تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ٢٢

محبّ الدين أبي عبدالله محمّد بن محمود بن الحسن [ ابن النجّار البغدادي ]

تاريخ بغداد أو مدينة السّلام - ج ٢٢

المؤلف:

محبّ الدين أبي عبدالله محمّد بن محمود بن الحسن [ ابن النجّار البغدادي ]


المحقق: مصطفى عبد القادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٨

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الخطيب أبو بكر أحمد بن على بن ثابت البغدادي ، صاحب التاريخ في تاريخه : أخبرنا العتيقى أنبأنا محمد بن العباس أنبأنا أبو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب قال : سمعت إبراهيم الحربي يقول : كان أبو حنيفة طلب النحو في أول أمره فذهب يقيس فلم يجيء ، وأراد أن يكون فيه أستاذا قال : قلب وقلوب. وكلب وكلوب. فقيل له كلب وكلاب ووقع في الفقه ، فكان يقيس ولم يكن له علم بالنحو؟ فسأله رجل بمكة. فقال له : رجل شجّ رجلا بحجر. فقال : هذا خطأ ليس عليه شيء لو أنه حتى يرميه بأبا قبيس لم يكن عليه شيء.

فأقول وبالله التوفيق.

هذا من يكون عالما بالعربية. لأن الشرع مردود إلى ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والعربية مردودة إلى العرب. فما جاء عنهم أخذنا به. فإن كان كثيرا جوزناه وإن كان قليلا جدا. قال سيبويه في مثل هذا : سمعنا من العرب من يقول ذاك ، فإن كان قد سمعه من فصيح أو موثوق به نبه عليه. فقال سمعناه ممن يوثق بعربيته ، وقوله : بأبا قبيس. قد جاء مثله للعرب وهو قولهم :

إن أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

فهذا منقول عن العرب. وقد قرئ في قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه ٦٣]ولم يقرأ إن هذين غير أبى عمرو. فكان بعض العرب يجعل التثنية مبنية على هذا الوجه. ألا ترى إلى اسم إن لم يتغير بدخول إنّ عليه معما أنهم لم يدخلوا في كلامهم إن إلا للتأكيد. والحروف الستة عند بعض العرب مبنية إذا كانت مضافة تقول : رأيت أباك ، ومررت بأباك. وقد جاء في قول الشاعر :

إذا ابن أبى موسى بلالا بلغته

وقام بفأس بين وصلاك جازر

وأكثر الرواية فيها على الوجه الأصلى وهو : بين وصليك. قال سيبويه : واعلم

٥

أنهم لا يغيرون كلامهم إلا وهم يحاولون بذلك وجها لعلمه بأن إن مؤكدة لما كانت داخلة على مبتدإ وخبر وفيه معنى لا يحتاج إلى دخولها ألا ترى إلى قولهم زيد منطق أنه كلام تام مبتدأ وخبره. وإنما أدخلوا إن لتؤكد هذا المعنى الذي في المبتدأ والخبر من غير إخلال. ولما كانت إن جامدة جمود الاسم كان عملها فيه ـ أعنى النصب ـ بخلاف كان. لأنها منصرفة تقول : كأن يكون كونا فلما دخلت على الماضي والمستقبل والحال أشبهت الأفعال. فكان عملها فيها تقول : كان زيد منطلقا. ترفع الاسم وتنصب الخبر بخلاف إن. فإذا كانت إن مزادة للتأكيد لم تغير إن عن عملها في التثنية. كيف تغيرها الباء الزائدة مع أنها تحذف ولا تعمل. وكونها زائدة يكفى فيما ذكرت.

وأما كلام أبى حنيفة رضى الله عنه في العربية غير مخفي وهو ما حكى عنه محمد ابن الحسن رضى الله عنه وسأذكر بعض ذلك لتقف عليه إن شاء الله تعالى.

* * *

مسألة

رجل قال لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار. لا تطلق حتى تدخل الدار ولو فتح «أن» طلقت للوقت. والفرق بينهما أنه إذا كسر إن كانت للشرط وإذا فتحها كانت بتقدير اللام. فكأنه قال لدخولك الدار. فلم يصر هذا الكلام من صفة الطلاق ولا من الشرط. فصار كأنه قال مبتدأ : أنت طالق. فطلقت في الوقت. قال سيبويه في باب من أبواب أن التي تكون والفعل بمنزلة مصدر تقول : أن تأتنى خير لك كأنك قلت الإتيان خير لك. ومثل ذلك قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة ١٨٤] يعنى الصوم خير لكم. قال عبد الرحمن بن حسان :

إنى رأيت من المكارم حسبكم

أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا

كأنه قال : رأيت حسبكم لبث الثياب.

واعلم أن اللام ونحوها من حروف الجر قد تحذف من أن ، كما حذفت من إن ، جعلوها بمنزلة المصدر حين قلت فعلت ذاك حذر الشر ، أى لحذر الشر.

ويكون مجرورا على التفسير الآخر. يعنى حين قدرها باللام التي تجر. ومثل ذلك قولك : إنما انقطع إليك أن تكرمه أى لأن تكرمه قال الله تعالى :

٦

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ) [البقرة ٢٨٢] أى لأن تضل : وقال : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) [القلم ١٤] أى لأن كان ذا مال. قال الأعشى :

أأن رأت رجلا أعشى أضربه

ريب المنون ودهر تابل خبل

فإن المخففة هنا حالها في حذف حرف الجر كحال إنّ المثقلة. وتفسيرها كتفسيرها وهي وتفسيرها بمنزلة المصدر. ألا ترى أنك لو قلت : لم يك ولم أبل. لم يتغير عملها بالحذف لأن أصل أك أكن حذفت النون لكثرة الاستعمال. وكذلك أبل أصلها أبالى فلما حذف منها ما حذف لم يتغير عملها كذلك أن لما خففت نفى عملها إلا ان الفرق بين المكسورة والمفتوحة ما ذكرت.

