شرح شواهد المغني

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

شرح شواهد المغني

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: لجنة التراث العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٤٦

١
٢

بين يدي الكتاب

عني علماء العربية برواية الشعر وحفظه ، واستشهدوا به في كلامهم ، واستدلوا على صحة قواعد اللغة وشواذها بالبيت يستشهدون به ، كما مثلوا بالمثل يضربونه ، وعلى صحة اللفظ بالآية يتلونها ، وهم أيضا كما عنوا بحفظ الشعر وروايته عنوا بمعرفة اسم الشاعر ، وحددوا عصره ، ولذلك فقد قسموا الشعر الى عصور ، والشعراء الى طبقات ، فكان (١) :

١ ـ الطبقة الاولى : الشعراء الجاهليون ، وهم قبل الاسلام ، كامرىء القيس والأعشى ..

٢ ـ الطبقة الثانية : الشعراء المخضرمون ، وهم الذين أدركوا الجاهلية والاسلام ، كلبيد وحسان ...

٣ ـ الطبقة الثالثة : الشعراء المتقدمون ـ ويقال لهم الاسلاميون ـ وهم الذين كانوا في صدر الاسلام كجرير والفرزدق ...

٤ ـ الطبقة الرابعة : المولدون ـ ويقال لهم المحدثون ـ وهم من بعدهم كبشار وأبي نواس ...

وعلى أساس هذا التقسيم اتفقوا على أن الطبقتين الاوليتين يستشهد بشعرهما إجماعا ، وأن الطبقة الثالثة ، فالصحيح صحة الاستشهاد بكلامها ، وأما الطبقة الرابعة فانه لا يستشهد بكلامها مطلقا.

ثم فيما بعد قسمت الطبقة الاخيرة ـ أي الرابعة ـ الى طبقات : طبقة المولدين ، وطبقة المحدثين ، وطبقة المتأخرين. واختلف فيمن يستشهد من الشعراء بشعرهم من هذه الطبقات. وكان الجلال السيوطي ممن يؤيد الرأي القائل بعدم الاحتجاج بشعر هذه الطبقات الاخيرة ، فقد ذكر في الاقتراح : أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين

__________________

(١) انظر مقدمة كتاب خزانة الادب للبغدادي.

٣

والمحدثين في اللغة والعربية ، وذلك بخلاف الزمخشري صاحب الكشاف ، وليس استشهاد سيبويه بشعر بشار مما يؤخذ فيه أو يعتبر حجة على الاستشهاد بأقوال المولدين ، لأن أستشهاده كان خوفا من هجاء بشار.

وهم لهذا كله عنوا أيضا بمعرفة قائل الشعر ، وصحة نسبة الشعر اليه. فقد تبين من تقسيم الشعراء الى طبقات من يصح الاستشهاد بشعرهم ، ومن لا يصح. وأنه لا يجوز الاحتجاج بشعر وكذا بنثر لا يعرف قائلة (وعلة ذلك مخافة أن ذلك الكلام مصنوعا أو لمولد ، أو لمن لا يوثق بكلامه (١)). وما ذلك الا حفظا للغة القرآن الكريم ، وليتضح حديث النبي المرسل ومعرفة الدخيل في اللغة من الاصيل ، كما وضعت قواعد اللغة وأصل الاعراب لتجنب اللحن كما هو معروف ...

سقنا هذه المقدمة القصيرة لتبيان الغاية التي توخاها الامام الجليل السيوطي في كتابه (شرح شواهد المغني) والذي نقوم على نشره الآن. وقد ألفت في النحو كتب كثيرة وقام على خدمتها رجال أفاضل علماء ، كان أبعدهم صيتا واكثرهم ذكرا جمال الدين بن هشام الانصاري المتوفي سنة ٧٦١ ه‍ فقد ألف في هذا الباب عدة كتب أشهرها وأعظمها (مغني اللبيب عن كتب الاعاريب) والذي أصبح أهم مرجع في نحو اللغة العربية لا زال يتدارسه أهل العربية حتى زماننا ، لذلك وضعت عليه عشرات الحواشي والشروح ليسهل حفظه ، وابن هشام من أكثر النحويين استثمار للشواهد وايرادا لها سواء كان من القرآن أو الحديث أو المثل السائر ، أو بالشعر والنثر. وقد لاحظ الجلال السيوطي أن اتمام الفائدة وتحقيقا لصحة الاستشهاد ان ينسب كل قول لقائله ويحل ما يشكل من لفظ أو معنى لفظ ، وان يعرّف بصاحب الشاهد فكان كتابه هذا (شرح شواهد المغني).

