الشيخ النجاشي

المؤلف:

الدكتور حسن عيسى الحكيم


الموضوع : التراجم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٢

المقدمة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

يضم كتاب الرجال للشيخ النجاشي تراجم ومصنفات ، وكان لمؤلفه منهجية في كل منهما ففي مجال الرجال كان يقوم بدور الدارس الفاحص الناقد ، وفي مجال المصنفات يقوم مرة بتعدادها ، واخرى بدارستها وبيان محتوياتها فكان يشير الى حجم الكتاب بقوله : ـ «كبير ، كبير جداً ، صغير» ويرادفه أحيانا لفظ «حسن» ، واذا شك في صحة نسبته الى ذلك الرجل أشار اليه «منسوب» وله في هذا الشان لفتات جميلة كقوله : «منسوب الى علي بن الحسين بن فضال : وقالوا انه موضوع عله لا اصل له والله اعلم» ، و «إن هذا الكتاب الصق روايته إلى أبي العباس بن عقدة وأبى الزبير». وقال عن أحد الكتب : ـ انه كبير حسن قد ادخل فيه بعض المتأخرين أحاديث تدل على فساد ، ويذكر تباين أقاويل الصحابة وقال : انه كتاب كبير حسن ، وفيه الطعون على المتقدمين على امير المؤمنين. وقال : وهو كتاب الصلاة وهو يوافق كتاب ابن خانبة وفيه زيادات في الحجم ، وان احد الكتب ينتهي الى عام ٣٢١ هـ ، ثم حصل عليه ذيل منذ عام ٣٢٢ هـ ، فدخلت فيه زيادات كثيرة (١). ان هذه النصوص التي اوردناها من كتاب «الرجال» تكشف عن عمق القراءة التي كان يقوم بها الشيخ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجاشي ، الرجال ، ص ١٠٦ ، ص ١٨٠ ، ص ١٨٢ ، ص ١٨٧ ، ص ٢٢٨.

٢

النجاشي ، فهو يقارن بين الكتب لاستخلاص الزيادات ، ويقف عند الكتب المنسوبة ويشخص مواضع الخلل او الطعن في بعضها ، وكان يشير الى قراءته على شيوخه في بعض الكتب ، واذا لم ير كتاباً معيناً اشار اليه ، وهذا مما يعزز الامانة العلمية التي كان يسلكها الشيخ النجاشي في تدوين هذه الكتب في كتابه «الرجال» ، وكان اذا وقف بنفسه على كتاب معين يصفه وصفاً دقيقاً ، وبين محتوياته ، وعدد اوراقه ، وان مثل هذه الاحصائيات تعطي للكتاب قيمة علمية عالية ، وكان الشيخ النجاشي في بعض الاحيان يقول : ان الكتاب الفلاني يقع في ابواب ، ثم يععددها باسمائها ، وقد قمت باعادة ترتيب هذه الكتب ، وتصنيفها وفق العلوم والمعارف ، لكي يقف القارئ على أي صنف من هذه الكتب التي الفها اعلام الامامية منذ القرن الاول وحتى القرن الخامس للهجرة ، وهو عصر المؤلف ، وما هي الحصيلة التي وصلتنا في الوقت الحاضر ، ولكي يستفيد الباحث من اسمائها فيما لو تخصص بدراسة نوع منها ، حيث يمكنه الرجوع الى اصل الكتاب فاشرت له برقم الصفحة واسم المؤلف.

واسال الله العلي القدير ان يوفق الجميع لخدمة العلم والثقافة. انه سميع مجيب.

النجف الاشرف

الدكتور حسن الحكيم

١٤١٥ هـ / ١٩٩٤ م

٣

الفصل الاول

عصر

الشيخ النجاشي

٤

عصر الشيخ النجاشي

عاصر الشيخ النجاشي ثلاثة من الخلفاء العباسيين وهم : الطائع لله ، والقادر بالله ، والقائم بامر الله ، وفي فترة زمنية كان البويهيون في العراق بيدهم السلطة السياسية والادارية حتى عام ٤٤٧ هـ ـ حيث آلت الامور الى السلاجقة ، وفي السنة الاخيرة من حياته شهدت الخلافة العباسية ، احداثاً خطيرة فالقي القبض على الخليفة القائم بامر الله عام ٤٥٠ هـ ، وسيطر ابو الحرث ارسلان بن عبد الله البساسيري ـ مقدم الاتراك في بغداد ـ على زمام الامور ، ودعا فيها للخليفة الفاطمي المستنصر بالله ، وبعد هذا التاريخ شهدت مدينة بغداد تحولات كبيرة كان فيها الشيخ النجاشي قد فارق الحياة.

