أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

الدكتور حازم الحلّي

أثر المحتسب في الدراسات النحويّة

المؤلف:

الدكتور حازم الحلّي


المحقق: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-7100-33-2
الصفحات: ٧٢٠

١
٢

كلمة المكتبة الأدبيّة

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، وبعد ..

جرت الفصاحة والبلاغة على لسان العرب قبل الإسلام على سجيّتهم عفواً من غير تكلّف ، مع احتفاظ قبائلهم بلهجاتها اللغويّة المميّزة بعضها عن بعض ، وكان لقبيلة قريش السهم الأوفر في ذلك مع هيبتها في نفوس العرب وزعامتها ، وصار لقريش موقع الصدارة في كلّ شيء ، وقويت شوكتها أكثر وأكثر بالدين الجديد الذي حاربته ، حيث اختار الله عزّوجلّ خاتم رسله (صلى الله عليه وآله) منهم ، وأوحى إليه الكتاب العزيز بلغتهم ، حتّى آمنوا به بعد لأيٍّ مطيعين وراغمين! ولعلمه تعالى بعتوّ المشركين وجبروتهم ، وخسّة المنافقين وقبيح أفعالهم ، وتحريف جيرانهم من أهل الكتاب توراتهم وإنجيلهم ، وما يفعله مرضى القلوب في نواديهم; تكفّل سبحانه بحفظ كتابه ، وأمر رسوله بتدوينه وتبيينه وترتيله ، وسخّر القلوب لحفظه ، وهدى الناس لتلاوته آناء الليل وأطراف النهار ، وهكذا تهيّأت الأسباب الكفيلة لحفظه وصيانته من عبث تلك الأصناف والزعانف المنتشرة حوله ، فشقّ طريقه إلينا عبر القرون تتناقله الملايين من المسلمين عمّن سبقهم وصولاً إلى عصره الأوّل. وكما وحّد القرآنُ العربَ في غضون مسيرته ، وجذبهم إلى الدين الجديد بسماحته وهديه; وحّد لغتهم كذلك; إذ حثَّهم على تدبّره ، فسعوا إلى تدبّر لغته والتبحّر فيها لأجل فهم مراد الكتاب ومراميه ، فتقلّصت بذلك لهجاتهم شيئاً فشيئاً ثمّ تلاشت تدريجيّاً ، وانحصر ذكرها في معاجم اللغة وقواميسها ، وسادت بفضله لغة قريش فشمخ أهلها من جديد بلهجتهم على سائر العرب. وهكذا كان للقرآن الفضل الأكبر والنصيب الأوفر في تماسك لغة العرب ، والحفاظ عليها ، وتطوير مبانيها على ضوء ما اكتشفه العرب من إيجاز القرآن وإعجازه ، وحلاوة لفظه وصفائه ، وصوره الفنيّة الرائعة ، وبيانه الرشيق الساحر ، وأدبه الجمّ ، ومعناه المفخّم. وكان من المفترض في الرعيل الأوّل أن يحفظوا كيفيّة قراءة النبيّ (صلى الله عليه وآله) للنصّ

٣

القرآني كما سمعوه منه ، إلاّ أنّ سذاجة بعضهم حالت دون ذلك ، فتعدّدت قراءاتهم واختلفوا فيها أيّما اختلاف! وتمّ تداولها في زمن أبي بكر وعمر على أنّها قراءات صحيحة منسوبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)! حتّى إذا ما وصل الأمر إلى عثمان خشي الصحابة وضجّوا من خطورة تلك القراءات التي أخذ بعض أصحابها يكفّر من خالفه ، أو يسخر من قراءته ويستهجنها ، أو يغلّطه عليها ، وينفّر الناس عمّا خالف قراءته كما شهد بذلك حذيفة وغيره من الصحابة الذين أوقفوا عثمانَ على كلّ هذا وطالبوه بأن يجمع الأُمّة على مصحف واحد وقراءة واحدة ، وآزروه على ذلك ، ولم يعترض أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) على ذلك بل أمضاه. وقد تمّ الأمر على ما أرادوا ، وأُحرقت المصاحف القديمة! وأُرسلت نسخ المصحف الموحّد المسمّى بالمصحف الإمام أو المصحف العثماني إلى الأمصار الإسلاميّة. والسؤال هنا هل سلمت المصاحف العثمانيّة من تعدّد القراءات واختلافها؟ لا شكّ أنّ أهل تلك الأمصار كانوا يقرأون القرآن بالقراءات السابقة قبل وصول المصاحف العثمانيّة إليهم بنحو ثلاثين سنة ، ومن الصعب تغيير قناعاتهم وتبديل قراءاتهم الشائعة في زمان أبي بكر وعمر ، وحملهم على قراءة واحدة في زمن عثمان ، خصوصاً وأنّ المصحف الموحّد لم يكن منقّطاً ولا مشكولاً ولم تكن هناك ثمة تسجيلات صوتيّة بقراءة المصاحف العثمانيّة حتّى يجتمعوا عليها ، ممّا أدّى ذلك إلى بقاء مشكلة الاختلاف في القراءة على حالها حتّى اشتدّت حاجتهم إلى إعجام المصاحف ، ولم تقم بهذا العمل لجنة علميّة رسميّة ، بل تُرك الأمر للقادرين عليه في شتّى بلاد الإسلام! ومن هنا زاد اختلافهم في قراءته. لقد أدّت ظاهرة اختلاف القراءات إلى الاختلاف في تفسير الكتاب العزيز ، حيث وصل الأمر بها إلى مستوى التغيير في معنى اللفظ ومؤدّاه ، ونجم عن بعضه اختلافهم في الحكم الشرعي المستنبط من القرآن الكريم على ضوء تلك القراءات كما في آية الوضوء والإيلاء وغيرهما. ومع كلّ هذا الاختلاف والتضادّ في القراءات وُجد من يدّعي تواتر القراءات السبع أو العشر إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)! ولم يلتفت إلى أنّ اختلافها الواصل إلى درجة التباين أحياناً دليل قاطع على

