رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

١
٢

٣

٤

هذه ترجمة لكتاب :

Disorienting Encounters : Travels of a Moroccan Scholar in France in ٥٤٨١ ـ ٦٤٨١. Translated and Edited by Gilson Miller. University of California Press, ٢٩٩١.

٥
٦

Ouvrez un guide de voyage, vous y trouverez d\'ordinaire un petit lexique, mais ce lexique portera bizarrement sur des choses ennuyeuses et inutiles : la douane, la poste, l\'ho؟tel, le coiffeur, le me؟decin, les prix. Cependant, qu\'est ce que voyager؟Rencontrer. Le seul lexique important est celui du rendez ـ vous. ـ

افتح دليلا للسفر تجد فيه كالعادة معجما صغيرا ، لكن الغريب أنه ينصب على أمور مملة لا تفيد : من ديوانة وبريد وفندق وحلاق وطبيب وأثمان. ومع ذلك ، ما هو السفر؟ إنه اللقاء. والمفردة الوحيدة المهمة هي مفردة الموعد.

رولان بارت Roland Barthes

L\'Empire des signes

٧
٨

«... وفي وسط هذا النهر جزيرة هي أصل باريز القديم ... ولهم بهذه الجزيرة كنيسة قديمة أكبر وأقدم ما عندهم من الكنائس بباريز. وهذا النهر تسافر فيه المراكب والفلايك والبابورات كبارا وصغارا ، فهو مشحون بها في داخل المدينة. وفيه بيوت عظام من الخشب على شكل السفن الكبار ، إلا أنها مسقفة من فوق بسقف منها ، مفتوح وجهها الذي لجهة النهر ، مرساة في طرفه ثابتة ، معدة لغسل الثياب ، تعلوا عند زيادة النهر وتنزل عند نقصانه كما هو شأن المراكب ...».

نص الرحلة ـ ص ١٦٨

«... ومن منتزهاتهم أيضا ، جنان السلطان الذي فيه النباتات والوحوش بحرية وبرية حية وميتة. واستعملوا للميتة حيلا حتى صارت ترى كأنها حية ، فترى الحوت لا تشك أنه الساعة أخرج من البحر. وذلك أنهم سلخوه من جلدته وأخرجوها صحيحة وملئوها بتبن أو نحوه حتى صارت كأنها سمكة بلحمها طريا ، ويزيدونها أنواع الأطلية التي تصبر معها الجثة ...».

نص الرحلة ـ ص ١٧٧

«... ومن محال فرجاتهم المحال المسماة بالتياتروا ، وتسمى الكومزية وتسمى الأوبرة ، وهو محل يلعب فيه بمستغربات اللعب ومضحكاته ، وحكاية ما وقع من حرب أو نادرة أو نحو ذلك. فهو جد في صورة هزل ، لأنه قد يكون في ذلك اللعب اعتبار أو تأديب أو أعجوبة أو قضية مخصوصة ، ويكتسبون من ذلك علوما جمة ...».

نص الرحلة ـ ص ١٨٢ ـ ١٨٣

٩
١٠

استهلال

أعلن عن جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي سنة ٢٠٠٣ وتهدف إلى تشجيع أعمال التحقيق والتأليف والبحث في أدب السفر والرحلات واليوميات ، وهو ميدان خطير ومهمل ، وقد تأسست الجائزة إيمانا من «المركز العربي للأدب الجغرافي ـ ارتياد الآفاق» و «دار السويدي» بضرورة الإسهام في إرساء تقاليد حرّة في منح الجوائز ، وتكريسا لعرف رمزي في تقدير العطاء الفكري ، بما يؤدي بالضرورة إلى نبش المخبوء والمجهول من المخطوطات العربية والإسلامية الموجود في كنف المكتبات العربية والعالمية ، وإخراجه إلى النور ، وبالتالي إضاءة الزوايا الظليلة في الثقافة العربية عبر علاقتها بالمكان ، والسفر فيه ، والكشف عن نظرة العربي إلى الذات والآخر ، من خلال أدب الرحلة بصفته من بين أبرز حقول الكتابة في التراث العربي ، لم ينل اهتماما يتناسب والأهمية المعطاة له في مختلف الثقافات. مع التنويه بتزايد أهمية المشروع وجائزته في ظل التطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم ، وتنعكس سلبا على علاقة العرب والمسلمين بالجغرافيات والثقافات الأخرى ، فالأدب الجغرافي العربي (وضمنا الإثنوغرافيا العربية) من شأنه أن يكشف عن طبيعة النظرة والأفكار التي كوّنها العرب والمسلمون عن «الآخر» في مختلف الجغرافيات التي ارتادها رحالتهم وجغرافيوهم ودوّنوا انطباعاتهم

١١

وتصوراتهم الخاصة بهم عن الحضارة الإنسانية والاختلاف الحضاري حيثما حلّوا.