وتعد فترة حياة الشيخ ابي العباس احمد بن علي النجاشي الاسدي (٣٧٢ ـ ٤٥٠ هـ) فترة صراع فكري بين ارباب المدارس الكلامية والفقهية في مدينة بغداد ، وعند سيطرة البويهيين على السلطة عام ٣٣٤ هـ ـ سلكوا سبيلا وسطا بين جميع الميول والاتجاهات ، فلم يتحزبوا لفئة معينة على حساب فئة اخرى ، ولم ينحازوا الى راي خاص ، بل تركوا الناس احرارا في معتقداتهم وارائهم ، ذلك انهم كانوا يدركون انهم رجال دولة ، وارباب سيسة وان همهم الاكبر يجب ان يتجه الى اقرار الامن والنظام ، ولكي يحقق الحاكم هذا الغرض عليه ان يساوي بين الناس جميعاً. وان يضع نفسه فوق الاعتبارات الضيقة ، وان لا

٥

يتدخل في الشؤون الخاصة بالرعية ، ليتسنى له فرض سلطانه عليهم جميعاً ، وليستجيبوا لأمره استجابة طوعية تحقق الغرض المقصود من اقامة الدولة (١). سوهم على الرغم من كونهم يعتنقون مذهب التشيع ، كانوا يفرضون اوامر مشدة على الشيعة لحد منعهم من اقامة شعائرهم الدينية في بعض الاحيان (٢).

ولقد نفوا فقيه الامامية الاكبر الشيخ المفيد من مدينة بغداد في الاعوام (٣٩٣ ، ٣٩٨ ، ٤٠٣ هـ) بعد الحوادث الطائفية التي وقعت بين صفوف المسلمين (٣). وذلك في محاولة لعدم تسليط ابناء مذهبهم على ابناء اهل السنة (٤).

وتذهب بعض المصادر الى ان الذي مكن البويهيين من بعث الاستقرار والامن في البلاد ، هو السياسة الحكيمة المتسامحة تجاه جميع السكان (٥). فانصرف الناس الى العمل من اجل ترقية الحياة المادية والروحية. وعادت بغداد كعبة العلم والثقافة ، وبلغت نضجها الفكري في القرن الرابع الهجري ، ونصف القرن الخامس الهجري. يقول الدكتور مصطفى جواد : يعد العصر البويهي في العراق من ازهر العهود الثقافية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحكيم ، الشيخ الطوسي ، ص ٣٠ ـ ص ٣١.

٢ ـ ابن الجوزي ، المنتظم ، ٨ / ١٤٠. الذهبي ، مختصر تاريخ الذهبي ، ورقة ١٠ أ.

٣ ـ ابن الاثير ، الكامل في التاريخ ، ٩ / ٧٤ ، ٨٦.

٤ ـ Encyclopaedia of Islam , Vol. I , P. ١٣٥٢.

٥ ـ Mafizullak Kabir. The Buwayhid Dynasty if Baghdad.

٦

في هذه البلاد لاطلاق الحرية الدينية ، والحرية الفكرية ، والحرية القلمية (١).

فقد كان عضد الدولة (٣٦٧ ـ ٣٧٢ هـ) عاقلاً فاضلاً ، حسن السياسة ، كثير الاصابة ، شديد الهيبة ، بعيد الهمة ، ثاقب الراي ، محباً للفضائل واهلها ، باذلاً في مواطن العطاء ، ومانعاً في اماكن الحرم ، ناظراً في عواقب الامور (٢) ، يحب العلم والعلماء. ويجري الجرايات على الفقهاء والمتحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والقراء والنسابين والاطباء والحساب والمهندسين (٣).