والكتاب على ضخامته ليس للسيوطي فيه الا الجمع والترتيب ، وان كان لا يخلو من بدوات أو فقرات يعبر السيوطي عن رأيه فيها. وهو مع هذا كله كلف نفسه جهدا وصبرا ومشقة ، اذ لم يكتف بذكر الشاهد واسم قائله ، وانما يدرج القصيدة كاملة التي منها الشاهد ، وان لم يكن فقسما كبيرا منها ، أو اشهر أبيات القصيدة مع تفسير ما أشكل من كلماتها وصعب. وان كان يوجد اختلاف في الرواية فانه يدرج كافة الاختلافات والروايات مع اسناد كل قول الى قائله ، وقد أودع كتابه كثيرا مما حوته كتب اللغة والشعر ، وبذل مجهودا مشكورا في ترتيب ما نقله ووضعه في محله ، وهو مما يدل على سعة اطلاعه واحاطته الشاملة ، الى امانة في النقل وذكر المرجع الذي نقل عنه ، ولربما نجد احيانا انه يتصرف في العبارة أو يبتر قسما منها ، وأنا بذلك لا أتهم السيوطي وانما ارجع السبب الى اختلاف نسخ كتب الأدب أو اللغة التي ينقل عنها السيوطي مما نلاحظه الآن في مخطوطاتنا وان الاصل بذلك تخليط الذي يخط الكتاب أو صعوبة قراءة الخط ...

__________________

(١) الانصاف في مسائل الخلاف للانباري.

٤

وهذا الكتاب قد طبع للمرة الاولى بالمطبعة البهية بالقاهرة سنة ١٣٢٢ ه

وقام على نشره المرحوم أمين افندي الخانجي بتصحيحات العالم العلامة الشيخ محمد أمين الشنقيطي بن التلاميد التركزي وقد حافظنا على هذه التصحيحات مع تعليقاته لما فيها من بعد نظر وفائدة كبيرة تدل على ما لهذا الرجل الكبير من علم وذكاء وعبقرية كما هو واضح من الاطلاع عليها ، وللشيخ تعليقات كثيرة على أكثر كتب الأدب والشعر واللغة كانت منارا لمن أتى من بعده.

وأما عملنا نحن في هذا الكتاب فلم يعد الترتيب والتبويب واصلاح اخطاء الطبعة السابقة مع تقويم اعوجاجها ان أمكن ، كما أحلنا إلى المراجع التي استند اليها السيوطي كدواوين الشعراء وكتب الأدب والمعجمات اللغوية ، مع تكملة مالا بد من تكملته من عبارة أو قول أو شعر وتحقيق ما يمكن تحقيقه. وقد رأينا ان هناك كثيرا من الالفاظ في حاجة الى شرح لغرابتها أو ندرتها فأثبتنا ذلك تعليقا بحواشي الكتاب مستفيدين في ذلك من امهات كتب اللغة والادب والتي أشار الى أكثرها السيوطي في نقوله.

راجين بهذا العمل ان نكون قد أدينا بعض الواجب تجاه لغتنا الشريفة فان نكن أحسنا فحسب والا فاننا نتمثل بقول الشاعر :

كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

الامام السيوطي :

هو الامام جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان بن ناظر الدين محمد بن سيف الدين خضر بن نجم الدين أبي الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الخضيري الاسيوطي.

هذا نسبه كما ذكره هو عن نفسه في كتابه حسن المحاضرة ٢ / ١٤٠ ، ولد مستهل رجب سنة تسع واربعين وثمانماية بأسيوط ، فنشأ يتيما وحفظ القرآن وهو دون ثمان سنين ، وتتلمذ على الشيخ شهاب الدين الشارمساجي ثم من بعده ولده ، وعلى شيخ الاسلام شرف الدين المناوي وتقي الدين الشبلي الحنفي ومحي الدين الكافيجي والشيخ سيف الدين الحنفي وغيرهم.

ظل السيوطي طوال عمره مشتغلا بالتدريس والفتيا ، متفرغا للعلم والتأليف ، وبلغت كتبه ثلاثماية كتاب في التفسير والقراءات والحديث والفقه والاجزاء المفردة والعربية والأداب ، كما ذكر في حسن المحاضرة ، وعد له بروكلمان ٤١٥ مصنفا بين كتب كثيرة ورسائل ومقامات ، وقد طبع منها اكثرها وهو مما يدل على علمه الغزير ، وسعة اطلاعه وصبره وجلده على التأليف مع عفة نفسه وعلو قدره.

