الصّحاح - المقدمة

الصّحاح - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٠٥

١
٢

٣
٤

٥
٦

٧

كتاب «الصحاح» للإمام اللغوي العظيم إسماعيل بن حماد الجوهري أصح معجم عربي ، وهو أول معجم لغوي صحيح سار على نهج يَسَّر اللغة وقرَّبها وجعلها في متناول الناس جميعا ، والصحاح ـ كما يقول محققه الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في مقدمته الرائعة التي كتبها له ـ : «أول معجم خطا بالتأليف المعجمي أعظم خطوة عرفها تاريخ العربية في هذا السبيل».

وعندما نشر معالي الشيخ محمد سرور الصبان مختصر الصحاح المسمى «تهذيب الصحاح» تمنى المخلصون للغة القرآن أن لو نشر «الصحاح» نفسه ، فيخرج من طبعته الأولى التي أصبحت أندر من المخطوطات إلى طبعة تكون خيرا من الأولى في التحقيق والتبويب والإخراج الطباعي الجميل.

وها هي ذي الأمنية تتحقق بفضل الله جل جلاله ، فيصدر «الصحاح» محقَّقاً تحقيقاً رائعاً ، ومطبوعاً طباعةً أنيقةً.

أما المقدمة الرائعة العظيمة التي كتبها الأستاذ الباحث العطار ، والتي أصبحت جزءاً من الصحاح ، فإنها تعتبر بحق دراسة مبتكرة جديدة ، لم يسبق منذ ألِّف الصحاح أن أحداً من العلماء درسه دراسة الأستاذ المحقق ،

٨

وإن دراسته إياه تُعَدُّ خير ما كتب عن أول معجم عربي صحيح سهل التناول.

ولقد صدق الأديب العظيم الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد عندما وصف هذه الدراسة فقال : «إنها تصلح أن تكون مقدمة للصحاح ولسائر المعجمات العربية».

ويكفي هذه الدراسة العليا القوية فخاراً وشهادة بأنها عمل عظيم أن تنال إعجاب كاتب العربية الكبير الأستاذ العقاد.

والمقدمة ـ وحدها ـ كتاب جليل عظيم القدر ، فقد درس فيه الباحث الأستاذ العطار اللغة العربية دراسة علمية دقيقة ، وكتب عن تاريخ المعجمات في العالم ، وتاريخ المعجمات في لغتنا كتابة لم يُسْبَقْ إليها في العربية ، وأبدى آراء جدَّ صائبة في اللغة العربية قديمها وحديثها ، ووسائل النهوض بها ، وعقد فصلاً كبيراً عن «كتاب العين» حقق فيه نسبته إلى الخليل.

ومن أعظم البحوث المبتكرة التي ضمها كتاب الأستاذ العطار أو مقدمته التي كتبها للصحاح بحثه «المدارس المعجمية» وتقسيمه إياها إلى أربع مدارس ، هنَّ : مدرسة الخليل ، ومدرسة أبي عبيد ، ومدرسة الجوهري ، ومدرسة البرمكي ، وأظهَرَ سماتِ كل مدرسة وشخصيتها وخصائصَها و «علاماتها الفارقة» ونظامها وطريقة ترتيب موادها ، ومن الكشوف العلمية التي تحسب للأستاذ العطار في حقل المعجمات أنه أول من كشف عمن ألف المعجمات على أوائل الحروف الهجائية كالنظام الحديث في تأليفها ، فقد ذكر أن محمد بن تميم البرمكي أول من ألف معجما على الطريقة الحديثة التي ترتب المواد والكلمات على حروف الألفباء ، مع مراعاة الحرف الثاني والثالث والرابع في الكلمة.

وكان العلماء والباحثون يذكرون أن الزمخشري أول من سار على هذه الطريقة في «أساس البلاغة» فجاء الأستاذ العطار وأثبت أن البرمكي هو الأول ، إذ تناول البرمكي صحاح الجوهري ورتبه على أوائل الحروف سنة

٩

٣٩٧ ه‍ ، وتوفي الزمخشري سنة ٥٢٨ ه‍ ، مما يثبت ثبوتا قاطعاً أن البرمكي أسبق.