٤

عدم تواترها ، وإلاّ لتناقض التواتر مع نفسه ، ثمّ كيف تكون هذه متواترة ـ كما ذهب إليه العامّة وبعض أصحابنا ـ ونحن نرى ترك البسملة في الصلاة في قراءة أبي عمرو ، وحمزة ، وابن عامر ، وورش عن نافع ، وكلُّهم من القرّاء السبعة ، وخالفهم بذلك ابن كثير ، والكسائي ، وعاصم ، وقالون عن نافع ، وهؤلاء كلّهم من السبعة أيضاً ، والإجماع قائم على بطلان من ترك البسملة في صلاته. وهناك جملة من الدراسات العلميّة الرصينة أثبتت عدم تواتر القراءات السبع أو العشر وغيرها إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل عدم تواترها إلينا عن القرّاء السبعة أنفسهم ، إذ نقلها عنهم نفرٌ يسير من تلامذتهم لا يتحقّق التواتر بنقلهم ، ثمّ شاعت وانتشرت بعد ذلك. وقد روى العامّة أخباراً نسبوها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف واف» وزعموا تواترها عنه (صلى الله عليه وآله) ، واختلفوا في معناها على أربعين قولاً لا حاجة لنا فيها ، ومن بينها الحمل على القراءات السبع ، وهو حملٌ باطل جزماً; لأنّ أوّل من جمع القراءات السبع هو ابن مجاهد (ت / ٣٢٤ هـ) في كتابه (قراءة السبعة) وما بين نزول القرآن وابن مجاهد أكثر من ثلاثة قرون ، ولم يوحِ الله عزّوجلّ إلى ابن مجاهد بانتقاء تلك القراءات السبع من بين أكثر من مئة قراءة في زمانه ، ولهذا انتقده علماء العامّة كثيراً ، إذ صار عمله هذا مدعاة لاشتباه الناس بأنّ المقصود بالأحرف السبعة هو تلك القراءات السبع. نعم القراءات السبع هي من جملة القراءات المعتدّ بها في الجملة وإن اشتمل بعضها على الشواذ ، وأمّا أخبار الأحرف السبعة فهي أخبار مكذوبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكأنّ هدفها تمرير خطأ الرعيل الأوّل في تلفّظ كلمات الله عزّوجلّ في كتابه المبجّل ، وقد حكم أهل البيت (عليهم السلام) بكذب تلك الأخبار صراحة. ففي خبر زرارة في الكافي الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إنّ القرآن واحد نزل من عند الواحد ، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة» ، وفيه في الصحيح عن فضيل بن يسار الثقة ، قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّ الناس يقولون : نزل القرآن على سبعة أحرف؟ فقال : كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد». والذي يهوّن الخطب هو أنّ أكثر ألفاظ القرآن الكريم متّفقٌ عليها بين القراء

٥

المشهورين وليس مورداً لاختلافهم ، وأمّا ما اختلفوا فيه فهو أقلّ ممّا اتّفقوا عليه ، وهو لا يرجع إلى اختلاف في الكتاب العزيز من جهة النزول ، بل يرجع إلى مسائل لغويّة ونحويّة وصرفيّة ، واجتهادات خاصّة بالقرّاء ، كما يرجع بعضه إلى موروث قراءاتي فيه الغثّ والسمين ، ومن هنا لم تسلم القراءات المشهورة من الشواذ التي أُبعدت ـ بحمد الله ـ عن المصاحف المطبوعة. ومهما يكن فإنّ اختلاف القراءات لا يمسّ قداسة القرآن الكريم ولا تواتره; لأنّ الاختلاف في قراءة الكلمة القرآنيّة لا ينافي الاتّفاق على أصلها ما دام باقياً بهيئته ومادّته. نعم لو طالت القراءة إلى هيئة الكلمة ومادّتها وغيّرت من صورتها ، فلا عبرة حينئذ بها; لأنّها ستكون من التحريف لا من القراءة التي تمثّل في جميع حالاتها خصوصيّة القارئ في كيفيّة النطق بالكلمة القرآنيّة ، وطريقته في ضبطها ، وأدائها صوتيّاً ، وما يرافق ذلك من حركة أو سكون أو تخفيف أو تشديد أو مدّ أو إدغام أو إمالة ونحو ذلك. وهذه الأُمور المكتوبة والمُعَلَّمَة في مصاحفنا اليوم لم تكن ـ كما نبّهنا عليه ـ موجودة آنذاك ، بل كانت مصاحفهم خالية منها وبلا إعجام ، ولهذا اختلفوا فيها. ومع هذا فإنّ القراءات المشهورة في زمان أهل البيت (عليهم السلام) مجزية بحمد الله ، لا من جهة تواترها ، بل من جهة رخصة أهل البيت (عليهم السلام) ، حيث أجازوا القراءة بها وكرهوا تجريد قراءة بعينها ، ففي الكافي الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد سمع رجلاً يقرأ القرآن على غير ما يقرأه الناس ، فقال له (عليه السلام) : «كُفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم» وفيه أيضاً عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) قال في جواب من سأله عن القراءات القرآنيّة في زمانه : «اقرأوا كما علمتم ، فسيجيء من يُعَلِّمُكم». والقراءات السبع المعروفة عاش أصحابها كلّهم في القرن الثاني الهجري ، لأنّ أوّلها لابن عامر (ت / ١١٨ هـ) ، وآخرها للكسائي (ت / ١٨٩ هـ) ممّا يعني هذا معاصرتهم للإمام الصادق والكاظم (عليهما السلام) فتكون قراءاتهم من أظهر المصاديق المشمولة بتلك الرخصة. وأجود تلك القراءات هي قراءة عاصم بن أبي النجود من رواية أبي بكر بن عيّاش ورواية أبي عمرو بن العلاء ، إذ خلت من التكلّف في المدّ والإدغام

٦

والإمالة الموجود في غيرها ، كما نبّه على ذلك العلاّمة الحلّي في المنتهى ، ومصاحف المسلمين اليوم هي بقراءة عاصم ، وهي القراءة المنسوبة إلى الإمام عليّ (عليه السلام).