في دورتها هذه كما في دوراتها السابقة تواصل الجائزة التوقعات المتفائلة لمشروع تنويري عربي يستهدف إحياء الاهتمام بالأدب الجغرافي من خلال تحقيق المخطوطات العربية والإسلامية التي تنتمي إلى أدب الرحلة والأدب الجغرافي بصورة عامة ، من جهة ، وتشجيع الأدباء والكتاب العرب على تدوين يومياتهم المعاصرة في السفر ، وحض الدارسين على الإسهام في تقديم أبحاث ودراسات رفيعة المستوى في أدب الرحلة.

* * *

مكتبة عربية لأدب الرحلة ... من كان يصدق؟ موسيقى لا تهدأ ، وصخب لا ينتهي ، وسطور الرحالة مدونات هي لوحات فنية مدهشة ومشاعر حميمة وخلجات وجدانية فياضة ، خواطر وانطباعات وصور ترصد المرئيات ، حدس شاعري وابتكار فني وجمال في التعبير ، خيال يعانق الواقع ويوقظ الذاكرة فيأتي بالممتع والمدهش. مرايا تتعاكس ، بلدان قريبة وبعيدة ، أماكن جديدة وزوايا لم تستكشف يرتادها عاشق مغامر كما يسري تحت جناح الليل للقاء الحبيبة. وهو لا يكتفي بعناقها والبوح بمكنونات قلبه وفكره إليها ، بل يستغرق في ملامحها ، يناجيها ويسعد باستجلاء خفاياها وكأنه يتأمل نفسه في مراياها ... تلك هي الرحلة ، ومن هنا يبدأ الاكتشاف والتغيير ، اكتشاف المكان واكتشاف الذات سعيا وراء فهم حقيقي لها. هكذا تنبثق الرؤى من معاشرة المدن والأنهار والجبال ، وترتسم في صياغات جديدة للوجدان والنظر والتعبير في نصوص حية عابرة للزمان كما هي عابرة للمكان.

* * *

١٢

بدأنا برحلة ، وقلنا إننا سنختم معا مائة رحلة ، أما وقد وقفنا على أعتاب الكتاب المائة فأي معجزة هذه ... ولم يمض على مشروع «ارتياد الآفاق» أربعة أعوام؟!

إنني لأحيي أولئك المغامرين القدامى من أبطال الرحلة ، فرسانا امتطوا صهوات الجياد واقتحموا غمار الموج ، سالكين دروب الدهشة والخطر ؛ وأتطلع بفرح غامر إلى هذه الكوكبة الجديدة من الرحالة المعاصرين ، الذين واكبوا مشروع «ارتياد الآفاق» وتألقوا في مسالكه. أطالع عشرات الأسماء والعناوين التي تزدان بها أغلفة الكتب ، وهي تنقلنا بين المدن والبلدان والقارات ، هؤلاء هم غواصو لآلئ الرحلة العربية ومبدعو أدبها الروائي الجميل. إنهم ثروة الأمة من الناظرين في كل جهات الأرض ، وسفراؤها إلى العالم ، العائدون بالرؤى والمعارف والخبرات ، أهل المشاهدة وأهل الحوار مع الآخر بصفته أنا أخرى وشريكا على هذا الكوكب.

في أسواق المدن وأكشاك المطارات والموانئ ومحطات القطار نمر بألوان من كتيبات السياحة وصور المنتجعات وإعلانات الفنادق وشركات السفر. هذا شيء آخر غير أدب الرحلة ؛ واليوم ، فإن المكتبات الحديثة المنتشرة بين المدارس والجامعات والمراكز الثقافية لم يعد في مقدورها أن تستغني عن كنوز أدب الرحلة وروائعها ، بل أفردت لها رفوفا خاصة بها.