ويقول الثعالبي : كان يؤثر مجالسة الادباء على منادمة الامراء (٤). وهذا مما ساعد على ازدهار الحركة العلمية والفكرية في مدينة بغداد وغيرها ازدهاراً سريعاً ، حتى صارت ايامها من ازهر العصور العلمية الاسلامية ، وذلك لتوفر الحرية الفكرية والعلمية ، وكانت هذه الحرية مزمومة مكمومة. وقد عوقب قبلهم بالموت ، كما جرى على الحسين بن منصور الحلاج عام ٣٠٩ هـ لشذوذه في التحرر ، فظهرت الاقلام الحرة ، وصرحت النفوس الكاتمة ، وتنفست الاصدور المحرجة ، واعترف بسلطان العقل ، فنفذ حكم المعقول في المنقول ، وكان المنقول قبل ذلك مقدساً ، كائنة ما كانت حقيقته من حيث الصحة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصطفى جواد ، ابو جعفر النقيب ، ص ٥.

٢ ـ ابن العبري ، تاريخ مختصر الدول ، ص ١٧٢.

٣ ـ ادم متز ، الحضارة الاسلامية ، ١ / ٤٦.

٤ ـ الثعالبي ، يتيمة الدهر ، ٢ / ٢١٦.

٧

والاختلاف ، والامكان والاستحالة (١) ، وهذا هو السر في كثرة من نبغ في العلوم والاداب في ذلك العصر من مختلف المذاهب الاسلامية من امثال : الشيخ الكليني (ت ٣٢٩ هـ) ، وابن قولويه (ت ٣٦٨ هـ) ، والشيخ الصدوق (ت ٣٨١ هـ) ، والشريف الرضي (ت ٤٠٦ هـ) ، والشيخ المفيد (ت ٤١٣ هـ) ، والشريف المرتضى (ت ٤٣٦ هـ) ، والشيخ النجاشي (ت ٤٥٠ هـ) ، والشيخ الطوسي (ت ٤٦٠ هـ) ، وغيرهم من علماء الامامية ، وقد عاصر هؤلاء الاعلام ، علماء من مذاهب اسلامية متعددة كابي بكر الباقلاني (ت ٤٠٣ هـ) ، وابي الحسين البصري (ت ٤٣٦ هـ) ، وابي الحسن الماوردي (ت ٤٥٠ هـ) ، والخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ هـ) ، وابي اسحاق الشيرازي (ت ٤٧٦ هـ) ، وابي نصر الصباغ (ت ٤٧٧ هـ) ، وابي المعالي الجويني (ت ٤٧٨ هـ) ، وابي عبد الله الدامغاني (ت ٤٧٨ هـ) ، وغيرهم من العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين الذين انجبتهم مدينة بغداد ، او هاجروا اليها للتعلم والتعليم ، ففي عام ٣٦٩ هـ ، افرد في دار عضد الدولة البويهي لاهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه ، وهو الحجرة التي يختص بها الحجاب ، فكانوا يجتمعون فيها للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة ، وقد اشار المؤرخ مسكويه الى هذه الحالة العلمية في هذه الفترة بقوله : «فعاشت العلوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مصطفى جواد ، (الثقافة العقلية والحالة الاجتماعية في عصر الرئيس ابي علي بن سينا) مجلة المجتمع العلمي العراقي ، لمجلد الرابع ، الجزء الثاني ١٣٧٥ هـ / ١٢٥٦ م.

٨

وكانت مواتاً ، وتراجع اهلها وكانوا اشتاتاً ، ورغب الاحداث في التأدب ، والشيوخ في التاديب ، وانبعثت القرائح ، ونفقت اسواق الفضل ، وكانت كاسدة واخرج من بيت المال اموال عظيمة صرفت في هذه الابواب وفي غيرها من الصدقات على ذوي الحاجات من اهل الملة ، وتجاوزهم الى اهل الذمة» (١).