والحقّ أنّ القراءات القرآنيّة الصحيحة والمشهورة والشاذّة أيضاً قد فتحت آفاقاً رحبة واسعة للدرس اللغوي ، لما فيها من محاسن علوم اللغة العربيّة وآدابها نحواً وصرفاً ونثراً وشعراً ، وتجلية غوامضها بصورة لا تكاد تجتمع في كتاب إلاّ في كتب الاحتجاج لتلك القراءات ، ويأتي كتاب المُحْتَسَب لابن جنّي في طليعتها ، فقد صنّفه ابن جنّي (ت / ٣٩٢ هـ) في أواخر حياته ، وغرضه منه الاحتجاج للقراءات الشاذّة ، ويقصد بالشاذّ ما سوى القراءات السبع وإن كان صحيحاً أو مشهوراً ، ونهج فيه على غرار احتجاج شيخه أبي عليّ الفارسي (ت / ٣٧٧ هـ) للقراءات السبع في كتابه (الحجّة في علل القراءات السبع) ، وكان ابن جنّي في المُحْتَسَب كما يصفه تلميذه الشريف الرضي (ت / ٤٠٦ هـ) في حقائق التأويل بأنّه : «يعلو بالتغلغل في استنباط المعاني ، والتولّج في غامضاتها ، والغوص في قراراتها» ، وهو كما يقول الرضيّ أيضاً : «وهو في هذا العلم ـ يعني علم القراءات ـ السابق المسوم ، والأوّل المقوم ، والبحر الجموم ، والدليل المأموم» ، والحقّ مع الشريف الرضيّ كما يبدو جليّاً من كتاب المُحْتَسَب الذي هو كنزٌ في النحو والصرف والبلاغة والأدب والشواهد الشعريّة ، بل مأثرةٌ من مآثر الشيعة في القرن الرابع الهجري كما بيّنته هذه الدراسة الفريدة بأحسن صورة. وإذ يسرّ المكتبة الأدبيّة أن تتقدّم بشكرها الجزيل للاُستاذ الدكتور حازم الحلّي على ما بذله من جهود مضنية بهذا الكتاب ; تتقدّم أيضاً بشكرها الجزيل للدكتور السيّد ثامر العميدي على ما بذله من جهد واسع في الإشراف على طباعة هذا الكتاب وتصحيحه وفهرسته.

والحمد لله أوّلاً وآخراً عليه توكّلنا وهو أرحم الراحمين.

المكتبة الأدبيّة

٧

شكر

عندما يُنشرُ كتابٌ في بلد ما ويكونُ المؤلِّفُ أو الُمحَقِّقُ أو المُشرِفُ على نشرِهِ في بلد آخر ، وتحصل أَثناءَ الطبعِ أمورٌ تحتاجُ إلى النَّظرِ فيها ، ومعالجتِها ، فإذا لم تُعالجْ ستبقى عالقةً بالكتاب ، ويخرجُ وهي ملازمةٌ له ، كما حَصَلَ ذلكَ لكثير من الكتب. غير أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتَعالى قَيَّضَ لهذا الكتابِ المبارك (أَثر المحتسب) رَجُلاً عَالِماً مُحَقّقاً ـ تابعَ مُتَبَرِّعاً ـ نَشرَهُ وَوَاكَبَ مَرَاحِلَ طبعِهِ وهو الأستاذ الدكتور السيد ثامر العميدي الذي أَشرَفَ على طبع الكتاب وعَالَجَ مَا حَصَلَ فِيهِ وقرأهُ بعد عمل الطبّاعين قراءةَ العَالِمِ الُمحَقِّقِ المُدَقِّقِ الحريصِ على تنزيهِ الكتابِ من الهِنَاتِ التي تلحق بِهِ ، أثناءَ الطِّباعةِ ، وللأمانةِ أقولُ أنَّهُ ما كان لِيَبِتُّ في قضيَّة قبلَ أنْ يكتبَ إليَّ عنها ، ويعرِضَها عليَّ ، ونتداولَ فيها ونخرجَ على رأيّ جميع.

ومعلومٌ أنَّ الكتاب فيه قراءات وروايات وأحاديث ولغة ونحو ورجال ، وكلّها تحتاج إلى دقّة متناهية ، وحَذَر وَوَعْي ، وأمانَة.

وقد أخذتْ متابعةُ طِبَاعَةِ الكتَابِ منهُ وقتاً طويلاً وَسَهَراً ، وبَذْلَ متاعبَ لا يعرفُها غير من عانى من التأليف والنشر والطباعة ، وحَاوَلَ بِرَغْبَةِ الحَريص أَنْ يَخرُجَ الكتابُ كما أرادَهُ المؤلِّفُ ، وقريباً منَ الكمالِ ، فَلَهُ منّي الشكر على جهودِهِ التي بَذَلَها ، وجزاهُ اللهُ كلَّ خير على حُسْنِ صَنيعِهِ ، وأخذ اللهُ بيدِهِ نحو مدارج العزّ ، وَوَفَّقَهُ لتقديم المزيدِ من عطائِهِ العلمي.

ولا يفوتني هنا أنْ أُنَوِّهَ بكرمِ السيد الجواد الشهرستاني الذي تبنّى نَشْرَ الكتابِ في مؤسَّسةِ آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث فله الشكر ، وجزاه الله كلّ خير.