* * *

مسألة

رجل قال لامرأته : ـ وهي غير مدخول بها ـ إن كلمتك فأنت طالق إن كلمتك فأنت طالق. إن كلمتك فأنت طالق. طلقت واحدة لأنه في المرة الأولى حلف بطلاقها أن لا يكلمها فإذا قال لها في المرة الثانية : إن كلمتك فأنت طالق وجد شرط انحلال اليمين الأولى ، ووقعت تطليقة يعنى أنه إذا قال إن كلمتك فقد جاء بالشرط والجزاء والشرط والجزاء كلام تام. لأنه مثل المبتدإ والخبر. ففيه فائدة تامة. فإذا كان كذلك صار كلام تاما فوقع به الطلاق وإن كان قد أوجب شرطا آخر فلما قال في المرة الثالثة وجد منه الكلام ولم يصادف الشرط ما يمكن أن يكون جزاء فلغا ألا ترى إلى قوله : إن كلمتك فأنت طالق يقتضى كلام تاما مفهما للمعنى وإنما يتم بقوله فأنت طالق فوجب أن لا يحنث في الأولى إلا بعد الفراغ من الثانية ولما فرغ من الثانية كانت في ملكه ، فصح إدخالها في الجزاء فانعقدت اليمين الثانية فإذا قال في المرة الثالثة حنث في اليمين الثانية لكن لم تصادف الملك فلغا فلا تنعقد اليمين الثالثة لأنها كانت خارجة عن ملكه فإن تزوجها بعد ذلك وكلها لا يحنث ، لأن اليمين الثالثة لم تنعقد ولو كانت المرأة مدخولا بها تقع تطبيقات لأن الأولى انحلت بالثانية والثالثة وبقيت الثالثة منعقدة فإذا كلمها وهي في العدة تقع أخرى لوجود الشرط في علقة الملك. ولو قال لامرأته ـ ولم يدخل بها ـ : أن حلفت بطلاقك فأنت طالق ، قالها ثلاث مرات وقعت تطبيقه واحدة ، لأنه في المرة الأولى حلف بطلاقها أن لا يحلف بطلاقها فإذا قال لها في المرة الثانية : أن حلفت بطلاقك فأنت طالق فقد

٧

حلف بطلاقها ووجد الشرط ، فانحلت اليمين الأولى وطلقت واحدة ، واليمين الثانية منعقدة لأنه إنما حنث في اليمين الأولى بعد الفراغ من اليمين الثانية لأن اليمين إنما تصح بالجزاء وحينما تكلم بالجزاء كانت في ملكه فلما كررها في المرة الثالثة لم تنحل اليمين الثانية ، لأن المرأة بانت بلا عدة ، فلم يصح في المرة الثالثة إدخالها تحت الجزاء فوجد شرط حنثه وهو الحلف بطلاقها ، بخلاف المسألة الأولى ففرق بين قوله : إن كلمتك وإن حلفت بطلاقك ، لأن شرط الحنث هناك هو الكلام ، والكلام يصح إن كانت المرأة في ملكه أو لم تكن واليمين بالطلاق لا يصح إلا في ملك ، أو في علقة من علائق الملك ، أو في مضاف إلى الملك.

* * *

الأصل في مسائل الأيمان

إن اليمين على ضربين : يمين يراد بها تعظيم المقسم به وهو الحلف بالله تعالى ويمين هي شرط وجزاء. قال سيبويه : اليمين جملة يؤكد بها الكلام.

قوله جملة ، يعنى من فعل وفاعل ، أو من مبتدأ وخبر ، أو شرط وجزاء : أما المبتدأ والخبر قولك : والله لا كلمت زيدا ، والجملة التي من فعل وفاعل : والله خالق السموات لا كلمت زيدا ، والشرط والجزاء كقولك : إن دخلت الدار فو الله لا كلمتك وهنا لا يصح إلا في الملك أو مضافا إلى الملك أو في علقة من علائق الملك ، وأما الشرط فيصح في الملك وغيره. والمحلوف عليه من دخل تحت الجزاء لا من دخل تحت الشرط لأن الجزاء قوله أنت كذا وكان هو الداخل تحت اليمين وإنما لا يحتاج الشرط أن يكون في الملك لأن ذكر الشرط ليس بتصرف في الملك والجزاء إنما يجازى بما في ملكه فلذلك سمى جزاء لأن المجازاة هي أن يكون منك فعل قبالة فعل غيرك أو فعل غيرك قبالة فعلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر قال الله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وقال الشاعر :

جزى الله عنا ذات بعل تصدقت

على عزب حتى يكون له أهل

فإنا سنجزيها كما فعلت بنا

إذا ما تزوجنا وليس لها بعل

ألا ترى إلى قوله : نجزيها كما فعلت وجزى الله والمعلق بالشرط لا ينزل إلا عند وجوده والنكرة في النفي تعم. تقول : ما رأيت اليوم رجلا تقديره ما رأيت اليوم

٨

أحدا من الرجال ، وفي الإثبات تخص ، لأنك لو قلت رأيت اليوم رجلا اقتضى كلامك رؤية رجل واحد.