وقد امتازت هذه الفترة التي عاش فيها الشيخ النجاشي بالخصب العلمي والادبي ، اذ كان بيت الوزير يمثل مدرسة ، بل جامعة تحوي الواناً مختلفة من الثقافة ، وضروباً من العلم والادب (٢). ولعبت دور العلم ببغداد دوراً مهماً وبارزا في انعاش الحركة الفكرية ، فقد كانت تقوم وبصورة عريضة بمهمة تعليمية ، لا سيما ان بعض روادها يقصدونها من اماكن بعيدة ويقيمون فيها مدة طويلة ، وان القائمين على تلك الخزانات يسهمون بنفقات اولئك الرواد (٣). منها دار العلم التي شيدها الوزير ابو نصر بن سابور (٣٣٦ ـ ٤١٦ هـ) الذي كان من اكابر الوزراء ، واماثل الرؤساء ، جمعت فيه الدراية والكفاية ، وكان محط الشعراء والادباء (٤).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ مسكويه ، تجارب الامم ، ٦ / ٤٠٨.

٢ ـ الزهيري ، الادب في ظل بني بويه ، ص ١٢٧.

٣ ـ فياض ، تاريخ التربية عند الامامية ، ص ٨٧.

٤ ـ ابن خلكان ، وفيات الاعيان ، ٢ / ٩٩. ابن كثير ، البداية والنهاية ، ١٢ / ١٩.

Litteres of Abul-Ala of Maarat Al-Numan, P. xxiii,. Margolioth , M. A.

٩

وقد بنى هذه الدار العظيمة بمدينة بغداد عام ٣٨١ هـ. وحمل اليها كتب العلم من كل فن وسماها «دار العلم» وكان فيها اكثر من عشرة الاف مجلد. ووقف عليها الوقوف ، واكنت تضم مائة مصحف بخطوط بني مقلة (١).

ويقول ياقوت الحموي «لم تكن في الدنيا احسن كتباً منها كلها بخطوط الأئمة المعتبرة واصولها المحررة» (٢). وقد عمل لكتب هذه الدار فهرساً ، ورد النظر في امورها ومراعاتها والاحتياط عليها الى الشريفين ابي الحسين محمد بن الحسين بن ابي شيبة ، وابي عبد الله محمد بن احمد بن الحسين ، والقاضي ابي عبد الله الحسين بن هارون الضبي. وكلف الشيخ ابا بكر محمد بن موسى الخوارزمي فضل العناية بها (٣).

ويقول ابي كثير : ان دار العلم السابورية هي اول مدينة وقفت على الفقهاء ، وكانت قبل المدرسة النظامية بمدة طويلة (٤).

واصبحت ملتقى رجال الفكر والادب ، ومنتدى العلماء والباحثين ، يشدون اليها الرحال ، وقد تردد عليها الشاعر الكبير ابو العلاء المعري (٣٦٣ ـ ٤٤٩ هـ) اثناء مكوثه ببغداد ، وقد آثر الاقامة بها عام ٣٩٩ هـ ، وله فيها قصيدة معروفة منها (٥) :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابن الجوزي ، المنتظم ، ٨ / ٢٢. السيوطي ، تاريخ الخلفاء ، ص ٤١٢.

٢ ـ ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، ١ / ٧٩٩.

٣ ـ ابن الجوزي ، المنتظم ، ٧ / ١٧٢. ينظر كرد علي ، خطط الشام ، ٦ / ١٩٠.

٤ ـ ابن كثير ، البداية والنهاية. ١١ / ٣١٢.

٥ ـ ابو العلاء المعري ، شروح سقط الزند ، السفر الثاني ، القسم الثالث ، ص ١٢٣٩.

١٠

وغنت لنا في دار سابور قينة

من الورق مطراب الاصائل ميهال

والمقصود من القينة هنا ، حمامة سمعها تهدل على شجرة مزهرة من اشجار دار العلم كانت تطرب بالعشيات (١). وبقي ابو العلاء المعري بعد مغادرته بغداد يحن الى دار العلم ، ويتذكر اجواءها العلمية وما يدور في رحابها من اراء ومناقشات ، وقد دون مذكراته في رسائله ، حيث ارسل من معرة النعمان الى ابي بكر محمد بن احمد الصابوني البغدادي يقول : «وشوقي اليه والى الجماعة الذين عرفتهم بمدينة السلام كالنسيم لا يجمد ، ونار فارس ليست تخمد» (٢).