الدكتور حازم الحلّي

ألمانيا / ١٤٣٤ هـ ـ ٢٠١٣ م

٨

المقدمة

في مدينة الموصل في العراق وُلِدَ أَبو الفتح عثمان بن جنّي حوالي سنة (٣٢٠ هـ) من أَبوين روميين ، وفيها نشأ ومن شيوخها اكتسب علومه ثمّ تصدّى للتدريس في مسجدها.

وفي عام (٣٣٧ هـ) قَدِمَ الموصلَ أَبو علي الفارسي (ت / ٣٧٧ هـ) فوقف على حلقة درسه وناقشه في مسألة صرفية ، فقصّر أبو الفتح ابن جنِّي في الجواب ، فقال له أبو علي الفارسي : زبَّبتَ قبلَ أنْ تُحصرِمَ.

كان ذلك اللقاء والحوار بينهما سبباً للصلة التي عقدها أَبو الفتح مع أَبي علي فاكتسب منه علماً جمًّا ولازَمَه أربعينَ سنةً لم يفترقا إلاّ بموت أَبي علي عام (٣٧٧ هـ) فَحلّ التلميذ مكان شيخه في مجلس الدرس في بغداد.

وتشهد آثار أبي الفتح بن جنِّي على سَعَة باعه وعلوِّ كعبهِ في اللغة والنحو والصرف والأدب والقراءات القرآنية.

فقد كان أَحدَ نوابغِ العراقِ في القرن الرابعِ الهجريِ. جمعَ بينَ العلمِ والأدبِ من غير أنْ يجورَ أَحدَهُما على الآخر.

فالمتصفّح لآثارِهِ يجده عالماً عميقَ الثقافةِ واسعَ الاطلاع جمَّ المعرفة وقد اكتسبَ ذلك من مصاحبته جملةً من العلماءِ فانتفعَ بهم ، فقد قرأَ على أبي بكر محمّد بن الحسن بن يعقوب بن مُقَسِّم (ت / ٣٥٤ هـ) ، كما قرأَ على

٩

أبي الفرجِ الأَصبهاني (ت / ٣٥٦ هـ) صاحب كتاب الأَغاني ، والتقى بأبي الطيب المتنبّي (ت / ٣٥٤ هـ) شاعر العربية الكبير فتصاحبا دهراً طويلا وكان كلٌّ منهما معجباً بالآخر.

فالمتنبّي يقول إذا رأى أَبا الفتح بن جنِّي : هذا رجلٌ لا يعرفُ قدرَهُ كثيرٌ من الناسِ ، ويقولُ : ابنُ جنّي أَعرفُ بشعري مِنّي. وإذا سُئِلَ عن شيء في شعره يقول : سلوا صاحبنا ابنَ جِنِّي.

وكانَ ابنُ جنِّي معجباً بالمتنبّي يذكرُهُ في كتبهِ ويُثني عليه ويسمّيه شاعرنا ، لكن العلم الغزير الذي أخذَه أَبو الفتحَ كانَ عن شيخه أبي علي الفارسي وكان يكثر من الاستشهاد به في مصنّفاتِهِ.

كانت منزلةُ أَبي الفتح من أَبي علي الفارسي منزلةَ سيبويه (ت / ١٨٠ هـ) من الخليل (ت / ١٧٥ هـ).

وكما كان سيبويه صادقاً وأميناً فيما نَقَلَ عن الخليل فقد كان ابنُ جِنِّي صادقاً وأَميناً فيما نَقَلَ عن شيخِهِ أَبي علي الفارسي ، وقد اتَّبَعَ ابنُ جِنِّي في بعضِ مصنّفاتِهِ خُطَى أُستاذِه أبي علي ، فبعد أنْ ألَّفَ أحمدُ بن موسى بنُ مجاهد (ت / ٣٢٤ هـ) كتاب (السبعة) الذي جمع فيه قراءة القرّاء السبعة ، ألّف أبو بكر ابنُ السّرَّاج (ت / ٣١٦ هـ) كتاباً يحتجُّ فيه للقراءات السبع التي جمعها ابن مجاهد (ت / ٣٢٤ هـ) فأنجزَ ما في سورة الفاتحة وبعض سورة البقرة ثمّ أَدركتْهُ المنيةُ دونَ قَصْدِهِ ، فَتصدَّى تلميذُهُ أَبو علي الفارسي (ت / ٣٧٧ هـ) لإِكمال العمل ، فأَ لّف كتابَ (الحُجَّة) يحتجُّ فيه لقراءة القرَّاءِ السَّبعَةِ التي جمعها ابنُ مجاهد (ت / ٣٢٤ هـ) ، ثمّ همَّ أنْ يضعَ يدَهُ في كتاب يحتجُّ فيه للقراءات الشاذَّة فاعترضتِ المنيةُ طريقَهُ وتُوفي ولم يُحقّقْ ذلك.

١٠

فانبرى تلميذُهُ أبوالفتح عثمان بنُ جِنّي (ت / ٣٩٢ هـ) وحقَّقَ رغبةَ شيخهِ ، فأَ لَّفَ في آخر حياته كتابَ (الُمحتَسَب) محتجًّا فيه للقراءات الشاذَّة ، وقالَ في مقدّمته : (وأنا بإِذْنِ اللهِ بادئ بكتاب أذكر فيه أَحوالَ ما شذَّ عن السبعةِ وقائلٌ في معناه ممّا يَمُنُّ بهِ اللهُ عزَّ اسمُه).

والمحتَسَبُ واحدٌ من الكتب التي تركها لنا أبو الفتح عثمان بن جِنِّي فقد ترك لنا كتباً مهمَّةً ذكرها من ترجم له جاوز عددها الستين كتاباً بعضها مطبوع وبعضها ما يزال مخطوطاً وبعضُها الآخر مفقود.