الرحلة ، كما آلت إليه ، سفر في الأرض وسفر في المخيلة ، وبالتالي فإن نصوصها مغامرة في اللغة وفي الوجود.

* * *

تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية

١٣

لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب ، والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر بالأشياء ، والمتهيء لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية ، هي النموذج الأتمّ لذلك.

فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي لتؤسس للظاهرة الاستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

* * *

وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها

١٤

من موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

إن أحد أهداف هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.

* * *

أخيرا ، لا بد من الإشارة إلى أن هذه السّلسة التي شارفت اليوم على المائة كتاب أسست ، وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

* * *

ختاما ، أحيي رحالة من طراز آخر ، أولئك المثقفين المبدعين القائمين على مشروع ارتياد الآفاق والعاملين فيه والمتحلقين حوله من الباحثين الذين استكشفوا هذه المنطقة المطموسة والمغفلة من ثقافتنا العربية بقدرات المغامرين من العلماء ودأب المستكشفين ، فالتمسوا المخطوطات والنصوص النادرة في مكتبات العالم ورجعوا بها كما يرجع الغواصون باللآلئ ، وسهروا على فك رموزها وتحقيقها وإخراجها إلى النور ليكون لنا من وراء جهودهم

١٥

المضيئة مكتبة متعاظمة من أدب الرحلة ما تزال عناوينها تتوالى وسلاسلها تتعدد ، ليكون في وسع ثقافتنا العربية أن تبرهن من خلال هذا اللون الممتع والخطير من الأدب أنها ثقافة إنسانية فتحت نوافذها على ثقافات العالم وتجارب شعوبه ، ودون رحالتها مشاهداتهم وثائق أدبية وتاريخية ترقى إلى ما يربو على ألف من السنين ، فأنجزوا مع ريادتهم الآفاق ريادتهم في أدب السفر.

فهنيئا للقارئ العربي الجاد بهذه المكتبة الجديدة ، وللأجيال التي ستقرؤنا بعد مائة عام.

محمد أحمد السويدي

أبو ظبي ـ يونيو / حزيران ٢٠٠٦

١٦

المقدمة

يعود الفضل إلى الأستاذ الفقيه محمد المنوني في إرشاد الباحثة الأمريكية سوزان ميلار وتنبيهها إلى وجود نسخة فريدة من رحلة الصفار إلى فرنسا ضمن محفوظات الخزانة الحسنية بالرباط. ويتكون هذا المخطوط في مجموعه من مائة وتسع وثلاثين صفحة ، يبلغ طول كل منها ٥ ، ٢١ سنتمترا ، وعرضها ١٧ سنتمترا. ويتضمن نص كل صفحة واحدا وعشرين سطرا ، كتبت بخط مغربي متأن جله واضح المعالم. ولم يكن هذا المخطوط يحمل توقيعا أو اسما للمؤلف ، غير أن قرائن عديدة ، لا تدع مجالا للشك في أن الرحلة من تأليف الفقيه محمد بن عبد الله الصفار الأندلسي التطواني.

أما موضوع المخطوط ، فهو تقرير عن رحلة قام بها المؤلف إلى باريز في دجنبر / كانون الأول من سنة ١٨٤٥ ، حين عين كاتبا للسفير المغربي عبد القادر أشعاش ، الذي بعثه السلطان عبد الرحمن بن هشام في مهمة دبلوماسية إلى فرنسا. وأثناء الرحلة ، حرص الصفار على تسجيل مشاهداته ، وبعد عودته إلى المغرب كتب تفاصيلها ، ربما بإيعاز من عبد القادر أشعاع امتثالا لأمر السلطان.

