الشّفاء ـ طبيعيّات

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

الشّفاء ـ طبيعيّات

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الدكتور محمود قاسم
الموضوع : العلوم الطبيعيّة
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: گل‌وردى
الطبعة: ٢
ISBN: 978-600-161-072-1
الصفحات: ٢٧٦

بسم الله الرّحمن الرحيم (١)

الفن السادس (٢) من الطبيعيات

وهو كتاب النفس (٣)

قد استوفينا (٤) فى الفن الأول الكلام على الأمور العامة فى الطبيعيات ، ثم تلوناه بالفن الثاني فى معرفة السماء والعالم والأجرام والصور والحركات الأولى فى عالم الطبيعة ، وحققنا أحوال الأجسام التي لا تفسد والتي تفسد ، ثم تلوناه بالكلام على الكون والفساد وأسطقساتها ، (٥) ثم تلوناه بالكلام على أفعال الكيفيات الأولى وانفعالاتها والأمزجة المتولدة منها.

وبقى لنا أن نتكلم على الأمور الكائنة ، فكانت الجمادات وما لا حس له ولا حركة إرادية أقدمها وأقربها تكونا من العناصر ، فتكلمنا فيها فى الفن الخامس وبقى لنا من العلم الطبيعى (٦) النظر فى أمور النباتات والحيوانات.

ولما كانت النباتات والحيوانات متجوهرة الذوات عن صورة هى النفس ومادة هى الجسم والأعضاء ، وكان أولى ما يكون علما بالشيء هو ما يكون من جهة صورته ، رأينا أن نتكلم أولا فى النفس ، ولم نر أن نبتر علم النفس فنتكلم أولا فى النفس النباتية والنبات ، ثم فى النفس الحيوانية والحيوان ، ثم فى النفس الإنسانية والإنسان. وإنما لم نفعل ذلك لسببين : أحدهما أن هذا التبتير (٧) مما يوعر ضبط علم النفس المناسب بعضه لبعض. والثاني أن النبات

__________________

(١) بسم الله الرحمن الرحيم : ساقطة من د ، م.

(٢) الفن السادس ... النبات : ساقطة من م.

(٣) وهو كتاب النفس : ساقطة من د ، ك.

(٤) قد استوفينا ... صورة هى : ساقطة من د.

(٥) وأسطقساتها : وأسطقساته ف.

(٦) الطبيعى : ساقطة من ف.

(٧) التبتير : التبتر ف.

١

يشارك (١) الحيوان فى النفس التي لها فعل النمو والتغذية والتوليد. ويجب لا محالة أن ينفصل عنه بقوى نفسانية تخص جنسه ثم تخص أنواعه. والذي يمكننا أن نتكلم عليه من أمر نفس النبات هو ما يشارك فيه الحيوان. ولسنا نشعر كثير شعور بالفصول المنوعة لهذا المعنى الجنسى فى النبات ؛ وإذا كان الأمر كذلك لم تكن نسبة هذا القسم من النظر إلى أنه كلام فى النبات أولى منه إلى أنه كلام فى الحيوان ؛ إذ كانت نسبة الحيوان (٢) إلى هذه النفس نسبة النبات إليها.

وكذلك أيضا حال النفس الحيوانية بالقياس إلى الإنسان والحيوانات الأخر ، (٣) وإذ كنا إنما نريد أن نتكلم فى النفس النباتية والحيوانية من حيث هى مشتركة ، وكان لا علم بالمخصص إلا بعد العلم بالمشترك ، وكنا قليلى الاشتغال بالفصول الذاتية لنفس نفس ونبات نبات ولحيوان حيوان ، لتعذر ذلك علينا. فكان الأولى أن نتكلم فى النفس فى كتاب واحد ، ثم إن أمكننا أن نتكلم فى النبات والحيوان كلاما مخصصا فعلنا. وأكثر ما يمكننا من ذلك يكون متعلقا بأبدانها وبخواص من أفعالها البدنية ، فلأن نقدم تعرف أمر النفس ونؤخر تعرف أمر البدن أهدى سبيلا فى التعليم من أن نقدم تعرف أمر البدن ونؤخر تعرف أمر النفس.

فإن معونة معرفة أمر النفس فى معرفة (٤) الأحوال البدنية أكثر من معونة معرفة البدن فى معرفة الأحوال النفسانية. على أن كل واحد منهما معين (٥) على الآخر ، وليس أحد الطرفين بضرورى التقديم ، إلا أنا آثرنا أن نقدم الكلام فى النفس لما أعليناه (٦) من العذر ، فمن شاء أن يغير هذا الترتيب فعل بلا مناقشة لنا معه.

فهذا هو الفن السادس ، ثم نتلوه فى الفن السابع بالنظر فى أحوال النبات ، وفى الفن الثامن بالنظر فى أحوال الحيوان. (٧) وهناك نختم العلم الطبيعى ، ونتلوه بالعلوم الرياضية فى فنون أربعة ، ثم نتلو ذلك كله بالعلم الإلهى ، ونردفه شيئا من علم الأخلاق ، ونختم كتابنا هذا به.

__________________

(١) يشارك ... به : ساقطة من د ، م.

(٢) الحيوان : الحيوانات ك.

(٣) الأخر : الأخرى ك.

(٤) معرفة (الثانية): + أمر ف.

(٥) معين : يعين ك.

(٦) أعليناه : أبليناه ف.

(٧) الحيوان : الحيوانات ك.

٢

المقالة الأولى

من الفن السادس من الطبيعيات (١)

خمسة فصول (٢)

__________________

(١) من ... الطبيعيات : من علم النفس ك ؛ ساقطة من د ، ف.

(٢) خمسة فصول : ساقطة من ف ؛ (تذكر نسختا د ، ك عناوين الفصول الخمسة).

٣
٤

الفصل الأول (١)

فى إثبات النفس وتحريرها من حيث هى نفس

نقول : إن (٢) أول ما يجب أن نتكلم فيه إثبات وجود الشىء الذي يسمى نفسا ، ثم نتكلم فيما يتبع ذلك فنقول : إنا قد (٣) نشاهد أجساما تحس وتتحرك بالإرادة ، بل نشاهد أجساما تغتذى وتنمو (٤) وتولد المثل وليس ذلك لها لجسميتها. (٥) فبقى أن تكون فى ذواتها مبادئ لذلك غير جسميتها ، والشىء الذي تصدر عنه هذه الأفعال. وبالجملة كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة ، فإنا نسميه نفسا. وهذه اللفظة اسم لهذا الشىء ، لا من حيث (٦) جوهره ، ولكن من جهة إضافة ما له ، أى من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل ، ونحن نطلب جوهره والمقولة التي يقع فيها من بعد.