ومن المطبوع : الخصائصُ وسرُّ صناعة الإِعراب والمنصف واللُّمَعُ والفسْرُ والتَّـمَـامُ والفتح الوهبي والمبهج وغيرُهَا.

لقد باركَ اللهُ في عمر ابن جِنِّي حتّى قاربَ السَّبعينَ وَبارَكَ في مؤلّفاته حتّى قاربتِ السَّبعينَ.

وفي آخر حياتِهِ ألَّفَ الُمحتَسَب وأرادَ أنّ يَحْتَسِبَه عندَ اللهِ.

قال الشريف الرضي (ت / ٤٠٦ هـ) : كان شيخُنا أبو الفتح النحوي عمل في آخر عمره كتاباً يشتمِلُ على الاحتجاج لقراءة الشواذ.

ولم يَخرُجْ أبو الفتح في نهجه في الُمحتَسَب عن نهج شيخه أَبي علي الفارسي في الحُجَّة إلاّ بمقدار ما يقتضي الاختلاف بين القراءة السَّبعِيَّةِ والقراءةِ الشاذّةِ فهو يعرِضُ القراءةَ ويذكرُ من قرأَ بها ثُمَّ يبحثُ لها عن قاعدة نحويّة يخرّجُها عليها أو شاهد فيرويهِ أو لهجة فيردّها إليها أو يذهب إلى التأويل والتوجيه حتَّى يوحي إليك أنَّ القراءةَ الشاذّةَ مُقَدّمةُ على القراءة السَّبعيَّةِ.

ويملك أبو الفتح ثروةً هائلةً من الشواهد ولذلك فهي تنهال عليه انهيالا

١١

وأكثرها من الشّعر وقليل من الحديث النبوي الشريف وهو ينسِبُ بعضَ الشِّعر إِلى أصحابه ولا يَنسِبُ بعضَه الآخر.

لقد اغترفَ ابن جِنّي في الُمحتَسَب من جملة صالحة من المصادر وذكر في مقدّمته أنّه انتفعَ من كتاب محمّد بن المُستنير قطرب (ت / ٢٠٦ هـ) ويريد به معاني القرآن كما ذكر أنّه أخذ من معاني القرآن للفرّاء (ت / ٢٠٧ هـ) ومن كتاب أبي حاتِم سهل بن محمد بن عثمان السجستانيّ (ت / ٢٥٥ هـ) كما انتفعَ بكتاب معاني القرآن وإعرابه للزّجَّاج (ت / ٣١١ هـ) وبكتاب أَحمد بن موسى بن مُجاهد الذي يذكر فيه القراءات الشاذَّة.

كما رجع إلى عدد من علماء اللغَة فأخذ عنهم كالخليل (ت / ١٧٥ هـ) وسيبويه (ت / ١٨٠ هـ) ويُونُس بن حبيب البصريّ (ت / ١٨٣ هـ) وأَبي جعفر الرُّؤاسي (ت / ١٨٧ هـ) والكِسائي (ت / ١٨٩ هـ) والأَصمعيّ (ت / ٢١٦ هـ) وأبي عُثمانَ أبي بكر بن محمّد المازنيّ (ت / ٢٤٧ هـ) ومحمّد بن يزيد المبرِّد (ت / ٢٨٥ هـ) وأبي العبَّاس ثعلب (ت / ٢٩١ هـ) وأبي بكر بن السراج (ت / ٣١٦ هـ) ومحمّد بن الحسن بن دُرَيد (ت / ٣٢١ هـ) وغيرهم وفي مقدّمتِهم شيخُه أَبو علي الفارسيّ (ت / ٣٧٧ هـ) الذي نَقَلَ عنه الكثيرَ.

والذي وثَّق العلاقة بيني وبين فخر علماء اللغة العربيَّةِ في القرن الرابع الهجري أبي الفتح عثمان بن جنِّي عِلمُهُ الغزيرُ الذي اطَّلعتُ عليهِ في آثارِهِ وعلى وجهِ الخصوص ما اشتمل عليه كتابه الخصائص وكتاب سرّ صناعة الإعراب ، ووجدتُهُ في المحتسب قد حشدَ طاقةً علميَّةً كبيرةً لغويَّةً ونحويَّةً وصرفيَّةً ، وأثرى الحديث في القراءات القرآنيِّة ، فَخَصَصْتُهُ بهذه الدراسة ، وأسميتُ الكتاب (أثر المحتسب في الدراسات النحويَّة).

١٢

وقع الكتاب في مقدّمة هي التي بين يديك عزيزي القارئ وتمهيد واثني عشر باباً وخاتمة ، واشتمل التمهيد على نشأة القراءات والاحتجاج لها ومن أَلَّفَ فيها إِلى عهد أَبي الفتح بن جنِّي واختلاف القراءات وأَسباب الاختلاف وفي التمهيد شيء عن ابن مجاهد (ت / ٣٢٤ هـ) والقرّاء السبعة وعن اختياره القراءات وذكر القرّاء السبعة والعشرة والأربعة عشر وسبب اختيار ابن مجاهد للقرّاء السبعة وفي التمهيد شيء عن القراءة الشاذّة وغير الشاذّة ومعنى الشذوذ في القراءات وموقف الفقهاء من القراءات الشاذّة وموقف اللغة من القراءات الشاذّة وموقف النحاة منها وفي التمهيد أيضاً حديث موجز عن أبي علي الفارسي وعن تلميذه ابن جنِّي مُؤَلّفِ المحتسب وعن أثر أبي علي الفارسي في ابن جنِّي وموقف ابن جنِّي من ابن مجاهد وأسباب تأثير أبي علي الفارسي في ابن جنِّي ومقارنة بين الحُجَّةِ والُمحتَسَب في المنهج وأنَّ الُمحتَسَبَ كالحُجَّةِ من ذخائر النحو والصرف واللغة وتداخل المسائل في الُمحتَسَب لتعدُّدِ مصادرها في القرآن.