* * *

مسألة

وقال : رجل قال لامرأته ـ ولم يدخل بها ـ إن حلفت بطلاقك فأنت طالق قالها ثلاث مرات وقعت تطليقة واحدة. لأن في المرة الأولى حلف بطلاقها أن لا يحلف بطلاقها فإذا قال لها في المرة الثانية : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق فقد حلف بطلاقها ووجد الشرط فانحلت اليمين الأولى وطلقت واحدة ، واليمين الثانية منعقدة لأنه إنما حنث في اليمين الأولى بعد الفراغ من الثانية ، لأن اليمين إنما تصح بالجزاء ، وحينما تكلم بالجزاء كانت في ملكه ، فلما كررها في المرة الثالثة لم تنحل اليمين الثانية : لأن المرأة بانت بلا عدة ، فلم يصح في المرة الثالثة إدخالها تحت الجزاء ، فوجد شرط حنثه. وهو الحلف بطلاقها ، بخلاف المسألة الأولى ، لأنه لم تنحل اليمين الثانية ، لأن شرط الحنث هناك هو الكلام. والكلام يصح وإن لم تكن امرأته وهاهنا شرط الحنث الحلف بطلاقها وذلك لا يصح إلا في الملك. ثم إذا تزوجها وقال لها إن دخلت الدار فأنت طالق طلقت باليمين الثانية لوجود الشرط ، وهو الحلف بطلاقها وإن لم يتزوجها ولكن قال لها إن تزوجتك ودخلت الدار فأنت طالق ، حنث في اليمين الثالثة أيضا لأنه أضافها إلى الملك فصحت اليمين وانحلت اليمين الثانية ووقع الطلاق ، إلا أنه لم يصادف الملك فلغا. واليمين التي أضافها إلى الملك صحيحة ، فلو تزوجها ودخلت الدار وطلقت باليمين الثالثة ولو كانت مدخولا بها يقع تطليقان لأن اليمين الأولى انحلت بالثانية والثانية انحلت بالثالثة لأنها وجدت في علقة من علائق الملك وهي العدة وبقيت الثالثة منعقدة. فإذا قال لها وهي في العدة : إذا دخلت الدار فأنت طالقا انحلت الثالثة أيضا ووقع عليها أخرى.

* * *

مسألة

وقال رجل : قال امرأته طالق إن تزوج النساء أو اشترى العبيد ، أو كلم الناس. فتزوج امرأة واحدة ، أو اشترى عبدا واحدا ، أو كلم رجلا واحدا حنث لأن الألف واللام إنما يدخلان على السابق المعهود. كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ

٩

رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ألا ترى أنه ذلك الرسول الأول. وإنما لما كان تقدم أمره وجرى ذكره ثانيا وقعت الدلالة أن الألف واللام تكون للسابق المعهود ، أو للجنس والجنس يقتضى الواحد فصاعدا. قال الله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) وذلك أنه لم يرد سارقا بعينه فكأنه قال : اقطعوا هذا الجنس والأصل فيما ذكرت أن اسم الجنس لا يقتضى عددا محصورا بل الواحد فصاعدا واسم الجمع يقتضى عددا محصورا. كما قال في رجل قال : امرأته طالق أن تزوج نساء أو اشترى عبيدا. فإن لم يتزوج ثلاثا أو يشترى ثلاثا لا تطلق لأنه أخرج الكلام مخرج الجمع. أو قل الجمع الصحيح ثلاثة. وذلك أن العرب فرقت بين الواحد والاثنتين والثلاثة. فالواحد جاء عددا وصفة. أما الواحد العدد كما تقول واحد اثنان. وأما الصفة فكما تقول جاء زيد وحده. وأما الاثنان فعدد له صيغة يتميز بها عن الآحاد والمجموع. فإذا أرادوا أن يصفوهما قالوا جاء الرجلان كلاهما قال الشاعر :

يا رب حىّ الزائرين كليهما

وحىّ دليلا بالفلاة هداهما

ألا ترى أنه لما وصف الزائرين وهما مفعولان قال كليهما فنصب كما نصب الزائرين ، وأما فجعلوهم صيغة واحدة لأن أكثر العدد لا يتناهى. فلو جاءوا يعلمون لكل عدد صيغة لطال عليهم ، فوحدوا وثنوا وجمعوا. أما التوحيد فكما علمت للفرد. وأما التثنية فلأنه أضاف واحدا إلى واحد وكذلك الجمع. فإنه أضاف واحدا إلى واحد وأما من قال أن التثنية جمع فهو على ما ذكرت من أنه جمع واحد. فهو على الحقيقة جمع بالنسبة إلى الفرد. وعلى هذا جاء قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) وإجماع الناس على أنه إذا كان له أخوان كان لأمه السدس. وقد جاءت التثنية بلفظ الجمع وليس ذلك إلا نظرا للجمع على الحقيقة إذ كان ذلك جمع واحد إلى واحد فعلى هذا ساغ أن تكون التثنية جمعا. قال الله تعالى : (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) قال الله تعالى تسوروا ودخلوا ، وهذا لا يكون إلا على الجمع لأنه بين بعد ذلك وقال خصمان قال الخليل : فهذا على إن الاثنين عندهم جمع أيضا وصار بمنزلة قول الاثنين نحن فعلنا. قال الشاعر :

ظهراها مثل ظهور الترسين

١٠

وإلا فصيغة كل جزء مما ذكرت مختصة على حدة. وأكثر الجمع عندهم تسعة وأقلهم ثلاثة ، لأنه بعد التسعة يكرر لفظ الآحاد والجموع. فلو قال قائل إنكم إنما تجعلون الربع يقوم مقام الكل فلم جعلتم هنا الثلاث أعنى صيغة لفظ الجمع قلنا : إن ربع التسعة اثنان وربع ولما كانت الأعداد من شأنها الصحة لا الكسور وكان الرابع داخلا في الجزء والثلث غير منفصل عنه وليس فصله ممكن ، ساغ أن يكون صيغة لفظ الجمع منطلقة على الثلاث إذا لا يمكن أقل من ذلك قال الله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) وهي شهران وعشرة أيام فلما دخل بعض الثالث في الكلام اقتضى النطق به بلفظ الجمع.