ولكنا الآن إنما أثبتنا وجود شىء هو مبدأ لما ذكرنا ، وأثبتنا وجود شىء من جهة ماله عرض ما ويحتاج أن يتوصل من هذا العارض الذي له إلى أن تحقق ذاته لتعرف ماهيته ، كأنا قد عرفنا أن لشىء (٧) يتحرك محركا ما. ولسنا نعلم من ذلك أن ذات هذا المحرك ما هو ، فنقول : (٨) إذا (٩) كانت الأشياء ، التي نرى أن النفس موجودة لها ، أجساما ، وإنما يتم وجودها من حيث هى نبات وحيوان بوجود (١٠) هذا الشىء لهما ، فهذا الشىء جزء من قوامها. وأجزاء القوام كما علمت فى مواضع

__________________

(١) الفصل الأول : فصل ١ ف.

(٢) إن : ساقطة من د.

(٣) قد : ساقطة من م.

(٤) وتنمو : وتنمى م

(٥) لجسميتها : بجسميتها ك ، م.

(٦) حيث : + هو د ، ك ، م.

(٧) لشىء : الشىء م.

(٨) فنقول : ساقطة من م

(٩) إذا : إذ م.

(١٠) بوجود : لوجود د ، ك ، م.

٥

هى قسمان : جزء يكون به الشىء هو ما هو بالفعل ، وجزء يكون به الشىء هو ما هو بالقوة ، إذ هو (١) بمنزلة الموضوع. فإن كانت النفس من القسم الثاني ، ولا شك أن البدن من ذلك القسم ، فالحيوان والنبات (٢) لا يتم حيوانا ولا نباتا بالبدن ولا بالنفس فيحتاج إلى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا ـ فذلك هو النفس وهو الذي كلامنا فيه ، بل ينبغى أن تكون النفس هو ما به يكون النبات والحيوان بالفعل نباتا وحيوانا. فإن كان جسما أيضا ، فالجسم صورته ما قلنا ؛ وإن كان جسما بصورة ما ، فلا يكون هو من حيث هو جسم ذلك المبدأ ، بل يكون كونه مبدأ من جهة تلك الصورة ، ويكون صدور تلك الأحوال عن تلك الصورة بذاتها. وإن كان بتوسط هذا الجسم ، فيكون المبدأ الأول تلك الصورة ، ويكون أول فعله بوساطة هذا الجسم ، ويكون هذا الجسم جزأ من جسم الحيوان ، لكنه أول جزء يتعلق به المبدأ ، وليس هو بما هو جسم إلا من جملة الموضوع.

فبين (٣) أن ذات النفس ليس بجسم ، بل هى (٤) جزء للحيوان والنبات ، وهى (٥) صورة أو كالصورة أو كالكمال.

فنقول الآن : إن النفس يصح أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال قوة ، وكذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما تقبله (٦) من الصور المحسوسة والمعقولة على معنى آخر قوة. ويصح أن يقال أيضا لها بالقياس إلى المادة التي تحلها فيجتمع منهما جوهر (٧) نباتى أو حيوانى صورة ، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصلا فى الأنواع العالية أو السافلة كمال ، لأن طبيعة الجنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم تحصلها طبيعة الفصل البسيط أو غير (٨) البسيط منضافا إليها ؛ فإذا انضاف (٩) كمل (١٠) النوع. فالفصل كمال النوع بما هو نوع وليس لكل نوع فصل بسيط ، قد علمت هذا ، بل إنما هو للأنواع

__________________

(١) إذ هو : وهو ف.

(٢) من ذلك القسم فالحيوان والنبات : ساقطة من م.

(٣) فبين : فتبين د ، ك ، م

(٤) هى (الأولى والثانية) : هو د ، ك ، م.

(٥) هى (الأولى والثانية) : هو د ، ك ، م.

(٦) ما تقبله : ما يقبلها د ، ك ، م.

(٧) جوهر : + مادى ف.

(٨) غير (الثانية) : الغير ف.

(٩) انضاف : + إليها ف

(١٠) كمل : كمال م.

٦

المركبة الذوات من مادة وصورة ، والصورة منها هو الفصل البسيط لما هو كماله ، ثم كل صورة كمال ، وليس كل كمال صورة ، فإن الملك كمال المدينة ، والربان كمال السفينة ، وليسا بصورتين للمدينة والسفينة ، فما كان من الكمال مفارق الذات لم يكن بالحقيقة صورة للمادة وفى المادة. فإن الصورة التي هى فى المادة هى الصورة المنطبعة فيها القائمة بها ، اللهم إلا أن يصطلح فيقال لكمال النوع صورة النوع. وبالحقيقة فإنه قد استقر الاصطلاح على أن يكون الشىء بالقياس إلى المادة صورة ، وبالقياس إلى الجملة غاية وكمالا ، وبالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليا وقوة محركة. وإذا كان الأمر كذلك فالصورة تقتضى نسبة إلى شىء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها ، وإلى شىء يكون به (١) الجوهر الحاصل هو ما هو بالقوة ، وإلى شىء لا تنسب الأفاعيل إليه ، وذلك الشىء هو المادة لأنها صورة باعتبار وجودها للمادة. والكمال يقتضى نسبة إلى الشىء التام الذي تصدر عنه الأفاعيل لأنه (٢) كمال بحسب اعتباره (٣) للنوع. فبين من هذا أنا إذا قلنا فى تعريف النفس إنها كمال كان أدل على معناها ، وكان أيضا يتضمن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها ، ولا تشذ النفس المفارقة للمادة عنه. وأيضا إذا قلن : إن النفس كمال فهو أولى من أن نقول : قوة ، وذلك لأن الأمور الصادرة عن النفس منها ما هى من باب الحركة ومنها ما هى من باب الإحساس والإدراك ، والإدراك بالحرى (٤) أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ فعل ، بل مبدأ قبول. والتحريك بالحرى أن يكون لها لا بما لها قوة هى مبدأ قبول ، (٥) بل مبدأ فعل ، وليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنها قوة عليه أولى من الآخر. فإن قيل لها : قوة ، وعنى به الأمران جميعا كان ذلك باشتراك الاسم. وإن (٦) قيل : قوة ، واقتصر على أحد الوجهين ، عرض من ذلك ما قلنا.

وشىء آخر وهو أنه (٧) لا يتضمن الدلالة على ذات النفس من حيث هى نفس مطلقا ، بل من جهة دون جهة. وقد بينا فى الكتب المنطقية أن ذلك غير

__________________

(١) به : ساقطة من م.