وقد آلت هذه الدار العلمية بعد وفاة مؤسسها عام ٤١٦ هـ الى الشريف المرتضى ، حيث عين عليها ابا عبد الله بن احمد مشرفاً (٣). وبقيت هذه المكتبة تؤدي دورها العلمي والفكري حتى عام ٤٥١ هـ ، فقد احترقت عند دخول طغرلبك السلجوقي مدينة بغداد بعد قضائه على حركة البساسيري ، وقد احترقت فيما احرق من محال بغداد (٤). وذلك بعد عام واحد من وفاة الشيخ النجاشي ، ومن المحتمل انه قد استفاد من كتب هذه المكتبة ، كما استفاد منها معاصرة الشيخ الطوسي ، والتقى بعدد من روادها ، وهو وان لم يشر اليها في كتابه «الرجل»

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابو العلاء المعري ، شروح سقط الزند ، السفر الثاني ، القسم الثالث ، ص ١٢٣٩.

٢ ـ ابو العلاء المعري ، رسائل ابي العلاء ، الرسالة الخامسة عشر ، ص ٤٥.

٣ ـ ياقوت الحموي ، معجم الادباء ، ٦ / ٣٥٩.

٤ ـ ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، ٤ / ٢٥٥.

١١

، ولكنها كانت ملتقى لاهل العلم والفكر ، كما كانت «دار العلم» التي انشاها الشريف الرضي تقوم بالدور نفسه خدمة للعلم والثقافة ، وقد خصصت لطلبتها جميع ما يحتاجون اليه (١).

يقول السيد ابن عتبة الداودي : ان الشريف الرضي امر ان يتخذ لخزانة الدار مفاتيح بعدد الطلبة ، ويدفع الى كل منهم مفتاح لياخذ منها ما يحتاج اليه ، ولا ينتظر خازنا يعطيه (٢) ، وقد كانت هذه الخزانة في مصاف الخزائن الكبرى ببغداد ، منظمة تنظيماً حسناً (٣).

ويقول مرجليوت : كان الشريف الرضي قد اتخذ بيتاً خاضاً يجتمع فيه الدارسون والمعجبون (٤). كما كانت للشريف المرتضى بمدينة بغداد مكتبة كبيرة تحتوي على ثمانين الف مجلد ، وقد اشار اليها ابو القاسم التنوخي بقوله : حصرنا كتبه فوجدناها ثمانين الف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومفرداته (٥). وكانت هذه المكتبة ملتقى العلماء والادباء والباحثين ، ومن النادر ان يجتمع نظيرها عند احد (٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ادم متز ، الحضارة الاسلامية ، ١ / ٣١٢.

٢ ـ بن عنبة ، عمدة الطالب ، ص ١٩٨ ـ ص ١٩٩.

٣ ـ عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق ، ص ٢١٣.

٤ ـ Litters of Abul Ala. P. xxiii.

٥ ـ ابن عنبة ، المصدر السابق ، ص ١٩٥. الحسيني ، الدرجات الرفيعة ، ص ٤٦٣.

٦ ـ عواد ، خزائن الكتب القديمة في العراق ، ص ٢٣٤.

١٢

ويقول ابن حجر : انها كانت دار علم ومناظرة (١). ومن اجل استمرار الحركة العلمية بمدينة بغداد ، اوقف الشريف المرتضى «قرية على كاغد الفقهاء» (٢) ، وكان الاتقياء من الناس ، وذوو اليسار منهم ، وعشاق العلم والمعرفة في بغداد ينشئون المدارس ويوقفون عليها بعض املاكهم لسد حاجات المدرسين والطلبة (٣).

وكان بعض الكتاب والباحثين يهدون مؤلفاتهم ومصنفاتهم الى دور العلم ببغداد (٤).

وهكذا غدت هذه المدينة خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة مركزاً مهماً من مراكز العلم والثقافة. ومبعث الحركة الفكرية ، ومباءة العلم الوحيدة ، بل حاضرة الثروة والرفاهية والمدنية (٥).

