نفح الطّيب - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطّيب - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني


المحقق: يوسف الشيخ محمّد البقاعي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٠
١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الباب السابع

في نبذة ممّا منّ الله تعالى به على أهل الأندلس من توقّد الأذهان ، وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي ما عزّ وهان (١) ، وحوزهم في ميدان البراعة ، من قصب اليراعة ، خصل الرهان ، وجملة من أجوبتهم ، الدالّة على لوذعيتهم ، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم ، وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان.

اعلم أنّ فضل أهل الأندلس ظاهر ، كما أنّ حسن بلادهم باهر ، ولذلك ذكر ابن غالب في «فرحة الأنفس» لمّا أثنى على الأندلس وأهلها أن بطليموس جعل لهم ـ من أجل ولاية الزّهرة لبلادهم ـ حسن الهمّة في الملبس والمطعم ، والنظافة والطهارة ، والحب للهو والغناء ، وتوليد اللحون ، ومن أجل ولاية عطارد حسن التدبير ، والحرص على طلب العلم ، وحبّ الحكمة والفلسفة والعدل والإنصاف.

وذكر ابن غالب أيضا ما خصّوا به من تدبير المشتري والمريخ.

وانتقد عليه بعضهم بأنّ أقاليم الأندلس الرابع والخامس والسادس في ساحلها الشمالي ، والسابع في جزائر المجوس ، وللإقليم الرابع الشمس ، وللخامس الزّهرة ، وللسادس عطارد ، وللسابع القمر ، والمشتري للإقليم الثاني ، والمريخ للثالث ، ولا مدخل لهما في الأندلس ، انتهى.

ثم قال صاحب الفرحة : وأهل الأندلس عرب في الأنساب ، والعزّة ، والأنفة ، وعلوّ الهمم ، وفصاحة الألسن ، وطيب النفوس ، وإباء الضيم ، وقلّة احتمال الذلّ ، والسماحة بما في أيديهم ، والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنيّة ، هنديّون في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبّهم فيها وضبطهم لها وروايتهم ، بغداديون في نظافتهم وظرفهم (٢) ، ورقّة أخلاقهم ونباهتهم ، وذكائهم ، وحسن نظرهم ، وجودة قرائحهم ، ولطافة أذهانهم ، وحدّة أفكارهم ، ونفوذ خواطرهم ، يونانيون في استنباطهم للمياه ، ومعاناتهم لضروب الغراسات ، واختيارهم لأجناس الفواكه ،

__________________

(١) في ب : «ما عزّ أوهان».

(٢) في ب : «في ظرفهم ونظافتهم».

٣

وتدبيرهم لتركيب الشجر ، وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر ، فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة ، ومنهم ابن بصال صاحب «كتاب الفلاحة» الذي شهدت له التجربة بفضله ، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النّصب (١) في تحسين الصنائع ، أحذق الناس بالفروسية ، وأبصرهم بالطعن والضرب.

وعدّ ، رحمه الله تعالى ، من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم ، قال : وكان خطّهم أولا مشرقيّا ، انتهى.

قال ابن سعيد : أمّا أصول الخطّ المشرقي وما تجد له في القلب واللحظ من القبول فمسلّم له ، لكن خطّ الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسن فائق ، ورونق آخذ بالعقل ، وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتجويد ، انتهى.

ونحو صدر كلام ابن غالب السابق مذكور في رسالة لابن حزم ، وقال فيها : إنّ أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية ، وإحكام المهن الصورية ، تركيّون في معاناة الحروب ، ومعالجات آلاتها (٢) ، والنظر في مهماتها ، انتهى.

وعدّ ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشّحات التي قد استحسنها (٣) أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها ، وأمّا نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علوّ طبقاتهم.