(٢) لأنه : لأنها د ، ك ، م

(٣) اعتباره : اعتبارها د ، ك ، م.

(٤) والإدراك ، والإدراك : والإدراك د ، ك.

(٥) قبول بل مبدأ : ساقطة من د.

(٦) وإن : فإن ك.

(٧) أنه : أنها ك ، م.

٧

جيد ولا صواب. ثم إذا قلنا : كمال ، اشتمل على المعنيين. فإن النفس من جهة القوة التي يستكمل بها إدراك الحيوان كمال ، ومن جهة القوة التي تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال ، ومن جهة القوة التي تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال ، والنفس المفارقة كمال ، (١) والنفس التي لا تفارق كمال. لكنا إذا قلنا : كمال ، لم يعلم من ذلك بعد أنها جوهر ، أو ليست (٢) بجوهر ، فإن (٣) معنى الكمال هو الشىء الذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا والنبات بالفعل نباتا ، وهذا لا يفهم عنه بعد أنه (٤) جوهر أو ليس بجوهر. ولكنا (٥) نقول : إنه (٦) لا شك لنا فى أن هذا الشىء ليس جوهرا (٧) بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا ، ولا أيضا بالمعنى الذي يكون به المركب جوهرا. فأما جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه. فإن قال قائل : إنى أقول للنفس جوهرا وأعنى به الصورة ، ولست أعنى به معنى أعم من الصورة ، بل معنى أنه (٨) جوهر معنى أنه (٩) صورة ، وهذا مما قاله خلق منهم ، فلا يكون معه موضوع بحث واختلاف البتة. فيكون معنى قوله : إن النفس جوهر ، أنها صورة ؛ بل يكون قوله : الصورة جوهر ، (١٠) كقوله الصورة صورة أو هيئة والإنسان (١١) إنسان أو بشر ، ويكون هذيانا من الكلام. فإن عنى بالصورة ما ليس فى موضوع البتة ، أى لا يوجد بوجه من الوجوه قائما فى الشىء الذي سميناه لك موضوعا البتة ، فلا يكون كل كمال جوهرا. فإن (١٢) كثيرا من الكمالات هى فى موضوع لا محالة ، وإن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركب ، ومن حيث كونه فيه ليس فى موضوع ، فإن كونه جزأ منه لا يمنعه أن يكون فى موضوع ، وكونه فيه لا كالشىء فى الموضوع لا يجعله جوهرا ، كما ظن بعضهم. لأنه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شىء على أنه فى موضوع حتى يكون الشىء من جهة ما ليس فى هذا الشىء على أنه فى موضوع (١٣) جوهرا ، (١٤) بل إنما يكون جوهرا إذا لم يكن ولا فى شىء من الأشياء على أنه فى موضوع. وهذا المعنى لا يدفع كونه فى شىء ما موجودا لا (١٥) فى موضوع ، فإن ذلك ليس له بالقياس إلى كل شىء ، حتى

__________________

(١) والنفس المفارقة كمال : ساقطة من د.

(٢) أو ليست : أو أن ليست ك

(٣) فإن : لأن ك. (٤) أنه : أن ذلك ك ، م

(٥) ولكنا : لكنا ف. (٦) إنه : ساقطة من ف

(٧) جوهرا : بجوهر ك.

(٨) أنه (الأولى والثانية) : أنها ك.

(٩) أنه (الأولى والثانية) : أنها ك.

(١٠) جوهر : جوهرا د

(١١) والإنسان : وللإنسان د ؛ أو الإنسان ف.

(١٢) فإن : فإنه د.

(١٣) موضوع : + فيه د

(١٤) جوهرا (الأولى) جوهر ف.

(١٥) لا فى : فى د.

٨

إذا قيس إلى شىء يكون فيه لا كما يوجد الشىء فى موضوع صار جوهرا ؛ وإن كان بالقياس إلى شىء آخر بحيث يكون عرضا ، بل هو اعتبار له فى ذاته. فإن الشىء إذا تأملت ذاته ونظرت إليها فلم يوجد لها موضوع البتة كانت فى نفسها جوهرا ، وإن وجدت فى ألف شىء لا فى موضوع بعد أن توجد فى شىء واحد على نحو وجود الشىء فى الموضوع (١) فهى فى نفسها عرض. وليس إذا لم تكن عرضا فى شىء فهى (٢) جوهر فيه ، فيجوز أن يكون الشىء لا عرضا فى الشىء ولا جوهرا فى الشىء ، كما أن الشىء يجوز أن لا يكون واحدا فى شىء ولا كثيرا ، لكنه فى نفسه واحد أو كثير. وليس الجوهرى والجوهر واحدا ، ولا العرض بمعنى العرضى الذي فى إيساغوجى هو العرض الذي فى قاطيغورياس. وقد بينا هذه الأشياء لك فى صناعة المنطق.

فبين أن النفس لا يزيل عرضيتها كونها فى المركب كجزء ، بل يجب أن تكون فى نفسها لا فى موضوع البتة ، وقد علمت ما الموضوع.

فإن كان كل نفس موجودة لا فى موضوع ، فكل (٣) نفس جوهر ، وإن كانت نفس ما قائمة بذاتها والبواقى كل واحد منها فى هيولى وليست فى موضوع فكل نفس جوهر ، وإن كانت نفس ما قائمة (٤) فى موضوع وهى مع ذلك جزء من المركب فهى عرض ، وجميع هذا كمال. فلم يتبين لنا بعد أن النفس جوهر أو ليست (٥) بجوهر من وضعنا أنها كمال. وغلط من ظن أن هذا يكفيه فى أن يجعلها جوهرا كالصورة.

فنقول : إنا إذا عرفنا أن النفس كمال بأي بيان وتفصيل فصلنا الكمال ، لم يكن بعد عرفنا النفس وماهيتها ، بل عرفناها من حيث هى نفس ؛ واسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها ، بل من حيث هى مدبرة للأبدان ومقيسة إليها. فلذلك يؤخذ البدن فى حدها ، كما يؤخذ مثلا البناء فى حد البانى ، (٦) وإن كان لا يؤخذ (٧) فى حده من حيث هو إنسان. ولذلك صار النظر فى النفس من العلم الطبيعى ، لأن النظر فى النفس من حيث هى نفس نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة والحركة ، بل يجب أن

__________________

(١) الموضوع : موضوع م.

(٢) فهى : فهو ف.

(٣) فكل : وكل د.

(٤) بذاتها ... ما قائمة : ساقطة من م.

