النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ترجمة المؤلف

هو يوسف بن سليمان بن عيسى أبو الحجاج الأعلم الشنتمري ، وإنما قيل له الأعلم لأنه كان مشقوق الشفة العليا شقّا فاحشا.

وكان الأعلم يعرف بهذا اللقب أكثر من معرفته بالاسم ، ولعل هذا ما كان وراء الخلط الذي كان يقع بينه وبين الأعلم البطليوسي.

وكان الأعلم ينسب إلى شنتمرية وهي حصن من حصون الأندلس توجد الآن بدولة البرتغال.

ولادته ونشأته :

ولد الأعلم في مدينة شنتمرية سنة ٤١٠ ه‍ على ما أجمعت عليه مصادر ترجمته ، عدا ابن خلكان الذي ذكر أن ولادته كانت سنة ٤١٦ ه‍ ، كما أثبت على غلاف كتاب «أشعار الشعراء الستة الجاهليين للأعلم» أن ولادته كانت سنة ٤١٥ ه‍.

أما عن نشأته العلمية فلم تذكر لنا المصادر عنها شيئا ، فقد أتم مرحلة التحصيل في قرطبة ، حتى أصبح أحد المدرسين بها ، ثم انتقل إلى إشبيلية ودرس بها أيضا ، ومعظم مؤلفاته ألفها بعد هذه الفترة. ولم ينقطع عن التدريس حتى آخر عمره حيث كف بصره.

شيوخه :

تتلمذ الأعلم على فطاحل اللغة والأدب في عصره. وتذكر المصادر من شيوخ الأعلم:

١ ـ ابن الإفليلي : أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا توفي ٤٤١ ه‍ كان من أدباء قرطبة وأعلام اللغويين بها.

٢ ـ ابن الحراني : أبو سهل يونس بن أحمد بن يونس بن عيسون ، كان بصيرا بلسان العرب ، حافظا للغة قيما بالأشعار الجاهلية ، وكان من أبرز تلاميذه أبو مروان ابن سراج وأبو الحجاج الأعلم.

٣ ـ ابن أفلج : الأديب أبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلج النحوي القرطبي ٤٥٦ ه‍ كان رجلا جيد الدين حسن الخلق عالما بالعربية ورواية الأشعار ، أخذ عنه الأعلم وتتلمذ عليه.

٤ ـ ابن سراج : أبو مروان عبد الله بن سراج توفي ٤٨٩ ه‍.

هؤلاء هم شيوخ الأعلم المباشرون ، وعنهم أخذ معظم مادته العلمية ، وهم شيوخ جمعتهم قرطبة ، فكلهم منها ، وكلهم من الجيل الذي جاء بعد القالي ، وهم رواد الحركة العلمية في عصر الطوائف.

٣

تلاميذ الأعلم :

أما تلاميذ الأعلم ومن روى عنه معظم مروياته ، فقد ذكرت المصادر منهم أربعة :

١ ـ ابن فندلة : أبو بكر محمد بن عبد الغني بن عمر ٥٣٣ ه‍ صحب الأعلم كثيرا واختص به.

٢ ـ ابن أخضر : أبو الحسن علي بن عبد الرحمن التنوخي (٥١٤ ه‍) كان من المداومين على حلقات الأعلم.

٣ ـ ابن حجاج اللخمي : الوزير أبو الوليد إسماعيل بن عيسى من أهل إشبيلية.

٤ ـ الشيخ الخطيب أبو بكر محمد بن إبراهيم بن غالب القرشي العامري.

وتذكر المصادر تلاميذ آخرين من الذين تتلمذوا على الأعلم ، إلا أن ملازمتهم له كانت دون من سبقوهم ، ومنهم.

ابن أبي الدوس النحوي : محمد بن أغلب من أهل مرسية.

عبد الجليل بن وهبون المرسي أحد شعراء الدولة العباسية.

ابن علوش : محمد بن علي بن إبراهيم اللخمي من أهل إشبيلية.

ابن القصيرة : أبو بكر بن القصيرة.

ابن عمار الأندلسي الإشبيلي : أبو بكر محمد بن عمار المهري.

ابن ننتان : عبد الله بن ننتان النحوي : أبو محمد.

ابن الطراوة : أبو الحسين سليمان بن محمد بن عبد الله المالقي.

عبد المجيد الفهري : عبد المجيد بن عبد الله بن عبد ربه.

منصور المغراوي المالقي : منصور بن الخير بن علي الأحدب المالقي.

محمد بن إبراهيم العامري : محمد بن إبراهيم بن غالب العامري.

محمد بن مسلمة : محمد بن محمد بن عبد الله بن مسلمة القرطبي.

أبو علي الغساني : الحسين بن أحمد الغساني والجياني القرطبي.

هذه مجموعة من الأسماء التي ذكرتها المصادر. ولا شك أن هناك أجيالا أخرى تتلمذت على الأعلم وأخذت عنه ، وتأثرت بطرق الشرح عنده وأفادت منها.

مؤلفات الأعلم :

خلف لنا الأعلم تراثا ضخما في شرح الأشعار واللغة والنحو ، وقد ذكر أصحاب التراجم للأعلم ستة عشر مؤلفا ، منها الموجود بين مطبوع ومخطوط ، ومنها المفقود.

وهذه المؤلفات هي :

١ ـ جزء فيه معرفة الأنواء :

ذكره ابن خير في فهرسه وهذا الجزء مفقود.

٤

٢ ـ جزء فيه مختصر الأنواء :

ذكره ابن خير في فهرسه وذكر أن الأعلم لقنه لتلاميذه أمثال ابن فندلة. وعلمنا به لا يتجاوز العنوان والنسبة.

٣ ـ جزء فيه معرفة حروف المعجم :

أورده ابن خير في فهرسه. وهو مفقود أيضا.

٤ ـ الفرق بين المسهب والمسهب :

أورد المقري هذه الرسالة كاملة في نفح الطيب. وهي عبارة عن سؤال وجهه المعتمد للأعلم لما بلغه أن الأعلم يقول في المسهب بالفتح والكسر ، وأن ما ذهب إليه ابن قتيبة في أدب الكاتب ، والزبيدي في مختصر العين : أسهب الرجل فهو مسهب أكثر الكلام بالفتح خاصة.

