إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ٣٣

آية الله السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي

تتخلل الرءوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد ، فمكثت هنيهة ثم خرجت ، فذهبت حتى تغيب ، ثم قالوا : قد جاءت قد جاءت ، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا. ثم قال الترمذي : حسن صحيح.

وقال أيضا في ص ١٢٠ : وقال عبد الملك بن عمير : دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس ، فو الله ما لبثت إلّا قليلا حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد وإذا رأس عبيد الله بن زياد بن يدي المختار على ترس ، وو الله ما لبثت إلّا قليلا حتى دخلت على عبد الله بن مروان وإذا برأس مصعب ابن الزبير على ترس بين يديه.

ومنهم العلامة أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام بن تميم التميمي القيرواني المغربي المالكي المولود سنة ٢٥١ والمتوفى سنة ٣٣٣ ه‍ في كتابه «المحن» (ص ١٨٧ ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة ١٤٠٣) قال :

قال أبو معشر : ولما ولى يزيد بن معاوية عبيد الله بن زياد العراق فكان عبيد الله في الكوفة حتى قتل الحسين ثم رجع [إلى] البصرة ، فكان بها حتى مات يزيد وحرقت الكعبة ورجع حصين بن نمير إلى الشام ، وبويع لمروان بن الحكم ، فأرسل حصين بن نمير مددا إلى زياد ، وأرسل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة إلى الكوفة أميرا ، ثم أرسل عبد الله بن مطيع إلى المدينة ، فسار عبيد الله بن زياد إلى المختار فالتقوا بخازر فاقتتلوا ، فقتل المختار عبيد الله بن زياد ومن معه حصين بن نمير وذا الكلاع وعامة من كان معه ممن شهد الحرة من رءوسهم.

قال أبو معشر : فحدثني رجل من أهل المدينة أنه نظر إلى خمسين رأسا بعث بها المختار إلى ابن الزبير ، فيهم رأس عبيد الله بن زياد ، وحصين بن نمير ، وذي الكلاع ، فلما قتل عبيد الله بن زياد ارتضى أهل البصرة عبد الله بن الحارث بن نوفل فأمروه على أنفسهم ، وبعث ابن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عاملا على البصرة ،

٦٤١

ثم بعث حمزة بن الزبير بعده ، ثم بعث مصعبا ، فقتل المختار وبعث برأسه إلى ابن الزبير ، فقال ابن الزبير : ما حدثني كعب إلّا صدقته فيه ، قال لي تقتل ابن معقب قد قتلته.

وقتل مصعب أصحاب المختار ، قتل منهم ثمانية آلاف صبرا وكان خلع طاعة عبد الله بن الزبير ودعا إلى نفسه ، ونافق بالكوفة ، فحاربه مصعب بن الزبير من البصرة فقتله ودخل الكوفة ، ثم حج في سنة إحدى وسبعين ، فقدم على ابن الزبير ، قال : ودخلت حيّة في رأس عبيد الله بن زياد لما وضع برحبة الكوفة. حدثني بكر بن حماد عن نعيم بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن عمار بن عمير قال : كنا بالرحبة ، فأتي برءوس ، ورأس عبيد الله بن زياد ، فقالوا : انفلتت الحية فانفرجوا لها ، فأقبلت تشم الرءوس حتى دخلت في رأس عبيد الله بن زياد ، ثم خرجت ثم دخلت والناس ينظرون.

قال بكر : حدثني به أبو الحسن الكوفي عن أبيه عن أبي معاوية بإسناد مثله.

ومنهم الحافظ أبو العلى محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري الهندي المتوفى سنة ١٣٥٣ ه‍ في «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» (ج ١٠ ص ٢٨٣ ط دار الفكر في بيروت) قال :

أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير قال : لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه نضدت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يقولون قد جاءت قد جاءت فإذا حية قد جاءت تخلل الرءوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا. هذا حديث حسن صحيح.

قال محشي الكتاب في الذيل : وإنما أورد الترمذي هذا الحديث في مناقب الحسين لأن فيه ذكر المجازاة لما فعله عبيد الله بن زياد برأس الحسين رضي‌الله‌عنه.

٦٤٢

قال العيني : إن الله تعالى جازى هذا الفاسق الظالم عبيد الله بن زياد بأن جعل قتله على يدي إبراهيم بن الأشتر يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين على أرض يقال لها الجازر بينها وبين الموصل خمسة فراسخ وكان المختار بن أبي عبيدة الثقفي أرسله لقتال ابن زياد ولما قتل ابن زياد جيء برأسه وبرءوس أصحابه وطرحت بين يدي المختار وجاءت حية دقيقة تخللت الرءوس حتى دخلت في فم ابن مرجانة وهو ابن زياد وخرجت من منخره ودخلت في منخره وخرجت من فيه وجعلت تدخل وتخرج من رأسه بين الرءوس ثم إن المختار بعث برأس ابن زياد ورءوس الذين قتلوا معه إلى مكة إلى محمد بن الحنفية وقيل إلى عبد الله بن الزبير فنصبها بمكة وأحرق ابن الأشتر جثة ابن زياد وجثث الباقين.

ومنهم الشريف أحمد بن محمد الخافي [الخوافي] في «التبر المذاب» (ص ٨٨ مخطوط) قال :

قال عبيد الله بن عمر لقد رأيت في هذا القصر عجبا يعني قصر الكوفة رأيت رأس الحسين عليه‌السلام بين يدي ابن زياد ورأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار ورأيت رأس المختار بين يدي المصعب ابن الزبير ثم رأيت رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبد الملك بن مروان ثم استقر الملك في بني أمية إلى أن خرج عبد الله السفاح ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على بني أمية وقتلهم عن آخرهم وملكوا الملك ثم إن ابن زياد أمر بتجهيز الرءوس والسبايا إلى الشام إلى يزيد لعنه الله.