(٥) أو ليست : أو ليس د ، ك ، م.

(٦) البانى : الثاني م

(٧) لا يؤخذ : لا يوجد د.

٩

نفرد لتعرفنا ذات النفس بحثا آخر. ولو كنا عرفنا بهذا ذات النفس ، لما أشكل علينا وقوعها فى أى (١) مقولة تقع فيها. فإن من عرف وفهم ذات الشىء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتى له لم يشكل عليه وجوده له ، كما أوضحناه فى المنطق. لكن الكمال على وجهين : كمال أول ، وكمال ثان (٢). فالكمال الأول هو الذي يصير به النوع نوعا بالفعل كالشكل للسيف. والكمال الثاني هو أمر من الأمور التي تتبع نوع الشىء من أفعاله وانفعالاته ، كالقطع للسيف ، وكالتمييز والروية والإحساس والحركة للإنسان. فإن هذه كمالات لا محالة للنوع ، لكن ليست أولى ، (٣) فإنه ليس يحتاج النوع فى أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل ، بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل حتى صار (٤) له هذه الأشياء بالقوة بعد ما لم تكن بالقوة إلا بقوة بعيدة تحتاج إلى أن يحصل قبلها شىء حتى يصير بالحقيقة بالقوة صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل. فالنفس كمال أول ، ولأن الكمال كمال للشىء ، (٥) فالنفس كمال الشىء ، (٦) وهذا الشىء هو الجسم ، ويجب أن يؤخذ (٧) الجسم بالمعنى الجنسى لا بالمعنى المادى (٨) ، كما (٩) علمت فى صناعة البرهان. وليس هذا الجسم الذي النفس كماله كل جسم ، فإنها ليست كمال الجسم الصناعى كالسرير والكرسى وغيرهما ، بل كمال الجسم الطبيعى. ولا كل جسم طبيعى ، فليست (١٠) النفس كمال نار ولا أرض ولا هواء ، (١١) بل هى فى عالمنا كمال جسم طبيعى تصدر عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها فى أفعال الحياة التي أولها (١٢) التغذى والنمو. فالنفس التي نحدها هى كمال أول لجسم طبيعى آلى له أن يفعل أفعال الحياة.

لكنه قد يتشكك فى هذا الموضوع (١٣) بأشياء ، من ذلك أن لقائل أن يقول : إن هذا الحد لا يتناول النفس الفلكية فإنها تفعل بلا آلات. وإن تركتم

__________________

(١) أى : + شىء م.

(٢) ثان : ثانى م.

(٣) أولى : أولية د ، ك ، م.

(٤) صار : صارت م.

(٥) للشىء : الشىء م

(٦) الشىء : لشىء م.

(٧) يؤخذ : يوجد د

(٨) لا بالمعنى المادى : لا المادى د ، ف

(٩) كما : ساقطة من م.

(١٠) فليست : فليس د ، ك

(١١) ولا هواء : ساقطة من ف.

(١٢) أولها : ساقطة من د.

(١٣) الموضوع : الموضع ف.

١٠

ذكر الآلات واقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا ، فإن الحياة التي لها ليس هو التغذى والنمو ، ولا أيضا الحس. وأنتم تعنون بالحياة التي فى الحد هذا ، وإن عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكية من الإدراك مثلا والتصور العقلى أو التحريك (١) لغاية إرادية ، أخرجتم النبات من جملة ما يكون له نفس. وأيضا إن كان التغذى حياة فلم لا تسمون النبات حيوانا.

وأيضا لقائل أن يقول : ما الذي أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا ، ولم لم (٢) يكفكم أن تقولوا : إن الحياة نفسها هى هذا الكمال فتكون الحياة هى المعنى الذي يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس. (٣)

فلنشرع فى جواب واحد واحد من ذلك وحله ، فنقول : أما الأجسام السماوية فإن فيها مذهبين : مذهب (٤) من يرى أن كل كوكب يجتمع منه ومن عدة كرات (٥) قد دبرت بحركته جملة جسم لحيوان (٦) واحد ، فيكون حينئذ كل واحدة من الكرات يتم فعلها (٧) بعدة أجزاء ذوات حركة ، فتكون هى كالآلات. وهذا القول لا يستمر فى كل الكرات. ومذهب من يرى أن كل كرة فلها فى نفسها حياة مفردة ، وخصوصا ويرى جسما تاسعا ، ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه. فهؤلاء يجب أن يروا أن اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكية وعلى النفس النباتية فإنما (٨) يقع بالاشتراك ، وأن (٩) هذا الحد إنما هو للنفس الموجودة للمركبات ، وإنه إذا احتيل حتى تشترك الحيوانات والفلك فى معنى اسم النفس ، خرج معنى النبات من تلك الجملة. على أن هذه الحيلة صعبة ، وذلك لأن الحيوانات والفلك لا تشترك فى معنى اسم الحياة ولا فى معنى اسم النطق أيضا لأن النطق الذي هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيان ، وليس هذا مما يصح هناك على ما يرى. فإن العقل هناك عقل بالفعل ، والعقل بالفعل غير مقوم للنفس الكائنة (١٠) جزء حد للناطق. وكذلك الحس هاهنا يقع على القوة التي تدرك بها

__________________

(١) أو التحريك : والتحريك ف ، م.

(٢) ولم لم : ولم د.

(٣) النفس : + من ذلك م.

(٤) مذهب : ساقطة من م.

(٥) عدة كرات : عنده م

(٦) لحيوان : كحيوان ف.

(٧) فعلها : فعله د ، ك.

(٨) فإنما : فإنها د ؛ فإنه م

(٩) وأن : فإن ك.

(١٠) الكائنة : بالكلية م.

١١

المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها والانفعال منها ، وليس هذا أيضا مما يصح هناك على ما يرى. ثم إن اجتهد فجعل النفس كمالا أول لما هو متحرك بالإرادة ومدرك (١) من الأجسام حتى تدخل فيه الحيوانات والنفس الفلكية ، خرج النبات من تلك الجملة. وهذا هو القول المحصل. وأما أمر الحياة والنفس فحل (٢) الشك فى ذلك على ما نقول : إنه قد صح أن الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ للأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل. فإن سمى مسم هذا المبدأ حياة لم تكن معه مناقشة ، وأما المفهوم (٣) عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران : أحدهما كون النوع موجودا فيه مبدأ تصدر تلك الأحوال عنه ، أو كون الجسم بحيث يصح صدور تلك الأفعال عنه. فأما الأول فمعلوم أنه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه. وأما الثاني فيدل على معنى أيضا غير معنى النفس. وذلك لأن كون الشىء بحيث يصح أن يصدر عنه شىء أو يوصف بصفة يكون على وجهين : أحدهما أن (٤) يكون الوجود (٥) شيئا (٦) غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر مثل كون السفينة ، (٧) بحيث تصدر عنه المنافع السفينية. وذلك مما يحتاج إلى الربان حتى يكون هذا الكون ، والربان وهذا الكون ليس (٨) شيئا واحدا بالموضوع. والثاني أن لا يكون شىء غير هذا الكون فى الموضوع مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة ، حتى يكون وجود الحرارة فى الجسم هو وجود هذا الكون ، وكذلك وجود النفس وجود هذا الكون على ظاهر الأمر.