٥ ـ قصائد الصبا في شعر أبي الطيب :

ذكره ابن خير وذكره الأعلم في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام.

٦ ـ شرح شعر أبي تمام :

أطلق عليه ابن خير وعلى شرحه لشعر أبي الطيب اسم الشعران ، وقد ذكره الأعلم أيضا في مقدمة الحماسة.

٧ ـ شرح حماسة أبي تمام :

سماه الأعلم «تجلي غرر المعاني عن مثل صور الغواني والتحلي بالقلائد ..» توجد منه نسخة بالخزانة العامة بالرباط.

٨ ـ ديوان الحماسة :

وقد رتب حماسة أبي تمام على حروف المعجم ، وقد وقع التباس لدى كثير من الدارسين فلم يميزوا بين شرح الحماسة وديوان الحماسة ، وعدوهما كتابا واحدا.

وذكر خير الدين الزركلي أن هناك نسخة من شرح الحماسة في المكتبة الأحمدية بتونس.

٩ ـ شرح أشعار الشعراء الستة الجاهليين :

يحوي هذا الكتاب على منتخبات من أشعار امرئ القيس ، والنابغة الذبياني ، وعلقمة بن عبدة ، وزهير بن أبي سلمى ، وطرفة بن العبد ، وعنترة بن شداد العبسي.

وقد طبع هذا الكتاب تحت عنوان «العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين» بعناية المستشرق فيلهم الورد في لندن سنة ١٨٧٠. وفي باريس ١٩٠٢.

كما طبع تحت عنوان «شرح الشعراء الستة للشنتمري» بعناية ديروف في ميونخ سنة ١٨٩٢.

٥

وطبع بعناية محمد عبد المنعم خفاجي في القاهرة أكثر من مرة ، والطبعة المتداولة تحمل عنوان «أشعار الشعراء الستة الجاهليين» تحقيق لجنة التراث العربي ـ منشورات دار الآفاق الجديدة.

١٠ ـ كتاب المخترع :

سماه الأعلم في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام «المخترع في إذاعة سرائر النحو» وأطلق عليه ابن خير اسم «المخترع في النحو» وقد درس الأعلم كتابه هذا ورواه عنه تلاميذه ، يقول ابن خير : «قرأت كتاب المخترع منها على الشيخ الوزير أبي بكر محمد بن عبد الغني بن عمر بن فندلة وأجازني سائرها».

١١ ـ المسألة الرشيدية :

ذكرها ابن خير في فهرسه. والرسالة مفقودة ، وقد عثرت على نقل عنها ، أورده أبو القاسم الكلاعي في كتابه «إحكام صنعة الكلام».

قال : «أخبرنا شيخنا أبو عبد الله بن أبي العافية قال : لما ألف شيخنا أبو الحجاج رسالته المعروفة بالرشيدية حاول ابن سراج استنقاصه فيها فتعقب عليه قوله في اسم الله عز وجل إنه اسم منقول من الجنس إلى العلمية وإن أصله : إله فشنع عليه ابن سراج من هذا غير تشنيع».

١٢ ـ المسألة الزنبورية :

ذكرها ابن خير بعنوان «المسألة الزنبورية المقترنة بالشهادة أزورية» والمسألة مطبوعة في كتاب نفح الطيب في خمس صفحات.

١٣ ـ شرح شواهد الكتاب :

سماه الأعلم «تحصيل عين الذهب في معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب» وسماه ابن خير : «عيون الزهد في شرح أبيات كتاب سيبويه».

توجد منه نسخة في دار الكتب المصرية عاشر أفندي رقم ١ / ٧٦٤.

١٤ ـ النكت في شرح كتاب سيبويه :

وهو كتابنا هذا.

وفاته :

توفي الأعلم عام ٤٧٦ ه‍ ، على ما أجمعت المصادر عليه ، إلا أن الفيروز آبادي ذكر في كتابه (البلغة) أن وفاته كانت سنة ٤٤٦ ه‍ ، وابن العماد ذكر أن وفاته كانت سنة ٤٩٥ ه‍.

٦

النّكت

الجزء الأول

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله

الحمد لله الذي أوجب حمده على الحامدين له ، نعما تقتضيهم حمدها ، وألزمت معرفة العارفين به آلاء لا يحصون عدها. فكيف يؤدى شكر من له في شكره نعمة حادثة ، ومنة على أداء حقه فيها باعثة ، وصلّى الله على محمد خيرته من خلقه ، وصفوته من رسله ، صلاة زاكية نامية نحظى بها (ونسعد) بمزيتها.

قال أبو الحجاج رحمه الله :

أما بعد ، فالفوائد كثيرة متشعبة ، وشرف كل علم بقدر فائدته ، والفوائد ضربان :

ضرب ينال به عرض الدنيا ، وضرب ينال به ثواب الآخرة. ومن جمعهما ، فبين أن له فضلا لا يشاركه فيه إلا مثله ، ومزية لا يعدله فيها إلا عدله.

وقد علم العلماء أن كتاب أبي بشر عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه ـ رحمه الله ـ أجمع ما ألف في اللسان العربي لإقامة حدوده ، ومعرفة أصوله وفروعه ، وفهم منظومه ومنثوره ، وجليه ومستوره ، وأصح ما وضع في إبانة أنحاء العرب ولغاتها ، ومراميها في كلامها وإشاراتها ، ومجازها واستعاراتها. وبقدر ترقي العالم في فهمه ، يترقى في علم التنزيل وحديث الرسول ، والتأويل لمشكلات الأقاويل.

ولم نر هذا اللسان العربي المبين منذ وضع هذا الكتاب يدور إلا عليه ، ولا يرجع المختلفون فيه إلا إليه ، فكم من متشابه من كتاب الله تعالى شرح ، ومشكل من حديث

٧

رسوله صلّى الله عليه وسلّم أوضح ، وعويص من الحكم أبان عنه وأفصح ، وفاسد من كلام الناس رقح وأصلح. وفضله أكثر من أن يعبر عنه لسان ، أو يحيط به تبيان.

وقد أكثر المؤلفون في شرحه وتفسيره ، وأطالوا في كشف إعرابه عن الشيء وتعبيره ، فأردت أن أجمع فائدة ما فرقوا ، وأقصر ما طولوا ، وأقلل ما كثروا فيه واختلفوا. وأنبه على ما أغفلوا ، وأستدرك ما أهملوا من شرح بيت ، أو تفسير غريب.