٥

وقد توفي رحمه‌الله تاسع عشر جمادي الأولى سنة احدى عشرة وتسعماية بعد ان عاش اثنين وستين عاما.

أما صاحب كتاب المغني ابن هشام الأنصاري فاننا نكتفي هنا عن ترجمة حياته بكلمة ابن خلدون : (ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام ، انحى من سيبويه) وهى شهادة حق من إمام عدل.

وكلمة اخيرة لا بد منها :

وهي كلمة تقدير واعجاب لشيخنا الجليل محمد محمود ابن التلاميد التركزي الشنقيطي لما له من فضل على المكتبة العربية وتقيدات كانت منارا للعارفين وهداية للمؤمنين بهذه اللغة الشريفة.

ولا يسعنا أيضا في هذه العجالة الا ان نشيد بذكر صاحب الفضل الاول الاستاذ امين الخانجي الذي كان من الرواد الاوائل الذين عنوا بنشر وطبع التراث العربي ، وكان أن حفظ له قدره الغرب ، بعد ان نسيه ابناء جلدته في الشرق ، فأطلق اسمه على احدى قاعات جامعة برلين.

كما اشكر القائمين على لجنة التراث العربي لبذلهم الجهد والمال لاخراج هذا الكتاب الى ابناء العربية ، وأخص منهم بالشكر السيد رفيق حمدان لملاحظاته القيمة وعلى ثقته الغالية بتكليفي للاشراف على تصحيحه واخراجه بهذا الشكل الجميل.

أحمد ظافر كوجان.

٦

٧
٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(ربّ يسّر وأعن)

الحمد لله الذي فتق ألسن العرب العاربة بالفصاحة فكانت تجري بذلك ولا تجارى ، ومنحهم الافهام القويمة التي فضلوا بها على من سواهم من اليهود والمجوس والنصارى ، وفتح أذهانهم لاستخراج المعاني الدقيقة فلم تكن تخفى عليهم ولا تتوارى ، وتمم فخرهم بأن أرسل منهم نبيا ، وأنزل عليه كتابا عربيا لا تدانيه الكتب مقدارا. فقمع بسيفه الملحدين ، وشرع لأتباعه حدود الدين ، ورفع له منارا ، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله أقرباء وأصهارا ، وأصحابه مهاجرا وأنصارا.

وبعد :

فإن لنا حاشية على مغنى اللبيب لابن هشام مسماة بالفتح القريب ، أودعتها من الفوائد والفرائد ، والغرائب والزوائد ، ما لو رامه أحد غيري لم يكن له الى ذلك سبيل ولا فيه نصيب ، وكان من جملة ذلك شرح ما فيه من الشواهد على وجه مختصر ، مع التعرّض لأمور فيها ، لم يذكرها من كتب عليه لاحتياجها الى سعة الاطلاع وكثرة النظر ؛ ثم خطر لي أن أفرد الكلام على الشواهد فشرعت في كتاب بسيط وجامع محيط أورد فيه عند كل بيت القصيدة بتمامها ، وأتبعها بفوائد ولطائف يبهج الناظر حسن نظامها. فرأيت الأمر في ذلك يطول ، والانسان كثير السآمة ملول ، بحيث أني قدّرت تمام ذلك في أربع مجلدات ، فعدلت الى طريقة وسطى عن تلك الطريقة الأولى ، مع ضمان الفوائد التي لا يستطيعها إلا ذو يد طولى ، فأورد أولا البيت المستشهد به ، ثم أتبعه بتسمية قائله والسبب الذي لأجله قيلت القصيدة ، ثم أورد من القصيدة أبياتا أستحسنها إما لكونها مستشهدا بها في مواضع أخر من الكتاب فاوردها ليعلم أن الجميع من قصيدة واحدة ، أو لكونها مستشهدا بها في غيره من كتب العربية والبيان ، أو لكونها مستعذبة النظر مستحسنة

٩

المعنى لاشتمالها على حكمة أو مثل أو نادرة أو وصف بليغ أو نحو ذلك. وإن كان البيت من مقطوعة وهي ما لم يزد على عشرة أبيات ذكرتها بكمالها ، وقد أذكر قصيدة بكمالها لقلة أبياتها وكونها كلها مما يستحسن كقصيدة السموأل التي أوّلها :

إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه (١)