إلا أن ذلك فى النفس لا يستقيم ، فليس المفهوم من هذا الكون ومن النفس شيئا واحدا ، وكيف لا يكون كذلك والمفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال ومبدأ ، ثم للجسم هذا الكون. والمفهوم من الكمال الأول الذي رسمناه (٩) يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر ، لأن الكمال الأول ليس له مبدأ وكمال

__________________

(١) ومدرك : ويدرك م.

(٢) فحل : محل د ؛ نحل م.

(٣) وأما المفهوم : والمفهوم د.

(٤) يصدر ... أن : ساقطة من م.

(٥) الوجود : الموجود م.

(٦) يكون الوجود شيئا : يكون فى الوجود شىء فى

(٧) السفينية : السفينة ك.

(٨) وهذا الكون ليس : ليس وهذا الكون م.

(٩) رسمناه : سميناه م.

١٢

أول فليس إذن المفهوم من الحياة والنفس واحدا إذا عنينا بالحياة ما يفهمه (١) الجمهور وإن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس فى الدلالة على الكمال الأول لم نناقش ، وتكون الحياة اسما لما كنا وراء إثباته من هذا الكمال الأول.

فقد عرفنا الآن معنى الاسم الذي يقع على الشىء الذي سمى نفسا بإضافة له. فبالحرى أن نشتغل بإدراك ماهية هذا الشىء الذي صار بالاعتبار المقول نفسا. ويجب أن نشير فى هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التي لنا إثباتا على سبيل التنبيه والتذكير إشارة شديدة الموقع عند من له قوة على ملاحظة الحق نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه وقرع عصاه وصرفه عن المغلطات.

فنقول : يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملا ، لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات ، وخلق يهوى فى هواء أو خلاء هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدما (٢) ما يحوج إلى أن يحس ، وفرّق (٣) بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس ، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته ولا يشك (٤) فى إثباته لذاته موجودا ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه ولا باطنا من أحشائه ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج ، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا ، ولو أنه أمكنه فى تلك الحالة أن يتخيل يدا أو عضوا آخر لم يتخيله جزءا من ذاته ولا شرطا فى ذاته ، (٥) وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت والمقرّ (٦) به غير الذي لم يقرّبه ، فإذن للذات (٧) التي أثبت وجودها خاصية (٨) على أنها هو بعينه غير جسمه (٩) وأعضائه التي لم تثبت ، فإذن المثبت (١٠) له سبيل إلى أن (١١) يتنبه (١٢) على وجود النفس شيئا غير الجسم بل غير جسم ، (١٣) وأنه عارف به مستشعر له ، وإن (١٤) كان ذاهلا عنه يحتاج إلى (١٥) أن يقرع عصاه.

__________________

(١) ما يفهمه : ما يفهم ك.

(٢) صد ما : صدم ما د ، ف ، م

(٣) وفرق : وفرقت م.

(٤) ولا يشك : فلا يشك ف.

(٥) ولا شرطا فى ذاته : ساقطة من م.

(٦) والمقر به : والمقربة ف

(٧) للذات : الذات ف

(٨) خاصية : + له ف ؛ + لها م.

(٩) جسمه : جسمية م

(١٠) المثبت : المتنبه ف ، م

(١١) أن : ساقطة من م

(١٢) يتنبه : يثبته ك ؛ تنبه م.

(١٣) بل غير جسم : ساقطة من م

(١٤) وأنه : فإنه م.

(١٥) إلى : ساقطة من ف.

١٣

الفصل الثاني (١)

فى ذكر ما قاله القدماء فى النفس وجوهرها ونقضه

فنقول : قد اختلف الأوائل فى ذلك لأنهم اختلفوا فى المسالك (٢) إليه ، فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة ، ومنهم من سلك إليه من جهة الإدراك ، ومنهم من جمع بين (٣) المسلكين ، ومنهم من سلك طريق الحياة غير مفصلة.

فمن سلك منهم جهة الحركة ، فقد كان تخيل عنده أن التحريك لا يصدر إلا عن متحرك ، وأن المحرك الأول يكون لا محالة متحركا بذاته ، وكانت النفس محركة (٤) أولية ، إليها يتراقى التحريك من الأعضاء والعضل (٥) والأعصاب ، فجعل النفس متحركة لذاتها ، وجعلها لذلك جوهرا غير مائت ، معتقدا أن ما يتحرك لذاته لا يجوز أن يموت. قال : ولذلك ما كانت الأجسام السماوية ليست تفسد والسبب فيه دوام حركتها.

فمنهم (٦) من منع أن تكون النفس جسما فجعلها جوهرا غير جسم متحركا لذاته. ومنهم من جعلها (٧) جسما وطلب الجسم المتحرك بذاته ، فمنهم من جعلها ما كان من الأجرام التي لا تتجزأ كريا ليسهل دوام حركته ، وزعم أن الحيوان يستنشق ذلك بالتنفس ، (٨) وأن التنفس (٩) غذاء للنفس ، وأن النفس (١٠) تستبقى النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التي هى الأجرام التي لا تتجزأ التي هى المبادي

__________________

(١) الفصل الثاني : فصل ٢ ف.

(٢) المسالك : المسلك ف.

(٣) بين : ساقطة من ف.

(٤) محركة : متحركة م

(٥) والعضل : بالعضل د.

(٦) فمنهم : ومنهم د ، ك ، م.

(٧) جعلها : جعله د ؛ جعل م.

(٨) بالتنفس : بالنفس ك

(٩) التنفس : النفس ك ، م

(١٠) النفس (الثانية) : ساقطة من م.

١٤

وأنها متحركة بذاتها ، كما يرى من حركة الهباء دائما فى الجو ، فلذلك (١) صلحت لأن (٢) تحرك غيرها. ومنهم من قال : إنها ليست هى النفس ، بل إن (٣) محركها هو النفس وهى فيها ، وتدخل البدن بدخولها. ومنهم من جعل النفس نارا ورأى أن النار دائمة (٤) الحركة.