* * *

مسألة

رجل قال : والله لا أشرب من الفرات. إن شرب كرعا حنث ، وإن شرب بآناء لم يحنث وذلك أنه إذا قال من فمن هنا لابتداء الغاية ولا يكون للتبعيض فلو أنها للتبعيض كان لا يحنث أبدا لأن الفرات اسم للأرض وليست باسم للماء فلو كان الفرات اسم الماء لكان المسمى ذهب وما أتى لم يسم وأنت إذا قلت أتيت الفرات لم ترد أنك أتيت الماء ولكنك تريد أنك أتيت البلاد التي على النهر فالنهر اسمه الفرات لا الماء فكأنك قلت والله لا أشرب من هذا الكوز ولو قلت هكذا لكانت يمينك على الشرب من الكوز لا على ما في الكوز فلو صب ما في الكوز في كوز آخر وشرب منه لم يحنث والنهر كما علمت اسم للحفرة المستطيلة كما قيل سيف منهر لم يرد أن الماء يجرى فيه ولكنه أراد المفقر ومنه سمى سيف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذا الفقار ولو كان قال لا أشرب من ماء الفرات فإن شرب منه أو من إناء نقل من الفرات أو شرب بكفه حنث لأنه أضاف الماء إلى نهر مخصص لأنه لو كان اسما للماء لم يجز إضافته إليه كما تقول ماء الفرات فلو كان الماء اسمه الفرات لما قلت هذا ماء الفرات وإنما كنت تقول الفرات لأن الشيء عندهم لا يضاف إلى نفسه كما لا تقول هذا غلام غلام ولكنك تقول هذا غلام زيد فيضيف الغلام إلى زيد كأنه قال لا أشرب من هذه الماء الذي في هذا الكوز فسواء شرب منه أو من إناء آخر نقل إليه منه حنث ولو قال لا أشرب من هذا البئر يحنث إذا شرب بإناء. الفرق بينهما أن البئر غير مقدور على الشرب منها على الحقيقة فصار كأنه حلف مجازا كما لو قال : والله لا آكل من هذه الشاة فاليمين على لحمها لأنه يقدر على أكلها حقيقة ولو قال لا آكل

١١

من هذه النخلة ، فاليمين على ثمرتها لأنه لم يقدر على أكل عينها حقيقة ، فحمل على المجاز فكذلك الفرق بين الفرات والبئر.

واعلم أن العرب إذا وجدت الحقيقة في كلامهما لا يعدلون عنه وإذا لم يجدوا الحقيقة حملوا كلامهم على المجاز المتعارف فإذا لم يجدوا حملوا على المجاز فأما الحقيقة إذا قال رجل هذا أسد لا يشكون أنه رأى عرباضا ولو قال زيد الأسد حمل على المجاز إذ كان الحمل على الحقيقة متعذرا قال الله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) فلم يرد أنهن أمهاتنا لكنه حمله على المجاز فلما جاء إلى الحقيقة قال : (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) وأما المجاز المتعارف فقوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فإن أحدنا لو جاء الغائط ألف مرة لا ينتقض وضوءه وإنما جعل الغائط كناية عن الحدث وإن كان الحدث أيضا مجازا إلا أننى استقبحت أن أذكر الحقيقة إذ لم أجد له في العربية اسما حقيقيا إلا اسما واحدا وأما المجاز غير المتعارف فقولهم الوطء يكون على الوطء بالقدم على الحقيقة وكناية عن الجماع قال الله تعالى : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) والمراد منه الجماع لأنه لما قال أرضهم وديارهم كفى في البلاد وأرضا لم تطؤها يعنى النساء.

* * *

مسألة

رجل قال : أن خرج فلان من هذه الدار حتى آذن له فعبدي حر. فأذن له مرة ثم خرج بغير أمره لا يحنث لأن حتى تكون للغاية فإذا قال حتى آذن له فكأنه قال غاية ذاك إذني له قال الله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) فلو كان أبوه أذن له مرة لم يحتج إلى إذن ثان. ولو كان قال إلا بإذنى احتاج إلى الإذن في كل مرة. ألا ترى إلى قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فيحتاج إلى الاستئذان في كل مرة.