ثم قال ابن غالب : ولمّا نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة (٤) تفرّقوا ببلاد المغرب الأقصى من برّ العذرة مع بلاد إفريقية ، فأمّا أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه ، وداخلوا أهلها ، وشاركوهم فيها ، فاستنبطوا المياه (٥) ، وغرسوا الأشجار ، وأحدثوا الأرحيّ (٦) الطاحنة بالماء وغير ذلك ، وعلّموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها ، فشرفت بلادهم ، وصلحت أمورهم ، وكثرت مستغلّاتهم ، وعمّتهم الخيرات ، فهم أشبه الناس باليونانيين فيما ذكرت ولأنّ اليونانيين سكنوا الأندلس فورثوا عنهم ذلك ، وأمّا أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها ، فأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتّاب والعمّال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة ، ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلسي ، وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد ، وقطعوا معاشهم ، وأخملوا

__________________

(١) النصب : التعب.

(٢) في ب : «ومعالجة آلالتها».

(٣) سقطت «قد» من بعض النسخ.

(٤) المبيرة : المهلكة.

(٥) استنبطوا المياه : استخرجوها.

(٦) الأرحي : جمع رحى ، وهي الطاحون.

٤

أعمالهم (١) ، وصيّروهم أتباعا لهم ، ومتصرّفين بين أيديهم ، ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة ، وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد ما يميلون به النفوس إليهم ، ويصير الذكر لهم ، قال : ولا يدفع هذا عنهم إلّا جاهل أو مبطل ، انتهى.

وقال ابن سعيد ، لمّا ذكر جملة من محاسن الأندلسيين : يعلم الله تعالى أني ما أقصد إلّا إنصاف المنصفين الذين لا يميل بهم التعصّب ، ولا يجمح بهم الهوى ، ولكن الحق أحقّ أن يتّبع ، فلعلّ مطّلعا يقف على ما ذكره ابن غالب : فيقول : هذا الرجل تعصّب (٢) لأهل بلده ، ثم يغمس التابع له والراضي بنقل قوله في هذه الصبغة ويحمله على ذلك بعده عن الأرضين : [الطويل]

ولو أبصروا ليلى أقرّوا بحسنها

وقالوا بأني في الثناء مقصّر

ويكفي في الإنصاف أن أقول : إنّ حضرة مراكش هي بغداد المغرب ، وهي أعظم ما في برّ العدوة ، وأكثر مصانعها ومبانيها الجليلة وبساتينها إنما ظهرت في مدة بني عبد المؤمن ، وكانوا يجلبون لها صناع الأندلس من جزيرتهم ، وذلك مشهور معلوم إلى الآن. ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش بسلطان إفريقية الآن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص ، فصار فيها من المباني والبساتين والكروم ما شابهت به بلاد الأندلس وعرفاء صناعه من الأندلس وتماثيله التي يبنى عليها ، وإن كان أعرف خلق الله باختراع محاسن هذا الشأن ، فإنما أكثرها من أوضاع الأندلسيين ، وله من خاطره تنبيهات وزيادة ظهر حسن موقعها ، ووجوه صنائع دولته لا تكاد تجدهم إلّا من الأندلس فصحّ قول ابن غالب ، انتهى.

قال الحميدي : أنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعة لبعض أهل المشرق ، وهي : [الطويل]

وما ذا عليهم لو أجابوا فسلّموا

وقد علموا أني المشوق المتيّم (٣)

سروا ونجوم الليل زهر طوالع

على أنّهم بالليل للناس أنجم

وأخفوا على تلك المطايا مسيرهم

فنمّ عليهم في الظلام التبسّم (٤)

__________________

(١) في ج : «وأجملوا أعمالهم».

(٢) في ب : «فيقول : تعصب هذا الرجل».

(٣) في ه : «وما ذا عليهم لو أثابوا فسلّموا».

(٤) في ب : «فنمّ عليها في الظلام التبسّم» ، أي فضحهم في الليل التبسم للمعانه.