فلم أر أحدا ممن تعاطى شرح هذا الكتاب ، شرح الأبيات الواقعة فيه شرحا يفيد أكثر من فائدة الكتاب فيها. وإنما غايته أن يذكر بعض غريب البيت ، أو يدل على موضع الشاهد فيه باديا كان أو خفيّا. وسياق كلام سيبويه قد دل على ذلك وبين وجهه.

وقد بينت من معانيها في ذاتها ، وشرح غريبها وغامض إعرابها ، ما أرجوا أن يكون كافيا إن شاء الله.

وبعد.

فهذا الكتاب جواب لمن قرأ كتاب سيبويه وفهم بعض كلامه ، وتفطن لشيء من مقاصده وأغراضه ، ثم طالب نفسه بمعرفة عيونه ، والإشراف على غوامض فنونه ، فينبغي للطالب أن يطالع الباب من كتاب سيبويه ، ويحصر المواضع المشكلة منه ، ويمثل في ذهنه الألفاظ العازبة عنه ، ثم ينظر في هذا الباب من هذا التأليف ، فإنه (خالص إلى لباب) السؤال ، مشتمل على عامة الجواب إن شاء الله.

ولعل عائبا يغيظه الجواب فأكثر الناس ، لا سيما في أهل بلدنا ، وخاصة أهل زماننا يعيبني لتأخر زماني وخمول مكاني ـ فقد قضى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله : «رب مبلغ أوعى من سامع».

إن المتأخر قد يكون أفقه من المتقدم ، والتالي يوجد أفهم من الماضي ، والحكمة مقسومة على العباد ، لم تؤثر بها الأزمنة ، ولا خصت بها الأمكنة ، بل هي باقية إلى يوم القيامة يؤتيها الله من يشاء من عباده.

والعلم ضالّة لا يوجدها إلّا جد الطالب ، وظهر لا يركبه إلا استظهار الراغب ، وعقبة لا يصعدها إلا الصابر الدائب ، ودرجة لا يرتقيها إلا الباحث المواظب.

وإنما يتفاضل الناس بالاجتهاد والدءوب وحسن الارتياد. ومن أدمن قرع الباب فيوشك أن يدخل ، ومن واصل السير فأحر به أن يصل.

ولما هذبت هذا الكتاب على ما رغبته ، وصح لي منه ما طلبته. وكمل بعون الله على ما أحببته ، نقدت ملوك عصرنا. وأرباب الدول في دهرنا ، لأطرزه باسم أرجحهم وزنا ، وأفهمهم معنى ، وأكثرهم يمنا وأوسعهم فضلا ومنّا وأعظمهم فخرا وأكبرهم خطرا وقدر وأسيرهم ذكرا وأشرفهم نسبا ، وأزكاهم حسبا ، وأعزهم نفسا وأبا ، وأفضلهم طريقة ومذهبا

٨

وأنداهم يدا وأقدمهم سؤددا وأكرمهم محتدا ، وأطيبهم مولدا.

فسبق أول البرية من لا يختلف العالم فيه ، ولا له في الملوك مثيل ولا شبيه ، الملك المعتضد بالله أبو عمرو عباد بن محمد أطال الله عمره كما رفع ذكره ، وأدام ملكه كما حسن ملكه ، ومكن يده كما كثر في الناس يده.

ولو ذهب إلى عد محاسنه وإحصاء مناقبه ، لنفد الحصى قبل إحصائها ، ولم يف العدد باستيفائها.

وإن من الحق أن يصان قدره عن مدح لسان قصير ، وثناء يسير ، فالشمس لا تحتاج إلى الوصف بالضياء ، والبحر لا يفتقر إلى التعريف بالأنداء ، والصبح أشهر من أن يقام عليه دليل ، والسماء أبين من أن تبين بتمثيل. ورفعت قدره ـ أعزه الله ـ عن أن اسمه باسمه ، وأعلمه بمعلمه ، إذ كان شرارة من ذكائه ، وقطرة من سمائه فطرزته باسم الحاجب سيف الدولة أبي الوليد إسماعيل ابنه ، مد الله أمده ، كما أطاب مولده ، ليقرب له بعيد ما يلتمسه من الأدب ، ويجتنيه من كثب ، ثمرة لسان العرب. وأهديته إليه ليكون مكثرا لقليله وشافعا في قبوله وعونا في تحسينه وتجميله. والله يبقي بهجة الدنيا ببقائه ويعلي العلم بتمادي علوه وسنائه وسلامة حوبائه بمنه وفضله.

وكنت قد ألفت هذا الديوان سنة أربعين وأربعمائة بمدينة قرطبة وطرزته باسم من لم يوف قدره لقلة معرفته ، ولا أعتمل في التماس فائدته لنبو طبعه وكسل همته. ثم لم أزل بعد أنظر فيه ، وأتكرر عليه ، وأحشد الفوائد فيه إلى حين تطريزي له باسم من هو أحق به لمعرفته بقدره ...).

وهذا حين نبدأ بشرح ما شرطناه والله نستعين.

التكلم على إضافة الاسم إلى الله عز وجل

في قولنا : بسم الله الرحمن الرحيم ولزوم الألف واللام له واتصاله به ، ووقوع الرحمن بعده ـ وإن لم يكن مما قصدناه بهذا التأليف ـ لما في ذلك من الفائدة ، ثم نأخذ فيما قصدنا إليه.

أما إضافة «الاسم» إلى «الله» عز وجل ، فعلى جهة التوكيد والمبالغة في الاختصاص ، وذلك أن الاسم واقع على كل لفظ دال على مسمى ، كقولنا : رجل وفرس وزيد وعمرو ونحو ذلك ، فكل لفظة من هذه الألفاظ يقال لها : اسم لوقوعها على نوع ما ، واختصاصها به من سائر الأنواع.

فإذا قال قائل : «هذا اسم زيد» أو «اسم رجل» وهو يريد هذا الاسم الذي هو : «زيد» والاسم الذي هو : «رجل» فقد أضاف الاسم هذا اللفظ إلى زيد ، هذا اللفظ الآخر وهو هو.

٩

فجرى هذا ونحوه على إضافة الشيء إلى نفسه.