والفرق بينهما أن المسألة الأولى جعل لها غاية بقوله حتى. فإذا انتهت غايتها سقطت كأنه قال لا أكلمك حتى يدخل رمضان فإذا دخل رمضان جاز له الكلام من غير حنث لأنه جعل رمضان غاية ليمينه. وأما الإذن فقال تعالى : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أى قبل إذنى لكم. فهذا محتاج إلى الإذن كل مرة ، كأنه قال : إلا

١٢

وقد بين أبو حنيفة رضى الله عنه حكم الحرف الوعائى ما لم يبينه أحد. وذلك في قوله رجل قال لآخر : إن شتمتك في المسجد فعبدي حر وقال إن ضربتك في المسجد فعبدي حر. فأما الشتيمة ونحوها مما يجرى من أحدهما فجعله كون الفاعل في المسجد. وأما ما لم يعم الفاعل بنفسه جعل الفعل أن يقع على المفعول فقال إن شتمتك في المسجد. وأما ما لم يعم الفاعل بنفسه جعل الفعل أن يقع على المفعول فقال إن شتمتك في المسجد يحتاج إلى أن يكون الشاتم في المسجد إلا ترى أن الرائي لو رأى رجلا يشتم رجلا أو يكفر ، ويقول : لا تشتم في المسجد أو لا تكفر في المسجد وأما الذي لم يقم بالفعل وحده فلا يحنث ما لم يكن المفعول في المسجد. ألا ترى أن رجلا لو رأى رجلا يذبح شاة والذابح بالمسجد والشاة خارج المسجد يقول لا تذبح عند باب المسجد ولو كانت الشاة بالمسجد والذابح خارج المسجد يقول لا تذبح في المسجد وكذلك لو قال إن قتلتك يوم الجمعة فضربه في غير يوم الجمعة لكنه مات يوم الجمعة حنث ، ولو ضربه يوم الجمعة فمات في غير يوم الجمعة لا يحنث ، لأن القتل لا يكون إلا بزهوق الروح. وقيل زهوق الروح لا يكون قاتلا. وإنما يكون ضاربا.

* * *

مسألة

رجل قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، إن كلمت فلانا. فتزوج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام. فالتي تزوجها قبل الكلام طلقت ولا تطلق التي تزوجها بعد الكلام. لأنه أوجب الكلام من ساعته وجعل كلام فلان غاية ليمينه واليمين إذا انتهت غايتها سقطت فيكون كلام فلان غاية ليمينه وصار شرطا لانحلال اليمين ولم يكن شرطا لانعقاده لأنه أخر الشرط فصار شرطا لانحلال اليمين فدخلت المزوجة قبل الشرط تحت اليمين ، وأما إذا قدم الشرط فقال إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة بعد الكلام وامرأة قبل الكلام فالتي تزوجها قبل الكلام لا تطلق ، لأنه تزوجها قبل اليمين ، والتي تزوجها بعد الكلام تطلق لأنه تزوجها بعد انعقاد اليمين. وهذا لأنه جعل كلام فلان شرط لانعقاد اليمين فصار كأنه قال عند كلام فلان كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، لأنه إذا علق الطلاق بالشرط يكون شرطا لانعقاد اليمين والداخلة تحت اليمين المزوجة بعد الشرط وإن أخر الشرط يكون شرطا لانحلال اليمين والداخلة تحت اليمين المزوجة قبل الشرط ،

١٣

أما إذا وسط الشرط فقال : كل امرأة أتزوجها أن كلمت فلانا فهي طالق صار كما إذا قدم الشرط لأن كلمة هي لا تستبد بنفسها ، فصار كما إذا قال كل امرأة أتزوجها إن كلمت فلانا فالمرأة التي أتزوجها إن كلمت فلانا فالمرأة التي أتزوجها طالق ولو قال إن كلمت فلانا كل امرأة أتزوجها طالق صار الشرط مقدما كذلك هاهنا. وأما إذا وقت وأخر الشرط فقال كل امرأة أتزوجها فهي طالق إلى ثلاثين سنة إن كلمت فلانا. فتزوج امرأة بعد الكلام وامرأة قبل الكلام طلقتا لأنا إنما جعلنا كلام فلان غاية ليمينه من طريق الدلالة. فإذا وقت صريحا خرجت الدلالة من أن تكون للغاية لأن الصريح أقوى منها. ولو قدم الشرط فقال : إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق. فالتي تزوج قبل الكلام لا تطلق ، لأن الكلام صار شرطا ، لانعقاد اليمين على ما ذكت ومن تزوجها بعد الكلام تطلق. ولو وسط فهو كما لو قدم ثم إذا أخر الشرط يعتبر من وقت اليمين ، لأنه أوجب اليمين من ساعته. ولو أخر الشرط يعتبر من وقت الكرم لأن اليمين انعقدت عند الكلام ، وكذلك الجواب في الفصول كلها إذا جعل غاية ليمينه وشرطا لحنثه.

وحروف الشرط إن المكسورة الهمزة المخففة تقول إن تأتنى آتك «ومن» يقول من يمرر أمرر به فقولك إن تذهب وما أشبهه من الفعل الذي يلي إن شرط والجزاء قولك اذهب. وجزاء الشرط ثلاثة أشياء : الفعل وقد ذكرته ، والآخر الفاء. في نحو إن تأتنى فأنت مكرم قال الله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) وإذا ، تقول : إذا احمر البسر أعطيتك قال الله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فموضع الفاء وما بعده جزم وكذلك موضع إذا وما بعدها بدلالة أنه لو وقع موضع ذلك فعل لظهر الجزم. وعلى هذا قرأ بعض القراء (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) فجزم يذرهم لحمله إياه على موضع فلا هادى له.