٥

فأفرط بعض الحاضرين في استحسانها ، وقال : هذا ما لا يقدر أندلسي على مثله ، وبالحضرة أبو بكر يحيى بن هذيل (١) ، فقال بديها : [الطويل]

عرفت بعرف الريح أين تيمّموا

وأين استقلّ الظاعنون وخيّموا

خليليّ ، ردّاني إلى جانب الحمى

فلست إلى غير الحمى أتيمّم

أبيت سمير الفرقدين كأنما

وسادي قتاد أو ضجيعي أرقم (٢)

وأحور وسنان الجفون كأنّه

قضيب من الريحان لدن منعّم

نظرت إلى أجفانه وإلى الهوى

فأيقنت أني لست منهنّ أسلم

كما أنّ إبراهيم أوّل نظرة

رأى في الدرّاري أنه سوف يسقم (٣)

ومن كلام ابن بسام صاحب «الذخيرة» في جزيرة الأندلس : أشراف عرب المشرق افتتحوها ، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها ، فبقي النسل فيها بكلّ إقليم ، على عرق كريم ، فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر ، وشاعر قاهر.

وذكر أن أبا علي البغدادي ، صاحب الأمالي ، الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال : لمّا وصلت القيروان وأنا أعتبر من أمرّ به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات وقلّة الفهم ، بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد ، كأنّ منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصّة ومقايسة. قال أبو علي : فقلت إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمّن قبلهم فسأحتاج إلى ترجمان ، في هذه الأوطان. قال ابن بسام : فبلغني أنه كان يصل كلامه هذا بالتعجّب من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم ، ويتغطّى عنهم عند المباحثة والمناقشة (٤) ، ويقول لهم : إنّ علمي علم رواية ، وليس علم (٥) دراية ، فخذوا عنّي ما نقلت ، فلم آل لكم أن صحّحت. هذا مع إقرار الجميع له يومئذ بسعة العلم وكثرة الروايات ، والأخذ عن الثقات ، انتهى.

ومن كلام الحجاريّ في «المسهب» د :

__________________

(١) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه : «أبو بكر بن يحيى بن هذيل».

(٢) القتاد : شجر صلب له شوك كالإبر.

(٣) يشير إلى ما حكاه الله تعالى عن الخليل إبراهيم عليه السلام في قوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ). سورة الصافات الآية : ٨٩. والدراري في البيت بمعنى النجوم.

(٤) في ب ، ه «المباحثة والمفاتشة».

(٥) في ب ، ه : «وليس بعلم دراية».

٦

الأندلس عراق المغرب عزّة أنساب ، ورقّة آداب ، واشتغالا بفنون العلوم (١) ، وافتنانا في المنثور والمنظوم ، لم تضق لهم في ذلك ساحة ، ولا قصرت عنه راحة ، فما مرّ فيها بمصر إلّا وفيه نجوم وبدور وشموس ، وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم ، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكؤوس ، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن ، وابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان. وأمّا إذا هبّ نسيم ، ودار كأس في كف ظبي رخيم ، ورجّع بمّ وزير ، وصفّق للماء خرير ، أو رقّت العشيّة ، وخلعت السحب أبرادها (٢) الفضية والذهبية ، أو تبسّم عن شعاع ثغر نهر ، أو ترقرق بطلّ جفن زهر ، أو خفق بارق ، أو وصل طيف طارق ، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح ، وبات مع من يهواه كالماء والراح ، إلى أن ودّع حين أقبل رائد الصباح ، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها ، أو قوّضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها ، فأولئك هم السابقون السابقون ، الذين لا يجارون ولا يلحقون ، وليسوا بالمقصّرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح ، وسالت خلجان الصّوارم بين قضبان الرماح ، وبنت الحرب من العجاج سماء ، وأطلعت شبه النجوم أسنّة وأجرت شبه الشّفق دماء ، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيّلات أئمة ، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضّلهم فيه على أصناف الأمّة ، وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية ، وبقاعهم النّضرة وهممهم الأبيّة. ولشطار الأندلس من النوادر والتنكيتات ، والتركيبات وأنواع المضحكات ، ما تملأ الدواوين كثرته ، وتضحك الثكلى وتسلّي المسلوب قصته ، ممّا لو سمعه الجاحظ لم يعظم عنده ما حكي وما ركّب ، ولا استغرب أحد ما أورده ولا تعجّب ، إلّا أنّ مؤلّفي هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنيف في هذا الشأن فكاد يمرّ ضياعا ، فقمت محتسبا بالظرف (٣) فتداركته جامعا فيه ما أمسى شعاعا (٤) ، انتهى. وقد رأيت أن أذكر رسالة أبي محمد بن حزم الحافظ التي ذكر فيها بعض فضائل علماء الأندلس ؛ لاشتمالها على ما نحن بصدده. وذلك أنه كتب أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن الرّبيب التميمي القيرواني (٥) ، إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم يذكر تقصير أهل الأندلس في تخليد أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم وسير ملوكهم ، ما صورته :