فكان طلاب العلم يفدون إلي مراكزها الثقافية من جميع اطراف العالم الاسلامي ، ليرتووا من نميرها العذب الفياض ، ويتصلوا بعلمائها وشيوخها ، وكان الشيخ النجاشي واحدا من هؤلاء الاعلام الذين عايشوا الحركة العلمية في بغداد ، وتتلمذ على علمائها ، وعاصر مجدها الذهبي في العلم والمعرفة ، ولكنه في الوقت نفسه قد شاهد احداثا اثرت على مسيرة الحركة العلمية واصابتها بانتكاسات مروعة ، لان الازدهار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابن حجر ، لسان الميزان ، ٤ / ٢٢٣.

٢ ـ الافندي ، رياض العلماء ، ٣ / ورقة ٣٣٢.

٣ ـ خدا بخش ، الحضارة الاسلامية ، ص ١٧٣.

٤ ـ ياقوت ، معجم الادباء ، ١ / ٥ ـ ٦. ابن ابي صيعة ، عيون الانباء ، ١ / ١٤٦.

٥ ـ كرد علي ، الاسلام والحضارة الاسلامية ، ٢ / ٤٢.

١٣

الفكري والعلمي والثقافي الذي شهدته مدينة بغداد ، كان له في بعض الاحيان ردود فعل مضادة من قبل السلفيين المتشددين الذين استغلوا بعض الاجواء الخاصة لحمل السلطة على التراجع عن الانفتاح لصالح الحرية الفكرية السائدة ، ومن ثمة اصبح رجال العلم الذين يدرسون العلوم العقلية الى جانب العلوم الشرعية في خطر ماحق. فقد اعتبرهم السلفيون خطرا على الدين ، فاخذوا يضطهدونهم ويطاردونهم (١).

وقد بدأت هذه الحملة الضارية على يد الخليفة القادر بالله (٣٨١ ـ ٤٢٢ هـ) معتقداً ان العناصر المناوئة للحركة السلفية ذات صلة فكرية وعقائدية بالخلافة الفاطمية بمصر التي كانت انذاك قوة تهد العباسيين تهديداً مباشراً ، فقد انتشرت دعوتهم فيكل مكان من العراق (٢). فرأى الخليفة العباسي ، ازاء هذا الخطر ان يضعف من شأن الدعوة الفاطمية بهذه الطريقة القاسية ، وان يتخذ من السلفية قوة مناوئة لها ، ولهذا السبب توجه القادر بالله الى العلماء وذوي المكانة الدينية في تجريد حملة تشكيك مركزة ضد الفاطميين ، والطعن بعلويتهم ونسبهم الى الكفر والفسق ونحو ذلك (٣).

وفي ٤٢٧ هـ ، امر بترك التعامل بالدنانير المغربية ، وامر الشهود ان لا يشهدوا في كتاب ابتياع ولا اجارة ولا مداينة يذكر فيها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ الحكيم ، الشيخ الطوسي ، ص ٤٩ ـ ص ٥٠.

٢ ـ ابو الفدا ، المختصر في اخبار البشر ، ٢ / ١٤٢ ـ ١٤٣. المقريزي ، اتعاط الحنفا ، ص ٤٥ ـ ص ٤٧.

٣ ـ حسن ابراهيم حسن ، تاريخ الدولة الفاطمية ، ص ٢٢٨.

١٤

هذا الصنف من الدنانير فعدل الناس الى الدنانير القادرية والنيسابورية والقاشانية (١). وفي عام ٤٤٤ هـ كتب محضر ببغداد تناول الفاطميين بالقدح بنسبهم ونفيهم من الانتساب الى الامام علي عليه السلام ، وسير الى الافاق (٢).

بيد ان هذه المحاولات لم تحل دون نجاح الدعوة الفاطمية وازدياد الاقبال عليها حتى في مركز الخلافة العباسية نفسها ، خصوصاً بعد انتزاع البساسيري بغداد من ايدي العباسيين ، والعمل فيها علناً للخليفة الفاطمي عام ٤٥٠ هـ. كما استطاع داعي دعاة الفاطميين هبة الله الشيرازي (ت ٤٧٠ هـ) ان يضم ابراهيم ينال اخا طغرلبك الى الفاطميين (٣). وبذل هبة الله الشيرازي جهداً حثيثا من اجل تكوين جبهة مضادة للخليفة العباسي في بغداد من امراء العرب والاكراد ، وخلع عليهم الخلع الفاطمية النفيسة التي لم يشاهدوا لها مثيلاً (٤).