أو لكون المصنف استشهد بكثير من أبياتها ، كقصيدة الأعشى التي أولها :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا (٢)

ثم أتبع ما أورده من الأبيات بشرح ما اشتملت عليه من الغريب والمشكل ، وبيان ما تضمنته من الاستشهادات العربية والنكت الشعرية ، وما يتعلق بها من فائدة ونادرة ومواردة ، وأتبع ذلك بالتعريف بقائلها وذكر نسبه وقبيلته وعصره ، وهل هو جاهلي أو مخضرم أو إسلامي ، مراعيا في كل ذلك الطريق الوسط ، لا مجحفا في الاختصار ولا مبالغا في الاطناب والاكثار. وقد تتبعت لذلك شروح الدواوين المعتبرة ، وكتب الأمالي والشواهد المشتهرة ، كشرح ديوان امرىء القيس ، وزهير ، والنابغة الذبياني ، وطرفة ، وعنترة ، وعلقمة بن عبدة ، وأوس بن حجر ، والأعشى ، ومالك بن خريم ، والحرث بن حلزّة ، وفروة بن مسيك ، والأفوه ، وحسان بن ثابت ، وجميل ، والأخطل ، وجرير ، والفرزدق ، وليلى الأخيلية ، والمقنع الكندي ،

__________________

(١) صدر بيت وعجزه :

فكل رداء يرتديه جميل

وهو في شعره ص ١١ وامالي القالي ١ / ٢٦٩ ، وشرح الحماسة للتبريزي ١ / ١٠٨ ، وفي الشعراء ٥٩٤ منسوب الى دكين ، واللسان (سمأل) ، ونسبه الى سلمى بنت مجدعة الجهنية ترثى أخاها سعدا ، وذكره في (نفض) عن الجوهري منسوبا اليها ، ورواه أيضا في (تبع) منسوب اليها.

(٢) من قصيدة جيدة عدتها أربعة وعشرون بيتا ، وعجزه :

وعاداك ما عاد السليم المسهدا.

وهو في الخزانة ١ / ٨٤ ، وشعراء الجاهلية ٣٥٧ ـ ٣٩٩.

١٠

والنمر بن تولب ، وشرح المفضليات لابن الأنباري ، وشرح شعر الهذليين لأبي سعيد السكري ، والكامل للمبرد ، ونوادر ابن الأعرابي ، ونوادر أبي عمرو الشيباني ، ونوادر أبي زيد ، ونوادر اليزيدي ، وأمالي ثعلب ، وأمالي الزجاجي الكبرى والوسطى والصغرى ، وأمالي ابن الأنباري ، وأمالي القالي ، وشرح الحماسة الطائية للمرزوقي وللتبريزي ولليباري ، والحماسة البصرية ، وشرح المعلقات السبع ، وما ضم اليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس ، وشرح السبع العاليات للكميت ، وشرح القصائد المختارة للتبريزي ، وشرح شواهد سيبويه للسيرافي والأعلم والزمخشري ، وشرح شواهد الايضاح لابن يسعون ، وشرح شواهد إصلاح المنطق لابن السيرافي والتبريزي ، وشرح شواهد الجمل للخضراوي ، وللبطليوسي وللتدمري ، ومنتهى الطلب من أشعار العرب لابن ميمون ، وهي تشتمل على أكثر من ألف قصيدة خلا المقاطيع وعدّة ما فيه أربعون ألف بيت ، وكتاب النساء الشواعر للحسن بن الطراح ، والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ، والمؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء لأبي القاسم الآمدي ، وطبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي ، ومعاني الشعراء لأبي عثمان الأشنانداني ، وأبيات المعاني لابن قتيبة ، وأيام العرب المشهورة لأبي عبيدة معمر بن المثنى ، مقاتل الفرسان له ، تهذيب الخطيب التبريزي ، والمرقص لمحمد بن المعلى الأزدي ، خارجا عما ظفرت به أثناء ذلك من المجامع والتذكرات وتخاريج المحدّثين وتواريخهم ، وأرجو إن تمّ هذا الكتاب أن يكون جامعا في هذا الباب ، مغنيا للطلاب عن التطلاب ، كافيا في جميع الشواهد العربية وافيا لما يحتاج إليه في أبيات الكتب الأدبية ، والى الله الضراعة في التوفيق لاتمامه والاعانة على اختتامه بمنه وإنعامه.

