معجم مقاييس اللغة - المقدمة

معجم مقاييس اللغة - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٩

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١

التعريف بابن فارس

لم تعين كتب التراجم تاريخاً لولادة أبى الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب الرازى ، على حين نجد الرواة يختلفون فى نسبه وموطنه.

أما اختلافهم في اسمه فقد زعم ابن الجوزى ـ على ما رواه ياقوت ، وهو ما رأيته فى كتابه المنتظم نسخة دار الكتب المصرية ـ أن اسمه أحمد بن زكريا بن فارس (١). ولكنَّ ياقوتا لا يعبأ بهذا القول الشاذ ، ويذهب أنه قول «لا يعاج به».

وأما موطنه فندع القفطى (٢) يقول فيه : «واختلفوا فى وطنه ، فقيل كان من قزوين. ولا يصح ذلك ، وإنما قالوه لأنه كان يتكلم بكلام القزاونة (٣). وقيل : كان من رستاق الزهراء ، من القرية المدعوة كرسف جياناباذ».

__________________

(١) نجد هذه التسمية أيضاً فيما سيأتي من نقل عن ياقوت في ص ٥ عن يحيى بن منده الأصبهانى. لكن ابن فارس نفسه يسمى والده في مقدمة المقاييس ص ٥ وكذلك فى خاتمة الصاحبى ٢٣٢ : «فارس بن زكريا». وهو نص قاطع.

(٢) إنباء الرواة مصورة دار الكتب المصرية.

(٣) ممن ذكره بنسبته «القزوينى» أيضا ، السيوطى فى بغية الوعاة. وقال ياقوت : «وذكره الحافظ السلفى فى شرح مقدمة معالم السنن للخطابى ، فقال : أصله من قزوين».

٢
٣

وقال ياقوت : «وجدت على نسخة قديمة لكتاب المجمل من تصنيف ابن فارس ما صورته : تأليف الشيخ أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الزهراوى الأستاذ خرزى. واختلفوا فى وطنه ، فقيل كان من رستاق الزهراء من القرية المعروفة بكرسفة وجياناباذ. وقد حضرت القريتين مراراً. ولا خلاف فى أنه قروى. حدثنى والدى محمد بن أحمد ، وكان من جملة حاضرى مجالسه ، قال : أتاه آت فسأله عن وطنه ، فقال : كرسف. قال : فتمثل الشيخ :

بلاد بها شُدّت علىَّ تمائمى

وأولُ أرض مس جلدى ترابها (١)

وكتبه مجمع بن محمد بن أحمد بخطه ، فى شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة». قال ياقوت : «وكان في آخر هذا الكتاب ما صورته أيضاً : قضى الشيخ أبو الحسين أحمد بن فارس رحمه الله في صفر سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالرى ، ودفن بها مقابل مشهد قاضى القضاة أبى الحسن على بن عبد العزيز. يعنى الجرجانى».

فهذا النص الذى أورده ياقوت يكسب أبا الحسين بن فارس نسبتين أخريين. هما «الزهراوى» و «الأستاذ خرزى» ، غير نسبته المشهورة «الرازى» إلى مدينه «الرى» قصبة بلاد الجبال.

ولعل فى كثرة اضطراب أبى الحسين فى بلاد شتى ، ما يدعو إلى هذا الخلاف فى معرفة وطنه الأول.

ويروى القفطى أيضاً أن «أصله من همذان ، ورحل إلى قزوين إلى أبى الحسين إبراهيم بن على بن إبراهيم بن سلمة بن فخر ، .. فأقام هناك مدة. ورحل إلى زنجان إلى أبى بكر أحمد بن الحسن بن الخطيب رواية ثعلب. ورحل إلى ميانج».

__________________

(١) انظر زهر الآداب (٣ : ١٠٠).

٤

ويروى ياقوت عن يحيى بن منده الأصبهانى ، قال : «سمعت عمى عبد الرحمن ابن محمد العبدي يقول : سمعت أبا الحسين أحمد بن زكريا بن فارس النحوى يقول : دخلت بغداد (١) طالباً للحديث ؛ فحضرت مجلس بعض أصحاب الحديث وليست معى قارورة ، فرأيت شابًّا عليه سِمَة من جمال فاستأذنته فى كَتب الحديث من قارورته فقال : من انبسط إلى الإخوان بالاستئذان ، فقد استحق الحرمان».

فهو كما ترى قد تنقل فى جملة من البلاد ساعياً للعلم ، شأنَ طلاب العلم فى ذلك الزمان ، فاكتسب بذلك جماعة من الأنساب.