__________________

(١) كذا في أ، ب ، وفي ه : «بفنون العلم».

(٢) البرد : ثوب مخطط يلتحف به. وجمعه : برود وأبراد وأبرد.

(٣) في ب ، ه : «فقمت محتسبا للظرف».

(٤) شعاعا ، بفتح الشين : متفرقا.

(٥) انظر المسالك للعمري ج ١١ ص ٣١٩.

٧

كتبت يا سيدي ، وأجلّ عددي ، كتب الله تعالى لك السعادة ، وأدام لك العزّ والسيادة ، سائلا مسترشدا ، وباحثا مستخبرا ، وذلك أني فكرت في بلادكم إذ كانت قرارة كلّ فضل ، ومنهل كلّ خير ونبل (١) ، ومصدر كلّ (٢) طرفة ، ومورد كلّ تحفة ، وغاية آمال الراغبين ، ونهاية أماني الطالبين ، إن بارت تجارة فإليها تجلب ، وإن كسدت بضاعة ففيها تنفق ، مع كثرة علمائها ، ووفور أدبائها (٣) ، وجلالة ملوكها ، ومحبّتهم في العلم وأهله ، يعظّمون من عظّمه علمه ، ويرفعون من رفعه أدبه ، وكذلك سيرتهم في رجال الحرب : يقدمون من قدمته شجاعته ، وعظمت في الحروب نكايته ، فشجّع الجبان ، وأقدم الهيّبان ، ونبه الخامل ، وعلم الجاهل ، ونطق العييّ ، وشعر البكي ، واستنشر البغاث ، وتثعبن الحفّاث (٤) ، فتنافس الناس في العلوم ، وكثر الحذاق بجميع (٥) الفنون ، ثم هم مع ذلك في غاية (٦) التقصير ونهاية التفريط ، من أجل أنّ علماء الأمصار دوّنوا فضائل أمصارهم ، وخلّدوا في الكتب مآثر بلدانهم ، وأخبار الملوك والأمراء ، والكتّاب والوزراء ، والقضاة والعلماء ، فأبقوا لهم ذكرا في الغابرين يتجدّد على مرّ الليالي والأيام ، ولسان صدق في الآخرين ، يتأكّد مع تصرّف الأعوام ، وعلماؤكم مع استظهارهم على العلوم كلّ امرئ منهم قائم في ظلّه لا يبرح ، وراتب (٧) على كعبه لا يتزحزح ، يخاف إن صنّف ، وإن يعنّف ، وإن ألّف أن يخالف ، ولا يؤالف ، أو تخطفه الطّير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، لم يتعب أحد منهم نفسا في جمع فضائل أهل بلده ، ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه ، ولا بلّ قلما بمناقب كتّابه ووزرائه ، ولا سوّد قرطاطا (٨) بمحاسن قضاته وعلمائه ، على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه ، وبسط ما قبض الإهمال من بيانه ، لوجد للقول مساغا ، ولم تضق عليه المسالك ، ولم تخرج به المذاهب ، ولا اشتبهت عليه المصادر والموارد ، ولكنّ همّ أحدهم أن يطلب شأو من تقدّمه من العلماء ليحوز (٩) قصبات السبق ، ويفوز بقدح ابن مقبل ، ويأخذ بكظم دغفل ، ويصبر شجا في حلق أبي العميثل ، فإذا أدرك بغيته ، واخترمته منيّته ، دفن معه أدبه وعلمه ، فمات ذكره ، وانقطع خبره ، ومن قدّمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم احتيال الأكياس (١٠) ، فألّفوا دواوين بقي لهم بها ذكر مجدّد طول الأبد.