ولا يصح ذلك في الحقيقة ؛ لأنه الشيء لا ينفصل من نفسه ، وإنما تصح إضافة الشيء إلى غيره لانفصاله منه ، إلا أن الإضافة قد اتسعت فيها العرب. فأضافت الشيء إلى نفسه في بعض المواضع تأكيدا واختصاصا لاختلاف اللفظين ولضرب من التأويل ؛ لأن اختلاف اللفظين يخرجهما إلى مشابهة ما أضيف فيه أحد الاسمين إلى غيره ، حيث لم يتفقا في اللفظ ، كما لم يتفق المختلفان في لفظ ولا معنى ، فصار قولك : «اسم زيد» إذا أردت هذا الاسم الذي هو زيد بمنزلة قولك : «هذا غلام زيد».

وأما الضرب من التأويل الذي ذكرناه ، فإن قولهم : «هذا اسم زيد» تأولوا فيه : هذا الاسم الذي هو زيد ، ثم اختصروا ، وحذفوا ، وأضافوا الاسم إلى زيد وإن كان هو كما قالوا : «هذا حسن الوجه» و «مسجد الجامع» فأضافوا الحسن إلى الوجه ، والمسجد إلى الجامع ـ والحسن هو الوجه ، والمسجد هو الجامع ـ لما أرادوا من الاختصار والإيجاز مع اختلاف اللفظين الذي قدمنا ذكره.

فمعنى قول القائل : «بسم الله» إنما يريد : أبدأ بالاسم الذي هو الله ، ومعناه كمعنى : أبدأ بالله ، وأستفتح بالله.

والدليل على صحة ذلك قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٨٧] فإنما معناه : تبارك ربك ، وأضيف الاسم إلى الرب تأكيدا لاختلاف اللفظين ، والاسم هو الرب لا غيره ، ولو كان غيره لكان المستحق للوصف بالبركة الاسم دون الرب ، وهذا ممتنع.

ومثل ذلك قول الشاعر :

* إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما (١)

إنما يريد : ثم السّلام عليكما.

وكذلك قول الآخر يصف إبلا واردة أو حمرا :

* تداعين باسم الشيب في متثلم (٢)

إنما يريد : دعا بعضهم بعضا إلى الورود بصوت الشرب ومص الماء وهو : شيب شيب. فالمعنى : تداعين بالشيب ، وبالاسم الذي هو الشيب ، فأضاف ـ كما ترى ـ الاسم إلى الشيب وهو هو ، كما أضاف (الأول) إلى السّلام ، (ومثل) هذا أضيف الاسم إلى الله فاعلمه.

وأما لزوم الألف واللام «الله» عز وجل ، ف «الله» اسم منقول من الجنس العام إلى الجنس الخاص ، وذلك أن قولنا : «إله» يقع على كل معبود عام ، لفضله عليه واستحقاقه للتسمية دون

__________________

(١) ديوان لبيد بن ربيعة ٢١٤.

(٢) ديوان ذي الرمة ٦٠٩.

١٠

غيره فألزموه الألف واللام للاختصاص والعلامة الموضوعة للمعرفة المحضة فقالوا : «الله» كما أدخلوا الألف واللام على أحد النجوم لفضله عليها ، (وشهرته) فيها ، وهو «الثريا» فقالوا : النجم ، فصار علما لها دون سائر النجوم ، كما صار «الله» علما للبارئ ـ جل وعز ـ دون سائر الآلهة المعبودة دونه سبحانه وتعالى.

ولما وضعوه علما خاصّا ، أكدوا العلامة والاختصاص بأن حذفوا الهمزة حذفا لازما حتى لا يشركه في الاسم المختص من الجنس غيره ، إذ كان قولنا : «إله» يحتمل أن يقع على إله من الآلهة المعبودة دونه إذا كان معبودا.

ولما حذفوا الهمزة لهذا المعنى حذفا لازما ، جعلوا إثبات الألف واللام لازما ليكون ذلك عوضا لازما من حذف لازم ، فصارت الألف واللام كأنها من نفس الكلمة لذلك لم يعاقبها حرف النداء ، فقطعت معه في الوصل ، وقيل : يا ألله ، فهذا بين صحيح ، فقف عليه فإنه من أصح القول فيه ، وألطف الاعتلال له.

وأما وجوب تقديم «الرحمن» على «الرحيم» فمن حيث وجب تقديم «الله» على «الرحمن» ، وذلك أن أصل الإخبار والوضع للحديث إنما هو للأسماء الأعلام المشاهير نحو : زيد وعمرو والحارث والعباس وما جرى مجراها.

«فالله» ، هذا اللفظ هو الاسم العلم الموضوع أولا للدلالة على الباري واختصاصه من غيره. فوجب تقديمه لما ذكرنا من استحقاق الاسم الخاص لذلك.

و «الرحمن» اسم خاص له جل وعز ، مشتق من الصفة التي يستحقها دون غيره ، وهي وصفه بالرحمة.

واستحق أن يشتق له اسم من هذه الصفة دون غيره. كما استحق أن يسمى باسم من الجنس لما قدمنا من فضله على كل جنس ، وفضل صفته على كل صفة.

فقيل له : «الرحمن» وهو أحد الرحماء ؛ لأنه أرحمهم كما قيل له : «الله» لأنه أحد الآلهة ، إلا أنه المستحق للإلهية دونها.

«فالرحمن» اسم غالب له ، منقول من صفته بمنزلة قولنا : الحارث والعباس ونحوهما من الأسماء الغالبة المنقولة من الصفات الواقعة. فلما كان «الرحمن» اسما خاصّا مقصودا به قصد التسمية والوضع للعلامة ، لا قصد النعت والصفة ، وجب تقديمه على «الرحيم» لأن «الرحيم» لم يقصد به ذلك القصد ، وإنما هو صفة من صفاته ، واسم من أسمائه التي هي غير منقولة من جنس ولا غالبة من وصف.

وأما وجوب وقوع «الرحمن» بعد «الله» فلأنه وإن كان اسما خاصا ، غالبا ، منقولا من صفة غالبة ، ف «الله» منقول من جنس عام ، والصفات بعد الأجناس ، والنعوت بعد الأسماء ،

١١

فوجب وقوعه بعد «الله» وقبل «الرحيم» لذلك.

فثبت لله تعالى اسمان خاصان علمان :

أحدهما : منقول من جنس.

والآخر : منقول من وصف.