إقامته بهمذان :

ولكن المقام استقر به فى معظم الأمر بمدينة همذان. قال ابن خلكان : «وكان مقيماً بهمذان». ويقول الثعالبى (٢) في ترجمته : «أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ، المقيم كان بهمذان. من أعيان العلم وأفذاذ الدَّهر ، يجمع إتقان العلماء ، وظرف الكتاب والشعراء. وهو بالجبل كابن لنكك بالعراق ، وابن خالويه بالشام ، وابن العلاف بفارس ، وأبى بكر الخوارزمى بخراسان».

وقد تَلْمَذ له في أثناء إقامته الطويلة بهمذان أديبها المعروف «بديع الزمان الهمذانى» الذي يرجع الفضل كل الفضل في تكوينه وتأديبه إلى أبى الحسين أحمد بن فارس. قال الثعالبى في ترجمته بديعَ الزمان : «وقد درس على أبى الحسين ابن فارس ، وأخذ عنه جميع ما عنده ، واستنفد علمه ، واستنزف بحره».

__________________

(١) من العجب أن الخطيب البغدادى لم يترجم له في كتابه تاريخ بغداد ، مع أنه من شرط كتابه.

(٢) يتيمة الدهر (٣ : ٢١٤).

٥

انتقاله إلى الرى :

ولما اشتهر أمره بهمذان وذاع صوته ، استدعى منها إلى بلاط آل بويه بمدينة الري ، ليقرأ عليه أبو طالب بن فخر الدَّولة على بن ركن الدَّولة الحسن بن بويه الدَّيلمى. وهناك التقى برجل خطير كان يبغى من قبل أن يعقد صلة بينه وبينه ، حتى لقد أنفذ إليه من همذان كتاباً من تأليفه ، هو «كتاب الحجر (١)». ذلك الرجل الخطير هو الصاحب إسماعيل بن عباد (٢). وفي هذه الآونة زال ما كان بين أبى الحسين وبين الصاحب من انحراف ، كانت علته انتساب ابن فارس إلى خدمة آل العميد (٣) وتعصبه لهم. واصطفاه الصاحب حينئذ ، وأخذ عنه الأدب ،

__________________

(١) في إرشاد الأريب «كان الصاحب منحرفا عن أبى الحسين بن فارس ؛ لانتسابه إلى خدمة آل العميد وتعصبه لهم ، فأنفذ إليه من همذان كتاب الحجر من تأليفه ، فقال الصاحب : رد الحجر من حيث جاءك. ثم لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه وأمر له بصلة».

(٢) هو أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس بن عباد. وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء ؛ لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد ، فقيل له «صاحب ابن العميد» ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة ، وبقى علما عليه. وقيل إنما سمى الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة أبا منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه الديلمى ، وتولى وزارته بعد أبى الفتح على بن أبى الفضل بن العميد ، فلما توفى مؤيد الدولة في سنة ٣٧٣ بجرجان استولى على مملكته أخوه فخر الدين أبو الحسن على ، فأقر الصاحب على وزارته. توفى سنة ٣٨٥ بالرى.

(٣) كان من أشهر آل العميد ، أبو الفضل محمد بن الحسين. والعميد لقب والده الحسين ، لقبوه بذلك على عادة أهل خراسان في إجرائه مجرى التعظيم. وكان أبو الفضل عماد آل بويه ، وصدر وزرائهم ، وهو الذي قيل فيه : «بدئت الكتابة بعبد الحميد ، وختمت بابن العميد». قال الثعالبى في اليتيمة (٣ : ٨) فى ترجمته ابن العميد : «وكان كل من أبى العلاء السروى ، وأبى الحسن العلوى العباسى ، وابن خلاد القاضى ، وابن سمكة القمى ، وأبى الحسين بن فارس ، وأبى محمد هندو يختص به ويداخله وينادمه حاضراً ، ويكاتبه ويجاوبه ويهادبه نثراً ونظما». وكان أبو الفضل وزير ركن الدولة أبى الحسن على بن بويه ، والد عضد الدولة ، تولى وزارته عقب موت وزيره أبى على بن القمى سنة ٣٢٨. وللصاحب فيه مدائح كثيرة. ولما توفى أبو الفضل ولى الوزارة بعده لركن الدولة ولده أبو الفتح على. ولما توفى ركن الدولة وولى بعده ولده «مؤبد الدولة» استوزره أيضا. وكان بين أبى الفتح والصاحب منافرة ، ويقال إن الصاحب أوغر قلب مؤيد الدولة عليه ، فقيض عليه واعتقله وسامه سوء العذاب ، وولى مكانه الصاحب بن عباد وقد روى ابن فارس في هذا الجزء من المقاييس ص ٢٠٦ عن أبى الفضل بن العميد.