وكانت الاجواء السياسية والاجتماعية المضطربة في بغداد في الفترة بين ٤٠٠ ـ ٤٥٠ هـ قد ساعدت العيارين والشطار على اتساع حركاتهم في بغداد ، ولم تكن السلطة انذاك في وضع يمكنها من السيطرة عليهم ، ففي عام ٤١٦ هـ كبس العيارون دور الناس نهاراً وفي الليل بالمشاعل والموكبيات ، وكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابن الجوزي ، المنتظم ، ٨ / ٨٨.

٢ ـ المقريزي ، اتعاظ الحنفا ، ص ٢٧٩.

٣ ـ مير خواند ، روضة الصفا ، ٣ / ٥٢٥.

٤ ـ المؤيد في الدين ، ديوان المؤيد ، ص ٤٣.

١٥

ويستخرجونها منه بالضرب كما يفعل المصادرون ، ولم يجد المستغيث مغيثاً (١). وفي عام ٤١٧ هـ تسلط الاتراك في بغداد ، فاكثروا مصادرات الناس ، وعظم الخطب ، وزاد الشر ، ودخل في الطمع العامة والعيارون (٢).

تلك كانت من جملة الاسباب التي دعت الى استيلاء السلاجقة على بغداد عام ٤٤٧ هـ ، غير ان هؤلاء سرعان ما انحازوا الى الاتجاه السلفي المتشدد ، واسرفوا في الفتك والبطش ، ووقعت في بغداد احداث خطيرة بسبب انحيازاتهم المذهبية ، وكانت المدة بين عامي ٤٤٧ ـ ٤٤٩ هـ من اعنف الفترات التي شهدتها بغداد ، فكثر الغلاء وتعذرت الاقوات ، واكل الناس الميتة ، وحقهم وباء عظيم ، فكثر الموت حتى دفن الموتى بغير غسل ولا تكفين (٣).

ويقول ابن تغري بردي : قد عم الوباء والقحط والفناء مدينة بغداد وغيرها من المدن خلال هذه الفترة (٤). ولاشك ان لهذا كله صلة بالانقسام الداخلي الذي اشتعل اواره في تلك الفترة ، لانه استنفد كثيراً من جهود الناس وصرف الدولة عن العناية بالمشاريع وتثبيت الامن والنظام وغير ذلك مما هو ضروري للانتعاش الاقتصادي. ويقول ابن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابن الجوزي ، المنتظم ، ٨ / ٢٢.

٢ ـ ابو الفدا ، المختصر ، ٥ / ١٥٦.

٣ ـ ابن الاثير ، الكامل ، ٩ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٤ ـ ابن تعري بردي ، النجوم الزاهرة. ٥ / ٥٩.

١٦

الاثير : «ونهب الغر درب يحيى ودرب سليم ، ونهبت الرصافة وترب الخلفاء ، واسرفوا بالنهب» (١).

وفي هذا الظرف العصيب الذي عاشه الشيخ النجاشي والذي مرت به مدينة بغداد ، ضاع كثير من التراث العربي الاسلامي ، واخمد صوت الفكر والادب والعلم ، وتعرض رجاله للاضطهاد والتنكيل ، ففي عام ٤٤٨ هـ كبست دار الشيخ ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي فقيه الامامية الاكبر ، واحرقت كتبه ، ونهبت داره ، وبمحضر من الناس (٢). واحرق كرسي التدريس الذي منحه الخليفة القائم بامر الله له (٣). وقد فر على اثرها الى مدينة النجف الاشرف ، وقتل ابو عبد الله الجلاب على باب دكانه ، وهو من كبار علماء الشيعة (٤).