وكتب عن الصحاح وقيمته العلمية ومزاياه وأثره في محيط العربية والتأليف اللغوي والمعجمي بحثاً جديداً غنياً بالمادة العلمية.

وما أشك أن الصحاح أجدر معجم بالنشر ، لأنه يمتاز عن كل المعجمات التي عاصرته أو سبقته بميزات منها : أن المعجمات العربية التي سبقته أو ألفها أصحابها في عصر الجوهري أو بعده بقرن ليست سهلة أمام الباحث ـ باستثناء المجمل والمقاييس لابن فارس ـ بل هي صعبة ، وهي متيهة تجهد الباحث وتعييه ، فكتاب العين للخليل بن أحمد ـ الذي يعد أول معجم في العربية كلها إذ لم يؤلف معجم قبله ، لأن الخليل هو مبتكر فن تأليف المعجمات في العربية كلها ، كما ابتكر علم العروض ـ ليس سهلاً أمام من يريد أن يبحث فيه عن كلمة مغلقة المعنى ، لأنه سار على نظام مغلق الأبواب ، ألا وهو ذكره الكلمة ومقلوباتها ، مثل : قبل ، تقلب إلى : قلب وبقل وبلق ولبق ولقب ، فإذا أردنا كلمة منها لا نعرف في أي الأبواب ذكرت ، لأننا لا نعرف أيها الأصل وأيها الفرع.

وسار على نهج العين ابن دريد في كتاب «الجمهرة» والأزهري في «تهذيب اللغة» وكلاهما مثل كتاب العين في الصعوبة والوعورة.

وكان الناس قبيل الصحاح لا يفيدون من المعجمات المعدودات ، بل كان العلماء أنفسهم لا يستطيعون الوصول إلى الكلمات التي يريدون الوقوف على معانيها إلا بجهد جهيد ، حتى ألف الجوهريُّ صحاحَه فمهّد الطريق وعبَّده أمام الناس ، حتى الشادي نفسه يستطيع بقليل من المعرفة بالمعاجم وطريقة البحث فيها أن يهتدي إلى ضالته من الكلمات.

ومن هنا كانت مزية الصحاح على كل المعجمات التي سبقته أو عاصرته.

وإذا يسَّر الله من يحققه تحقيقاً علمياً دقيقاً ، ووفق له من ينشره نشراً رائعاً جميلاً فإن ذلك من آيات حفظ الله للغة القرآن والسنة بحفظ أمثال «الصحاح» ونشره ليعم به النفع، وتصان اللغة.

١٠

والأستاذ العطار أغنانا بما كتب في مقدمته العظيمة عن وصف الصحاح ، فهو لم يترك مجالاً لقائل أو كاتب أو باحث. فهو قد درس الصحاح وأعطاه حقه فوفاه القول والبحث ، وذكر ما له وما عليه ، وقدم دراسة بكْراً لم يُسبق إليها ، وحشد من آرائه الصائبة وبحوثه المبتكرة ما ملأ به أكثر من خمسين ومائتي صفحة (١) جديرة بالاطلاع عليها والاهتمام بها من قبل العلماء والأدباء والمفكرين.

والحق أن هذا الكتاب أو المقدمة تعد أول بحث علمي في بلادنا ، يقوم على قواعد محكمة ، ومنهج علمي دقيق ، تشارك به بلادنا شقيقاتها ، فليس في هذا البحث فضول من القول ، بل كله بحث وعلم ، وأسلوب المؤلف في مقدمته أسلوب عربي رائع رصين ، وبيانه آية في الروعة والجمال. وحسبنا أنه أسلوب العطار وبيان العطار.

وينتهي الكتاب أو المقدمة بفهارس في منتهى الدقة وجمال الترتيب ، والفهارس الموضوعة هي : فهرس الأعلام ، وفهرس الأماكن والبلدان ، وفهرس الطوائف والأجناس ، وفهرس الكتب الواردة أثناء البحث ، وفهرس المراجع (١).