٦

واعترف له بالأستاذية والفضل ، وكان يقول فيه : «شيخنا أبو الحسين ممن رزق حسن التصنيف ، وأمن فيه من التصحيف (١)».

شيوخ ابن فارس وتلاميذه :

كان والد أبى الحسين فقيهاً شافعياً لغوياً ، وقد أخذ عنه أبو الحسين فقه الشافعى ، وروى عنه في كتبه (٢). قال ابن فارس : «سمعت أبى يقول : سمعت محمد بن عبد الواحد يقول : إذا نُتِج ولدُ الناقة في الربيع ومضت عليه أيام فهو رُبَع ، فإذا نُتج في الصيف فهو هُبَع ، فإذا نتج بين الصيفِ والربيع فهو بُعَّة (٣)».

وأنت تجد في مقدمة ابن فارس لكتاب المقاييس نصًّا على أنه روى كتاب المنطق لابن السكيت عن أبيه فارس بن زكريا.

وكان أبوه أيضاً رجلاً أديباً راوية للشعر. قال ياقوت : «وحدث ابن فارس : سمعت أبى يقول : حججت فلقيت ناساً من هذيل ، فجاريتهم ذكر شعرائهم فما عرفوا أحداً منهم ، ولكنى رأيت أمثل الجماعة رجلاً فصيحاً ، وأنشدنى :

إذا لم تَحظَ في أرضٍ فدعْها

وحُثَّ اليَعمَلاتِ على وَجاها

ولا يَغررك حَظُّ أخيك فيها

إذا صفرت يمينُك مِن جَداها

__________________

(١) ابن الأنبارى وياقوت والسيوطى في البغية.

(٢) مما هو جدير بالذكر أن ابن فارس ظل دهراً شافعى المذهب ، ولكنه في آخر أمره حين استقر به المقام في مدينة الرى ، تحول إلى مذهب المالكية. ولما سئل في ذلك قال : «أخذتنى الحمية لهذا الإمام أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه ، فعمرت مشهد الانتساب إليه حتى يكمل لهذا البلد فخره ؛ فإن الرى أجمع البلاد للمقالات والاختلافات في المذاهب ، على تضادها وكثرتها». انظر نزهة الألباء ٣٩٣.

(٣) نزهة الألباء ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

٧

ونفسَك فُزْ بها إن خفت ضيما

وخَلِّ الدَّارَ تنعَى مَن بكاها

فإنك واجدٌ أرضاً بأرض

ولستَ بواجدٍ نفساً سواها

ومن شيوخه أيضا أبو بكر أحمد بن الحسن الخطيب رواية ثعلب. وهذه الأستاذية تفسر لنا السر في أن ابن فارس كان نحويا على طريقة الكوفيين.

ومن شيوخه كذلك أبو الحسن على بن إبراهيم بن سلمة القطان. وقد أكثر ابن فارس من الرواية عنه في كتابه «الصاحبى» ، ونص في مقدمة المقاييس أنه قرأ عليه كتاب العين المنسوب إلى الخليل.

وفي عداد شيوخه أبو الحسن على بن عبد العزيز صاحب أبى عبيد القاسم بن سلام ، وقد روى عنه ابن فارس كتابَىْ أبى عبيد : غريب الحديث ، ومصنفِ الغريب ، كما نص في المقدَّمة.

ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد الأصفهانى ، وعلى بن أحمد الساوى ، وأبو القاسم سلمان بن أحمد الطبرانى.

والشيخ الذي كان يسترعى انتباه ابن فارس وإعجابَه الشديد ، هو أبو عبد الله أحمد بن طاهر المنجم. وفيه يقول ابن فارس (١) : «ما رأيت مثل أبى عبد الله بن طاهر ، ولا رأى هو مثل نفسه».

وأما تلاميذ ابن فارس فكثيرون ، وكان من أشهرهم بديع الزمان الهمذانى ، وأبو طالب بن فخر الدَّولة البويهى ، والصاحب إسماعيل بن عباد ، كما أسلفنا القول.

وقال ابن الأنبارى : «وكان له صاحب يقال له أبو العباسِ أحمد بن محمد الرازى المعروف بالغضبان ، وسبب تسميته بذلك أنه كان يخدمه ويتصرف في بعض

__________________

(١) نزهة الألباء ، وارشاد الأريب.

