفاته. كذا في شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٦.

(٣) وهو الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٧. ويستفاد ذلك أيضا ممّا ذكره صدر المتألّهين في الجواب عمّا أورده الشيخ الإشراقيّ على أصالة الوجود ، فراجع الأسفار ١ : ٤١.

(٤) أي : أنّهم لمّا سمعوا أنّ الوجود مشترك فيه ظنّوا أنّه يستلزم أن يكون للواجب تعالى شريكا في الوجود ، وليس له كفوا أحد. فذهبوا إلى اشتراكه اللفظيّ بين الواجب والممكنات. ولكن هذا من الخلط بين المصداق والمفهوم ، لأنّ الّذي ليس له كفوا أحد هو مصداق مفهوم واجب الوجود ، لا مفهوم وجوده الّذي لا موقع له إلّا الذهن.

١٧

الفصل الثاني

في أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة

الوجود هو الأصيل دون الماهيّة ، أي أنّه هو الحقيقة العينيّة الّتي نثبتها بالضرورة.

إنّا بعد حسم أصل الشكّ والسفسطة (١) وإثبات الأصيل الّذي هو واقعيّة الأشياء ، أوّل ما نرجع إلى الأشياء ، نجدها مختلفة متمايزة مسلوبا بعضها عن بعض ، في عين أنّها جميعا متّحدة في دفع ما كان يحتمله السوفسطيّ من بطلان الواقعيّة (٢) ، فنجد فيها مثلا إنسانا موجودا ، وفرسا موجودا ، وشجرا موجودا ، وعنصرا موجودا ، وشمسا موجودة ، وهكذا ؛ فلها ماهيّات محمولة عليها ، بها يباين بعضها بعضا ، ووجود محمول عليها مشترك المعنى بينها. والماهيّة غير الوجود (٣) ، لأنّ

__________________

(١) إعلم أنّ الأقوال في مدركات البشر مختلفة :

١ ـ مذهب أهل القطع» Dogmatists «: وهو القول بأنّ مدركاتنا ـ من أنفسنا وما معنا ـ واقعيّات خارجيّة تترتّب عليها آثارها في الخارج.

٢ ـ مذهب الشكّاكين» Scepticists «: وهو القول بأن لا واقعيّة لمدركاتنا أصلا ، بل نشكّ فينا وفي ما بأطرافنا.

٣ ـ مذهب لا أدريّون» Agnosticists «: وهو القول بأنّا لا نعلم هل لنا ولمدركاتنا واقعيّة أم لا؟

٤ ـ مذهب السوفسطائيّين : وهو الاعتقاد بعدم الواقعيّة لنا ولما بأطرافنا.

(٢) أي : إنكار الواقعيّة.

(٣) واستدلّ عليه الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٢٣ ـ ٢٧.

١٨

المختصّ غير المشترك. وأيضا الماهيّة لا تأبى في ذاتها أن يحمل عليها الوجود وأن يسلب عنها ، ولو كانت عين الوجود لم يجز أن يسلب عنها (١) ، لاستحالة سلب الشيء عن نفسه. فما نجده في الأشياء من حيثيّة الماهيّة غير ما نجده فيها من حيثيّة الوجود.

وإذ ليس لكلّ واحد من هذه الأشياء إلّا واقعيّة واحدة ، كانت إحدى هاتين الحيثيّتين ـ أعني الماهيّة والوجود ـ بحذاء ما له من الواقعيّة والحقيقة ، وهو المراد بالأصالة ، والحيثيّة الاخرى اعتباريّة منتزعة من الحيثيّة الأصيلة ، تنسب إليها الواقعيّة بالعرض.

وإذ كان كلّ شيء إنّما ينال الواقعيّة إذا حمل عليه الوجود واتّصف به فالوجود هو الّذي يحاذي واقعيّة الأشياء. وأمّا الماهيّة فإذ كانت مع الاتّصاف بالوجود ذات واقعيّة ومع سلبه باطلة الذات فهي في ذاتها غير أصيلة ، وإنمّا تتأصّل بعرض الوجود (٢).