واشتملَ الباب الأوّل على الأسماء الستة والمثنى والجمع السالم والتنوين ، والباب الثاني اشتمل على النكرة والمعرفة والفرق بينهما ، واشتمل الباب الثالث على المبتدأ والخبر ونواسخهما ، واشتمل الباب الرابع على الفاعل ونائبه ، بينما اشتمل الباب الخامس على المنصوبات كالمفعول به وباب التنازع وباب الاشتغال وظرفي الزمان والمكان والحال والتمييز ، وفي الباب السادس ذكرت المجرورات ، وفي الباب السابع المصدر والمشتقّات وإعمالها وبناؤها وأحكامها ، وفي الباب الثامن نِعْمَ وبئْسَ ، وفي الباب التاسع التوابع ثمّ المنادى والندبة والترخيم ، وفي الباب العاشر

١٣

أسماء الأفعال والأصوات والعدد والحكاية وجمع التكسير والنسب ، وفي الباب الحادي عشر عوامل الفعل المضارع من نواصب وجوازم ونون التوكيد والفعل المعتلّ ، وفي الباب الثاني عشر القَسَم والاستفهام وبعض الحروف واشتملتِ الخاتمةُ على أَهمّ النتائج.

وكان لأستاذي العلاّمة علي النجدي ناصف ، طَيَّبَ اللهُ ثراه دور في توثيق العلاقة بيني وبين ابن جنِّي ، عندما أشار عليَّ بدراسة كتاب المحتسب فجزاه الله عنِّي وعن العلم خيراً وتغمّدَهُ في واسع رحمتِهِ.

وعن طريق المحتسب توثّقت علاقتي أيضاً بالقراءات القرآنية وإذ أضع هذا الكتاب بين أيدي القرّاء أرجو أن أكونَ قد قَدَّمتُ شيئاً أخدم فيه لُغةَ القرآنِ الكريم واللهُ مِن وراءِ القَصدِ.

الدكتور حازم سليمان الحلي

العراق / الحلّة

في ٢٣ / شهر رمضان المبارك / ١٤٣١ هـ

٢ / ٩ / ٢٠١٠ م

١٤

التمهيد

نشأة الاحتجاج للقراءات وتطوره

بدأَ الاحتجاج للقراءات في أَولِ أمره على صورة تخريجات لبعض القراءات والاحتكام فيها إِلى اللغة وحمل قراءة على قراءة.

فقد رُوي أَنَّ عمر بن الخطاب (ت / ٢٣ هـ) قرأ : (وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) (١) بفتحِ الرّاءِ. وقرأَ بعض من عنده من الصحابة : (ضَيِّقاً حَرِجاً) (٢) بكَسْرِ الرَّاءِ.

فقال عمر : أبغوني رجلا من كنانة واجعلوه (٣) راعياً ولْيَكنْ مُدلجيًّا (٤).

فَأتَوهُ بهِ فقالَ عمر : يا فتى ما الحَرَجَةُ؟ قال : الحَرَجَةُ فينا الشَجَرةُ تكونُ بينَ الأشجار ، لا تصل إِليها راعيةٌ ولا وحشيةٌ ولا شيء.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٥.

(٢) قرأ نافع وأبو بكر حَرِجاً بالكسر وباقي السبعة بالفتح.

انظر : التيسير : ١٠٦ والكشف عن وجوه القراءات : ١ / ٤٥٠ والجامع لأحكام القرآن : ٧ / ١٨ والبحر المحيط : ٤ / ٢١٨.

(٣) أي التسموه وليكنْ راعياً.

(٤) قبيلة من بني مرّة بن كنانة هم القافة المشهورون ، وأرض مرعاهم كثيرة الشجر.

١٥

فقال عمر : كذلك قلبُ المنافِقِ لا يَصلُ إِليه شيء من الخير (١).

وَرُوي عن ابن عباس (ت / ٦٨ هـ) أَنَّه قرأَ (نُنْشِرُهَا) (٢) بالنون المضمومة والراء من قوله تعالى : (وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا) (٣) ، واحتجَّ بقولِهِ تعالى : (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أنْشَرَهُ) (٤).

وَنَجد سيبويه (ت / ١٨٠ هـ) يحتج لبعض القراءاتِ وَيُفْضِّلُ بعضَها على بعض أحياناً. قال في الكتاب : وزَعَمُوا أَنَّ في قراءة ابن مسعود (ت / ٣٢ هـ) : (وأَنزَلَ المَلاَئِكَةَ تَنْزِيَلا) (٥) لأَنَّ معنى أنزل ونزَّلَ واحد ، وَقَالَ القطامي :

وَخَيْرُ الأَمـرِ ما استقبلْتَ مِنهُ

وَلَيْسَ بِأَنْ تَتّبِعَهُ اتّباعـا (٦)

لأَنَّ تَتَبَّعْتَ واتَّبَعْتَ واحدٌ (٧).

ومضى الاحتجاج على هذه الصورة الغضَّةِ حيناً ثُمَّ قوى واشتدَّ وأُ لِّفَتْ

__________________

(١) أُنظر : الكشف عن علل القراءات : ١ / ٤٥٠ وجامع البيان : ٢ / ١٠٤ والبحر المحيط :

٤ / ٢١٨.

(٢) انظر : معاني القرآن للفرّاء : ١ / ١٧٣ وجامع البيان : ٥ / ٤٧٩ غير أنّ الذي في الجامع لأَحكام القرآن : ٣ / ٢٩٥ والبحر المحيط : ٢ / ٢٩٣ أنَّ ابنَ عباس قرأ بالنون المفتوحة والراء في حين نُسِبَتْ هذه القراءة إلى الحسن. لسان العرب : ٧ / ٦١ وتاج العروس : ٣ / ٥٦٥ وإتحاف فضلاء البشر : ٦٨ وقال ابن خالويه في مختصر شواذّ القرآن : ١٦ ، (إنَّها قراءة أبان عن عاصم). وقال عنها الطبري في جامع البيان : ٥ / ٤٧٩ (غير جائزة عندي لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح الفصيح).