٨

أموره. قال : فكنت ربما دخلت فأجد فرش البيت أو بعضه قد وهبه ، فأعاتبه على ذلك وأضجر منه ، فيضحك من ذلك ولا يزول عن عادته. فكنت متى دخلت عليه ووجدت شيئاً من البيت قد ذهب علمت أنه قد وهبه ، فأعبس وتظهر الكآبة في وجهى ، فيبسطنى ويقول : ما شأن الغضبان! حتى لحق بى هذا اللقب منه. وإنما كان يمازحنى به».

ومن تلاميذه أيضا على بن القاسم المقرى ، وقد قرأ عليه كتابه (أوجز السير لخير البشر) المطبوع في الجزائر وبمباى ، ويفهم من هذا الكتاب أن ابن فارس أقام في مدينة الموصل زماناً وقرأ عليه المقرى فيها هذا الكتاب.

وفاته :

لم يختلف المؤرخون في أن ابن فارس قد قضى نحبه في مدينة الرى ، أو المحمدية (١) ، وأنه دُفن بها مقابلَ مشهد قاضى القضاة أبى الحسن على بن عبد العزيز الجرجانى.

ولكنهم يختلفون في تاريخ وفاته على أقوال خمسة :

فقيل توفى سنة (٣٦٠) كما نقل ياقوت عن الحميدي ، وعقب على ذلك بأنه قول لا اعتبار به. وقيل كانت وفاته سنة (٣٦٩) ذكر ذلك ابن الجوزى فى المنتظم ، ونقله عنه ياقوت. وعَدَّه ابن الأثير أيضا في وفيات سنة ٣٦٩.

وذكر ابن خلكَان أنه توفى سنة (٣٧٥) بالمحمدية.

وقيل إنه توفى سنة (٣٩٠) ذكر ذلك ابن خلكان أيضا ، وابن كثير

__________________

(١) المحمدية هذه محلة بالرى ، كما حقق ياقوت في معجم البلدان.

٩

فى أحد قوليه في كتابه البداية والنهاية ، وكذا اليافعى في مرآة الجنان ، وصاحب شذرات الذهب.

وأصح الأقوال وأولاها بالصواب أن وفاته كانت سنة (٣٩٥) كما ذكر القفطى في إنباه الرواة ، وكما نقل السيوطى عن الذهبي في بغية الوعاة ، قال : «وهو أصح ما قيل في وفاته». وذكره أيضا في هذه السنة ابن تغرى بَردى فى النجوم الزاهرة ، وابن كثير في البداية والنهاية. وهو الذي استظهره ياقوت ، إذ وجد هذا التاريخ على نسخة قديمة من كتاب المجمل (١).

وذكر في معجم البلدان (٧ : ٣٣٩) أنه وجد كتاب تمام الفصيح بخط ابن فارس ، كتبه سنة ٣٩٠.

وفي إرشاد الأريب أنه وجد خطه على كتاب [تمام] الفصيح تصنيفه وقد كتبه سنة ٣٩١.

فهذا كله يؤيد القول أنه توفى سنة ٣٩٥.

وروى أكثر من ترجم له أنه قال قبل وفاته بيومين :

يا ربِّ إنَّ ذنوبى قد أحطتَ بها

علما وبى وبإعلانى وإسرارى

أنا الموحِّد لكنى المقرُّ بها

فهب ذنوبى لتوحيدى وإقرارى

__________________

(١) انظر ص ٤ من هذه المقدمة. وكذا ما سيأتى من الكلام على «تمام فصيح الكلام» في مؤلفات ابن فارس ؛ إذ تجد نسخة منه قد كتبت في سنة ٣٩٣.

١٠

٢

ابن فارس الأديب

لم يكن ابن فارس من العلماء الذين ينزَوُون على أنفسهم ويكتفون بمجالس العلم والتعليم ، بل كان متصلا بالحياة أكمل اتصال ، مادّا بسببه إلى نواحٍ شتى منها.