أما المقدمة التي كتبها أديب العربية الكبير الأستاذ العقاد. فهي آية في البحث العلمي ، وذكر الأستاذ العقاد آراء آية في القوة والصواب والروعة ، وليس غريباً على الكاتب الجبار أن يبدع القول فيما كتب ، فالعقاد ـ دائماً ـ يَمْتَحُ من فكره وقلبه ومنطقه ، وما كتبه في مقدمته «المركزة» خلاصة دراساته في الآداب والعلوم والفنون نصف قرن ، والعقاد من أقوى علماء العربية المعاصرين ، ومن أعظمهم اطلاعاً على أصول العربية وأسرارها ونوادرها ، وبحوثه فيها بحوث ناضجة لا تتاح إلا لمن كان في مثل ثقافته الواسعة وذهنه الجبار.

__________________

(١) قبل أن تصدر «مقدمة الصحاح» مع الصحاح ظهرت في كتاب مستقل تحت عنوان «الصحاح ومدارس المعجمات العربية» وتقع في ٢٨٤ صفحة وملحق بها الفهارس التي أشار إليها جلالته.

١١

وإنني أشكر الأستاذ العطار على ما بذل من جهود كبيرة ضخمة في المقدمة وفي تحقيق الصحاح ، حتى كانت هذه الطبعة الرائعة الممتازة في التحقيق والتعليق والضبط والإخراج الطباعي الأنيق الذي يعد آية في الطباعة الفنية الحديثة (١).

الرياض : ١٤ رجب ١٣٧٥ ه

فهد بن عبد العزيز آل سعود

ملك المملكة العربية السعودية

__________________

(١) كتب حضرة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز هذه المقدمة عند ما كان جلالته وزيراً للمعارف سنة ١٣٧٥ ه‍ (١٩٥٦ م).

١٢

مقَدّمة الطبعَة الثالِثَة

ويشاء الله بفضله وكرمه أن تصدر الطبعة الثانية من «الصحاح» من قِبَل دار العلم للملايين سنة ١٣٩٩ ه‍ (١٩٧٩ م) وتنْفَدَ نسخها خلال أقل من سنتين ، مما جعل طلبه يتجدد ويكثر فاستجبنا وأصدرنا هذه الطبعة ، راجين أن ينتفع بها المشتغلون بلغة القرآن وأهل العلم وطلابه ، والله الموفق.

الثلاثاء : ٣٠ ربيع الأول ١٤٠٤ ه

٣ / ١ / ١٩٨٤ م

المحقق والناشر

١٣

مقَدِّمة الطبعَةِ الثانِية

إمام العربية الجوهري مؤلف الصحاح من أعظم رُوَّاد المعجمات العربية ، ومبتكر المنهج الذي اتبعه في تأسيس صحاحه دون أن يتبع سبيلا سبقه إليه أحد.

أما دعوى من زعم أن البندنيجي في مؤلفه المسمى «كتاب التقفية» قد سبقه فصار الجوهري غير مبتكر منهجه فباطلة ، وقد رددنا عليها ، وبيَّنا بطلانها في البحث المنشور بعد هذه المقدمة تحت عنوان «الجوهري مبتكر منهج الصحاح».

وصدر سنة ١٩٧٥ م معجم باسم «الصحاح في اللغة والعلوم» إعداد نديم مرعشلي وأسامة مرعشلي وتصنيفهما ، وتقديم الشيخ عبد الله العلايلي.

وجاء على الغلاف : «تجديد صحاح العلامة الجوهري» وذكر المصنفان في المقدمة أشياء تضيَّفا فيها «مقدمة الصحاح» التي كتبناها لطبعته الأولى التي حققناها ، وبخاصة في بعض ما سبقْنا به غيرَنا ، ولم يجىء عن أحد سوانا ، مثل السبب الذي دعا الجوهري إلى اختيار منهجه عندما اعتمد الحرف الأخير من الكلمة ، ومثل ذكرنا محمد بن تميم البرمكي الذي اختار الحرف الأول.