ومنهم الفاضل المعاصر الأستاذ عباس محمود العقاد في «المجموعة الكاملة ـ العبقريات الإسلامية» (ج ٢ ص ٢٧١ ط دار الكتاب اللبناني بيروت) قال :

ولم تنقض سنوات أربع على يوم كربلاء حتى كان يزيد قد قضى نحبه ، ونجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكل من مد يدا إلى الحسين وذويه .. فسلط الله على قاتلي الحسين كفؤا لهم في النقمة والنكال يفل حديدهم بحديدة ويكيل لهم

٦٤٣

بالكيل الذي يعرفونه. وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي داعية التوابين من طلاب ثأر الحسين. فأهاب بأهل الكوفة أن يكفروا عن تقصيرهم في نصرته ، وأن يتعاهدوا على الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة ، وهو دفين مذال القبر في العراء .. فلم ينج عبيد الله بن زياد ، ولا عمر بن سعد ، ولا شمر بن ذي الجوشن ، ولا الحصين ابن نمير ، ولا خولي بن يزيد ، ولا أحد ممن أحصيت عليهم ضربة أو كلمة أو مدوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء .. وبالغ في النقمة فقتل وأحرق ومزق وهدم الدور وتعقب الهاربين ، وجوزي كل قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله .. فقتل عبيد الله وأحرق ، وقتل شمر بن ذي الجوشن وألقيت أشلاؤه للكلاب ، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين إلى حيث لا وزر لهم ولا شفاعة .. فكان بلاؤهم بالمختار عدلا رحمة فيه ، وما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار.

ولحقت الجريرة الثالثة بأعقاب الجريرة الثانية في مدى سنوات معدودات ..

فصمد الحجاز في ثورته أو في تنكره لبني أمية إلى أيام عبد الملك بن مروان ، وكان أحرج الفريقين من سبق إلى أحرج العملين. وأحرج العملين ذاك الذي دفع اليه ـ أو اندفع اليه ـ الحجاج عامل عبد الملك .. فنصب المنجنيق على جبال مكة ، ورمى الكعبة بالحجارة والنيران فهدمها وعفى على ما تركه منها جنود يزيد بن معاوية .. فقد كان قائده الذي خلف مسلم بن عقبة وذهب لحصار مكة أول من نصب لها المنجنيق وتصدى لها بالهدم والإحراق ..

وما زالت الجرائر تتلاحق حتى تقوض من وطأتها ملك بني أمية ، وخرج لهم السفاح الأكبر وأعوانه في دولة بني العباس .. فعموا بنقمتهم الأحياء والموتى ، وهدموا الدور ، ونبشوا القبور ، وذكر المنكوبون بالرحمة فتكات المختار بن أبي عبيد ، وتجاوز الثأر كل مدى خطر على بال هاشم وأمية يوم مصرع الحسين.

٦٤٤

لقد كانت ضربة كربلاء ، وضربة المدينة ، وضربة البيت الحرام ، أقوى ضربات أمية لتمكين سلطانهم وتثبيت بنيانهم وتغليب ملكهم على المنكرين والمنازعين .. فلم ينتصر عليهم المنكرون والمنازعون بشيء كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم ، ولم يذهبوا بها ضاربين حقبة ، حتى ذهبوا بها مضروبين إلى آخر الزمان.

وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء .. فإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيام ، وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب إذا وضعت الأعمار المنزوعة في الكفتين.

ومنهم العلامة الحافظ جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي في «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» (ص ٣٥٧ ط مؤسسة الرسالة بيروت) قال :

بعد ذكر اسمه ونسبه : وقال أحمد بن عبد الله العجلي : كان يروي عن أبيه أحاديث ، وروى الناس عنه. وهو الذي قتل الحسين ، وهو تابعي ثقة.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : سألت يحيى بن معين عن عمر بن سعد أثقة هو؟ فقال : كيف يكون من قتل الحسين ثقة؟

وقال الحاكم أبو أحمد : سمعت أبا الحسين الغازي يقول : سمعت أبا حفص عمرو بن علي يقول : سمعت يحيى بن سعيد يقول : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، قال : حدثنا العيزار بن حريث عن عمر بن سعد ، فقال له رجل من بني ضبيعة يقال له موسى : يا أبا سعيد هذا قاتل الحسين. فسكت ، فقال : عن قاتل الحسين تحدثنا. فسكت.

وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش : حدثنا أبو حفص هو الفلاس ، قال : سمعت يحيى بن سعيد القطان ، وحدثنا عن شعبة وسفيان عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد فقام إليه رجل ، فقال : أما تخاف الله تروي عن عمر بن سعد ، فبكى وقال : لا أعود احدّث عنه أبدا.

إلى أن قال في ص ٣٥٩ : قال الحميدي : حدثنا سفيان عن سالم إن شاء الله قال :

٦٤٥

قال عمر بن سعد للحسين : إن قوما من السفهاء يزعمون أني أقتلك. فقال حسين : ليسوا بسفهاء ، ولكنهم حلماء ثم قال : والله إنه ليقر بعيني أنك لا تأكل برّ العراق بعدي إلّا قليلا.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : حدثنا عبد السلام بن صالح ، قال : حدثنا ابن عيينة عن عبد الله بن شريك ، قال : أدركت أصحاب الأردية المعلّمة وأصحاب البرانس من أصحاب السواري إذا مرّ بهم عمر بن سعد ، قالوا : هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله.