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٩.

(٤) سورة عبس : ٨٠ / ٢٢.

(٥) من قوله تعالى من سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٥ : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلا).

(٦) انظر : الديوان : ٤٠.

(٧) الكتاب : ٢ / ٢٤٤.

١٦

فِيهِ كتبٌ اعتمدَتْ في الاحتجاجِ مؤلّفات جَمَعتِ القراءاتِ منها كتاب القراءة ليحيى بن يَعْمَر (١) (ت / ٨٩ هـ) (٢) وتوالتِ المؤلّفاتُ ، ففي القرن الثاني أُ لّفَ عددٌ من الكتب من هذا النوع ، منها كتب أبان بن تغلب (٣) (ت / ١٤١ هـ) (٤) ومقاتل بن سليمان (٥) (ت / ١٥٠ هـ) (٦) وهارون الأَعور (٧) (ت / ١٧٠ هـ) الذي قال عنه أبو حاتِم السجستاني (٨) (ت / ٢٥٥ هـ) : إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سمعَ بالبصرةِ وجوهَ القراءاتِ وأَلفها وتتبّع الشاذّ منها فبحث عن إسناده (٩).

__________________

(١) هو أبو سليمان يحيى بن يَعْمَر العدواني البصري عرض على ابن عمر وابن عبّاس وأبي الأسود الدؤلي وعرض عليه أَبو عمرو بن العلاء توفي (سنة / ٨٣ هـ) وقيل : (٨٩ هـ) وقيل : (١٢٩ هـ). اُنظر : غاية النهاية : ٢ / ٣٨١ وبغية الوعاة : ٤١٧ ونور القبس : ٢١.

(٢) المحكم : ٦ وتاريخ التراث العربي : ١ / ١٤٦ ومقدّمتان في علوم القرآن : ٢٧٦.

(٣) هو أبان بن تغلب الربعي الكوفي النَّحوي قرأ على عاصم ، له كتاب معاني القرآن وكتاب القراءات. اُنظر : الفهرست : ٢٢٠ وغاية النهاية : ١ / ٤.

(٤) الفهرست : ٢٢٠.

(٥) هو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني.

اُنظر : الأشباه والنظائر في القرآن الكريم : ٥ وتهذيب التهذيب : ١٠ / ٢٧٩.

(٦) الفهرست : ٣٧ ، ١٧٩.

(٧) هو هارون بن موسى الأَعور العتكي الأَزدي مولاهم أحد القرّاء بالبصرة قال ابن الجزري : توفّي قبل المئتين ، وقال السيوطي : توفّي بحدود (سنة / ١٧٠ هـ).

اُنظر : غاية النهاية : ٢ / ٣٤٨ وبغية الوعاة : ٤٠٦.

(٨) هو سهل بن محمّد بن عثمان أَبو حاتِم السَّجستاني إمام البصريين في النحو والقراءة واللغة والعروض. اُنظر : طبقات النحويين : ٩٤ ومراتب النحويين : ١٣٠ وغاية النهاية : ١ / ٣٢٠.

(٩) اُنظر : غاية النهاية : ٢ / ٣٤٨.

١٧

وتطوَّرَ الاحتجاجُ للقراءات في القرن الثالث (١) وَكَثَرَتِ المؤلّفاتُ فيه ، ويُعدُّ أبو عبيد القاسم بن سلاّم (٢) (ت / ٢٢٤ هـ) أَوَّلَ إِمام مُعتبر جمع القراءات وقد جعلها خمساً وعشرين قراءة (٣).

ويرى ابن الجزري (٤) (ت / ٨٣٣ هـ) أَنَّ أَبا حاتِم السَّجستاني (ت / ٢٥٥ هـ) أَوَّلَ من صنّفَ في القراءات (٥) ، لكنْ يرى بعضُ الباحثين المعاصرين أنَّ هارونَ (ت / ١٧٠ هـ) يُعَدُّ الخطوة الأُولى في تأْ لِيف القراءاتِ والاحتجاج لها (٦).

ونرى أَنَّ يحيى بن يَعْمَر (ت / ٨٩ هـ) وعيسى بن عُمر (٧) (ت / ١٤٩ هـ) قد أَلّفا في القراءات (٨) وهما أقدمُ من هارون الأَعور.

__________________

(١) رصد بعضُ الباحثين الكتب التي أُ لّفت في هذا المجال.

انظر : مثلاً قراءة ابن كثير وأثرها في الدراسات النحوية : ٦٠ وما بعدها.

(٢) هو أبو عبيد القاسم بن سلاّم الخراساني أحد أعلام المجتهدين وصاحب التصانيف في القراءات والفقه والشعر. انظر : مراتب النحويين : ٤٨ وطبقات النحويين : ١٩٩ ونزهة الالباء : ١٠٩ وغاية النهاية : ٢ / ١٨.

(٣) النشر : ١ / ٣٣ وكشف الظنون : ٢ / ١٧٣٠.

(٤) هو محمّد بن محمّد بن محمّد بن علي ابن الجزري ولد (سنة / ٧٥١ هـ) في دمشق ومن أشهر مؤلّفاتِه النشر في القراءات العشر وغاية النهاية في طبقات القرّاء ومنجد المقرئين وغيرها. انظر : غاية النهاية : ٢ / ٢٤٧.

(٥) غاية النهاية : ١ / ٣٢٠.

(٦) أبو علي الفارسي : ١٥٥.