__________________

(١) كلمة «ونبل» ساقطة من ب ، ه.

(٢) في ب : «ومقصد كل طرفة».

(٣) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه : «ونور آدابها».

(٤) الحفاث : حيوان كالثعبان ولكنه غير مؤذ.

(٥) في ب : «في جميع الفنون».

(٦) في ب ، ه : «على غاية التقصير».

(٧) راتب : ثابت.

(٨) في ب : «قرطاسا».

(٩) في ه : «ليحرز قصبات السبق».

(١٠) الأكياس : جمع كيّس ، وهو الفطن الذكي.

٨

فإن قلت : إنه كان مثل ذلك من علمائنا ، وألّفوا كتبا لكنها لم تصل إلينا ، فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق ؛ لأنه ليس بيننا وبينكم غير روحة راكب ، أو رحلة قارب ، لو نفث من بلدكم مصدور ، لأسمع من ببلدنا في القبور ، فضلا عمّن في الدّور والقصور ، وتلقّوا قوله بالقبول كما تلقّوا ديوان أحمد بن عبد ربه الذي سمّاه بالعقد ، على أنه يلحقه فيه بعض اللوم ، لا سيما إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده ، ومناقب ملوكه يتيمة سلكه ، أكثر الحزّ وأخطأ المفصل ، وأطال الهزّ لسيف غير مقصل (١) ، وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم ، وإغفال ما يهمهم.

فأرشد أخاك أرشدك الله! واهده هداك الله! إن كانت عندك في ذلك الجليّة ، وبيدك فصل القضية ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فكتب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ، عند وقوفه على هذه الرسالة ، ما نصّه :

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمد عبده ورسوله ، وعلى أصحابه الأكرمين ، وأزواجه أمّهات المؤمنين ، وذرّيّته الفاضلين الطيّبين.

أمّا بعد يا أخي يا أبا بكر ، سلام عليك سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ ، وكثرت الأيام والليالي ، ثم لقيك (٢) في حال سفر ونقلة ، ووادّك في خلال جولة ورحلة ، فلم يقض من محاورتك (٣) أربا ، ولا بلغ في محاورتك مطلبا ، وإنّي لمّا احتللت بك ، وجالت يدي في مكنون كتبك ، ومضمون دواوينك ، لمحت عيني في تضاعيفها درجا ، فتأمّلته ، فإذا فيه خطاب لبعض الكتّاب من مصاقبينا في الدار أهل إفريقية ، ثم ممّن ضمّته حاضرة قيروانهم ، إلى رجل أندلسي لم يعيّنه باسمه ، ولا ذكره بنسبه ، يذكر له فيها أنّ علماء بلدنا بالأندلس ـ وإن كانوا على الذّروة العليا من التمكن بأفانين العلوم ، وفي الغاية القصوى من التحكّم على وجوه المعارف ـ فإنّ هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم ، ومكارم ملوكهم ، ومحاسن فقهائهم ، ومناقب قضاتهم ، ومفاخر كتّابهم ، وفضائل علمائهم ، ثم تعدّى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منّا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم ، ويبقي علمهم ، بل قطع على أنّ كلّ واحد منهم قد مات فدفن علمه معه ، وحقّق ظنّه في ذلك ، واستدلّ على صحّته عند

__________________

(١) السيف المقصل : القاطع البتار.