١١

شواهد الخطية

١ ـ أنشد :

أشارت كليب بالأكف الأصابع

هذا عجز بيت للفرزدق صدره :

إذا قيل أيّ النّاس شرّ قبيلة

من قصيدة يهجو بها جريرا ويردّ عليه قصيدة له على هذا الروي وأول هذه القصيدة (١) :

ومنّا الّذي اختير الرجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع

ومنّا الّذي أعطى الرّسول عطيّة

أسارى تميم ، والعيون دوامع

ومنّا الذي يعطي المئين ويشتري

العوالي ويعلو فضله من يدافع

الى أن قال :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

ومنها :

فوا عجبا حتى كليب تسبّني

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع

__________________

(١) ديوانه ٥٢٠ ، والبيت في الخزانة ٣ / ٦٦٩ ، وابن عقيل ١ / ٢٤٦ ويروي :

(أشرت كليب) والاصل فيه (أشارت الى كليب الأكف بالاصابع) ، كما سيأتي.

١٢

ومنها :

تنحّ عن البطحاء إنّ قديمها

لنا والجبال الرّاسيات الفوارع

ومنها :

أخذنا بآفاق السّماء عليكم

لنا قمراها والنّجوم الطّوالع

ومنها :

أتعدل أحسابا لئاما أدقة

بأحسابنا إنّي إلى الله راجع

قوله : (ومنّا الّذي اختير الرجال) ، قال ابن الشجريّ في أماليه : هو منصوب بنزع (من) على حد قوله : (واختار موسى قومه) وقد استشهد به سيبويه على ذلك (١). والزعازع ، جمع زعزاع ، وزعزوع ، وزعزع : الرياح الشديدة. قال الأعلم : وصف قومه بالجود والتكرّم عند اشتداد الزمان وهبوب الرياح. وأراد بذلك زمن الشتاء ووقت الجدب. والعرب تمدح بالقرى في الشتاء لأنه وقت الجدب. وسماحة وجودا ، نصب على التمييز أو المفعول له أو الحال من الرجال ، قاله المصنف في شواهده. وكونه مفعولا له ، قاله من لا يشترط فيه الاتحاد في الفاعل ، لأن السماحة ليست فعل الذي اختار ، وكونه تمييزا على أنه محوّل من نائب الفاعل ، أي أختيرت سماحته. ثم صار اختير هو سماحة. وقوله : (أولئك آبائي) استشهد به أهل المعاني على استعمال الاشارة للتعريض بغباوة السامع ، بحيث أنه لا يفهم إلّا المحسوس المشار اليه. وقوله : (فجئني بمثلهم) قال شارح أبيات الايضاح البياني : هو أمر تعجيز ، لأنه قد تحقق عنده أن ليس للمخاطب مثل آبائه. قال : وقوله : (يا جرير المجامع) أورده جار الله في أساس البلاغة مستشهدا

__________________

(١) في أمالي ابن الشجري ١ / ٣٢٨ : (ومما حذفوا من الحروف الخافضة «من» في قوله : اخترت الرجال زيدا) يريد : من الرجال. وجاء في التنزيل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) أي من قومه. وقال الفرزدق : ومنا الذين ... البيت.

(فالنصب في الرجال لوصول الفعل بعد حذف الخافض) اه.

١٣

به في قوله : (١) جمعتهم جامعة ، أي أمر من الأمور التي يجتمع لها. وقوله : (فواعجبا) قال التدمري في شرح أبيات الجمل : يروى بالتنوين وطرحه. وقوله : (حتى كليب تسبّني) ، استشهد به المصنف في مبحث «حتى» على دخولها على جملة الابتداء. وكليب بن يربوع رهط جرير ، جعلهم في الضعة بحيث لا يسابون مثله لشرفه. ونهشل ومجاشع رهط الفرزدق ، وهما ابنا دارم. والبطحاء : الموضع الواسع ، وأراد هنا ببطحاء مكة. والراسيات : الثابتات. والفوارع ، بفاء وراء وعين مهملة : الطوال ، وآفاق السماء : نواحيها. وقمراها : الشمس والقمر ، من باب التغليب. وقد أورد المصنف هذا البيت في الباب الثامن شاهدا عليه. وقيل : أراد بالقمرين هنا محمدا وإبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسّلام ، وبالنجوم الطوالع : الخلفاء الراشدين. ولئام ، جمع لئيم ، ضدّ الكريم. وأدقه ، جمع دقيق ، ضدّ الجليل. وقوله : (أشارت كليب) بالجر على حذف الجار وابقاء عمله ، أي إلى كليب. ورواه ابن حبيب بالرفع ، وقال : هو على تقدير : هذه كليب. وقال المصنف في شواهده : الأصل ، أشارت الى كليب الأكف بالأصابع ، فأسقط الجار وقلب الكلام ، فجعل الفاعل مفعولا وعكسه. وقال غيره : يروى (أشرت) بدل أشارت. يريد أشارت إليها بأنها شرّ الناس. يقال : لا تشر فلانا ولا تشنعه ، يعني لا تشر اليه بشرّ ولا تذكره بأمر قبيح.