وقد تقع أسماء موضع إن وتلك الأسماء منها ما هو غير ظرف ومنها ما هي ظرف. فما كان غير ظرف فنحونا ومن ، وأيهم ، تقول من يكرم أكرم. وأيهم تعط أعط. وما تركب أركب قال الله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) وقال تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فعلامة الجزم في الفعل بعد أى حذف النون التي تثبت علامة للرفع في تفعلون قال الله تعالى : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ

١٤

آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) والظروف التي تجازى بها متى ، وأنى وأين. وأى حين ، وحيثما وإذ ما ، ولا يجازى بحيث ، ولا بإذ. حتى يلزم كل واحدة منهما ما يقول متى ، يأتنى آته ، ومتى ما تأتنى آتك. قال :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

وأنى يقم أقم. وأين تذهب أذهب. وأى حين تركب أركب وهذه الأسماء التي جوزي بها إذا نصبت انتصبت بالفعل الذي هو شرط ولا يجوز : زيدا إن تضرب أضرب ، لا يجوز أن تنصبه في قول البصريين بالشرط ، ولا بالجزاء. فإن قلت : إن يضرب زيدا أضرب ، كان زيد منتصبا بالفعل الذي هو شرط. فإن شغلت الشرط بالضمير قلت : إن زيدا تضربه اضرب عمرا كان زيد منتصبا بفعل مضمر ، يفسره هذا الظاهر. كما أن قولك زيدا ضربته ، كذلك وقد يحذف الشرط في مواضع ، فلا يؤتى به لدلالة ما ذكر عليه وتلك المواضع : الأمر ، والنهى ، والاستفهام ، والتمني ، والعرض. تقول : أكرمنى أكرمك ، والتأويل أكرمنى فإنك إن تكرمني أكرمك. والنهى لا تفعل يكن خيرا لك. والاستفهام ألا تأتنى أحدثك؟ وأين بيتك أزرك؟ والتمني ألا ماء باردا أشربه؟ والعرض إلا تنزل تصب خيرا؟ فمعنى ذلك كله إن تفعل أفعل فهو جميعه معنى الشرط ومعنى الجزاء أفعل

قال محمد في «الجامع الكبير» : ألا ترى أنه إذا قال إذا جاء غد فكل امرأة أتزوجها فهي طالق فلا تطلق إلا التي تزوجها في الغد ، وانما أراد ما أشكل بالأفعال فاعتبره بالأوقات لأنك إذا قدمت الشرط أو وسطته أو أخرته في الأوقات تبين لك في الأفعال. اجعل مجيء الغد بمنزلة كلام فلان. وقد تبين لك ما ذكرت.

* * *

مسألة

إذا قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق كلما كلمت فلانا وتزوج امرأة ودخل بها ثم كلم فلانا ، ثم تزوج أخرى فالتي تزوجها قبل الكلام تطلق ولا تطلق التي تزوجها بعد الكلام ، لأنه جعل كلام فلان غاية ليمينه وشرطا لحنثه ، فصار كأنه قال كل امرأة أتزوجها غدا فهي طالق كلما كلمت فلانا ولو قال هكذا لا يشكل لأنه لا يقع الطلاق إلا على التي تزوجها غدا ، فذكر المسألة بكلما ، وكلما كلمة تكرار بيانها

١٥

يجيء بعد إن شاء الله. فصار حكم هذه المسألة وحكم المسائل المتقدمة على السواء ، إلا أن هنا ذكرت شرط الحنث مكررا فإن كلم فلانا مرة أخرى طلقت أخرى إذا كانت في العدة ، ولا تطلق الثانية لأنه جعل كلام فلان غاية ليمينه والغاية لا تحتمل التكرار ، والشرط يحتمل التكرار. فإذا تزوج المرأة الأولى وكلم فلانا فقد انتهت اليمين غايتها وسقطت ، لأن في حق الأولى صار الكلام شرطا للحنث وشرط الحنث يحتمل التكرار ، ولو قدم الشرط فقال كلما كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها طالق ، فتزوج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكرم فالتي تزوجها قبل الكلام لا تطلق وتطلق التي تزوجها بعد الكلام ، لأنه جعل كلام فلان شرطا لانعقاد اليمين فالتي تزوجها قبل الكلام تزوجها قبل انعقاد اليمين فلا يقع الطلاق عليها ، فإن تزوج أخرى طلقت أيضا لأن كلمة كل تجمع الأسماء على الانفراد فكل امرأة يتزوجها بعد الكلام تطلق ولو لم يتزوج امرأة أخرى حتى كلم فلانا مرة أخرى لا يقطع الطلاق على المرأة الأولى لأنها بانت بالطلقة الأولى. وكذلك لو كانت في ملكه لا يقع الطلاق أيضا إذا كان التزوج قبل الكلام. ولو كلم فلانا ثم تزوج امرأة تقع تطليقتان ، تطليقة بالكلام الأول وتطليقة بالكلام الثاني لأن يمينه انعقدت بحرف متكرر فانعقد في حقه يمينان.

وكذلك لو كلم فلانا ثلاث مرات ثم تزوج امرأة طلقت ثلاثا لأنه انعقدت عند كلام فلان أيمان ثلاثة ، كأنه قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، وكذلك في الثانية والثالثة ، فإذا تزوجها حنث في الأيمان كلها.