وروي عن محمد بن سيرين عن بعض أصحابه ، قال : قال علي لعمر بن سعد : كيف أنت إذا قمت مقاما تخيّر فيه بين الجنة والنار فتختار النار.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : حدثنا أبي ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، عن أبيه ، قال : وبلغ مسيره ـ يعني الحسين ـ عبيد الله بن زياد وهو بالبصرة ، فخرج على بغالهم هو واثنا عشر رجلا حتى قدموا الكوفة ، فحسب أهل الكوفة أنه الحسين بن علي وهو متلثم ، فجعلوا يقولون : مرحبا بابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأقبل الحسين حتى نزل نهري كربلاء وبلغه خبر الكوفة ، فبعث ابن زياد عمر بن سعد على جيش وأمره. أن يقتله ، وبعث شمر بن جوشن الكلابي فقال : اذهب معه فإن قتله وإلّا فاقتله وأنت على الناس ، قال : فخرجوا حتى لقوه ، فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا.

وقد ذكرنا بعض أخباره في ترجمة الحسين بن علي.

قتله المختار سنة خمس وستين وقيل : ست وستين وقيل : سبع وستين وعليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

ومنهم العلامة الشريف أحمد بن محمد الحسيني الشافعي في «التبر المذاب» (ص ٨٦ ـ المخطوط) قال :

ثم قام عمر بن سعد لعنه الله عند ابن زياد يريد منزلته التي وعده بها فلم يف له فخرج من عنده وهو يقول ما رجع أحد مثل ما رجعت أطعت الفاسق ابن زياد الظالم

٦٤٦

ابن الفاجر وأغضبت الحاكم العدل وقطعت القرابة الشريفة وكان كلما مرّ على ملأ من الناس أعرضوا عنه وكلّما دخل المسجد خرج الناس منه وكل من رآه سبّه فلزم بيته إلى أن قتل عليه غضب الله.

ومنهم العلامة أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام بن تميم التميمي القيرواني المغربي المالكي المولود سنة ٢٥١ والمتوفى سنة ٣٣٣ ه‍ في كتابه «المحن» (ص ١٨٥ ط دار الغرب الإسلامي في بيروت سنة ١٤٠٣) قال :

حدثنا أبو جعفر تميم بن محمد قال : حدثني أبي رحمه‌الله محمد بن أحمد بن تميم التميمي قال : حدثني عمر بن يوسف ومحمد بن أسامة قال : حدثنا علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال : حدثنا أبو معشر قال : حدثني رجل من الأنصار أن المختار بن أبي عبيد كتب إلى عبد الله بن الزبير فقال لرسوله : إذا جئت مكة فدفعت كتابي إلى ابن الزبير فأت المهدي يعني ابن الحنفية محمد بن علي بن أبي طالب ، فأقرأ عليه‌السلام وقل له : يقول لك أبو إسحاق ، إني أحبك وأحب أهل بيتك ، قال : فأتاه فقال له ذلك ، فقال له : كذبت وكذب أبو إسحاق ، كيف يحبني ويحب أهل بيتي وهو يجلس عمر بن سعد بن أبي وقاص على وسائده وقد قتل الحسين بن علي بن أبي طالب. قال : فلما قدم عليه رسوله أخبره بما قال محمد بن علي بن الحنفية ، قال : فقال المختار بن أبي عبيد لأبي عمرة صاحب حرسه : استأجر لي نوائحا يبكين الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه‌الله على باب عمر بن سعد بن أبي وقاص. قال : ففعل ذلك الحرسي ، قال : فلما بكين قال عمر لابنه عمر ايت الأمير فقل له : ما بال النوائح يبكين الحسين بن علي بن أبي طالب على باب داري ، قال : فأتاه ابنه فقال له ذلك ، قال : فقال له المختار : لأنه أهل أن يبكي عليه ، قال : أصلحك الله ، إنه عن ذلك ، قال : نعم ، ثم دعا أبا عمرة صاحب حرسه فقال : اذهب إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص فأتني برأسه ، قال : فأتاه فقال : قم إليّ أبا حفص ، فقام إليه عمر

٦٤٧

وهو ملتحف فجلله بالسيف فقتله ، وجيء برأسه إلى المختار وحفص جالس عنده على الكرسي ، فقال : هل تعرف هذا ، قال : نعم ، رحمة الله عليه ، قال : أتحب أن ألحقك به ، قال : وما خير في الحياة بعده ، فضرب رأسه أيضا فقتله.

سبب استشهاده عليه‌السلام

رواه جماعة :

فمنهم الفاضل المعاصر الدكتور السيد عبد العزيز سالم ـ أستاذ التاريخ الإسلامي في «تاريخ الدولة العربية ـ منذ ظهور الإسلام حتى سقوط الدولة الاموية» (ص ٣٦٠ ط مؤسسة شباب الجامعة) قال :

لما توفى معاوية بن أبي سفيان كتب أهل الكوفة إلى الحسين بن علي يبايعونه بالخلافة ، وكان مما كتبوه إليه : إنا قد حبسنا أنفسنا على بيعتك ، ونحن نموت دونك ، ولسنا نحضر جمعة ولا جماعة بسببك. وفي هذه الآونة استدعاه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامل المدينة وطالبه بالبيعة ليزيد ، فسام التأخير ، واحتج بأن مثله لا يعطي بيعته سرا ، وأبدى استعداده لمبايعة يزيد إذا اجتمع الناس ، ثم انصرف إلى داره ، وأقام حتى المساء. ورحل بعد ذلك إلى مكة. أما ابن الزبير فقد سبق الحسين في الرحيل إلى مكة حتى لا يرغم على المبايعة ليزيد. إذ كان يطمع في الظفر بالخلافة بعد معاوية. ولما دخل مكة ، قال : أنا عائذ بالبيت. ولزم جانب الكعبة لا يفارقه عامة النهار. وما كاد الحسين يصل إلى مكة ، ويعلم أهل مكة بوصوله ، حتى بدءوا يترددون عليه ويجتمعون عنده دون أن يحفلوا بابن الزبير. ثم والاه أهل الكوفة بالمكاتبات العديدة يسألونه القدوم عليهم ليسلموا الأمر اليه ويطردون النعمان ابن بشير عامل الكوفة. وأول ما ورد عليه كتاب حمله اليه رسولان من قبل سليمان بن صرد وجماعة من شيعة الكوفة ، وفي اليوم التالي ورد عليه رسولان آخران ومعهما خمسون كتابا من أشراف أهل الكوفة ورؤسائها. وفي اليوم الثالث وافاه رسولان

٦٤٨

يحملان إليه خمسين كتابا أخرى فلما أمسى ذلك اليوم ورد عليه سعيد بن عبد الله الثقفي ومعه كتاب من رؤساء أهل الكوفة ، وهكذا تتابعت الكتب على الحسين حتى ملأ بها خرجين له. فرد الحسين على أهل الكوفة جميعا بكتاب واحد دفعه إلى رسولين من أهل الكوفة يخبرهم فيه بأنه سيرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ليتحقق بنفسه من حقيقة مشاعرهم قبل أن يقدم هو (أي الحسين) عليهم.

ووصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة في ٥ شوال سنة ٦٠ ه‍ ، وبايعه من أهلها ثمانية عشرة ألف رجل سرا للحسين. وعلم النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بوصوله ، وكان رجلا مسالما ، فوقف سلبيا من مسلم ، وأعلن عن موقفه بقوله : لا أقاتل إلّا من قاتلني ، ولا أثب إلّا على من وثب عليّ ، ولا آخذ بالقرفة والظنة ، فمن أبدى صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم أكن إلّا وحدي. ولكن بعد أنصار الأمويين في الكوفة وعلى رأسهم عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي ، وعمارة بن عقبة كتبوا إلى يزيد بن معاوية يخبرونه بما قدم مسلم بن عقيل إلى الكوفة من أجله ، وما كان من تخاذل النعمان بن بشير نحو مسلم. فكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد عامله على البصرة بعهده إليه في ولاية البصرة والكوفة معا ، ويأمره بعزل النعمان والقضاء على مسلم. فلما علم مسلم بقدوم عبيد الله ، خاف على نفسه ، فلاذ بدار هانئ بن عروة المرادي في قول وهانئ بن ورقة المذحجي في قول آخر ، وكان هانئ هذا من أشراف الكوفة ، وطلب منه أن يضيفه ويجيره ، فأجاره هانئ على غير رغبته ، وأدخله دار نسائه ، وجعل الشيعة يختلفون إليه في دار هانئ فكان مسلم يبايع من أتاه منهم ويأخذ عليهم العهود والمواثيق المؤكدة بالوفاء. وفي أثناء مقامه تهيأت له فرصة قتل عبيد الله بن زياد الذي قدم لزيارة شريك بن الأعور في منزل هانئ ، وكان شريك قد مرض مرضا شديدا ، ولكنه لم يغتنم هذه الفرصة ويثب عليه لأمرين : الأول كراهية هانئ لقتله في داره ، والثاني كراهيته للغدر. وعلم ابن زياد عن طريق جواسيسه أن مسلم بن عقيل يقيم بدار هانئ ، فاستقدمه

٦٤٩

إليه ، فقدم إليه هانئ ، فأمره بإحضار مسلم بن عقيل ، فامتنع عن دفع ضيفه حتى يموت دونه ، فهدده ابن زياد بالقتل ، فلم يحفل بتهديده ، فغضب أحد أتباع ابن زياد ، وضرب هانئ بقضيب كان بيده على أنفه وجبينه حتى كسر أنفه وأسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه ، ثم أمر ابن زياد به فألقي في بيت. وبلغ مذحجا أن ابن زياد قد قتل هانئا فأقبلوا حتى أحاطوا بالقصر ، فخرج إليهم شريح القاضي وأعلن لهم أن هانئا لم يقتل ، فانصرفوا. وعند ما علم ابن عقيل أن هانئا قد قتل دعا كل من بايعه من الشيعة ، فتجمعوا لديه فتقدم معهم حتى أحاطوا بقصر الامارة ، ولكن ابن زياد أرسل إليهم من يخوفهم المعصية ويهددهم بالعذاب ، فتفرقوا عن ابن عقيل ، فلما ألفى نفسه وحيدا قد خذله القوم مضى في أزقة الكوفة لا يدري إلى أين يذهب ، فانتهى إلى باب امرأة كندية فآوته ، ولكن ابنها مضى إلى ابن زياد ودله على مكان ابن عقيل ، وتم القبض عليه ، ثم أمر به ابن زياد فرقى به إلى أعلى القصر ، فضربت عنقه هناك فسقطت رأسه إلى الرحبة ثم سقط الجسد ، أما رأسه فبعث به إلى دمشق وأما جسده فصلب. أما الحسين فلم تكن قد وصلته أخبار مسلم ، فاستبطأها وعزم على السير نحو الكوفة ، فلما هم بالرحيل أتاه ابن عباس وحاول أن يثنيه عن السير خوفا من غدر أهل العراق به ، ولكنه لم يصغ إليه بحجة أن مسلم بن عقيل كتب إليه باجتماع أهل الكوفة على بيعته ونصرته ، وعند ما علم ابن الزبير بعزم الحسين على الرحيل سر في نفسه لمسيره وشجعه على إتيان الكوفة وقال : وفقك الله! أما لو أن لي بها مثل أنصارك ما عدلت عنها ثم دخل أبو بكر بن الحارث بن هشام على الحسين قبل سيره ونصحه بعدم الذهاب إلى الذين عدوا على أبيه علي وأخيه الحسن ، ولكن الحسين شكره على نصيحته ولم يأخذ بها.