فائدة :

الفرزدق اسمه همّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم (٢) بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم ، مقدّم شعراء العصر أبو فراس التميمي البصري.

روى عن علي بن أبي طالب ، وأبي هريرة ، والحسين ، وابن عمر ، وابن سعيد ، والطرماح الشاعر ، وعنه الكميت الشاعر ، ومروان الأصغر ، وخالد الحذاء ،

__________________

(١) اساس البلاغة : (جمع).

(٢) وكذا في الشعراء ٤٤٢ ، وطبقات ابن سلام ٢٥٠.

١٤

وأشعث بن عبد الملك ، والصعق بن ثابت ، وابنه لبطة بن الفرزدق ، وحفيده أعين بن لبطة.

ووفد على الوليد وسليمان ومدحهما. وذكر الكلبي إنه وفد على معاوية. قال الذهبي : ولم يصح.

قال ابن دريد : كان غليظ الوجه جهما ، فلذلك لقب بالفرزدق ، وهو الرغيف الضخم. وذكره الجمحي في الطبقة الاولى من الشعراء الاسلاميين (١).

قال أبو عمرو (٢) : وكان شعر ثلاثة من شعراء الاسلام يشبّه بشعر ثلاثة من شعراء الجاهلية ، الفرزدق بزهير ، وجرير بالأعشى ، والأخطل بالنابغة. قيل : فهلا شبهوا جريرا بامرىء القيس؟ قال : هو بالأعشى أشبه ، كانابازيين يصيدان ما بين الكركي الى العندليب. وشبه شعر الفرزدق بشعر زهير لمتنانتهما واعتسارهما. والأخطل بالنابغة لقرب مأخذهما وسهولتهما.

قال : وأفضل الثلاثة الأخطل ، ولو أدرك من الجاهلية يوما واحدا ما قدمت عليه جاهليا ولا إسلاميا.

وكان يونس يفضل الفرزدق على جرير ويقول : ما تهاجا شاعران قط في جاهلية ولا إسلام إلا غلب أحدهما على صاحبه ، غيرهما فإنهما تهاجيا نحوا من ثلاثين سنة فلم يغلب واحد منهما على صاحبه.

وقال أبو عمرو بن العلاء : لم أر بدويا أقام بالحضر إلا فسد لسانه غير رؤبة والفرزدق.

وقال ابن شبرمة : كان الفرزدق أشعر الناس.

وقال يونس بن حبيب : ما شهدت مشهدا قط ذكر فيه جرير والفرزدق فأجمع أهل ذلك المجلس على أحدهما.

__________________

(١) ص ٢٤٩ ـ ٢٥٠ وما بعد.

(٢) أي أبو عمرو بن العلاء.

١٥

وقال ابن دابر : الفرزدق أشعر عامّة ، وجرير أشعر خاصة.

وأخرج أبو الفرج في الاغاني عن يونس قال : لو لا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.

وقال الجاحظ : كان الفرزدق صاحب نساء وزنى ، وكان لا يحسن بيتا واحدا في صفاتهن واستمالة أهوائهن ولا في صفة عشق وتباريح حب. وجرير ضده في ارادتهنّ ، وخلافه في وصفهن ، أحسن خلق الله تشبيبا وأجودهم نسيبا (١).

قال أبو عمرو بن العلاء : حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه ، فما رأيت أحسن ثقة بالله منه. قال : وذلك في أول سنة عشر ومائة ، فلم أنشب أن قدم جرير من اليمامة فاجتمع إليه الناس ، فما أنشدهم ولا وجدوه كما عهدوه. فقلت له في ذلك ، فقال : والله أطفأ الفرزدق جمرتي ، وأسال عبرتي ، وقرّب منيتي. ثم رد الى اليمامة فنعي لنا في رمضان من السنة. وقيل إنهما ماتا سنة احدى عشرة ومائة ، وقيل سنة أربع عشرة ومائة.