وأما من سلك طريق الإدراك ، فمنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما سواه لأنه متقدم عليه ومبدأ له ، فوجب أن تكون النفس مبدأ ، فجعلها من الجنس الذي كان يراه المبدأ : إما نارا ، أو هواء ، أو أرضا ، أو ماء. ومال بعضهم إلى القول بالماء لشدة رطوبة النطفة التي هى مبدأ التكون ؛ وبعضهم جعلها جسما بخاريا ، إذ كان يرى أن (٥) البخار مبدأ الأشياء على حسب المذاهب التي عرفتها ، وكل هؤلاء كان يقول : إن النفس إنما تعرف الأشياء كلها لأنها من جوهر المبدأ لجميعها. وكذلك من رأى أن المبادي هى الأعداد ، فإنه جعل النفس عددا ، ومنهم من رأى أن الشىء إنما يدرك ما هو شبيهه وأن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل فجعل النفس مركبا من الأشياء التي يراها عناصر ، وهذا هو انبادقليس ، فإنه قد (٦) جعل النفس مركبة من العناصر الأربعة ومن الغلبة والمحبة ، وقال : إنما تدرك النفس كل شىء بشبيهه (٧) فيها. وأما الذين جمعوا الأمرين فكالذين قالوا : إن النفس عدد محرك لذاته ، فهى عدد لأنها مدركة وهى محركة (٨) لذاتها ، لأنها محركة أولية. (٩) وأما الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخص ، فمنهم من قال : إن النفس حرارة غريزية لأن الحياة بها ، ومنهم من قال بل برودة وأن النّفس مشتق من النّفس والنّفس هو الشىء المبرد.

ولهذا ما يتبرد بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس ، ومنهم من قال بل النفس هو الدم ؛ لأنه إذا سفح الدم بطلت الحياة ، ومنهم من قال بل النفس تأليف مزاج لأن المزاج ما دام ثابتا لم تتغير صحة (١٠) الحياة ، ومنهم من قال بل النفس تأليف ونسبة بين العناصر وذلك لأنا نعلم أن تأليفا ما يحتاج إليه حتى يكون من العناصر حيوان ، ولأن (١١) النفس تأليف فلذلك (١٢) تميل إلى المؤلفات من النغم والأرائح (١٣) والطعوم وتلتذ

__________________

(١) فلذلك : ولذلك ف ؛ فكذلك م.

(٢) لأن : أن ف ، م

(٣) إن : ساقطة من م.

(٤) دائمة : دائم د ، ك.

(٥) أن : ساقطة من ف على : وعلى ف.

(٦) قد : ساقطة من ف.

(٧) بشبيهه : شبهه ك ؛ يشبهه م.

(٨) وهى محركة : ومحركة ف.

(٩) محرك ... أولية : متحرك لذاتها لأنها محركة أوله م.

(١٠) صحة : صحت ف ، م.

(١١) ولأن : فلأن م

(١٢) فلذلك : ولذلك د

(١٣) والأرائح : والأرابيع ف ؛ والأرابيح م.

١٥

بها. ومن الناس من ظن أن النفس هو الإله ـ تعالى عما يقوله الملحدون ـ وأنه يكون فى كل شىء بحسبه (١) فيكون فى شىء طبعا وفى شىء نفسا وفى شىء عقلا سبحانه وتعالى عما يشركون.

فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين فى أمر النفس ، وكلها باطل. فأما الذين تعلقوا بالحركة فأول ما يلزمهم من المحال أنهم نسوا السكون ، فإن كانت النفس تحرك بأن تتحرك وكان (٢) لا محالة تحركها علة للتحريك ، فلم يخل تسكينها إما أن يصدر عنها وهى متحركة بحالها فتكون نسبة تحركها بذاتها إلى التسكين والتحريك واحدة. فلم يمكن أن يقال : إنها تحرك بأن تتحرك ، وقد فرضوا ذلك ، أو يصدر عنها وقد (٣) سكنت ، فلا تكون متحركة بذاتها. وأيضا فقد عرفت مما سلف أنه لا متحرك إلا من محرك وأنه ليس شىء متحركا من ذاته فلا تكون النفس شيئا متحركا من ذاته ، (٤) وأيضا فإن هذه الحركة لا يخلو إما أن تكون مكانية أو كمية أو كيفية أو غير ذلك. فإن كانت مكانية فلا يخلو إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو نفسانية ، (٥) فإن كانت طبيعية فتكون إلى جهة واحدة (٦) لا محالة ، فيكون تحريك النفس إلى جهة واحدة فقط. وإن كانت قسرية فلا تكون متحركة بذاتها ، ولا يكون أيضا تحريكها بذاتها ، بل الأولى أن يكون القاسر هو المبدأ الأول وأن يكون هو النفس. وإن كانت نفسانية فالنفس قبل (٧) النفس وتكون لا محالة بإرادة فتكون إما واحدة لا تختلف ، فيكون تحريكها على تلك الجهة الواحدة ، أو تكون مختلفة فتكون بينها كما علمت سكونات لا محالة ، فلا تكون متحركة لذاتها. وأما الحركة من جهة الكم فأبعد شيء من النفس ، ثم لا يكون شيء متحركا من جهة الكم بذاته ، بل لدخول داخل عليه أو استحالة فى ذاته. وأما الحركة على سبيل الاستجالة فإما أن تكون حركة فى كونها نفسا فتكون النفس إذا حركت لا تكون نفسا ، وإما حركة فى عرض من الأعراض لا فى (٨) (٩) كونها نفسا. فأول حين ، (١٠) ذلك أن لا يكون تحركها ، من نحو تحريكها بل تكون ساكنة فى المكان حين تحرك فى المكان.

والثاني أن الاستحالة فى الأعراض غايتها حصول ذلك العرض ، وإذا حصل فقد

__________________

(١) بحسبه : بحبسه م.

(٢) وكان : فكان د ، ك ، م.

(٣) فقد : قد ف.

(٤) فلا تكون ... ذاته : ساقطة من د.

(٥) نفسانية : نفسية د

(٦) واحدة : ساقطة من ف.

(٧) قبل : مثل م.

(٨) الأعراض لا فى : أعراض ف

(٩) لا فى : ساقطة من م

(١٠) حين : ساقطة من ف.