وفي عام ٤٥١ هـ احرقت بغداد الكرخ ومنطقة بين السورين ، وخزانة دار العلم التي اوقفها الوزير سابور بن اردشير (٥). ويعلق الاستاذ محمد عبد الرحيم غنيمة على ذلك بقوله : ان دار العلم السابورية اصبحت موطناً من مواطن التشيع ومركزاً هاماً من مراكزه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ ابن الاثير ، الكامل. ٩ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

٢ ـ ابن الجوزي ، المنتظم ، ٨ / ١٧٣. ابن كثير. البداية والنهاية. ١٢ / ٧١. السبكي ، طبقات الشافعية الكبرى. ٤ / ١٢٧ حاجي خليفة ، كشف الظنون ، ١ / ٤٥٢.

٣ ـ ابن الجوزي ، المنتظم ، ٨ / ١٧٩.

٤ ـ ابن كثير ، البداية والنهاية ، ١٢ / ٦٩. الطهراني ، طبقات اعلام الشيعة / القرن الخامس ، ص ١٠.

٥ ـ ابن الاثير ، الكامل. ١٠ / ٣.

١٧

ولم تلبث دار العلم ان اتخذت طابعاً شيعياً قوياً واصبحت من اهم الوسائل لبث الدعوة الشيعية (١). ومن ذلك يبدو ان حملة السلاجقة كانت عنيفة ضد المؤسسات الفكرية عند الامامية بحيث تناولت معظم مؤسساتهم الدينية والتعليمية بما فيها اوقاف التعليم (٢). وبذلك اصبحت الكتب والنفائس الاخرى هدفاً لاطماع الموظفين. واصحاب الغنائم الخاصة كما يقول ابن الاثير (٣).

كما سعى السلاجقة ـ بعد هذه الحملة الضارية على الشيعة وتراثها الفكري ـ الى انشاء المدارس النظامية التي كان من اهدافها مكافحة التشيع (٤).

هذه هي حالة العصر الذي عاش فيه الشيخ النجاشي ، بما فيه من اضواء مشرقة لامعة ، وموجات ظلام دامس قاتم ، وكانت حياته الاخيرة قد شهدت القسم الثاني من هذه الفترة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ غنيمة ، تاريخ الجامعات ، ص ٥٨.

٢ ـ فياض. تاريخ التربية عند الامامية ، ص ٢٦١.

٣ ـ ابن الاثير ، الكامل ، ١٠ / ٣.

٤ ـ طوطم ، التربية عند العربر ، ص ٤١ ، حسين امين ، تاريخ العراق في العصر السلجوقي ، ص ٢٢٢. فياض ، تاريخ التربية عند الامامية ، ص ١٠٢.

١٨

الفصل الثاني

حياة

الشيخ النجاشي

١٩

نسبه واسرته :

اوضح الشيخ النجاشي نسبه العربي ، وملامح عن اسرته بقوله : احمد بن علي بن احمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن ابراهيم بن محمد بن عبد الله النجاشي الذي ولي الاهواز ، وكتب الى ابي عبد الله (الامام جعفر الصادق) عليه السلام يسأله ، وكتب اليه رسالة عبد الله النجاشي المعروفة ، ولم ير لابي عبد الله عليه السلام مصنف غيره ـ بن غنيم بن ابي السمال سمعان بن هبيرة الشاعر بن مساحق بن بجير بن اسامة بن نضر بن قعين بن الحرث بن تغلبة بن دودان بن اسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (١).

ويقول السيد الامين : ان «غنيم» احد اجداد الشيخ النجاشي يرد اسمه «غنيم» وان تغلبة بن دوان ، يردان (ثعلبة بن تودان) ، وقال : ان اليسع يرد بعد مدركة ، والذي لم يورده الشيخ النجاشي في ترجمته (٢).

ولم يشر الشيخ النجاشي الى وجه تسمية جده عبد الله بالنجاشي ، وكان من اجداده الابعدين «ابو السمال» الشاعر الاسدي. وان بين ال ابي سمال من بيوتات الكوفة ، قديم التشيع ، وقد برز فيهم عدد من العلماء والمصنفين ورواة الحديث من زمن عبد الله صاحب الرسالة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١ ـ النجاشي ، الرجال ، ص ٧٤ ، انظر التستري ، قاموس الرجال ، ص ٣٢٢.

٢ ـ الامين ، اعيان الشيعة ، ٩ / ٦٩.

٢٠