(٢) في ب ، ه : «ثم لقيتك في حال سفر».

(٣) في ب ، ه : «فلم يقض من مجاورتك ... من محاورتك مطلبا».

٩

نفسه بأنّ شيئا من هذه التآليف لو كان منّا موجودا لكان إليهم منقولا ، وعندهم ظاهرا ، لقرب المزار ، وكثرة السّفّار (١) ، وتردّدهم إليهم ، وتكرّرهم علينا. ثم لمّا ضمّنا المجلس الحافل بأصناف الآداب ، والمشهد الآهل بأنواع العلوم ، والقصر المعمور بأنواع الفضائل ، والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي ، قرارة المجد ومحلّ السؤدد ، ومحطّ رحال الخائفين ، وملقى عصا التّسيار عند الرئيس الأجلّ الشريف قديمه وحسبه ، الرفيع حديثه ومكتسبه ، الذي أجله عن كل خطّة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته ، ولا ينال حضره هويناه (٢) ، وأربى به عن كلّ مرتبة يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموّه ، ولا يدنو من المعالي دنوّه ، ولا يعلو في حميد الخلال علوّه ، بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور ، وأجتزي (٣) من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور ، فحسبي بذينك العلمين دليلا على سعيه المشكور ، وفضله المشهور ، أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت (٤) أطال الله بقاءه! وأدام اعتلاءه! ولا عطّل الحامدين من تحليهم بحلاه! ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه! فرأيته أعزّه الله تعالى حريصا على أن يجاوب هذا المخاطب ، وراغبا في أن يبين له ما لعلّه قد رآه فنسي أو بعد عنه فخفي ، فتناولت الجواب المذكور بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات ، رحمنا الله تعالى وإياه! فلم يكن لقصده بالجواب معنى ، وقد صارت المقابر له مغنى ، فلسنا بمسمعين من في القبور ، فصرفت عنان الخطاب إليك ، إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه ، ومن لدنك وصلت إلى الرسالة المعارضة ، وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كفاية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا مثل ما غاب عن هذا الباحث الأول ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وإن كنت في إخباري إياك بما أرسمه في كتابي هذا كمهد إلى البركان نار الحباحب (٥) ، وباني صوّى (٦) في مهيع القصد اللاحب ، فإنك وإن كنت المقصود والمواجه ، فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأى عنه علم ما استجلبه السائل الماضي ، وما توفيقي إلّا بالله سبحانه.

__________________

(١) السّفّار : المسافرون.

(٢) الحضر : بضم الحاء وسكون الضاء : شدة العدو. والهوينى : التؤدة والتمهل والرفق.

(٣) أجتزىء : أكتفي.

(٤) البونت : من أعمال بلنسية ، استقل فيها بنو قاسم الفهريون بعد الفتنة وأولهم عبد الله بن قاسم وخلفه يمن الدولة (انظر أعمال الأعلام : ٢٠٨).

(٥) الحباحب : ذباب يطير ليلا له شعاع في ذنبه كالسراج.

(٦) الصوى : علامات توضع في الطرق لهداية السالكين.

١٠

فأما مآثر بلدنا فقد ألّف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي كتبا جمّة : منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها ، وأمّهات مدنها وأجنادها الستّة ، وخواصّ كلّ بلد منها ، وما فيه ممّا ليس في غيره ، وهو كتاب مريح مليح ، وأنا أقول : لو لم يكن لأندلسنا إلّا ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر به ووصف أسلافنا المجاهدين فيه بصفات الملوك على الأسرّة في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أنّ خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت ، رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين ، حدّثته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه أخبرها بذلك ، لكفي شرفا بذلك يسرّ عاجله ، ويغبط آجله.