فلما اقترب الحسين من القادسية لقيه نفر أبلغه بمقتل مسلم بن عقيل ونصحوه بالعودة ، وظل كلما تقدم قليلا أقبل عليه من ينصحه بالعودة ، ولكنه واصل السير. وكان ابن زياد قد وجه الحصين بن نمير في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأمره

٦٥٠

أن يقيم فيما بين القادسية إلى القطقطانة حتى يمنع من يخرج من الكوفة لنصرة الحسين. ثم سار الحسين في طريقه إلى الكوفة فتصدت له في الطريق فرقة من الفرسان منعته من السير إلى الكوفة أو العودة إلى الحجاز ، فاختار طريقه إلى كربلاء وهو في قدر ٥٠٠ فارس من أهل بيته وأصحابه ونحو مائة من الرجال ، فلما وصل إلى هناك في غرة المحرم من سنة ٦١ أمر بأثقاله فحطت. ثم أرسل ابن زياد عمر بن سعد ابن أبي وقاص في أربعة آلاف فارس ، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الشريعة وهي موضع الماء ، ثم نشب القتال في ٩ من المحرم ، وتكاثر عساكر الكوفة على الحسين وأصحابه ، فلم يزل أصحاب الحسين يقاتلون ويقتلون حتى لم يبق معه غير أهل بيته ، ثم قتل علي بن الحسين ، ثم عبد الله بن مسلم بن عقيل. وظلوا يتساقطون الواحد بعد الآخر حتى لم يبق سواه ، فحمل عليه مالك بن بشر الكندي فضربه بالسيف على رأسه وعليه برنس خز فقطعه وأفضى السيف إلى رأسه فجرحه ، ثم اشتد على الطعان وتكاثرت عليه عساكر ابن زياد فظل يقاتل حتى قتل ، واحتز القتلة رأسه وحملوها إلى ابن زياد بالكوفة ، فأرسلها إلى يزيد بدمشق. وكان عدد القتلى من أصحاب الحسين ٧٢ رجلا احتزت رءوسهم وحملت على أطراف الرماح.

ثم كانت حركة التوابين برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي تعبيرا عن ندم الشيعة على خذلانهم للحسين بن علي وسخطهم على بني أمية ، وتفصيل ذلك أنه لما قتل الحسين ورجع ابن زياد إلى الكوفة تلاقت الشيعة بالتلاوم والندم ، ورأت أن قد أخطأت خطئا كبيرا بدعائهم الحسين وتركهم نصرته وإجابته حتى قتل إلى جانبهم ، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عليهم إلّا قتل من قتله أو القتل فيهم ، فاجتمعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رؤساء الشيعة هم : سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيب ابن نجبة الفزاري ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعبد الله بن وال التيمي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، كلهم من خيار أصحاب علي ، فاجتمع هؤلاء الزعماء في منزل سليمان بن صرد ، ولم يلبث أهل الكوفة أن قبلوا دعوة ابن الزبير عند ما دعاهم

٦٥١

إليها مصعب ابن الزبير في سنة ٦٨ ه‍ للتخلص من استبداد المختار ، وطلبوا من مصعب بن الزبير أن يخلص الكوفة من المختار الكاذب ، فزحف مصعب بجموع أهل البصرة واشتبك مع المختار في موقعة المذار ، فانهزم المختار وتراجع إلى الكوفة ثم قتل. وهكذا خضعت العراق لابن الزبير ، وظلت كذلك إلى أن تمكن عبد الملك بن مروان من القضاء على مصعب في سنة ٧١ بدير الجاثليق على النحو الذي سنوضحه عند حديثنا عن حركة ابن الزبير في الحجاز.

ومنهم أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧ ه‍ في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج ٥ ص ٣٢٢ ط دار الكتب العلمية بيروت) قال

في ترجمة يزيد بن معاوية اللعين : ويكنى أبا خالد ، ولد سنة ست وعشرين هو وعبد الملك ، وامه ميسون بنت بحدل ، وكان له أولاد جماعة ، فمنهم : معاوية ابنه ، وولي الخلافة بعده أياما. ومنهم : عاتكة ، تزوجها عبد الملك بن مروان ، فولدت له أربعة أولاد ، وهذه عاتكة كان لها اثنا عشر محرما كلهم خلفاء : أبوها يزيد ، وجدها معاوية ، وأخوها معاوية بن يزيد ، وزوجها عبد الملك ، وحموها مروان بن الحكم ، وابنها يزيد بن عبد الملك ، وابن أبيها الوليد بن يزيد ، وبنو زوجها : الوليد ، وسليمان ، وهشام ، وابنا ابن زوجها : يزيد وإبراهيم ، ابنا الوليد بن عبد الملك. ولم يتفق مثل هذا لامرأة سواها.

وقد أسند يزيد بن معاوية الحديث ، فروى عن أبيه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإسنادنا إليه متصل ، غير أن الامام أحمد سئل : أيروى عن يزيد الحديث؟ فقال : لا ، ولا كرامة ، فلذلك امتنعنا أن نسند عنه.

وقد ذكرنا أن معاوية لما مات كان ابنه يزيد غائبا ، فلما سمع بموت أبيه معاوية قدم وقد دفن ، فبويع له وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر ، فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة ، والنعمان بن بشير على الكوفة ، وكان أمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص ، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، ولم يكن ليزيد همّ حين ولي إلّا

٦٥٢

بيعة النفر الذين أبوا على أبيه الاجابة إلى بيعة يزيد ، فكتب إلى الوليد بن عتبة : أما بعد ، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا ، والسلام. فبعث إلى مروان ، فدعاه واستشاره وقال : كيف ترى أن أصنع؟ قال : إني أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة ، فإن فعلوا قبلت ، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية ، فإنهم إن علموا بموته وثب كل واحد منهم في جانب ، فأظهر الخلاف والمنابذة ، إلّا أن ابن عمر لا أراه يرى القتال ، ولا يحب الولاية ، إلّا أن تدفع إليه عفوا.

وأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما ، فوجدهما في المجلس جالسين فقالا : أجيبا الأمير. فقالا له : انصرف ، فالآن : نأتيه : ثم أقبل ابن الزبير على الحسين فقال له : ما تظن فيما بعث إلينا؟ فقال الحسين : أظن طاغيتهم قد هلك ، وقد بعث هذا إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا الخبر. قال : وأنا ما أظن غيره ، فما تريد أن تصنع؟ قال : اجمع فتياني الساعة ، ثم أسير إليه ، فإذا بلغت الباب احتبستهم. قال : فإني أخافه عليك إذا دخلت قال : لا آتيه إلّا وأنا على الامتناع.

قال : فجمع مواليه وأهل بيته ، ثم قام يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد وقال لأصحابه : إني داخل ، فإن دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا عليّ بأجمعكم ، وإلّا فلا تبرحوا حتى أخرج. فدخل وعنده مروان ، فسلم عليه بالامرة وجلس ، فأقراه الوليد الكتاب ، ونعى إليه معاوية ، ودعاه إلى البيعة ، فقال الحسين (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) رحم الله معاوية ، وعظم لك الأجر ، أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا ، ولا أراك تجتزي مني سرا دون أن تظهرها على رءوس الناس علانية قال : أجل ، قال : فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا. فقال له الوليد وكان يحب العافية ، فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس. فقال له مروان. والله إن فارقك الساعة ولم يبايع لا

٦٥٣

قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك وبينه ، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب الحسين عند ذلك فقال : يا ابن الزرقاء ، أنت تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت. ثم خرج فقال مروان : والله لا يمكنك من مثلها من نفسه ، فقال الوليد : والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت ، وإني قتلت حسينا.

إلى أن قال في ص ٣٣٥ عند ذكر مقتله عليه‌السلام :

وذلك أنه أقبل حتى نزل شراف ، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم الخيل ، فنزل الحسين رضي‌الله‌عنه ، وأمر بأبنيته فضربت ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ـ وكان صاحب شرطة ابن زياد ـ حتى وقفوا مقابل الحسين عليه‌السلام في حرّ الظهيرة ، فأمر الحسين رجلا فأذّن ، ثم خرج فقال : أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم ، إني لم آتكم حتى قدمت عليّ رسلكم ، وأتتني كتبكم أن أقدم علينا ، فليس لنا إمام ، فإن كنتم كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه ، فسكتوا عنه ، وقالوا للمؤذن : أقم الصلاة ، فأقام الصلاة ، وصلّى الحسين ، وصلّى الحر معه ، ثم تراجعوا ، فجاءت العصر ، فخرج يصلي بهم وقال : أتتني كتبكم ورسلكم ، فقال الحر : ما ندري ما هذه الكتب والرسل. فقال : يا عقبة بن سمعان ، أخرج إلي الخرجين. فأخرجهما مملوءين صحفا فنشرها بين أيديهم ، فقال الحر : إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أمرنا أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد ، فقال الحسين : الموت أدنى [إليك] من ذلك. وقام فركب وركب أصحابه وقال : انصرفوا بنا. فحالوا بينه وبين الانصراف ، فقال للحر : ثكلتك أمك ، ما تريد؟ قال : إني لم اومر بقتالك ، إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ، ولا تردك المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد لعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك ، فتباشر الحسين والحر يسايره ، ثم جاءه كتاب عبيد الله بن زياد أن جعجع بالحسين حتى يبلغك

٦٥٤

كتابي ، فأنزلهم الحر على غير ماء ، ولا في قرية ، وذلك في يوم الخميس ثاني المحرم ، فلما كان من الغد قدم عمر بن سعد من الكوفة في أربعة آلاف ، وكان عبيد الله قد ولى عمر بن سعد الري ، فلما عرض أمر الحسين قال له : اكفني أمر هذا الرجل ، ثم اذهب إلى عملك. فقال : أعفني فأبى. قال : أنظرني الليلة ، فأخره فأنظر في أمره ، [ثم أصبح] راضيا. فبعث إلى الحسين رجلا يقول له : ما جاء بك؟ فقال : كتب إليّ أهل مصركم ، فإذا كرهتموني فإني أنصرف عنكم. وجاء كتاب عبيد الله إلى عمر : حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء كما صنع بعثمان. فقال : اختاروا مني واحدة من ثلاث : إما أن تدعوني فألحق بالثغور أو أذهب إلى يزيد (١) ، أو انصرف من حيث جئت. فقبل ذلك

__________________

(١) قال الأستاذ عباس محمود العقاد في «المجموعة الكاملة ـ العبقريات الإسلامية» ج ٢ ص ٢٢٠ ط دار الكتاب اللبناني بيروت قال :

تلقى ابن زياد من عمر بن سعد كتابا يقول فيه ان الحسين أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغور شئنا ، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده. والذي نراه نحن من مراجعة الحوادث والأسانيد أن الحسين ربما اقترح الذهاب إلى يزيد ليرى رأيه ، ولكنه لم يعدهم أن يبايعه أو يضع يده في يده .. لأنه لو قبل ذلك لبايع في مكانه واستطاع عمر بن سعد أن يذهب به إلى وجهته ، ولأن أصحاب الحسين في خروجه إلى العراق قد نفوا ما جاء في ذلك الكتاب ومنهم عقبة بن سمعان حيث كان يقول : صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ، ولم أفارقه حتى قتل وسمعت جميع مخاطباته إلى الناس إلى يوم قتله .. فو الله ما أعطاهم ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيروه إلى ثغر من الثغور ، ولكنه قال : دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس. ولعل عمر بن سعد قد تجوز في نقل كلام الحسين عمدا ليأذنوا له في حمله إلى يزيد فيلقى عن كاهله مقاتلته وما تجر اليه من سوء القالة ووخز الضمير ، أو لعل الأعوان الأمويين قد أشاعوا عن الحسين اعتزامه للمبايعة ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده ، ويسقطوا حجتهم في مناهضة الدولة الاموية .. وأيا كانت الحقيقة في هذه الدعوى فهي تكبر مأثمة عبيد الله وشمر ولا تنقص منها. ولقد كانا على العهد بمثليهما .. كلاهما كفيل أن يحول بين صاحبه وبين خالجة من الكرم تخامره أو تغالب اللؤم الذي فطر عليه ، فلا يصدر منهما إلّا ما يوائم لئيمين لا يتفقان على خير ..