فكان ذلك بمنزلة اسمين خاصين لمسمى واحد ، كقولنا : النجم والثريا. وسائر أسمائه (تعالى) صفات لم يقصد بها قصد هذين الاسمين.

والدليل على صحة هذا : أننا نجد سائر أسمائه بعد هذين الاسمين معرفة ونكرة ، سواء كانت مخصوصة به أو مستعملة لغيره ، فتقول : اتق الله فإنه رب عظيم ، ملك جبار ، سبوح قدوس ، فتنكرها كما ترى ، وكذلك سائرها.

ولا يجوز هذا في «الرحمن» كما لا يجوز في «الله» لا تقول : إن الله رحمان ، كما لا تقول : إن ربك إله تريد : الله ، ولا : إن ربك رحمن على هذا التأويل ، فقد تبين الفرق.

ويؤكد الفرق أنه لو لم يقصد به قصد التسمية ، وكان على أصله من الصفة لاستغنى به عن الإتيان «بالرحيم» بعده ، إذ القصد بهما معنى واحدا ، فلا معنى لتكريرهما إذن ، وأحدهما يغني عن الآخر.

ومما يؤكد الفرق بينه وبينها : أنه لما وضع علامة خاصة ، غير عن بنائه وأصله ، وهو قولنا : «راحم» فقيل : «الرحمن» ، كما فعل «بالسماك» حيث غير عن سامك ، و «بالدبران» و «العيوق» ونحوها من الأسماء المختصة الموضوعة للعلامة المنقولة من الصفة.

فإن قال قائل : غير «الرحمن» من «الراحم» كما غير «الرحيم» منه لمعنى المبالغة.

قيل : إخراجه على هذا البناء ـ ومثله معلوم مطرد ـ كقولنا : عالم وعليم ، وسامع وسميع ، وقادر وقدير ونحوه.

وفعيل أحد الأبنية الخمسة التي يخرج إليها فاعل بمعنى التكثير دون غيرها من الأبنية وهي : فعول وفعال ومفعال وفعيل وفعل ، وليس فعلان منها ، ولا يخرج إليها من فاعل على هذا المعنى ، ألا ترى أن فعلان لم يجئ متعديا في شيء من الكلام كما يتعدى فاعل وفعيل ، وجميع هذه الأبنية التي أخرج الفعل إليها لمعنى التكثير.

فإن قال قائل : إنما قدم «الرحمن» على «الرحيم» حيث كان على بناء : يختص بالله عز وجل.

فالجواب : أنه لو كان صفة لا اسما خاصّا ، لم يلزم تقديمه على «الرحيم» إذ هو صفة مثله ، كما لم يلزم تقديم «الملك» على «القدوس» في قوله عز وجل (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : ٢٣] لأن «القدوس» لا يستعمل لغير الله ، و «الملك» قد يستعمل

١٢

لغيره تعالى : وقد قدمه على القدوس كما ترى ، وإنما وجب ذلك حيث لم يقصد «بالقدوس» قصد العلامة والاختصاص بالتسمية ، كما قصد بالرحمن ذلك. فقد سقط الاحتجاج بهذا ، ووجب الأخذ بما قدمناه من الحجة ، وبيناه من العلة. وبالله التوفيق.

* * *

قال سيبويه :

هذا باب علم ما الكلم من العربية

هكذا موضوع كتابه الذي نقله عنه أصحابه بتنوين «علم».

ويسأل في ذلك عن أشياء منها : أن يقال : إلى ما أشار بقوله : «هذا والإشارة إلى حاضر؟».

فالجواب في ذلك :

* أن يكون أشار إلى ما في نفسه من العلم وذلك حاضر.

* والثاني : أن يكون أشار إلى متوقع قد عرف وانتظر وقوعه في أقرب وقت ، فجعله كالحاضر تقريبا لأمره ، كقوله عز وجل : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) [الرحمن : ٤٢].

* والثالث : أن يكون وضع الإشارة ليشير بها عند الحاجة والفراغ من المشار إليه كقولك : هذا ما شهد عليه الشهود المسمون ، وهم لم يشهدوا بعد.

ومما يسأل عنه أن يقال : ما موضع «ما» من الإعراب؟ فالجواب في ذلك :

أنها في موضع رفع بالابتداء ، و «الكلم» «خبرها» والجملة في موضع نصب «بالعلم» على أن يكون التقدير : أن تعلم أي شيء الكلم من العربية؟.

أو تكون الجملة في موضع رفع على تقدير : أن يعلم. ومعنى «ما» على هذين التقديرين : الاستفهام.

وإنما لم يعمل ما قبلها في لفظها من قبل أن الأسماء المستفهم بها نائبة عن ألف الاستفهام ، والألف يقطع ما بعدها مما قبلها حتى يكون لها صدر الكلام ، كما يكون «لما» النافية ، و «إن» المؤكدة ، وسائر الحروف الداخلة على (الجمل).

ووجه ثان من وجوه «ما» : أن تكون بمعنى «الذي» وتكون صلتها «هو الكلم» ، وحذفت «هو» اختصارا ، وذلك جائز في كلامهم.

ووجه ثالث : أن تكون «ما» : صلة ، ويكون دخولها كخروجها ، إلا أنها تؤكد المعنى الذي تدخل فيه ، وتنصب «الكلم» وترفعه على تقدير : أن تعلم وأن يعلم.

ويجوز إضافة «علم» وترك التنوين منه ، وتكون «ما» مقدرة على وجوهها الثلاثة.

١٣

ويسأل عن «الكلم» فيقال : لم لم يقل : الكلام أو الكلمات؟

فالجواب : أن «الكلام» مصدر مبهم لا يخص شيئا من شيء ، و «الكلم» جمع كلمة. وإنما أراد أن يبين الاسم والفعل والحرف وهي جمع ، فعبر عنها بأشكل الألفاظ بها. ولم يقل : «الكلمات» ؛ لأن الكلم أخف منها في اللفظ فاكتفى بالأخف عن الأثقل.

ووجه ثان : أن «الكلم» اسم ذات الشيء ، و «الكلام» اسم الفعل المتصرف من «الكلم» بمنزلة : الفعل من الافتعال ، واسم ذات الشيء في الرتبة قبل ما صرف منه.