ولم يشر المرعشليان إلى «الصحاح» الذي حققناه ، ولا إلى «المقدمة» التي كتبناها له ، مع الاطلاع عليه والاقتباس منه ، ولو ذكرا جهدنا العلمي لكانا أمينين وممن يضطلعون بالأمانة العلمية ، ولما نقص من قدرهما بل لزاد ، اما إغفال الذكر فخيانة تدين المصنفين بالسطو على جهود الآخرين ،

١٤

وادعائهما إياها ، ولا يسعهما الادعاء بعدم الاطلاع على جهودنا ، ولو ادعيا ذلك لكانا من المفترين ، ولأضافا إلى إثم السطو إثم المكابرة والافتراء ، لأن ما ادعياه في «المقدمة» المنسوبة إليهما لم يجىء قط عن أحد غيرنا.

ولم أطلع على عمل المرعشليين إلا في السنة الماضية (١٩٧٨ م) وكنت ببيروت ، فاتصلت بالشيخ عبد الله العلايلي ، وأخذتُ عليه إغفاله الإشارة إلى «الصحاح» الذي حققناه ، وعدم نقده مقدمة المصنف المرعشلي الذي ذكره مفرداً.

وأجابني الشيخ العلايلي : أنه لم يقرأ مقدمة المصنف ، وأنه طُلب إليه كتابة المقدمة فكتبها دون أن يطلع على عمل المرعشلي.

وعجبت من جوابه أكثر من سطو المرعشلي على بحثنا وآرائنا ، فقد كان فرضاً على عالم بحاثة كالشيخ العلايلي أن يكون غير ما وقفنى هو نفسه عليه.

وعلى أي حال يصدر «الصحاح» الأصيل من قبَل «دار العلم للملايين» تلبية لرغبات أهل العلم وطلابه الذين رجوا أن يعاد طبعه ، فقد خلت السوق في العالم العربي والإسلامي منه ، وكنت في حاجة إلى بضع نسخ منه فلم أستطع الحصول إلا على نسخة واحدة دفعت فيها ألف ريال سعودي ، ورجع إليَّ راغب في نسخة فذكرت له قصة النسخة التي انتهيت إليها ، فذكر لي في أدب أنه يود الحصول على نسخة ولو بأكثر من الثمن الذي دفعت.

وتلقيت من بلدان العالم العربي والإسلامي رسائل يطلب إليَّ أصحابها نسخا من «صحاح» الجوهري ، فاعتذرت لهم.

ولما رأيت الحاجة ملحة إلى إعادة طبع الصحاح من كثرة الطلب عليه عزمت أن أطبعه على حسابي لدى «دار العلم للملايين» فإذا هي ترجو أن يكون لها شرف نشر بعض المعاجم ومنها «قاموس الحج والعمرة» الذي ألفته فكان أول مؤلف في موضوعه يؤلف في العربية والإسلام ، فوافقت وأذنت.

١٥

وها هي ذي الطبعة الثانية تصدر بفضل الله ثم بفضل «دار العلم للملايين» التي أفضلت بطبع مئتي نسخة منه طباعة فاخرة للمحقق ، راجين ان ينتفع بالصحاح قراء العربية من علماء وأدباء ومثقفين وطلاب علم.

وفقنا الله لإعلاء كلمته ، ونفعنا بكتابه ولغته ، وجعلنا حرّاس الفصحى وحُماتها والغُيُر عليها.

الأحد : ١ رجب ١٣٩٩ ه‍

٢٧ / ٥ / ١٩٧٩ م

أحمد عبد الغفور عطار

مكة المكرمة

١٦

الجَوهَري مبْتكر منهج الصِّحَاح

كتب الأستاذ الدكتور بكري شيخ أمين مقالاً تحت عنوان «الجاسر والعطار يكشفان عن خطأ علمي» نشره بمجلة «الخفجي» التي تصدرها «شركة الزيت العربية المحدودة» وأعادت جريدة «البلاد» السعودية نشره ، سنة ١٣٩٤ ه‍ (١٩٧٤ م).