وينقسم المخطوط في مجموعه إلى ستة أقسام بدأها المؤلف بتوطئة وأنهاها بخاتمة. وتتوسطها أربعة فصول أساسية تتناول مواضيع مختلفة. ومن حيث البنية ، تجمع رحلة الصفار بين خصوصيات أدبيات الرحلة في شكلها الكلاسيكي وعناصر جديدة أكثر حداثة. وفي سنة ١٨٣٤ ، صدر عن مطبعة

١٧

بولاق المصرية كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز لمؤلفه رفاعة الطهطاوي الذي قضى في باريز خمس سنوات. وقد تأثر محمد الصفار إلى حد كبير بهذا الكتاب شكلا ومضمونا ، لكن دون أن يكون مجرد مقلد له. إذ تمكن الصفار بفضل اتساع آفاقه الأدبية من إثراء مؤلفه بأشياء أصيلة ، كأبيات شعرية ومقتبسات من القرآن والحديث ، وأقوال مأثورة وأمثال ونوادر ، وبغيرها من المؤشرات الدالة على مكانته العلمية والأدبية. ويخبرنا الصفار نفسه بأن إنجازه لعمله هذا قد تطلب منه شهورا عديدة.

وأمام هذه المعطيات المغرية ، لم تتردد الباحثة سوزان ميلار في اختيار مخطوطة الصفار موضوعا لأطروحة نالت بها درجة الدكتوراه من شعبة التاريخ بجامعة ميشغن الأمريكية سنة ١٩٧٦. وتطلب منها بلوغ هذا الهدف بذل جهود كبيرة ، ومواجهة العديد من الصعوبات. إذ أصبحت ملزمة بتقوية معرفتها باللغة العربية ، وبالاستئناس بقراءة الخط المغربي لتستطيع النفاذ إلى مضامين الرحلة وفهم معانيها ، حتى تنقلها إلى الإنجليزية نقلا أمينا خاليا من العيوب. وكان عليها أيضا أن تلم بأدبيات الرحلة عند الغربيين والمسلمين على السواء. هذا ، علاوة على الإحاطة بما كتبه النقاد الأدبيون والأنثربولوجيون في موضوع الرحلة بوجه عام ، مع التركيز على خصوصيات الرحلة المغربية ، حتى تضع رحلة الصفار في إطارها الصحيح. وهذا بالإضافة إلى اقتفائها آثار البعثة السفارية المغربية ، سواء أفي الأرشيف الفرنسي أم في الوثائق المغربية. وبفضل المساعدات التي تلقتها سوزان ميلار من الجانبين المغربي والأمريكي ، فقد حالفها النجاح والتوفيق في مواجهة كل الصعوبات.

غير أنها احتفظت بعملها مرقونا على أحد رفوف مكتبتها مدة قاربت عقدين من الزمن ، فظل الاطلاع على نتائجه مقتصرا على الباحثين المتخصصين. ولم يكتب له أن ينشر ليصبح رهن إشارة عموم القراء الأنكلوساكسونيين إلا في سنة ١٩٩٢ ، وذلك تحت العنوان الآتي :

Disorienting Encounters : Travels of a Moroccan Scholar in France in ٥٤٨١ ـ ٦٤٨١. The Voyage of Muhammad As ـ Saffar. Translated and Edited by Susan Gilson Miller. University of California Press, ٢٩٩١.

ومما يثير الاستغراب أيضا ، أن هذه الرحلة المهمة لم يسبق نشرها في نصها العربي الأصلي بالرغم من اكتشاف وجودها ضمن محتويات الخزانة الحسنية منذ

١٨

مدة ليست باليسيرة. وكان هذا الاعتبار من الأسباب التي دفعتني ، بمناسبة صدور الكتاب أعلاه ، إلى الإقدام على مفاتحة سوزان ميلار في الموضوع والإلحاح عليها في تعريب عملها ونشره ، حتى تعم فائدته غير قراء الإنجليزية في المغرب وفي العالم العربي. وحين سألتني عن استعدادي لأكون طرفا في المشروع ، لم أتردد في القبول على الرغم من ضيق الوقت وكثرة الانشغالات.

وقد اعتقدنا في البداية أن إنجاز العمل بحكم وجود النص العربي للرحلة سيكون سهل المنال ، إذ يكفي تعريب الستين صفحة والهوامش المحررة بالإنجليزية في الدراسة والتحقيق. إلا أننا وجدنا أنفسنا أمام مهمة لا تخلو من صعوبات ، نشير في عجالة إلى البعض منها.