قال في الكتاب : ألا ترى أنه لو قال كلما ضربت فلانا ففلانة طالق إن تزوجتها ، فضرب فلانا ثلاث مرات ثم تزوجها طلقت ثلاثا لأنه إذا تكرر الضرب تكرر الانعقاد. فإذا وجد الشرط نزلت كلها وانحلت الأيمان معا. وقال ألا ترى أنه إذا قال لامرأته كلما دخلت الدار اليوم فأنت طالق غدا فدخلت الدار اليوم ثلاث مرات تطلق غدا ثلاثا. وقال ألا ترى أنه لو قال كلما ضربت فلانا فامرأتى طالق إن دخلت الدار ، فضرب فلانا ثلاث مرات ثم دخل الدار تطلق ثلاثا ، ولو وسط الشرط صار كأنه قدم وقد ذكرت ذلك. ولو قال كل امرأة أتزوجها إن دخلت الدار فهي طالق فالجواب في دخول الدار بمنزلة الجواب في كلام فلان إن كان شرط الدخول متقدما يقع الطلاق على المزوجة بعد الدخول ولا يقع على المزوجة قبل الدخول لكنه لا يدخله التكرار ، والفرق بين كل وكلما أن كلا اسم مفرد يقع على الأفراد أبدا فإذا أضيف إلى الجمع أو قرن به اقتضى الجمع أيضا لكن على سبيل الإفراد لأنه مخصص

١٦

به قال الله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) فهذا يقتضى الجمع لكن على سبيل الإفراد لأن من بمعنى الذي لكن لما كان اللفظ يقتضى العموم اقتضت ذلك لكن على أصلها وهي الإفراد ، ألا ترى إلى من أنها لا تكون للجمع ، وأما ما وصف به الجمع قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) فجميع ومحضرون جموع ، فلما قرنت بها كل اقتضتها لما فيها من الإبهام. قال سيبويه : هذا مال كل مال عندك فأضافه إلى النكرة ، إلا ترى أنك تصف بها النكرة وذلك أنك تصف ما بها بما تصف به النكرة ولا تصف بما تصف به المعرفة.

قال سيبويه : حدثنا الخليل عمن يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت :

وكل خليل غيرها ضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز

فجعله صفة لكل والبيت للشماخ. فهذا يدل على الإفراد بقوله نفسه فأضاف كلا إلى الإفراد.

قال سيبويه : هذا كل مالك ، وقال مررت برجلين مثلك أى كل رجل منهما مثلك ، وأما كلما فهي من حروف الشرط وتدخل على الأفعال لأنك تقول كلما قام زيد قمت ، فقولك قمت هو جواب لكلما وكل اسم لأنه يضاف ويضاف إليه تقوله كل رجل وصنعته ، فتضيف كلا إلى رجل. قال الله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ).

* * *

مسألة

ولو قال كل امرأة أتزوجها إن دخلت الدار فهي طالق فالجواب في دخول الدار بمنزلة الجواب في كلام فلان إن كان الشرط متقدما يقع على المزوجة بعد الدخول ولا يقع على المزوجة قبل الدخول. ولو قال كل امرأة أملكها فهي طالق إن دخلت الدار فالطلاق يقع على المرأة التي في ملكه لا يكون غير ذلك ، سواء قدم الشرط أو وسطه أو آخره لأن لفظ أملك يكون للحال ويصلح للاستقبال فلو أراد أن يخلص اللفظ للاستقبال قال سوف أملك أو سأملك للحال أى وضح أن يكون كذا. وإنما صلح للاستقبال لأن الحال أشبه بالاستقبال من الماضي لأن فعل خلاف سوف يفعل وإنما يفعل إذا نسبناه إلى أحدهما كنسبة المستقبل والملك الذي يكون للحال يكون

١٧

للاستقبال لأن أملك اليوم والساعة وغدا سواء ، وأملك صالح لكل ما ذكرت فلما كان ملك الحال يكون للاستقبال صلح اللفظ كما كان الفعل في أحواله. فلذلك قلت إن فعل الحال يصلح للاستقبال. فلما صلح اللفظ للأمرين حملناه على الأصل إذا لم يكن له قرين فإن كان له قرين حملنا على ما يصلح له فإذا قال أملك غدا حملناه على الملك المتجدد غدا ولئن قال : أملك حملناه على ملك الحال فصار كأنه قال كل امرأته إذا ملكها ، فإنه يقع على من كانت في ملكه كذلك هنا يقع الطلاق على المزوجة في الحال ولا يصدق في صرف الطلاق عن من يملكها في الحال لأنه أراد صرف الكلام عن الظاهر إلى غيره فتجوز نيته على التي عنى ولا تصدق في إبطاله عن التي يملكها في الحال.

ووجه آخر : إنك إذا قلت زيد يضرب عمرا فإن بعض الضرب ماضى وبقيته مستقبل فكأنه وقع حالا وفيه المستقبل لكونه الضرب ما انقضى ، فلو انقضى عبر عنه بالماضي ولذلك أشبه الحال الاستقبال في الكلام العرب. ولو قال كل جارية أملكها فهي حرة إذا جاء غد ، أو قال كل جارية أملكها إذا جاء غد فهي حرة فإن هذا كله يقع على الموجود دون الحارث ، لأنه علق العتق بمجيء الغد وذكر الملك مرسلا والملك المرسل يقع على الموجود دون الحارث ، فصار كأنه قال كل جارية أملكها في الحال فهي حرة ، ولو قال كذا لا يعتق إلا من كان في ملكه وقت اليمين بشرط حدوث الغد ، ولو قال كل جارية أملكها غدا فهي حرة يعتق ما يملك في الغد من أول النهار إلى خره ولا يعتق الموجود والتي يملكها قبل مجيء الغد ولا يعتق التي يملكها بعد الغد ، لأنه وصف الملك بمجيء الغد وفي الأخرى جعل شرط حنثه مجيء الغد فلذلك افترقا.