وأخرج ابن عساكر عن أبي الهيثم الغنوي قال : لما مات الفرزدق بكى جرير ، فقيل له : أتبكي على رجل يهجوك وتهجوه منذ أربعين سنة؟ قال : إليكم عني ، فو الله ما تسابّ رجلان ولا تناطح كبشان ، فمات أحدهما إلا تبعه الآخر عن قريب. فمات بعده بأربعين يوما. وصعصعة جدّ الفرزدق صحابي قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله رواية ، وكان يحيي الموؤدات.

وأخرج ابن مندة وابن أبي الدنيا وابن عساكر عن مغيرة قال : لم يكن أحد من أشراف العرب بالبادية كان أحسن دينا من صعصعة جدّ الفرزدق ، وهو الذي أحيا ألف موؤدة ، وحمل على ألف فرس ، وهو الذي افتخر به الفرزدق فقال :

وجدّي الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يؤاد

وجدّه محمد بن سفيان أحد من سمى محمدا في الجاهلية.

__________________

(١) انظر البيان والتبيين ١ / ١٧٩ ـ ١٨٠.

١٦

فائدة :

قال الآمدي في المؤتلف والمختلف : في الشعراء شاعر يكنى أبا الفرزدق ، وهو العجير بن عبد الله السلولي ، مولى لبني هلال.

٢ ـ وأنشد :

كما عسل الطّريق الثّعلب

هذا بعض بيت لساعدة بن جوية يصف فيه الرمح ، وأول القصيدة (١).

هجرت غضوب وحبّ من يتجنب (٢)

وعدت عواد دون وليك تشعب

شاب الغراب ولا فؤادك تارك

ذكر الغضوب ولا عتابك يعتب

وقوله :

فتعاوروا ضربا وأشرع بينهم

أسلات ما صاغ القيون وركّبوا

من كلّ أظمى عاتر لا شانه

قصز ولا راشي الكعوب معلّب

خرق من الخطّيّ أغمض حدّه

مثل الشّهاب رفعته يتلهّب

لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثّعلب

قوله : (غضوب) هو اسم امرأة ، بدليل أنه لم يصرفه ، فإدخاله اللام فيه في قوله : (ذكر الغضوب) إما للضرورة كقوله :

باعد أمّ العمرو من أسيرها

أو انها للمح ، فإنه منقول من الوصف. وقوله (حب من يتجنب) قال السكري : أي حب بها إلى متجنبة. وقال أبو نصر : يريد ما أحب إلينا من تتجنبنا ، يعني هذه المرأة. وقال أبو عمرو : أي ، أحب بها. وعدت عواد : أي صرفت صوارف. وقيل :

__________________

(١) انظر الخزانة ١ / ٤٧٤ ، وأشعار الهذليين ١٦٧ ـ ١٩١.

(٢) ويروى : (يتحبب) كما في ديوان الهذليين.

١٧

شغلت شواغل ، والمفرد عادية. والولي : القرب. وتشعب ، بفتح أوّله والعين المهملة ، تصرف. وقيل : لا تجىء على القصد ، بل تأتي غير مستقيمة. ويروى : (عن طلابك تشغب) باعجام العين ، أي تخالف بك. قوله : (شاب الغراب) أي طال عليك الأمر حتى كان ما لا يكون ، لأن شيب الغراب لا يكون. ويروى (شاب القذال) وهو آخر ما يشيب من الرأس. ولا عتابك : يعتب بالبناء للمفعول ، أي لا يستقبل بعتبى ولا رجوع. تعاوروا : تداولوا ، أي ضرب بعضهم بعضا ، هذا مرة وهذا مرة. ويروى (ضبرا) بالمعجمة والموحدة ، أي وثوبا (١). واشرع : أورد الطعن كما تشرع الدابة للشرب. والأسل ، بفتحتين ، الرماح. والقين : الحداد. قال السكرى : وكل صانع قين إلا الكاتب. وأظمى : أسمر. وعاتر ، بالمهملة والفوقية وراء ، شديد الاضطراب. ويروى (من كل أسمر ذابل). والذابل : ما جف بعض الجفاف ، وفيه لين. وشانه : عابه. والراشي : الخوار الضعيف (٢). ومعلب ، بالمهملة ، أي مشدود بالعلباء ، وهو عصب العنق. أي لم يشنه قصر فيه ولا شدّ لضعف فيه. وقوله : خرق ، بكسر الخاء وسكون الراء ، قال السكرى : ضربه مثلا فجعله في الرماح مثل الخرق في الرجال الذي يتخرق في الخير والمال. قال : ويقال الخرق الذي يتصرّف في الأمور. وقال الجمحي : خرق : ماض من حديد. وأغمض : ألطف وأرق. والشهاب : السراج. ولدن : أي ناعم ، هكذا رواه سيبويه ، والباء بمعنى في متعلقة به ، أي لدن إذا هز ، وإن كان صلبا إذا عجم. ورواه السكري : لذ ، وفسره باللذيذ. وقال المصنف في شواهده : أي مستلذ عند الهز للينه. قال : والباء متعلقة بيعسل ، ويعسل بالمهملتين أي يضطرب اضطراب الثعلب في عسلانه. وقال المصنف : العسلان : الاضطراب ، وهو في الأصل سير سريع في اضطراب. وقال أبو عبيدة : يقال في الذئب عاسل ، ومتنه : ظهره. قال ابن يسعون : شبهه بمتن الثعلب لما وصفه بالعسلان ، وهو جريه الذي يضطرب فيه متنه. قال : ويحتمل أن يريد ثعلب الرمح ، وهو طرفه الداخل في السنان ، أي يضطرب وسطه كما يضطرب طرفه لاعتداله واستوائه. قال : ويجوز أن يكون نبه