لقد حرصنا على تعريب الأفكار الواردة في الدراسة تعريبا سليما وأمينا دون المس بمضامينها أو التصرف فيها. غير أن الكتاب في نسخته الإنجليزية كان يستهدف بطبيعة الحال جمهورا من القراء غالبيته العظمى من الغربيين. ولذا نجد سوزان ميلار عند ترجمتها لنص الرحلة إلى الإنجليزية تعمل قدر المستطاع على ترجمتها بطريقة حرفية حفاظا على أمانة النص الأصلي. وكلما اعترضتها كلمة عربية فصيحة كانت أم دارجة ، إلا وحاولت إيجاد مقابل لها في الإنجليزية ، مع تقديم شروح وجيزة لها في الهوامش لتيسير فهمها ، وهذا لم يكن أمرا سهلا. غير أنها اضطرت في بعض الأحيان إلى الوقوف عند أشياء تبدو بسيطة ، لكن القارئ الغربي يحتاج إلى شروح لفهمها لأنها غريبة عن ثقافته المادية والدينية. وعند تعريب التحقيق ومراجعة النص العربي للرحلة ، اضطررنا إلى التدخل من جديد خاصة في الهوامش ، إما لحذف بعضها بحكم أن ما تتضمنه من شروح يعتبر بديهيا ومن باب تحصيل الحاصل لدى القارئ العربي عامة والمغربي خاصة ؛ وإما لإضافة هوامش جديدة تتعلق بشرح بعض المفردات التي وإن كانت قد كتبت بالعربية فهي لا تخلو من لبس وغرابة. وحتى نميز بين الهوامش الأصلية ومثيلاتها المضافة ، وضعنا بين قوسين كلمة معرب كلما أضيف هامش جديد ، سعيا إلى تقديم عمل متكامل قدر الإمكان.

ومن الصعوبات التي واجهتنا عند تعريب هذا العمل ، اعتماد الباحثة في بعض الاقتباسات الواردة في الدراسة على الترجمات الإنجليزية لبعض أمهات الكتب العربية مثل مقدمة ابن خلدون أو غيرها. وحتى يمكن العثور على الاقتباس نفسه في لغته الأصلية ، كان لا بد من الرجوع إلى النسختين العربية والإنجليزية معا. وللغرض

١٩

نفسه كان لا بد من الرجوع إلى المصادر العربية والمغربية التي أخذت منها بعض المقتبسات بالعربية ونقلت إلى الإنجليزية. وإن زاد ذلك في متاعبنا ، فإنه لم يكن خاليا من المتعة والفائدة.

وتجدر الإشارة إلى أن تعريب هذا الكتاب قد تحقق بمساندة من برنامج الدراسات المغربية بمركز الدراسات الشرقية بجامعة هارفارد الأمريكية الذي يولي اهتماما خاصا للبحث في تاريخ المغرب ومجتمعه. وتعمل الدكتورة سوزان ميلار اليوم أستاذة محاضرة متخصصة في الحضارات الإسلامية في قسم حضارات الشرق الأدنى ولغاته بجامعة هارفارد. كما تشغل منصب مديرة لبرنامج الدراسات المغربية بمركز الدراسات الشرقية بالجامعة نفسها منذ تأسيسه.

ويسعدنا في نهاية هذه المقدمة أن نتوجه بالشكر والامتنان إلى كل الذين ساعدوا على إنجاز هذا العمل في كل مراحله. ونخص منهم بالذكر الفقيد الأستاذ الفقيه محمد المنوني ، رحمه‌الله ، الذي سبقت الإشارة إلى تفضله بإثارة انتباه سوزان ميلار إلى وجود نسخة من رحلة الصفار بالخزانة الحسنية في الرباط ؛ والأستاذ عبد الوهاب ابن منصور الذي مكن هذه الدراسة مشكورا من كل الوثائق المغربية المتصلة بالموضوع ؛ والفقيد عبد القادر الرزيني بطنجة الذي مد الدراسة أيضا بعينات من وثائقه العائلية. وفي مرحلة التعريب لم يبخل علينا زملاؤنا وأصدقاؤنا الأساتذة بتوجيهاتهم واقتراحاتهم وتشجيعاتهم. ونخص منهم بالذكر ، الأستاذ فوزي عبد الرزاق من جامعة هارفارد ، والأساتذة عمر أفا ومحمد معتصم ومحمد أعفيف وجامع بيضا وسعيد بن سعيد العلوي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ، وكذا الأستاذ محمد حميدة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة.

٢٠