وجاء في المقال قوله : «لقد درجنا في الوطن العربي على تقسيم المدارس المعجمية إلى أربعة أقسام :

«الأولى ـ مدرسة الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه «العين».

«والثانية ـ مدرسة ابن دريد في «جمهرة اللغة».

«والثالثة ـ مدرسة الجوهري في معجم «الصحاح».

«والرابعة ـ مدرسة الزمخشري في «أساس البلاغة».

وكانت هذه التقسيمات مداراً لبحوث ودراسات ومؤلفات كثيرة في مختلف أرجاء الوطن العربي».

ويقول : «والملاحظ أنه لا أحد من الباحثين اعترض على هذه التقسيمات ولا على أصحاب هذه المدارس ، وكأن ما وصلوا إليه هو القول الحاسم الجازم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

«وجاء الباحثون السعوديون فأقروا شيئا من هذه التقسيمات وأنكروا شيئاً آخر ، أقروا للفراهيدي بابتداعه طريقة جديدة في معجمه «العين» وأقروا لابن دريد ريادته في ترتيب «جمهرة اللغة» وأنكروا أن يكون الجوهري مبتدع ترتيب «الصحاح» كما أنكروا أن يكون الزمخشري مبتدع ترتيب «أساس البلاغة».

«وهذا الانكار من العلماء السعوديين بني على أسس علمية ، وتحقيقات لغوية ، وبراهين حسية مدعومة بالبراهين الموضوعية ، والحجج العلمية.

«فلقد أثبت الشيخ حمد الجاسر في عدد من الأبحاث العميقة التي نشرها في مجلته «العرب» في أعداد سنتها الأولى أن أبا بشر اليمان بن أبي اليمان البندنيجي المتوفى سنة

١٧

٢٨٤ ه‍ (٩٨٧ م) سبق الجوهري في منهج التقفية بمائة سنة ونيف ، لأن الجوهري توفي سنة ٣٩٣ ه‍ (١٠٠٢ م) وأتى بالأدلة المادية ، والصور الفوتوغرافية لمخطوط البندنيجي المسمى ب «كتاب التقفية».

«وقد ذكر الشيخ حمد الجاسر أن هذا الكتاب من الكتب المغمورة التي قلَّ أن يرد لها ذكر في كتب اللغة ، وهذا من الأسباب التي حملت كثيراً من الباحثين على الاعتقاد بأن الجوهري هو مبتكر منهج ترتيب الكلمات العربية بحسب الحرف الأخير منها ، ثم أورد الجاسر كلام البندنيجي عن طريقته ، كما أورد الأمثلة المختلفة الدالة على منهجه في ترتيب الكلمات.

ولكن باحثاً آخر استدرك على الجاسر اجتهاده فذكر الفارابي المتوفى سنة ٣٥٠ ه‍ (٩٦١ م) وهو خال الجوهري وأستاذه ، ومؤلف معجم «ديوان العرب» (١) سبق الجوهري بترتيبه والسير على نظام الباب والفصل ، وأن أصحاب المعاجم عُيَّل على الفارابي في هذا الترتيب».

ثم أشار الدكتور بكري أمين إلى ذهابي أن الزمخشري ليس مبتكر المنهج الذي يؤسس المعجم على أوائل الكلمات حسب ترتيب حروف الهجاء ، وإنما مبتكرها محمد بن تميم البرمكي.

وفيما ذهب إليه الدكتور بكري مجال للقول والنقد ، ومن ذلك قوله : «والثانية ـ مدرسة ابن دريد في جمهرة اللغة».

ووجه الخطأ أن ابن دريد ليس صاحب مدرسة في معجمات العربية ، لأنه من مدرسة الخليل ، وقد أقمنا الدليل في «مقدمة الصحاح» على انتساب ابن دريد إلى مدرسة الخليل.