__________________

(١) في الخزانة ١ / ٤٧٤ (ضبرا). وفسر الضبر بأنه الوثب.

(٢) ويقال ذلك للناقة اذا كانت ضعيفة الظهر.

١٨

بالأبعد على الأقرب ، لأنه إذا اهتز وسطه فأطرافه أولى وبهذا جزم المصنف. قال السكري : ويروى (يعسل نصله). وقوله : فيه ، قال السكري : أراد في كله ، يقول : يضطرب نصله كما يضطرب الثعلب في الطريق إذا عدا ، فأعاد الضمير على الرمح. وقال ابن يسعون : أي في الهز. وقال المصنف : الضمير للدن أو للهز ، وصف رمحا لين المتن ، فشبه اضطرابه في نفسه ، أو في حال هزه بعسلان الثعلب في سيره. والكاف للتشبيه ، وما مصدرية ، أي كعسلان الثعلب. وقوله : الطريق أي في الطريق ، فأسقط الجار وعدّى الفعل اتساعا. وقد أعاد المصنف هذا البيت في الكتاب الرابع والخامس.

فائدة :

قائل هذه الأبيات ساعدة بن جوية ، بضم الجيم وفتح الواو بلا همز ، وضبطه المصنف في شواهده بضم الجيم وفتح الهمزة وتشديد الياء ، وقيل ابن جوين ، بالنون ، ابن عبد شمس بن كليب بن كعب بن صبيح بن كاهل بن الحارث بن تميم ابن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن معد بن عدنان ، شاعر مخضرم ، أدرك الجاهلية والاسلام ، وأسلم. وليست له صحبة. ذكره ابن حجر في الاصابة في القسم الثالث فيمن له إدراك ولا رؤية له (١).

__________________

(١) انظر الخزانة ١ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨ (السلفية).

١٩

الباب الأول

شواهد الهمزة

٣ ـ أنشد :

أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل

هذا صدر بيت لامرىء القيس بن حجر الكندي ، من معلقته المشهورة ، وتمامه :

وإن كنت قد أزمعت صرما فاجملي

وبعده :

وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلي

أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي

وأنّك مهما تأمري القلب يفعل

وقد استشهد المصنف من هذه المعلقة بنحو من عشرين بيتا تأتي في محالها ، وسيأتي مطلعها في حرف الفاء. وفاطم ، بالفتح ، منادى مرخم على لغة الانتظار ، وهي فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة العذرية. ومهلا : مصدر أمهل ، وأصله امهالا ، حذف زائدة وجعل بدلا من التلفظ بالفعل كضربا زيدا ، وهو الناصب لبعض. وقيل : الناصب محذوف تقديره امهلي ، وقيل اتركي. والتدلل ، بالمهملة ، من الدل بالفتح. والازماع بالزاي الاجماع على الشيء وتصميم العزم عليه. قال الكسائي : يقال أزمعت الأمر ، ولا يقال أزمعت عليه. وقال الفرّاء : أزمعته وأزمعت عليه بمعنى. والصرم ، بفتح الصاد المهملة ، مصدر صرم الشيء قطعه ، وبضمها اسم للقطيعة. والاجمال : الاحسان. والبيت استشهد به المصنف على ورود الهمزة لنداء القريب ، واستشهد به في التوضيح على أن نداء ما فيه التاء مرخما أكثر من

٢٠