١٦

وقفت الاستحالة. وأيضا فقد تبين لك أن النفس لا ينبغى أن تكون جسما والمحرك الذي يحرك فى المكان بأن يتحرك نحو ما يحرك (١) فهو جسم لا محالة فلو كان (٢) للنفس الحركة والانتقال لكان يجوز أن تفارق بدنا ثم (٣) تعود إليه. وهؤلاء يجعلون مثل النفس مثل الزئبق يجعل فى بعض الأجسام ، فإذا ترجرج تحرك ذلك الجسم ويدفعون أن تكون الحركة حركة اختيارية. (٤)

وأيضا فقد علمت أن القول بالهباء (٥) هذر باطل ، وعلمت أيضا أن القول بوحدة المبدأ الأسطقسى جزاف ، ثم من الملح (٦) ما قالوه من أن الشىء يجب أن يكون مبدأ حتى يعلم ما وراءه. فإنا نعلم وندرك بأنفسنا أشياء لسنا بمبادىء لها. وأما (٧) إثبات (٨) ذلك من طريق من ظن أن المبدأ أحد الأسطقسات ، فهو أنا نعلم أشياء ليست الأسطقسات بوجه من الوجوه مبدأ لها ، ولا هى مبدأ للأسطقسات وهو (٩) أن كل شىء إما أن يكون حاصلا فى الوجود وإما أن لا يكون ، وأن (١٠) الأشياء المساوية لشىء واحد متساوية. فهذه الأشياء لا يجوز أن يقال : إن النار والماء وغير ذلك مبادئ لها فنعلمها بها ، ولا بالعكس.

وأيضا إما أن تكون معرفة النفس بما هى مبدأ له إنما تتناول عن (١١) ذلك المبدأ ، أو تتناول (١٢) الأشياء التي تحدث عن المبدأ وليست هى المبدأ ، أو تكون بكليهما. فإن كانت إنما تتناول المبدأ أو تتناول كليهما ، وكان العالم بالشيء يجب أن يكون مبدأ له فتكون (١٣) النفس أيضا مبدأ للمبدإ (١٤) ومبدأ لذاتها ، لأنها تعلم ذاتها ، وإن كانت (١٥) ليس تعلم المبدأ ، ولكن تعلم الأحوال والتغيرات التي تلحقه. فمن الذي يحكم بأن الماء والنار (١٦) أو أحد هذه (١٧) مبدأ. وأما الذين جعلوا الإدراك بالعددية فقالوا لأن

__________________

(١) ما يحرك : ما يتحرك د ، ك

(٢) فلو كان : ولو كان ف.

(٣) ثم : ساقطة من د.

(٤) اختيارية : اختيار ف ، م.

(٥) بالهباء : بالهيئات د ؛ بالهبا آ ت ف.

(٦) الملح : المحال د ، ف.

(٧) وأما : أمام.

(٨) إثبات : بيان ف.

(٩) وهو : وهى ف.

(١٠) وأن : وأما م.

(١١) عين : غير م.

(١٢) أو تتناول : وتتناول م.

(١٣) فتكون : وتكون د

(١٤) للمبدإ : + وأن تكون النفس أيضا ك ؛ + وأيضا ف ، م

(١٥) كانت : كان د ، ك ...

(١٦) والنار : أو النار ف

(١٧) أو أحد هذه : أو هذه م.

١٧

المبدأ لكل (١) شىء عدد ، بل قالوا ماهية كل شىء عدد ، (٢) وحدّه عدد ، وهؤلاء وإن كنا قد دللنا على بطلان آرائهم (٣) فى المبدأ فى مواضع (٤) أخر ، (٥) وسندل فى صناعة الفلسفة الأولى أيضا على استحالة رأيهم هذا وما أشبهه ، فإن مذاهبهم (٦) هاهنا قد تفسد من حيث النظر الخاص بالنفس ، وذلك بأن ننظر ونتأمل هل النفس إنما تكون نفسا بأنها عدد معين كأربعة أو خمسة ، أو بأنها مثلا زوج أو فرد أو شىء أعم من عدد معين ، فإن كانت النفس إنما هى ما هى بأنها عدد معين ، فما يقولون فى الحيوان المحزز (٧) الذي إذا قطع تحرك كل جزء منه وأحس ، وإذا أحس فلا محالة هناك تخيل ما ، وكذلك كل جزء منه يأخذ فى الهرب إلى جهة وتلك الحركة من (٨) تخيل ما لا محالة. ومعلوم أن الجزءين يتحركان عن قوتين فيهما ، وأن كل واحد منهما أقل من العدد الذي كان فى الجملة ، وإنما كان النفس عندهم العدد الذي فى الجملة لا غير ، فيكون هذان الجزءان يتحركان لا عن نفس وهذا محال ، بل فى كل واحد منهما نفس من نوع نفس الآخر ، فنفس مثل هذا الحيوان واحدة بالفعل ، متكثرة بالقوة تكثرا إلى النفوس (٩) وإنما تفسد فى الحيوان المحزز (١٠) نفساه ولا تفسد فى النبات ، لأن النبات قد شاعت فيه الآلة الأولية لاستبقاء فعل النفس ولا كذلك فى الحيوان المحزز ، (١١) بل بعض بدن الحيوان المحزز (١٢) لا مبدأ فيه لاستبقاء المزاج الملائم للنفس ، وفى بعضه الآخر ذلك المبدأ ، ولكنه يحتاج فى استبقائه ذلك إلى صحبة من القسم الآخر ، فيكون بدنه (١٣) متعلق الأجزاء بعضها ببعض فى التعاون على حفظ المزاج فإن (١٤) لم تكن النفس عددا بعينه ، بل كانت (١٥) عددا له كيفية ما وصورة فيشبه أن تكون فى بدن واحد نفوس (١٦) كثيرة. فإنك تعلم أن فى كثير من الأزواج أزواجا وفى كثير من الأفراد أفرادا ، وفى كثير من المربعات مربعات ، وكذلك سائر الاعتبارات.

__________________

(١) لكل : الكل م (٢) وحده عدد : ساقطة من م.

(٣) آرائهم : رأيهم ف ، م (٤) مواضع : موضع ف ، م

(٥) أخر : آخر ف ، م.

(٦) مذاهبهم : مذهبهم ف ، م.

(٧) المحزز : المجزر ف ؛ المجرد ك.

(٨) من : عن ف ، م.

(٩) النفوس : نفوس م

(١٠) المحزز : المجرد ك.

(١١) المحزز : المجزر ف ؛ المجرد ك.

(١٢) المحزز : المجزر ف ؛ المحر د ك.

(١٣) بدنه : بدله ك

(١٤) فإن : وإن ف.

(١٥) كانت : كان ك.