أما قوله : «درجنا في الوطن العربي على تقسيم المدارس المعجمية إلى أربعة أقسام» فما رأيت هذا الدرج ، وما كان هذا التقسيم إلا بأَخَرَة ، ولعلي أول من قسم المعجمات العربية إلى مدارس معدودات ، فقد ذكرت في «مقدمة الصحاح» هذا التقسيم ، وطُبعَتْ مع الصحاح سنة ١٣٧٥ ه‍ (١٩٥٦ م).

وفي سنة ١٣٦٠ ه‍ كنت بالمدينة المنورة ـ زادها الله شرفاً وتعظيماً ـ ودار الحديث بمجلس العالم الفاضل السيد علي حافظ في المعجمات العربية ، وفي «تهذيب اللغة» للأزهري ، و «التكملة والذيل والصلة» للصَّغاني ، وفي «جمهرة اللغة» لابن دريد ،

__________________

(١) الصواب «ديوان الأدب» وقد عني مجمع اللغة المصري بنشره.

١٨

وعرضت على الحضور ـ وكانوا من أكابر أهل المدينة وعلمائها وأدبائها ـ رأيي في «مدارس المعجمات العربية» وعددهن ، فقال السيد الجليل علي حافظ : هذا شيء جديد أسمعه لأول مرة ، ولم أقرأه في كتاب أو صحيفة.

وأيده من حضروا ، ثم علم برأيي هذا الإمام اللغوي الشيخ عبد القدوس الأنصاري ؛ وسألني فأجبته ، فسُرَّ وهنأني وقال : هذا جديد مبتكر غير مسبوق إليه.

ومعروف أن الإمام الأنصاري حجة العربية ، وأول سعودي كتب في اللغة بحوثاً رائعة ، وما يزال ـ مدّ الله في عمره ـ من أئمة العربية في هذا العصر ، ومن أعظم الغُيُر على الفصحى : لغة القرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام (١).

وإذا كانت «مقدمة الصحاح» قد طبعت سنة ١٣٧٥ ه‍ (١٩٥٦ م) فإن رأيي في تقسيم المعجمات العربية إلى مدارس قد سبق ظهور المقدمة بخمس عشرة سنة.

والثابت ظهور رأيي في مدارس المعجمات على نطاق العالم العربي والإسلامي ومحافل الاستشراق والمعنيين بالعربية قد كان سنة ١٣٧٥ ه‍ (١٩٥٦ م) في «مقدمة الصحاح» فكان رأيي في مدارس المعجمات وقَسْمها أول رأي في هذا السبيل.

ويعلم الدكتور بكري أنه لا يقال : «درج» إلا فيما عرف واشتهر ، وما كان هذا التقسيم معروفا قبل مقدمة الصحاح التي طبعت مستقلة في كتاب بعنوان «الصحاح ومدارس المعجمات العربية» الذي طبع طبعتين : إحداهما بالقاهرة ، والأخرى ببيروت.

وأما قول الدكتور بكري : «وجاء الباحثون السعوديون فأقروا شيئاً من هذه التقسيمات وأنكروا شيئاً آخر» فالذي أعرفه نقيض قوله ، فما ثَمَّ باحثون سعوديون أقروا شيئاً من هذه التقسيمات وأنكروا شيئاً آخر.

وإذا أراد الدكتور بالباحثين السعوديين حمد الجاسر وكاتب هذه السطور فليس للجاسر رأي في مدارس المعجمات ، وإنكاره على الجوهري ابتكار منهج الصحاح لا يغير من هذه المدارس شيئاً ، فهن كما هن حسب التقسيم الذي رأيته.