شعره :

فهو شاعر يقول الشعر ويرقّ فيه ، حتى لَينم شعره عن ظَرفه وحسن تأتِّيه في الصنعة على طريقة شعراء دهره. وهو ملحٌّ في التهكم والسخرية ، لا ينسى السخرية في الغزل فيقول(١) :

مرت بنا هيفاءُ مقدودةٌ

تُركيَّةٌ تُنمَى لتركىِ

ترنو بطرف فاتن فاتر

كأنه حُجّة نحوىّ

فيجعل من حجة النحوي في ضعفها على ما يراه ، شبها لطرف صاحبته الفاتن الفاتر. وهو يستعملها في تصوير حظوظ العلماء والأدباء إذ يقول :

وصاحبٍ لى أتانى يستشير وقد

أرادَ في جنَبات الأرض مُضطرَبَا (٢)

قلتُ اطَّلِبْ أيَّ شئ شئتَ واسْعَ ورِد

منه المَواردَ إلَّا العلمَ والأدبا

__________________

(١) ياقوت ، والثعالبى ، وابن خلكان ، واليافعى ، وابن العماد في شذرات الذهب.

(٢) ياقوت والثعالبى.

١١

وهو يتبرم بهمَذان والعيشِ فيها ، فيرسم حياته فيها على هذَا النحو الساخر البديع :

سقى همذانَ الغيثُ لستُ بقائل

سوى ذا وفي الأحشاء نار تَضرّمُ (١)

وما لى لا أُصفِى الدُّعاءَ لبلدةٍ

أفدتُ بها نسيانَ ما كنتُ أَعلم

نَسِيت الذي أحسنتُه غير أننى

مَدِينٌ وما في جوف بيتىَ درهم

وهو صاحبُ حملة ما جنة على من يزهدون فِي الدِّينار والدِّرهم ، ويطلبون المجد في العلم والعقل ، أنشد البِيرونى له (٢) :

قد قال فيما مضى حكيم

ما المرء إلا بأصغريه

فقلت قول امرئ لبيبٍ

ما المرء إِلا بدرهميه

من لم يكن مَعْهُ درهماه

لم تلتفت عِرسُه إِليه

وكان من ذُلِّهِ حقِيرا

تبول سنَّورُه عليه

ولابن فارس التفات عجيب إلى السنور ، وقد سجل في غير هذا الموضع من شعره أنه كان يصطفى لنفسه هرة تلازمه ، وتنفى عنه هموم قلبه ووساوس النفس :

وقالوا كيف أنت فقلت خيرٌ

تُقَضَّى حاجةٌ وتفوت حاجُ

إِذا ازدحمت همومُ القلب قلنا

عَسى يوما يكون لها انفراجُ

نديمى هِرّتى وسرور قلبى

دفاتر لى ومعشوقى السراج (٣)

وهو بصير ذو خبرة بطبائع الناس ، واستئسارهم للمال ، وخضوعهم له :

إذا كنت في حاجة مرسِلا

وأنت بها كَلِفٌ مغرمُ

__________________

(١) ياقوت ، والثعالبى ، وابن خلكان ، وابن العماد.

(٢) الآثار الباقية ص ٣٣٨ وياقوت.

(٣) يتيمة الدهر ، ودمية القصر ، ونزهة الألباء ، والمنتظم ، وياقوت ، وابن خلكان ، واليافعى ، وابن العماد.

١٢

فأَرسِلْ حكيما ولا توصِهِ

وذاك الحكيم هو الدرهم (١)

ويقول :

عتبتُ عليه حين ساء صنيعه

وآليت لا أمسيتُ طَوع يديه

فلما خَبَرت الناس خُبر مجرِّب

ولم أر خيراً منه عدت إِليه (٢)

ويقول أيضا :

يا ليت لى ألف دينارٍ موجَّهةً

وأن حظىَ منها حظُّ فَلّاسِ (٣)

قالوا فما لَكَ منها ، قلت تخدمُنى

لها ومنَ أجلها الحمقى من الناس (٢)

ويستعمل التهكم في أمور أخرى إذ يقول لمن يتكاسل في طِلاب العلم :

إذا كان يؤذيك حر المصيف

ويُبْس الخريف وبردُ الشتا

ويلهيك حُسنُ زمان الربيع

فأخذك للعلم قل لى متى (٤)

ولمن يقدِّر لأمر الدُّنيا ، ويَجْرى القضاءُ بخلاف ما قدَّر :

تَلَبَّسْ لباسَ الرضا بالقضا

وخلِّ الأمورَ لمن يَملِكُ

تقدِّرُ أنت وجارِى القضا

ءِ مما تقدِّرُه يَضحكُ (٥)

وروى له الثعالبى في خاص الخاص ١٥٣ :

اسمع مقالة ناصح

جمع النصيحة والمقه

إياك واحذر أن تكو

ن من الثقات على ثقه

استعماله الشعر في تقييد مسائل اللغة :

ولعلّ ابن فارس من أقدم من استعمل أسلوب الشعر في تقييد مسائل اللغة والعربية. قال ياقوت : «قرأت بخط الشيخ أبى الحسن علىّ بن عبد الرحيم السُّلَمى :

__________________

(١) الثعالبى ، وياقوت ، وابن خلكان واليافعى ، وابن العماد.