فذكر «الكلم» الذي هو الأقدم في الرتبة ، وترك «الكلام» الذي هو فرع. لو ذكره ما كان معيبا ولكنه اختار الأفصح الأجود لمعناه الذي أراده.

ويسأل عن قوله : «الكلم من العربية» لم قاله؟ والكلم أعم من العربية ؛ لأنه يشملها والعجمية ، و «من» للتبعيض ، والذي يتصل بها هو البعض الكثير. الذي يذكر منه البعض القليل؟

والجواب : أنه ذكر «الكلم» التي هي شاملة عامة ، وهو يريد بها الخصوص ، وذلك معروف في كلامهم ، ثم بين المخصوص المراد خشية اللبس ، فقال : «من العربية» تبيينا لما أراد.

ووجه ثان : أنه أراد «بالكلم» الاسم والفعل والحرف ، فعد هذه الجملة ـ التي هي : اسم وفعل وحرف ـ بعض العربية. والدليل على ذلك أن ليس من أحاط علما بحقيقة الاسم والفعل والحرف ، أحاط علما بالعربية كلها.

ودليل هذا التأويل الثاني قوله : «هذا باب علم» ولم يقل : هذا كتاب علم.

وأما إدخال الفاء في الكلم ؛ فلأنها جواب للتنبيه في قوله : «هذا» فكأنه قال : انظر وتنبه ، فالكلم : اسم وفعل وحرف.

ووجه ثان : أن الجمل تفيد معنى ، وترجمة الباب مفيدة معنى ما ، وكل جملة يجوز أن تجاب بالفاء كقولك : زيد أبوك فقم إليه.

ومما يسأل عنه قوله : «حرف جاء لمعنى» والأسماء والأفعال أيضا جئن لمعان.

والجواب : أنه أراد لمعنى في الاسم والفعل ، وإنما تجيء الحروف مؤثرة في غيرها في النفي والإثبات وغير ذلك من المعاني. والأسماء والأفعال معانيها في أنفسها قائمة صحيحة ، الدليل على ذلك أنه إذا قيل : ما الإنسان؟ كان الجواب : الحي الناطق الكاتب.

وإذا قيل : ما معنى «قام»؟

قيل : وقوع قيام في زمان ماض ، فعقل معناه في نفسه دون أن يتجاوز به إلى غيره ، وليس كذلك الحرف ؛ لأنه يعقل معناه بغيره.

١٤

ووجه آخر : وهو أن قوله : «جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل» أي لمعنى ذلك المعنى.

«ليس باسم» ، أي : ليس بدال عليه الاسم.

«ولا فعل» ، أي : ليس بدال عليه الفعل.

ووجه ثالث : أن الحروف على ضربين :

ـ حروف معان : كإلى ، ونعم ، وثم وما أشبه ذلك.

ـ وحروف لا معنى لها وهي حروف المعجم.

ومتى قرنت بالاسم والفعل ، لم يأتلف الكلام. فقال : «جاء لمعنى» ليفرق بينه وبين ما لم يجئ لمعنى.

ولم يحد سيبويه الاسم حدّا ينفصل به من غيره ، وذكر منه مثالا اكتفى به عن غيره

فقال : «الاسم : رجل وفرس».

واختار هذا ؛ لأن أخف الأسماء الثلاثية ، وأخفها : ما كان نكرة للجنس.

وحد الاسم على الحقيقة أن يقال «كل شيء دل لفظه على معنى غير مقترن بزمان محصل فهو اسم».

فهذا الحد لا يخرج منه اسم ، ولا يدخل فيه غير اسم.

وقوله «أخذت من لفظ أحداث الأسماء» يعني أن الأبنية المختلفة أخذت من المصادر التي تحدثها الأسماء ، وأراد بالأسماء : أصحاب الأسماء وهم الفاعلون.

وقوله : «وبنيت لما مضى» إلى قوله : «لم ينقطع» اعلم أن سيبويه ومن نحا نحوه يقسم الفعل على ثلاثة أزمنة :

ماض ومستقبل وكائن في وقت النطق به.

وطعن طاعن في هذه فقال : أخبرونا عن الحال الكائن أوقع وكان فيكون موجودا في حيز ما يقال عليه كان؟ أم لم يوجد بعد فيكون في حيز ما يقال عليه لم يكن؟. فإن قلتم : هو في حيز ما يقال عليه : لم يكن ، فهو مستقبل ، وإن كان في حيز ما يقال عليه كان فهو ماض ، ولا سبيل إلى ثالث ، فدلوا على صحة هذا؟

فالجواب في ذلك أن الماضي هو الذي أتى عليه زمانان أحدهما : زمان وجوده وزمان ثان يقال فيه : وجد وكان ، ونحو ذلك.

فالذي يقال : وجد الفعل فيه : هو زمان غير زمان وجوده ، فكل فعل صح الإخبار عن حدوثه في زمان بعد زمان حدوثه فهو ماض.

والمستقبل هو الذي يحدث عن وجوده في زمان لم يكن فيه ولا قبله ، فقد تحصل لنا الماضي والمستقبل.

١٥

وبقى قسم ثالث : وهو الذي يكون زمان الإخبار عن وجوده زمان وجوده ، وهو الذي قال فيه سيبويه : «وما هو كائن لم ينقطع».

هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية

أما قول : «مجاري» إنما أراد بها حركات أواخر الكلم ، والدليل على ذلك قوله : «وهي تجري على ثمانية مجار» : على النصب والرفع ، وما بعدهما من الثمانية.

وقوله : «وهي تجري» : كناية عن أواخر الكلم ، كأنه قال : باب حركات أواخر الكلم.

وأواخر الكلم تجري على ثماني حركات. وسمى الحركات «مجاري» وهن يجرين والمجاري يجرى فيهن.

فإنما ذلك لأن الحركات لما كانت أواخر الكلم قد تنتقل من بعضها إلى بعض كما تنتقل فيهن الحركة من حرف إلى حرف ، جاز أن تسمى الحركات «مجاري» من حيث أواخر الكلم.

ووجه : أن تكون المجاري جمع مجرى في معنى جرى ، والمصدر قد تلحق الميم أوله كقولك : مضرب ومفر.

فإن قال قائل : لم جمع والمصادر لا تجمع؟

قيل له : قد تجمع المصادر إذا كانت مختلفة كقولهم : العلوم ، والأفهام وأشباه ذلك.