فقد تحصّل : أنّ الوجود أصيل ، والماهيّة اعتباريّة ، كما قال به المشّاؤون (٣) ، أي

__________________

(١) وفي النسخ : «ولم يجز أن تسلب عن نفسها» ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) بيان ذلك : أنّ كلّ حقيقة بلحاظ أنّها منشأ للآثار الخاصّة تكون نفسها. والمراد من الوجود» Existeece «هو كون الشيء نفسه. فالوجود هو الحقيقة الّتي كانت منشئا لظهور الآثار الخاصّة.

وأمّا بلحاظ أنّها ليست منشئا لغيرها من الآثار الخاصّة فلا تكون غيرها. والمراد من الماهيّة» Essence «هو عدم كون الشيء غيره. فالماهيّة هي عدم كون تلك الحقيقة غيرها. وهذا أمر عدميّ لا يحاذيه شيء ، بل ينتزع من كون الشيء نفسه (وهو وجود الشيء) وكون الغير نفسه (وهو وجود الغير). فيترتّب على كون الشيء نفسه آثار خاصّة لا تترتّب على كون الغير نفسه ، كما يترتّب على كون الغير نفسه آثار خاصّة لا تترتّب على كون هذا الشيء نفسه.

ومن هنا يظهر أنّه لا ينتزع عدم كون حقيقة غير نفسها إلّا بعد كونها نفسها. فالماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، ومن حيث وجود الشيء حدّه ، فتتأصّل بعرض الوجود.

(٣) ومنهم بهمنيار في التحصيل : ٢٨٤ ، والسيّد الداماد في القبسات : ٣٨ ، وتبعهم صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٤٩ ، والحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٠. وقيل : «إنّما لقّبوا بهذا الاسم لأنّهم كانوا يمشون في ركاب أرسطو كذا».

١٩

أنّ الوجود موجود بذاته والماهيّة موجودة بها.

وبذلك يندفع ما اورد (١) على أصالة الوجود من أنّ الوجود لو كان حاصلا في الأعيان كان موجودا ، لأنّ الحصول هو الوجود ، فللوجود وجود ، وننقل الكلام إليه وهلمّ جرّا ، فيتسلسل.

وجه الاندفاع (٢) : أنّ الوجود موجود لكن بذاته ، لا بوجود زائد ـ أي أنّ الوجود عين الموجوديّة ـ ، بخلاف الماهيّة الّتي حيثيّة ذاتها غير حيثيّة وجودها.

وأمّا دعوى : «أنّ الموجود في عرف اللغة إنّما يطلق على ما له ذات معروضة للوجود ولازمه أنّ الوجود غير موجود» فهي على تقدير صحّتها أمر راجع إلى الوضع اللغويّ أو غلبة الاستعمال ، والحقائق لا تتّبع استعمال الألفاظ ، وللوجود ـ كما تقدّم (٣) ـ حقيقة عينيّة نفسها ثابتة لنفسها.

قال بهمنيار في التحصيل : «وبالجملة : فالوجود حقيقته أنّه في الأعيان لا غير ، وكيف لا يكون في الأعيان ما هذه حقيقته؟» انتهى (٤).

ويندفع أيضا ما اشكل عليه (٥) بأنّ كون الوجود موجودا بذاته يستتبع كون

__________________

(١) أورده الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق ، فراجع كلام الماتن في شرح حكمة الإشراق :

١٨٣ ـ ١٨٤ ، وكذا أورده في التلويحات : ٢٢ ـ ٢٣. وتعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ، والحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١١.

(٢) هذا ما أجاب به صدر المتألّهين في تعليقته على شرح حكمة الإشراق : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، والأسفار ١ : ٤٠ ـ ٤١. وتعرّض له الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١١.

(٣) في السطور المتقدّمة حيث قال : «إنّ الوجود موجود لكن بذاته».

(٤) راجع التحصيل : ٢٨١.

(٥) تعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار : ١ : ٤٠.

حاصل الإشكال. أنّه لو كان الوجود موجودا بذاته يلزم منه أن يكون الوجود واجبا بالذات ، ولازمه انقلاب الذات ، وهو محال.

والشكل المنطقيّ لهذا الإشكال أنّه مركّب من قياسين :

١ ـ وجود الممكن موجود ، وكلّ وجود موجود بالذات ، فوجود الممكن موجود بالذات.

ثمّ نجعل هذه النتيجة صغرى لقياس آخر ونقول : ـ

٢٠