(٧) هو عيسى بن عمر الثقفي مولاهم من أعلام نحاة البصرة أَلّف كتباً كثيرةً منها الإكمال والجامع. انظر : مراتب النحويين : ٤٣ وطبقات النحويين : ٤٠ وغاية النهاية : ١ / ٦١٣.

(٨) تاريخ التراث العربي : ١ / ١٤٨.

١٨

وقد أُ لِّفَتْ كتب عديدة باسم (معاني القرآن) لعدد من اللغويين والنحاة والقرّاء.

ومن أَقدم مَنْ أَلّف في ذلك ، على ما نعلم ، أَبو جعفر الرؤاسي (١) وزَعَمَ صاحب إنباه الرواة (٢) أنَّ أوّل من صنّفَ في ذلك من أَهل اللغة أَبو عبيدة مَعْمَر ابن المثنى (٣) (ت / ٢١٠ هـ) ، وردَّدَ هذا الزَّعْمَ محقِّقاً كتاب معاني القرآن للفرّاء (٤) غير أَنَّ أَبا عبيدةَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في غريب القرآن (٥) ، ومع ذلك فإنَّ الرؤاسي أسبقُ منه (٦).

ومِمَّن ألّف في (معاني القرآن) قُطرُب (٧) (ت / ٢٠٦ هـ) والفرّاء (٨)

__________________

(١) هو أبو جعفر محمّد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي النحوي شيخ الكسائي والفرّاء وفي نزهة الألباء وبغية الوعاة ما يشير إلى أنَّهُ أَلَّفَ في معاني القرآن. مراتب النحويين : ٤٨ ونزهة الألباء : ٥٠ وبغية الوعاة : ٣٣.

(٢) إنباه الرواة : ٣ / ١٤.

(٣) هو أَبو عبيدة مَعْمَرُ بنُ المُثنَّى اللغوي البصري مولى بني تميم أَخذ عن يُونُسَ وأَبي عمرو وأَخذ عنه أَبو عبيد وأَبو حاتِم والمازني مات (سنة / ٢١٠ هـ). طبقات النحويين : ١٧٥ وإنباه الرواة : ٣ / ٣٨ وبغية الوعاة : ٣٩٥.

(٤) معاني القرآن للفرّاء : ١ / ١٢ المقدّمة.

(٥) القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحويَّة : ٢٥٠.

(٦) لأنَّ الرؤاسي شيخُ الكسائي كما في نزهة الألباء : ٥٠ والكسائي كما في بغية الوعاة : ٣٣٧ وأَبو عبيدة توفي (سنة / ٢١٠ هـ) كما في بغية الوعاة : ٣٩٥ مِمَّا يؤكِّدُ تقدُّمَ الرؤاسي على أبي عبيدة.

(٧) هو أَبو علي محمّد بن المستنير النحوي صاحب سيبويه وهو الذي لقَّبَهُ بقُطرُب.

انظر : طبقات النحويين : ٩٩ وطبقات النحاة : ٢٩٩.

(٨) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء الديلمي كان أَعلم أهل الكوفة في النحو بعد الكسائي توفي (سنة / ٢٠٧ هـ). مراتب النحويين : ١٣٩ وطبقات النحويين : ١٣١ وبغية الوعاة : ٤١١ واقرأ عنه كتاب (أبو زكريا الفرّاء).

١٩

(ت / ٢٠٧ هـ) والأَخفش الأوسط (١) (ت / ٢١٥ هـ) وغيرهم ولم يبقَ من هذه الكتب إلاّ القليل (٢) ، فكتاب الفرّاء مطبوعٌ ولدي صورة من مخطوطة معاني القرآن للأخفش (٣) وقد حقّق أخيراً ونشر.

واستمرّتْ حركة التأليف في الاحتجاج للقراءات ، فَأ لَّفَ المبرِّد (٤) (ت / ٢٨٥ هـ) كتاب الاحتجاج للقراءات (٥) ثمّ جاء مُحمَّد بن جرير الطبري (٦) (ت / ٣١٠ هـ) فأ لّف كتابه جامع البيان ، فيه نَيِّفٌ وعشرون قراءة (٧) وهو كتاب أثنى عليه الناس (٨) ولم يُصَنَّفْ في معناه مثله (٩).

وجاء ابن مجاهد (١٠) (ت / ٣٢٤ هـ) فجمعَ القراءاتِ السَّبْع في كتاب

__________________

(١) هو سعيد بن مُسعِدَةَ المُجَاشِعِي مولاهم.

طبقات النحويين : ٧٢ وبغية الوعاة : ٢٥٨ واقرأ عنه (منهج الأخفش الأوسط).

(٢) القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية : ٢٥١.

(٣) صورتها على مصورة الأستاذ عبد الأمير الورد الذي صورها عن مخطوطة مكتبة مشهد في إيران وحقَّقَهُ عليها كما حقَّقَهُ الدكتور فائز فارس في الكويت وأحمد راتب النفاخ في سورية.

(٤) هو أَبو العباس محمّد بن يزيد المبرد الأزدي البصري إمام العربية في زمانه ببغداد أخذ النحو عن الجرمي والمازني. اُنظر : طبقات النحويين : ١٠١ وطبقات النحاة : ٢٨٠ واقرأ عنه : أبو العباس المبرد وأثره في علوم العربية والمبرد سيرته ومؤلّفاته.

(٥) الفهرست : ٥٩.

(٦) هو أبو جعفر محمّد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير والتاريخ والتصانيف الأخرى. انظر : غاية النهاية : ٢ / ١٠٦.

(٧) النشر : ١ / ٣٣.

(٨) غاية النهاية : ١ / ١٠٧.

(٩) معجم الأدباء : ١٨ / ٦٦.

(١٠) هو أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي شيخ الصَّنعةِ كان يحضر حلقتَهُ نحو ثلاثمائة من طلبة العلم. انظر : غاية النهاية : ١ / ١٣٩.

٢٠