فجعل جري كل واحدة من الحركات خلاف جري صواحبها ؛ لأنهن مختلفات في ذواتها.

ويروى عن المازني أنه غلط سيبويه في قوله : «على ثمانية مجار» ، وزعم أن المبنيات حركات أواخرها كحركات أوائلها ، وإنما الجري لما يكون في شيء يزول عنه ، والمبني لا يزول عن بنائه ، فكان ينبغي أن يقول : على أربعة مجار : على الرفع والنصب والجر والجزم ، ويدع ما سواهن.

والجواب في ذلك : أن أواخر الكلم لا يوقف على حركاتهن وإنما يحركن في الدرج ، وليس كذا صدور الكلم وأواسطها فجاز أن تصف حركات أواخر الكلم من الجري بما لا تصف به أوائلها وأواسطها ؛ لأن حركات الأوائل والأواسط لوازم في الأحوال كلها.

ووجه ثان : أن أواخر الكلم هي مواضع التغيير ، فيجوز إطلاق لفظ المجاري عليهن وإن كان بعض حركاتهن لازما في حال.

وقوله : «وإنما ذكر ثمانية مجار» إلى آخر الفصل.

غلطه جماعة من النحويين في قوله : «لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة».

وقال من قبل : إن ما يدخله ضرب من هذه الأربعة هو حرف ؛ لأن هذه الأربعة أراد بها الحركات والسكون ، وما يدخله ضرب منها حرف.

١٦

ثم قال : «وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول».

والذي يبنى عليه الحرف ، هو حركة البناء ، فكأنه في التمثيل لا فرق بين الحرف والحركة. والفرق بينهما بين لا لبس فيه وإنما الوجه أن يفرق بين حركة الإعراب وحركة البناء.

والجواب : أن سيبويه ، إنما أراد : لأفرق بين إعراب ما يدخله ضرب من هذه الأربعة وبين الحركة التي يبنى عليها الحرف بناء لا يزول ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

وقوله : «وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة» إلى قوله : «الزوائد الأربع».

إن قال قائل : ما الأسماء المتمكنة؟

قيل له : كل اسم معرب فهو متمكن ثم ينقسم قسمين.

ـ قسم مستوف للتمكن كله وهو المنصرف.

ـ وقسم ناقص عن هذا ، وهو غير المنصرف.

وكان بعضهم يسمي الاسم المستوفي للتمكن : الاسم الأمكن ، ويسمي كل ما استحق الإعراب متمكنا.

فإن قال قائل : كيف صارت هذه الحروف في الأفعال المضارعة أولى بها من غيرها؟

قيل له : أولى الحروف بالزيادة حروف المد واللين وهي المأخوذة منها الحركات ، فأما الألف فلا سبيل إلى زيادتها أولا ؛ لأنها لا تكون إلا ساكنة ، ولا يبدأ بساكن فأبدل منها أقرب الحروف إليها وهي الهمزة مع أنها تزاد أولا كثيرا ، فكانت أولى الحروف بالوضع مكان الألف.

وأما الواو ، فإنها لا تزال أولا في حكم التصريف لثقلها فأبدل منها حرف يبدل منها كثيرا وهو التاء.

واحتاجوا بعد هذه الحروف إلى رابع فكان أقرب الحروف من حروف المد واللين : النون ، وذلك أنها تجرى في الخيشوم كما تجري حروف المد واللين في مواضعها.

قوله : «وليس في الأسماء جزم» إلى قوله : «وذهاب الحركة».

إن قال قائل : هلا حذفتم الحركة وحدها بدخول الجزم وأبقيتم التنوين ، ثم حركتم الحرف المجزوم لالتقاء الساكنين؟

قيل له : هذا يفسد من وجهين :

ـ أحدهما : أن التنوين فرع ، وإنما أتى به لقوة المتحرك فإذا دخل ما يحذف الحركة كان أولى بحذف التنوين.

١٧

ـ والوجه الثاني : أنا لو حذفنا الحركة ، ثم حركتها لالتقاء الساكنين لعاد إلى لفظ غير المجزوم. فلم يكن لتدخل عاملا على اسم فيحدث فيه ما لا يسلم له أبدا.

فإن قال قائل : فهلا أذهب الجزم التنوين في المنصرف ، وحذف الحركة مما لا ينصرف؟

قيل له : لو فعل ذلك لكان الاسم المنصرف كغير المنصرف مع أن التنوين يصحب الحركة ، والعوامل إنما تغير الحركات فإذا لم يغير الجزم الحركة ، كان أجدر أن لا يغير التنوين ، ولو حذفت الحركة للجزم من غير المنصرف لأشبه المبني.

قوله : «والنصب في المضارع من الأفعال» إلى قوله : «ليس ذلك في هذه الأفعال».

إن قال قائل : بم ترتفع هذه الأفعال المضارعة؟

قيل له : بوقوعها موقع الأسماء وإن اختلف إعراب الأسماء.

فإن قال قائل : لم وجب ذلك؟

قيل له : من قبل أن وقوعها موقع الأسماء ليس بعامل لفظي ، إذ كانت عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال فأشبه الابتداء الذي ليس بعامل لفظي.

فإن قال قائل : فلم رفعتم الفعل بعد «السين» و «سوف» ولا يقع الاسم بعدهما؟

قيل له : «السين» و «سوف» إذا دخلا على الفعل صارا من صيغته بمنزلة الألف واللام إذا دخلا على الاسم ؛ لأنهما إذا دخلا ، خلصاه للمستقبل بعينه كتخليص الألف واللام الاسم للواحد بعينه.

ولم يدخلا لتغيير معنى ، وإنما دخلا لتحصيل المعنى لنا وتعريفه إيانا دون أن يتغير المعنى في نفسه.

والعوامل هي التي تدخل على الألفاظ بعد حصول معانيها ، فتقرها على ما عرفت به من معانيها.

فإن قال قائل : لم يجعلوا في إعراب الأفعال الجزم دون الأسماء؟

قيل له : لما كان الاسم هو المستحق للإعراب في أصل الكلام استحق جميع الحركات لقوته فضارع الفعل الاسم ، فجرى مجراه ، واستحال دخول الجر عليه ، فجعل مكان الجر الجزم ليكون معادلا للاسم في إعرابه لتمام مضارعته له.

قوله : «وليس في الأفعال المضارعة جر كما أنه ليس في الأسماء جزم».