وأما قوله : «فلقد أثبت الشيخ حمد الجاسر في عدد من الأبحاث العميقة التي نشرها في مجلته «العرب» في أعداد سنتها الأولى أن أبا بشر اليمان بن أبي اليمان البندنيجي المتوفى سنة ٣٨٤ ه‍ (٨٩٧ م) سبق الجوهري في منهج التقفية بمائة سنة ، لأن الجوهري توفي سنة ٣٩٣ ه‍ (١٠٠٢ م) وأتى بالأدلة المادية ، والصور الفوتوغرافية لمخطوط البندنيجي

__________________

(١) توفي الإمام الأنصاري بمستشفى الحرس الوطني بقرية أم السلم بطريق جدة ـ مكة ، وكانت وفاته يوم الأربعاء ٢٣ جمادى الآخرة ١٤٠٣ ه‍ (١٦ أبريل ١٩٨٣ م) ودفن بمكة المكرمة بالمعلى.

١٩

المسمى : كتاب التقفية» ، فمردود.

ودليلنا حمد الجاسر نفسه الذي ذكر أن هذا الكتاب من الكتب المغمورة التي قلّ أن يرد لها ذكر في كتب اللغة. أما أن «هذا من الأسباب التي حملت كثيراً من الباحثين على الاعتقاد بأن الجوهري هو مبتكر منهج ترتيب الكلمات العربية بحسب الحرف الأخير منها» فعجيب أن يصدر من علماء ذوي بصر ثاقب من أمثال الدكتور بكري شيخ أمين يغفلون عن فهم المعجم اللغوي فيحسبون الصحاح وكتاب التقفية ذوي موضوع واحد ، ومنهج واحد ، وغاية واحدة ، مع أن البندنيجي أدرك معنى المعجم اللغوي ، وعرف الفارق بين عمله وعمل المعجم فسمى كتابه «كتاب التقفية» وذكر الغاية من التأليف ، دون أن يكون له منهج معجمي ، وسنذكر فيما سيأتي المزيد من البيان والبرهان.

أما مدارس المعجمات في العربية فأربع ـ كما ذكرنا في مقدمة الصحاح ـ وهن : الأولى ـ مدرسة الخليل ، وسار على نهجها : ابن دريد في جمهرته ، والأزهري في تهذيبه ، وابن عباد في محيطه ، والقالي في بارعه.

الثانية ـ مدرسة القاسم بن سلام ، ونهج منهجه ابن سِيدَهْ في مخصصه ، والثعالبي في فقه اللغة ، ومن المحدثين المعاصرين عبد الفتاح الصعيدي وحسين يوسف موسى.

الثالثة ـ مدرسة الجوهري ، ونسج على منواله الفيروز أبادي في القاموس ، وابن منظور في لسان العرب ، والصَّغاني في التكملة والذيل والصلة ، وفي مجمع البحرين ، وفي العباب.

الرابعة ـ مدرسة البرمكي ، وتبعها الزمخشري في أساس البلاغة ، ثم ألفت عشرات المعجمات على هذا المنهج الذي صار أسلوب العصر الحاضر في تأليف المعجمات.

وذكرنا سمات كل مدرسة ومزاياها ، ولم نذكر مع المدارس الأربع منهجاً جديداً لم نعتدَّه مدرسة ، وإن كان صاحب هذا المنهج مبتكراً ورائداً ، لم نذكر منهجه ولم نعتدَّه مدرسة ، لأن المنهج لم يكن متبوعاً ، ولم يأت بعده من يهتدي بهديه ، فبقي فذاً وحده ومهجوراً ، وهو نهج نشوان بن سعيد الحميري ، المتوفى سنة ٥٧٣ ه‍ في معجمه العظيم «شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم».

وكتبت عنه منذ زمن بعيد ، وكنت بمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم سنة ١٣٦١ ه‍ أو قريباً منها فذكر لي العلامة السيد عبيد مدني ـ رحمه الله ـ أن لديه مختصراً للشمس ، ودعاني إلى منزله فزرته ، ولقيت شقيقه العلامة الأستاذ السيد أمين مدني ، مدّ الله في عمره.

واطلعت على المختصر ، وتحدثنا في المعجمات العربية ، وكانا قد علما برأيي في تصنيفها إلى مدارس ، فسألني السيد عبيد : لماذا لم تعُدَّ نشوان بن سعيد الحميري صاحب مدرسة؟ أليس مبتكر منهجه في تأسيس معجمه؟

٢٠