وكأنما جنح عبيد الله إلى شيء من الهوادة حين جاءه كتاب عمر بن سعد ، فابتدره شمر ينهاه ويجنح إلى الشدة والاعتساف ، فقال له : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك! والله لئن رحل

٦٥٥

عمر ، وكتب إلى عبيد الله بذلك ، فكتب عبيد الله. لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي ، فقال الحسين : لا والله لا يكون ذلك أبدا.

وفي رواية : أن عبيد الله قبل ذلك ، فقال له شمر بن ذي الجوشن : والله إن رحل عن بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعز ، ولتكونن أولى بالضعف ، والعجز ، ولكن لينزلن على حكمك هو وأصحابه ، فقال له عبيد الله. أخرج بكتابي إلى عمر بن سعد ، وليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما ، وإن أبو فليقاتلهم ، فإن فعل فاسمع له وأطع ، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الناس ، فثب عليه فاضرب عنقه وأبعث إلي برأسه.

وكتب عبيد الله : أما بعد ، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة ، فانظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما ، فإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم ، فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره

__________________

من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز .. فلا تعطه هذه المنزلة ، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه ، فان عاقبت كنت ولي العقوبة ، وان عفوت كان ذلك لك.

ثم أراد أن يوقع بعمر ويتهمه عند عبيد الله ليخلفه في القيادة ثم يخلفه في الولاية ، فذكر لعبيد الله أن الحسين وعمر يتحدثان عامة الليل بين المعسكرين .. فعدل عبيد الله إلى رأي شمر وأنفذه بأمر منه أن يضرب عنق عمر ان هو تردد في إكراه الحسين على المسير إلى الكوفة أو مقاتلته حتى يقتل. وكتب إلى عمر يقول له : أما بعد : فاني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتطاوله ولا لتعتذر عنه ولا لتقعد له عندي شافعا .. انظر فان نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ مسلّما ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم ، فإنهم لذلك مستحقون ، فان قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فانه عاق مشاق قاطع ظلوم .. فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان أنت أبيت فاعتزل جندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر والسلام.

وختمت مأساة كربلاء كلها بعد أيام معدودات ..

ولكنها أيام بقيت لها جريرة لم يحمدها طالب منفعة ولا طالب مروءة ، ومضت مئات السنين وهي لا تمحو آثار تلك الأيام في تاريخ الشرق والإسلام ..

٦٥٦

وظهره ، فإنه عاق قاطع ، فإن مضيت لأمرنا جزيناك خيرا ، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا ، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنا قد أمرناه ، والسلام.

فلما جاء شمر بالكتاب إلى عمر وقرأه قال : ويلك ، لا قرب الله دارك ، قبح الله ما قدمت به عليّ ، والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه ، وأفسدت علينا أمرا قد كنا رجونا أن يصلح ، قال : فقال : أخبرني ما أنت صانع لأمر أميرك؟ أتقاتل عدوه ، وإلّا فخل بيني وبين الجند والعسكر. فقال : لا ، ولا كرامة ، ولكن أنا أتولى ذلك. قال : فدونك. فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم ، وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين فقال : أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وعبد الله وجعفر بنو علي ، فقالوا : مالك وما تريد؟ قال : أنتم يا بني أختي آمنون ، قالوا : لعنك الله ، ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أمان له؟! فنادى عمر : يا خيل اركبي وأبشري.

فركب في الناس ، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر ، وحسين جالس. أمام بنيه مجتثيا بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه ، فسمعت أخته الضجة ، فقالت : يا أخي ، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه فقال : إني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقال لي : إنك تروح إلينا فلطمت أخته وجهها وقال له العباس : يا أخي ، أتاك القوم. فنهض وقال : يا عباس ، اركب [بنفسك] أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم ما لكم وما بدا لكم. فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارسا ، فقال : ما تريدون؟ فقالوا : جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا ، فرجع إلى الحسين فأخبره الخبر ، ثم رجع إليهم فقال : يا هؤلاء ، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ننظر في هذا الأمر ، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله ، وإنما أراد أن يوصي أهله ، فقال عمر للناس : ما ترون؟ فقال له عمرو بن الحجاج : سبحان الله ، والله لو كان من الديلم ، ثم سألك هذا لكان ينبغي أن تجيبه ، فجمع الحسين

٦٥٧

أصحابه ، وقال : إني قد أذنت لكم فانطلقوا في هذه الليلة ، فاتخذوه جملا ، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم ، فإن القوم إنما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري. فقال أخوه العباس : لم نفعل ذلك لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبدا. ثم تكلم إخوته وأولاده وبنو أخيه وبنو عبد الله بن جعفر بنحو ذلك ، فقال الحسين : يا بني عقيل ، حسبكم من الفتك بمسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم. فقالوا : لا والله ، بل نفديك بأنفسنا وأهلينا ، فقبح الله العيش بعدك.

وقال مسلم بن عوسجة : والله لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لرميتهم بالحجارة ، وقال سعيد بن عبد الله الحنفي : والله لا نخليك حتى يعلم الله أننا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك ، والله لو علمت أني اقتل ، ثم أحيا ، ثم احرق حيا ، ثم أذرى تسعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك. وتكلم جماعة [من] أصحابه بنحو هذا ، فلما أمسى الحسين جعل يصلح سيفه ويقول مرتجزا :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

من صاحب أو طالب قتيل

فلما سمعه ابنه علي خنقته العبرة ، فسمعته زينب بنت علي ، فنهضت إليه وهي تقول : واثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت فاطمة أمي ، وعلي أبي ، يا خليفة الماضي ، وثمال الباقي. فقال لها الحسين : أخيّة ، لا يذهب حلمك الشيطان.