* * *

مسألة

إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق اليوم وغدا طلقت اليوم ولا تطلق غدا وإذا قال أنت طالق اليوم وإذا جاء غد ، طلقت اليوم طلقة وغدا طلقة ، والفرق بينهما أن الواو للجمع وما اتصف مرة فلا يتصف ثانيا وهي فقد اتصفت بالطلاق فكل يوم هي موصوفة بالطلاق. قوله أنت طالقة اليوم وقع الطلاق واتصفت به وقوله وغدا فقد عطف اليوم على اليوم فحمل على الصفة. وأما قوله أنت طالق اليوم وإذا جاء غد

١٨

فقد عطف المجيء على اليوم فأريد به الحدوث فحمل على الحدوث ولم يحمل على الصفة. فصار كأنه قال أنت طالق ، وإذا جاء الغد طالق أيضا ، فحمل كلامه على الإضمار إذ لم يكن له بد من ذلك فصار كأنه قال كما قال تعالى : (لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى).

وقال الفرزدق :

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلا مسحتا أو مجلف

أى مجلف كذلك.

* * *

مسألة

رجل قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ثلاثا ، فطلقها واحدة وهي غير مدخول بها فدخلت إحدى الدارين فتزوجها ثانيا ودخلت الدار الأخرى وهي في ملكه لا يمنع وقوع الطلاق ، لأن الحنث يظهر بدخول الدار الثانية فيعتبر وقت اليمين ووقت الحنث ألا ترى أنه لو قال لامرأته أنت طالق رأس الشهر ، فبانت منه فيما بين ذلك ثم عادت إلى ملكه قبل رأس الشهر وقع عليها الطلاق رأس الشهر ، لأنها في ملكه وقت وجود اليمين والشرط جميعا. ولا يعتبر فراقهما خلال ذلك ، ولأنه أضاف الطلاق إلى فعل مخصص ووجد الفعل وهي في ملكه ، والأصل أن المعلق بالشرطين لا ينزل إلا عند وجود الآخر منهما لأن الكلام بآخره والواو للجمع ولا يمكن الجمع من دخول الدارين حقيقة فحمل على المعنى وهو الجمع في الفعل وهو دخول الدارين ولا يوجد ذلك إلا بدخول الدار الآخرة منهما. ولو قال إذا دخلت هذه الدار فأنت طالق إذا دخلت هذه الدار الأخرى فبانت منه ثم دخلت إحدى الدارين ثم تزوجها ثم دخلت الدار الأخرى لا يقع عليها شيء لأنه جعل دخول الدار الأولى شرطا لانعقاد اليمين فصار كأنه قال عند دخول الدار الأولى أنت طالق إن دخلت هذه الدار الأخرى ولو قال ذلك لا تطلق لأنها وقت اليمين لم تكن في ملكه لأن اليمين بالطلاق لا يصح إلا بالملك أو مضافا إلى الملك أو في علقة من علائق الملك وهنا لم يوجد شيء من ذلك فصار كأنه قال لأجنبية أنت طالق ثم تزوجها لا تطلق كذا هاهنا. والفرق بينهما أن المسألة الأولى كان الشرط دخول

١٩

الدارين وقد وجد واليمين انعقدت لساعته ودخول الدارين جميعا كان شرطا لانحلال اليمين وهنا جعل دخول الدار الأولى شرطا لصحة اليمين ولما دخلت الدار الأولى لم تكن في ملكه فلذلك افترقا.

* * *

مسألة

إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق غدا أو بعد غد ، فجاء غد لم تطلق حتى يجيء بعد غد لأنه أوقع الطلاق في أحد الوقتين فلو قلنا إنها تطلق غدا احتجنا إلى أن نوقع الطلاق بعد غد وذا خلاف ما قال الحالف ولأن أو لأحد ما دخلت عليه فإذا جاء بعد الغد وقع الطلاق يقينا واليوم الأول كان شكا. ولو قال أنت طالق إذا جاء غد يقع الطلاق إذا جاء غد لأنه جعل مجيء الغد شرطا لوقوع الطلاق ثم أدخل كلمة الشك فقال أو بعد غد ، وبعد وقوع الطلاق لا يمكن استدراكه فصار كأنه قال أنت طالق إذا جاء فلان أو فلان فأيهما جاء وقع الطلاق. وكذلك هاهنا إلا أن في الشخصين لا نعلم أيهما يجيء أولا وغد مقدم على بعد غد ضرورة فلذلك افترقا.

* * *

مسألة

إذا قال الرجل لامرأته إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار فأنت طالق ، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه ؛ أما إن عطف الشرط على الشرط ؛ وأما إن عطف الفعل على الشرط ، أو عطف المفعول على الشرط. وكل وجه على ثلاثة أوجه أما إن قدم الطلاق ، أو وسط الطلاق ، أو أخر الطلاق. أما إذا عطف الشرط على الشرط إن أخر الطلاق كما إذا قال إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق حتى يوجد الدخول لأن جميعا لأنه جمع بين الشرطين قبل إكمال الأول بالجزاء فصار كأنه قال إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق لأنه لو اقتصر على قوله إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار لم يكن كلاما تاما وإنما يتم بقوله أنت طالق ، ولو قدر الطلاق فقال أنت طالق إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار فأى الدارين دخلت حنث لأنه أكمل الشرط الأول بالجزاء وعطف دخول الدار الأخرى عليها ، فصار كأنه ابتداء ، ولو وسط فقال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ، وان دخلت هذه الدار. فأيهما وجد حنث في يمينه لأن اليمين

٢٠