(١٦) نفوس : نفس م.

١٨

وأيضا فإن الوحدات المجتمعة فى العدد إما أن يكون لها وضع ، أولا يكون لها ، فإن كان (١) لها وضع فهى نقط ، وإن كانت نقطا فإما أن تكون نفسا لأنها عدة تلك النقط أو لا تكون كذلك ، (٢) بل لأنها قوة أو كيفية أو غير ذلك. لكنهم جعلوا الطبيعة النفسية مجرد عددية ، فيكون العدد الموجود للنقط طبيعة النفس ، فيكون كل جسم إذا فرض فيه ذلك العدد من النقط ذا نفس ، وكل جسم لك أن تفرض فيه كم نقطة (٣) شئت ، فيكون كل جسم من شأنه أن يصير ذا نفس بفرض (٤) النقط فيه ، وإن كانت عددا (٥) لا وضع له ، وإنما هى آحاد متفرقة ، فبما ذا تفرقت وليس لها مواد مختلفة ولا قرن بها صفات (٦) وفصول أخرى وإنما تتكثر الأشياء المتشابهة فى المواد المختلفة. فإن كان لها مواد مختلفة فهى ذوات وضع ولها أبدان شتى ثم فى الحالين جميعا كيف ارتبطت هذه الوحدات أو النقط معا ، لأنه إن كان (٧) ارتباطها بعضها ببعض والتئامها للطبيعة الواحدية والنقطية ، فيجب أن تكون الوحدات والنقطات مهرولة إلى الاجتماع من أى موضع كانت ، وإن كان لجامع فيها جمع واحدة (٨) منها إلى الأخرى (٩) وضام ضم (١٠) بعضها إلى بعض حتى ارتبطت وهو يحفظها مرتبطة ، فذلك الشىء أولى أن يكون نفسا.

وأما الذين قالوا إن النفس مركبة من المبادي حتى يصح أن تعرف المبادي وغير المبادي بما فيها منها ، وأنه (١١) إنما يعرف كل شىء بشبهه فيه ، (١٢) فقد يلزمهم أن تكون النفس لا تعرف الأشياء التي تحدث عن المبادي مخالفة لطبيعتها. فإن الاجتماع قد يحدث هيئات فى المبادئ وصورا لا توجد فيها مثل العظيمة واللحمية والإنسانية والفرسية وغير ذلك ، فيجب أن تكون هذه الأشياء مجهولة للنفس ، إذ ليس (١٣) فيها هذه الأشياء ، بل إنما فيها أجزاء المبادي فقط ، فإن جعل فى تأليف النفس إنسانا وفرسا وفيلا ، كما فيه نار وأرض وغلبة ومحبة ، وإن قال إن فيها هذه الأشياء ، (١٤)

__________________

(١) كان : ساقطة من د.

(٢) كذلك : لذلك ف.

(٣) نقطة : نقط د ، م ، ك ، م

(٤) بفرض : ف ، لفرض م.

(٥) كانت عددا : كان عدد د ، ك ، م.

(٦) صفات : + أخر ف.

(٧) لأنه إن كان : أكان د.

(٨) واحدة : واحدا د ، ك ، م.

(٩) الأخرى : الآخر د ك ، م

(١٠) ضم : ساقطة من م.

(١١) وأنه : وأنها ف

(١٢) فيه : فيها ف.

(١٣) ليس : ليست د.

(١٤) وإن ... الأشياء : ساقطة من د ، ف.

١٩

فقد ارتكب العظيم. ثم إن كان فى النفس إنسان ، ففى النفس نفس ، ففيه (١) مرة (٢) أخرى إنسان وفيل ، ويذهب ذلك إلى غير النهاية. وقد يشنع عليه من جهة أخرى (٣) هى أنه يجب على هذا الوضع (٤) أن يكون الله تعالى إما غير عالم بالأشياء وإما مركبا من الأشياء ، وكلاهما (٥) كفر ، ومع ذلك يجب (٦) أن يكون غير عالم بالغلبة ، لأنه لا غلبة فيه. فإن الغلبة توجب التفريق والفساد فيما تكون فيه ، فيكون الله تعالى غير تام العلم بالمبادئ ، وهذا شنيع (٧) وكفر.

ثم يلزم من هذا أن تكون الأرض أيضا عالمة بالأرض ؛ والماء بالماء ، وأن تكون الأرض لا تعلم الماء ، والماء لا يعلم الأرض ، ويكون الحار عالما بالحار (٨) غير عالم بالبارد ، ويجب أن تكون الأعضاء التي فيها أرضية كثيرة شديدة الإحساس بالأرض وليست هى (٩) كذلك ، بل هى غير حساسة لا بالأرض ولا بغيرها ، وذلك كالظفر والعظم. ولأن ينفعل الشىء ويتأثر عن ضده ، أولى من أن يتأثر عن شكله. وأنت تعلم أن الإحساس تأثر ما وانفعال ما ويجب أن لا تكون (١٠) هاهنا قوة واحدة تدرك الأضداد فيكون السواد والبياض ليس يدركان بحاسة واحدة ، بل يدرك البياض بجزء من البصر هو أبيض ، والسواد بجزء منه هو أسود ، ولأن الألوان لها تركيبات بلا نهاية ، فيجب أن يكون قد أعد للبصر (١١) أجزاء بلا نهاية مختلفة الألوان. وإن كان لا حقيقة للوسائط ، وما هو (١٢) إلا مزج الضدين بزيادة ونقصان من غير اختلاف آخر ، فيجب أن يكون مدرك البياض يدرك البياض صرفا ، ومدرك السواد يدرك السواد صرفا ، إذ لا يمكن أن يدرك غيره ، فيجب أن لا تشكل علينا بسائط الممتزج ولا تتخيل إلينا الوسائط التي لا يظهر فيها بياض وسواد بالفعل. وكذلك يجب أن يدرك المثلث بالمثلث ، والمربع بالمربع ، (١٣) والمدور بالمدور ، والأشكال

__________________

(١) ففيه : ففيها ف ؛ قوة م

(٢) مرة : ساقطة من م.

(٣) أخرى هى : ساقطة من ف ، م.

(٤) الوضع : الموضع م.

(٥) وكلاهما : وكلها م

(٦) يجب : فيجب ف.

(٧) شنيع : شنع م.

(٨) بالحار : ساقطة من م.

(٩) هى : ساقطة من ف.

(١٠) لا تكون : تكون د.

(١١) للبصر : البصر م.

(١٢) وما هو : وما هى ف.

(١٣) والمربع بالمربع : ساقطة من د ، ف ، م.

٢٠