اعتل في هذا الفصل بما استغنينا عن ذكره لبيانه.

واعتل الأخفش فيه بعلتين :

إحداهما : بينة ، والأخرى : غامضة فنبينها لذلك.

زعم أن الأفعال أدلة على غيرها ، يعني : على فاعلها ومفعوليها ، وزعم أن المضاف إليه

١٨

مدلول عليه فقال :

«والأفعال أدلة وليست بمدلول عليها ، فلا يضاف إليها ؛ لأن الإضافة إلى المدلول عليه لا إلى الدليل».

فإن قال قائل : ما معنى قول سيبويه : «لأن المجرور داخل في المضاف إليه» ، وإلى ما عادت الهاء في «إليه»؟

فالجواب في ذلك : أن قوله : «لأن المجرور» يريد : المضاف إليه وهو الثاني.

«داخل في المضاف إليه» : يعني : «داخلا» في الأول ، الذي قد أضيف إلى المجرور. والهاء تعود إلى المجرور ، فكأنه قال : لأن الثاني المجرور داخل في الأول المضاف إلى الثاني.

قوله : «وأما الفتح والضم والكسر والوقف» إلى قوله : «ليس غير».

إن قال قائل : ما معنى قوله : «ليس غير»؟ وما موضع «غير»؟.

قيل له : «ليس» دخلت ههنا للاستثناء ، واسم «ليس» مضمر في النية وموضع «غير» منصوب بخبر «ليس» كأنك قلت : ليس شيء غير ذلك ، فلما حذف المضاف إليه بنى على الضم.

قوله : «وللحروف التي ليست بأسماء ولا أفعال» إلى قوله : «حيث وأين وكيف».

اعلم أن الأسماء المبنية كلها لا يخرج بناؤها من أن يكون : لمضارعة الحروف ، أو للتعلق بها ، أو لوقوع المبني موقع فعل مبني ، أو لخروجه عما عليه نظائره.

والمبنيات كثيرة ، ونفسر منها ما وقع في هذا الباب من الأسماء خاصة ، فمنها «حيث».

اعلم أن فيها أربع لغات ، يقال فيها ، حيث وحيث وحوث وحوث ، وهي مبنية في جميع وجوهها لعلتين :

ـ إحداهما : أنها تقع على الجهات الست ، وعلى كل مكان وكل هذه الجهات تقع مضافة إلى ما بعدها ، فأبهمت حيث وقعت عليها كلها. فشبهوها لإبهامها في الأمكنة ب «إذ» المبهمة في الزمان الماضي كله. فلما كانت «إذ» موضحة بالجمل ، أوضحت «حيث» بها ، ومنعت الإضافة ، فصارت بمنزلة «قبل» و «بعد» إذ حذف المضافان إليهما فبنيت كما بنيتا.

ـ والعلة الثانية : أن «حيث» لما خالفت أخواتها حين أضيفت إلى الجمل ، بنيت لمخالفتها أخواتها ، ودخولها في غير بابها ، واستحقت أن تبنى على السكون فتجنبوا اجتماع الساكنين ، فكان يجب أن يكسر آخرها على حكم التقاء الساكنين ، فتجنبوا الكسرة استثقالا لها مع الياء.

فإن قلت : فقد قالوا : «جير» و «ويب» فكسروا.

فإنما ذلك : لقلة استعمالها وكثرة استعمال «حيث» ، والعرب تخص الكثير الاستعمال

١٩

بأخف الألفاظ.

وأما من ضم «حيث» فإنما ضمها لما كانت مستحقة للإضافة ومنعتها كما فعل «بقبل» و «بعد».

أما «أين» : فإنه اسم من أسماء المكان وهو يستوعب الأمكنة كلها متضمنة لمعنى الاستفهام.

ووجب أن يبنى على السكون لوقوعه موقع حرف الاستفهام ، إلا أنهم حركوها بالفتح لالتقاء الساكنين وآثروا الفتحة من أجل الياء التي قبلها ، ولكثرة دورها في الكلام.

وأما «كيف» فإنها يستفهم بها عن الأحوال ، ووقعت موقع ألف الاستفهام ، فوجب بناؤها على السكون ، فحركوا آخرها كما فعلوا ب «أين».

قوله : «والكسر فيها نحو : أولاء وحذار وبداد».

إن قال قائل : لم وجب الكسر في «أولاء»؟

قيل له : من أجل أنه إشارة إلى ما بحضرتك ما دام حاضرا ، فإذا زال لم يسم بذلك ، والأسماء موضوعة للزوم مسمياتها. فلما لم يلزم فيها ما وضع له ، صار بمنزلة المضمر الذي يعتقب الذكر إذا جرى ، ولا يؤتى به قبل ذلك ، فلما وجب بناء المضمر ، وجب بناء المبهم.

ووجب بناؤهما لأنه لا شيء إلا وحروف المعاني داخلة عليه ، فلما كان الضمير والإشارة داخلين على الأشياء كلها كدخول الحروف ، وجب بناؤهما.

فإن قلت : فأنت قد تقول : «شيء» فيكون واقعا على الأشياء كلها ، فهلا وجب بناؤه؟

فالجواب عن ذلك : أن «شيئا» هو اسم للمسمى لازم له في أحواله كلها ، والكناية والإشارة والحروف ، أعراض تعترض في الأشياء ، وليس شيء منها إلا يزول ، فافترق المعنيان وتباين الحكمان.

فإن قال قائل : لم استوى المذكر والمؤنث في «أولاء»؟

فالجواب : أن «أولاء» وقع على جمع أو جماعة ، والجمع والجماعة تقع على الرجال والنساء والحيوان ، والجماعة والمذكر والمؤنث ، فوقع على ذلك كله «أولاء» ، فاستوى المذكر المؤنث.

وأما «حذار» فإنه وقع موقع فعل الأمر ، وهو مسكن فاستحق مثل حال الذي وقع موقعه ، والتقى في آخره ساكنان فحرك بالكسر لعلتين :

ـ إحداهما : أن «حذار» مؤنثة ، والكسر من علم التأنيث.

ـ والثانية : أنه كسر على حد ما يوجبه التقاء الساكنين من الكسر.

وأما «بداد» فاجتمع فيها العدل والتأنيث والتعريف ، فزعم سيبويه أن الذي أوجب

٢٠