وترقرقت عيناه ، فلطمت وجهها ، وشقت جيبها ، وخرّت مغشية عليها. فقام إليها الحسين عليه‌السلام فرشّ الماء على وجهها ، وقال : يا أخيّة اعلمي أن أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون ، ولي اسوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإني اقسم عليك يا اخية لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي وجها.

وقام الحسين وأصحابه يصلون الليل كله ، ويدعون ، فلما صلّى عمر بن سعد الغداة ـ وذلك يوم عاشوراء ـ خرج فيمن معه من الناس ، وعبّأ الحسين أصحابه ، وكانوا اثنين وثلاثين فارسا ، وأربعين راجلا ، ثم ركب الحسين دابته ، ودعى بمصحف

٦٥٨

فوضعه أمامه ، وأمر أصحابه فأوقدوا النار في حطب كان وراءهم لئلا يأتيهم العدو من ورائهم. فمرّ شمر فقال : يا حسين ، تعجلت النار في الدنيا. فقال مسلم بن عوسجة : ألا رميته بسهم؟ فقال الحسين : لا ، إني أكره أن أبدأهم ، ثم قال الحسين عليه‌السلام لأعدائه : أتنسبوني؟ فانظروا من أنا ، ثم راجعوا أنفسكم ، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ، ألست ابن بنت نبيكم؟ وابن ابن عمه؟ أليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ وجعفر الطيار عمي؟ فقال شمر [بن ذي الجوشن] : عبدت الله على غير حرف إن كنت أدري ما تقول. فقال : أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم أخذته!؟ فلم يكلموه. فنادى : يا شبث بن ربعي ، يا قيس بن الأشعث ، يا حجار ، ألم تكتبوا إلي؟ قالوا : لم نفعل ، فقال : فإذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم. فقال له قيس : أو لا تنزل على حكم ابن عمك؟ فإنه لن يصل إليك منهم مكروه ، فقال : لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل.

فعطف عليه الحر فقاتل معه فأول من رمى عسكر الحسين عليه‌السلام بسهم : عمر بن سعد ، وصار يخرج الرجل من أصحاب الحسين فيقتل من يبارزه ، فقال عمرو بن حجاج للناس. يا حمقى. أتدرون من تقاتلون؟ هؤلاء فرسان المصر ، وهم قوم مستميتون ، فقال عمر : صدقت ، فحمل عمرو بن الحجاج على الحسين ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة أول أصحاب الحسين ، وحمل شمر وحمل أصحاب الحسين عليه‌السلام من كل جانب ، وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا ، فلم يحملوا على ناحية إلّا كشفوها ، وهم اثنان وثلاثون فارسا ، فرشقهم أصحاب عمر بالنبل ، فعقروا خيولهم ، فصاروا رجالة ، ودخلوا على بيوتهم ، يقوضونها ثم أحرقوها بالنار ، فقتل أصحاب الحسين كلهم وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته منهم من أولاد علي عليه‌السلام : العباس ، وجعفر ، وعثمان ، ومحمد ، وأبو بكر ومنهم من أولاد الحسين : علي ، وعبد الله ، وأبو بكر ، والقاسم. ومنهم من أولاد عبد الله بن جعفر : عون ، ومحمد. ومن أولاد عقيل : جعفر ، وعبد الرحمن ، وعبد الله ، ومسلم ، قتل

٦٥٩

بالكوفة. وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل ، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل ، وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين. وجاء سهم فأصاب ابنا للحسين وهو في حجره ، فجعل يمسح الدم عنه وهو يقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا. فحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه ، ونادى : عليّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله. فصاح النساء وخرجن من الفسطاط ، وصاح به الحسين عليه‌السلام : حرقك الله بالنار.

ثم اقتتلوا حتى وقت الظهر ، وصلّى بهم الحر صلاة الخوف ، ثم اقتتلوا بعد الظهر ، وخرج علي بن الحسين الأكبر فشد على الناس وهو يقول :

أنا علي بن الحسين بن علي

نحن ورب البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي

فطعنه مرة بن منقذ فصرعه ، واحتوشوه فقطعوه بالسيوف ، فقال الحسين : قتل الله قوما قتلوك يا بني ، على الدنيا بعدك العفاء. وخرجت زينب بنت فاطمة [تنادي] : يا أخاه يا ابن أخاه. وأكبت عليه ، فأخذ بيدها الحسين فردّها إلى الفسطاط ، وجعل يقاتل قتال الشجاع ، وبقي الحسين زمانا ما انتهى إليه رجل منهم [إلّا] انصرف عنه وكره أن يتولى قتله ، واشتد به العطش فتقدم ليشرب ، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه ، فجعل يتلقى الدم ويرمي به السماء ويقول : اللهم أحصهم عددا واقتلهم مددا ، ولا تذر على الأرض منهم أحدا. ثم جعل يقاتل ، فنادى شمر في الناس : ويحكم ، ما تنتظرون بالرجل ، اقتلوه. فضربه زرعة بن شريك على كتفه ، وضربه آخر على عاتقه ، وحمل عليه سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح ، فوقع ، فنزل إليه فذبحه واجتز رأسه ، فسلّمه إلى خولي ابن يزيد الأصبحي ، ثم انتهبوا سلبه ، فأخذ قيس بن الأشعث عمامته ، وأخذ آخر سيفه ، وأخذ آخر نعليه ، وآخر سراويله ، ثم انتهبوا ماله ، فقال عمر بن سعد : من أخذ شيئا فليرده ، فما منهم من ردّ شيئا. وجاء سنان حتى وقف على فسطاط عمر بن سعد ، ثم نادى :

٦٦٠