فإن قال قائل : لعلّه (١) صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش ، وما الدليل على ما ادّعيته من أنه صلى الله عليه وسلم عنى الأندلس حتما؟ ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح ، وبيان لائح ، لا يحتمل التوجيه ، ولا يقبل التجريح (٢).

فالجواب ـ وبالله التوفيق ـ أنه صلى الله عليه وسلم ، قد أوتي جوامع الكلم ، وفصل الخطاب ، وأمر بالبيان لما أوحي إليه ، وقد أخبر في ذلك الحديث المتّصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمّته يركبون ثبج (٣) البحر غزاة واحدة بعد واحدة ، فسألته أم حرام أن يدعو ربّه تعالى أن يجعلها منهم ، فأخبرها صلى الله عليه وسلم وخبره الحقّ بأنها من الأولين ، وهذا من أعلام (٤) نبوّته صلى الله عليه وسلم ، وهو إخباره بالشيء قبل كونه (٥) ، وصحّ البرهان على رسالته بذلك ، وكانت من الغزاة إلى قبرس ، وخرّت عن بغلتها هناك ، فتوفيت ، رحمها الله تعالى! وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر ، فثبت يقينا أنّ الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشّر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت أم حرام منهم كما أخبر ، صلوات الله تعالى وسلامه عليه ، ولا سبيل أن يظنّ به وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان أنه يذكر طائفتين قد سمّى إحداهما أولى إلّا والتالية لها ثانية ، فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد ، وهذا مقتضى (٦) طبيعة صناعة المنطق ، إذ لا تكون الأولى أولى إلّا لثانية ، ولا الثانية ثانية إلّا لأولى ، فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلّا بعد ثان ضرورة ، وهو صلى الله عليه وسلم إنما ذكر طائفتين ، وبشّر بفئتين ، وسمّى إحداهما الأولين ، فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين ،

__________________

(١) في ب : «فلعله».

(٢) التجريح : النقد اللاذع.

(٣) ثبج البحر : وسطه. وفي ب : «ثبج هذا البحر».

(٤) أعلام نبوته : أراد دلائل نبوته.

(٥) قبل كونه : أي قبل حدوثه.

(٦) في ب : «وهذا يقتضي».

١١

والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير القرون بعد قرنه ، وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خير من كلّ قرن بعده ، ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية ، وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري ، وأمّا صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة ٢١٢ ، أيام قاد إليها السفن غازيا أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى ، وبها مات ، وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين (١) افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ ، من أهل قرية بطروج من عمل فحص البلّوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس ، وكان من فلّ الرّبضيين ، وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيام أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة ٣٥٠ ، وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس.

وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا ، ومعقّ (٢) تمائمنا ، مع سرّ من رأى (٣) في إقليم واحد ، فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا ، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلّا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور ، وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدلّ عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها ، فلها من ذلك على كلّ حال حظّ يفوق حظّ أكثر البلاد ، بارتفاع أحد النّيّرين بها تسعين درجة ، وذلك من أدلّة التمكّن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا ، وقد صدق ذلك الخبر ، وأبانته التجربة ، فكان أهلها من التمكّن في علوم القراءات والروايات وحفظ كثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء ، واسع العطن ، متنائي الأقطار ، فسيح المجال ، والذي نعاه علينا الكاتب المذكور لو كان كما ذكر لكنّا فيه شركاء لأكثر أمّهات الحواضر ، وجلائل البلاد ، ومتّسعات الأعمال ، فهذه القيروان بلد المخاطب لنا ، ما أذكر أني رأيت في أخبارها تأليفا غير «المعرب ، عن أخبار المغرب» وحاشا تآليف (٤) محمد بن يوسف الوراق ، فإنه ألّف للمستنصر رحمه الله تعالى في «مسالك إفريقية وممالكها» ديوانا ضخما ، وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم كتبا جمّة ، وكذلك ألّف أيضا في أخبار تيهرت ووهران وتونس (٥)

__________________

(١) في الجذوة : «بعد الثلاثين والمائتين» وفي معجم البلدان لياقوت الحموي «بعد سنة ٢٥٠».