(٢) الثعالبى ، وياقوت.

(٣) الفلاس : بائع الفلوس.

(٤) الثعالبى وياقوت والقفطى.

(٥) الثعالبى وياقوت.

١٣

وجدت بخط ابن فارس على وجه المجمل ، والأبياتُ له. ثم قرأتها على سعد الخير الأنصارى ، وأخبرنى أنه سمعها من ابن شيخه أبى زكريا ، عن سليمان بن أيوب ، عن ابن فارسِ :

يا دارَ سُعدى بذات الضال من إضَمٍ

سقاكِ صوبُ حياً من واكف العينِ

العين : سحاب ينشأ من قبل القبلة.

تُدنى معشقةً منَّا معتَّقة

فى كل إِصباح يومٍ قرَةُ العينِ

العين ها هنا : عين الإنسان وغيره.

إذا تمزَّزَها شيخٌ به طَرَقٌ

سرت بقُوَّتها في الساق والعينِ

العين ها هنا : عين الركبة. والطرق : ضعف الركبتين.

والزقُّ ملآنُ من ماء السرور فلا

تخشى تولُّهَ ما فيه من العين

العين ها هنا : ثقب يكون في المزادة. وقوله الماء : أن يتسرب.

وغاب عُذَّالُنا عنَّا فلا كدرٌ

فى عيشنا من رقيب السَّوْءِ والعينِ

العين ها هنا : والرقيب.

يقسِّم الودَّ فيما بيننا قِسَما

ميزانُ صدقٍ بلا بَخْسٍ ولا عينِ

العين ها هنا : العين في الميزان (١).

وفائض المال يغنينا بحاضره

فنكتفى من ثقيل الدَّين بالعين (٢)

العين ها هنا : المال الناض.

__________________

(١) هو الميل فيه.

(٢) كتاب العين هو المنسوب إلى الخليل ، وكتاب الجيم لأبى عمرو الشيبانى ، رووا أنه أودعه. تفسير القرآن وغريب الحديث ، وكان ضنينا به لم ينسخ في حياته ففقد بعد موته. وقال أبو الطيب اللغوى : «وقفت على نسخة منه فلم نجده بدأ من الجيم». انظر كشف الظنون. وروى السيوطى فى المزهر (١ : ٩١) عن ابن مكتوم القيسى قوله : «وقفنا على نسخة من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءاً بالجيم». وانظر قصيدة تشبه هذه ، فى معنى «الحال» رواها صاحب اللسان (١٣ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧).

١٤

رأيه في النقد :

وابن فارس يلم أيضاً بالحياة الأدبية في عصره ، ولا يتزمّت كما يتزمّت كثير من اللغويين الذين ينصرفون عن إِنتاج معاصريهم ولا يقيمون له وزناً ، فهو يصغى إلى نشيدهم ويروى لكثير منهم ، وينتصر للمحسن وينتصف له من المتعصبين الجامدين ، الذين يزيِّفون شعر المحدَثين ويستسقطونه.

وإِليك فصلاً من رسالة له كتبها لأبى عمرو محمد بن سعيد الكاتب (١) ؛ لتستبينَ مذهبه ذلك ، وتلمس أسلوبه الفنى الأدبى :

«ألهمك الله الرشاد ، وأصْحَبَك السداد ، وجنَّبك الخلافَ ، وحبب إِليك الإِنصافَ. وسبب دعائى بهذا لك إنكارك على أبى الحسن محمد بن على العجلى تأليفه كتاباً في الحماسة وإعظامُك ذلك. ولعله لو فعل حتى يُصيبَ النرض الذي يريده ، ويَرِد المنهل الذي يؤمُّه ، لَاستدركَ من جيّد الشعر ونقيِّه ، ومختاره ورضيِّه ، كثيراً مما فات المؤلِّف الأول. فماذا الإنكار ، ولَمه هذا الاعتراضُ ، ومن ذا حَظَر على المتأخِّر مضادَّة المتقدِّم ، ولمه تأخذ بقول من قال : ما ترك الأول للآخر شيئاً ، وتدع قول الآخر :

* كم ترك الأوَّل للآخِر*

وهل الدُّنيا إلا أزمان ، ولكل زمان منها رجال. وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إِلا خطرات الأوهام ونتائج العقول. ومَن قصر الآداب على زمانٍ

__________________

(١) يتيمة الدهر (٢ : ٢١٤ ـ ٢١٨).

١٥

معلوم ، ووقفها على وقت محدود؟! ولمه لا ينظر الآخر مثلما نظر الأوَّل حتى يؤلف مثلَ تأليفه ، ويجمع مثل جمعه ، ويرى في كل مثل رأيه. وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال مَن كان قبلهم. أو ما علمت أن لكل قلب خاطراً ، ولكل خاطر نتيجة. ولمه جاز أن يقال بعد أبى تمام مثل شعره ولَمْ يجزُ أن يؤلف مثلُ تأليفه. ولمه حجرت واسعاً وحظرت مباحاً ، وحرمت حلالاً وسددتَ طريقاً مسلوكاً. وهل حبيبٌ إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم. ولمه جاز أن يُعارَض الفقهاء في مؤلفاتهم ، وأهل النحو في مصنفاتهم ، والنّظار في موضوعاتهم ، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم ، ولم يجز معارضة أبى تمام في كتابٍ شذ عنه في الأبواب التى شرعها فيه أمرٌ لا يدرك ولا يدرى قدره.

ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير ، ولذهَب أدب غزير ، ولضلت أفهام ثاقبة ، ولكلَّتْ ألسنٌ لِسنة ، ولما توشَّى أحد بالخطابة ، ولا سلك شعباً من شعاب البلاغة ، ولمجت الأسماع كل مردود مكرر ، ولَلَفظت القلوب كل مرجَّع ممضَّغ. وحَتَّامَ لا يسأم :

* لو كنتُ من مازن لم تستبح إبلى*

* صفَحْنا عن بَنى ذَهل*

وإلى متى ولمه أنكرت على العجلىّ معروفاً ، واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبى تمام ، فى زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً ، وإيطاءً وإِقواءً ، ونقلا لأبياتٍ عن أبوابها إِلي أبوابٍ لا تليق بها ولا تصلح لها ؛ إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة ، وأمور عليلة. ولمه رضيت لنا بغير الرضى ، وهلا حثثت على إثارة ما غيبته الدهور ، وتجديد ما أخلقته الأيام ، وتدوين ما نُتِجته خواطر هذا الدَّهر ،

١٦

وأفكار هذا العصر. على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه ، ولو فعله لقرأتَ ما لم ينحط عن درجة من قبله ، مِن جدٍّ يروعك ، وهزل يروقك ، واستنباط يعجبك ، ومزاحٍ يُلهيك.

وكان بقزوين رجل معروف بأبى حامد الضرير القزوينى ، حضر طعاما وإلى جنبه رجل أكون ، فأحسَّ أبو حامد بجودة أكله فقال :

وصاحب لى بطنه كالهاويه

كأن في أمعائه معاويه (١)

فانظر إلى وجازة هذا اللفظ ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنبِ معاوية. وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عجرد وأبو الشمقمق. وهل في إثبات ذلك عار على مثبته ، أو في تدوينه وصمة على مدوِّنه.

وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشى القزوينى ، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلا ، عليه عمامة سوداء وطيلسان أزرق ، وقميص شديد البياض ، وخُفٌّ أحمر، وهو مع ذلك كله قصير ، على برذون أبلقَ هزيل الخلق ، طويل الحلق ، فقال حين نظر إليه:

وحاكمٍ جاء على أبلقِ

كعَقعَقٍ جاء على لَقلقِ

فلو شهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدتَ للشاعر بصحَّة التشبيه وجودة التمثيل ، ولعلمت أنه لم يقصر عن قول بشار :

كأن مثار النقع فوق رءوسهم

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فما تقول لهذا. وهل يَحسن ظلمه ، فى إِنكار إِحسانه ، وجحود تجويده.

وأنشدنى الأستاذ أبو على محمد بن أحمد بن الفضل ، لرجل بشيراز يعرف

__________________

(١) المعاوية : الكلبة التى تعاوى الكلاب وتنابحها ، وبها سمى الرجل.

١٧

بالهمذانى وهو اليوم حى يرزق ، وقد عاتبَ (١) بعضَ كتابها على حضوره طعاما مرض منه :

وُقيتَ الردى وصروفَ العلل

ولا عَرَفت قدماك العللْ

شكا المرضَ المجدُ لما مرض

تَ فلما نهضتَ سليماً أبلّ

لك الذنب لا عتب إلا عليك

لماذا أكلت طعام السِّفَلْ

وأنشدنى له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدى ، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف :

وأصفر اللون أزرق الحدقه

فى كل ما يدعيه غير ثقه

كأنه مالك الحزين إذا

همَّ بزَرْقٍ وقد لوى عنقَه

إن قمتُ في هجوه بقافيةٍ

فكل شعرٍ أقوله صدقَه

وأنشدنى عبد الله بن شاذان القارى ، ليوسف بن حمويه من أهل قزوين ؛ ويعرفُ بابن المنادى :

إذا ما جئتَ أحمد مستميحا

فلا يغرركَ منظرُه الأنيقُ

له لطف وليس لديه عرفُ

كبارقةٍ تروق ولا تريق

فما يخشى العدو له وعيداً

كما بالوعد لا يثق الصدِيق

وليوسفَ محاسن كثيرة ، وهو القائل ـ ولعلك سمعت به ـ :

حجُّ مثلى زيارةُ الخمارِ

واقتنائى العَقارَ شُربُ العُقارِ

ووقارى إذا توقر ذو الشَّيْ

بةِ وَسْطَ النَّدىِّ تركُ الوقارِ

ما أبالى إذا المدامةُ دامتْ

عَذْلَ ناهٍ ولا شناعةَ جارِ

رُبَّ ليلٍ كأنه فرعُ ليلى

ما به كوكبٌ يلوح لسارِى

__________________

(١) في الأصل : «عاب».

١٨

قد طويناه فوق خِشفٍ كحيلٍ

أحورِ الطرفِ فاترٍ سَحّارِ

وعكفنا على المُدامة فيه

فرأينا النهار في الظهر جارى

وهى مليحةٌ كما ترى. وفي ذكرها كلِّها تطويل ، والإيجاز أمثل وما أحسبك ترى بتدوين هذا وما أشبهه بأسا.

ومدح رجلٌ بعض أمراء البصرة ، ثم قال بعد ذلك وقد رأى توانياً في أمره ، قصيدَةً يقول فيها كأنه يجيب سائلاً :

جوَّدتَ شعرَك في الأمي

رِ فكيفَ أمْرُك قلتُ فاترْ

فكيفَ تقول لهذا ، ومن أى وجه تأتى فتظلمه ، وبأى شئٍ تعانده فتدفعه عن الإيجاز ، والدلالة على المراد بأقصر لفظٍ وأوجز كلام. وأنت الذي أنشدتنى :

سَدَّ الطريقَ على الزما

نِ وقام في وجه القطوب

كما أنشدتَنى لبعض شُعراء الموصل :

فدَيتك ما شبت عن كُبرةٍ

وهذى سِنِيَّ وهذا الحسابُ

ولكن هُجِرتُ فحَلَّ المشيبُ

ولو قد وُصِلتُ لعاد الشبابُ

فلِمَ لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإِنس ، ومَرَدة العالَم في الشعر.

وأنشدنى أبو عبد الله المغلسى المراغى لنفسه :

غداةَ تولت عِيسُهم فترحلوا

بكيت على ترحالهم فعميتُ

فلا مُقلتِى أدّت حقوقَ وِدادهم

ولا أنا عن عينى بذاك رضيتُ

وأنشدنى أحمد بن بندار لهذا الذي قدمت ذكره ، وهو اليوم حى يرزق :

زارَنى في الدُّجى فنمَّ عليه

طيبُ أردانِه لدى الرقباءِ

١٩

والثريا كأنها كفُّ خَودٍ

أُبرِزَت من غِلالةٍ زرقاءِ

وسمعت أبا الحسين السروجى يقول : كان عندنا طبيب يسمى النعمان ، ويكنى أبا المنذر ، فقال فيه صديقٌ لى :

أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُّه

نفوساً نفيساتٍ إلى باطن الأرضِ

أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا

حنانيك بعضُ الشرِّ أهون من بعض» (١)

وهذا الفَصل الذي أورده الثعالبى من رسالة ابن فارس ، إلى ما رواه ياقوت فى إرشاد الأريبِ (٢) من مساجلة أدبية بين ابن فارس وعبد الصَّمد بن بابك الشاعر المعروف ، يظهرنا على مدى اتصال أبى الحسين بالحركة الأدبية في عصره.

__________________

(١) البيت لطرفة في ديوانه ٤٨.

(٢) انظر نهاية ترجمة ابن فارس في إرشاد الأريب.

٢٠