(٢) معق تمائمنا : أخذه من قول الشاعر :

بلاد بها عق الشباب تمائمي

وأول أرض مس جلدي ترابها

(٣) سرّ من رأى : سامراء.

(٤) في ب : «تواليف».

(٥) في ب ، ه : «وتنس».

١٢

وسجلماسة ونكور والبصرة (١) وغيرها تآليف حسانا ، ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع ، آباؤه من وادي الحجارة ، ومدفنه بقرطبة ، وهجرته إليها ، وإن كانت نشأته بالقيروان.

ولا بدّ من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هنا إذ مرادنا أن نأتي منه بالمطلوب (٢) فيما يستأنف إن شاء الله تعالى ، وذلك أنّ جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين ، دون محاشاة أحد ، بل قد تيقّنّا إجماعهم على ذلك ، متّفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقرّ بها ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات ، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة ، رضي الله تعالى عنهم ، صدّروا بعلي وابن مسعود وحذيفة ، رضي الله تعالى عنهم ، وإنما سكن عليّ الكوفة خمسة أعوام وأشهرا ، وقد بقي ٥٨ عاما وأشهرا بمكة والمدينة شرّفهما الله تعالى. وكذلك أيضا أكثر أعمار من ذكرنا ، وإن ذكروا البصريين بدءوا بعمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وأبي بكرة ، وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف ، وجمهرة أعمارهم حلت هنالك ، وإن ذكروا الشاميين نوّهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية ، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم ، وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي ، وفي المكيّين عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير ، والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا ، فمن هاجر إلينا من سائر البلاد ، فنحن أحقّ به ، وهو منّا بحكم جميع أولي الأمر منّا الذين إجماعهم فرض اتباعه ، وخلافه محرم اقترافه ، ومن هاجر منّا إلى غيرنا فلا حظّ لنا فيه ، والمكان الذي اختاره أسعد به ، فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم فكذلك لا ننازع في محمد بن هانىء سوانا ، والعدل أولى ما حرص عليه ، والنصف أفضل ما دعي إليه ، بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه ، وعلى ما ذكرنا من الأنصاف تراضى الكلّ.

وهذه بغداد حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة ، والمحلّة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف ، والتدقيق في تصريف العلوم ، ورقّة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدّة الأفكار ونفاذ الخواطر ، وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا ، وما أعلم في أخبار بغداد تأليفا غير كتاب أحمد بن أبي طاهر ، وأما سائر التواريخ التي ألّفها أهلها فلم يخصّوا بلدتهم بها دون سائر البلاد ، ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة ، وكتاب لرجل من واد الربيع بن زياد المنسوب إلى أبي سفيان في خطط البصرة وقطائعها ، وكتابين لرجلين من أهلها

__________________

(١) أراد بصرة المغرب وكانت قريبا من مدينة أصيلا.

(٢) في ب ، ه : «بالمطلب».

١٣

يسمّى أحدهما عبد القاهر كريزي النسب وصفاها وذكرا (١) أسواقها ومحالها وشوارعها ، ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبة ، وأمّا الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسّند (٢) وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفا قصد به أخبار ملوك تلك النواحي ، وعلمائها وشعرائها وأطبائها ، ولقد تاقت النفوس (٣) إلى أن يتّصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد ، وما علمناه علم ، على أنهم العلية الرؤساء ، والأكابر العظماء ، ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تآليفهم ، وكما بلغنا كتاب حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان ، وكتاب الموصلي وغيره في أخبار مصر ، وكما بلغنا سائر تآليفهم (٤) في أنحاء العلوم ، وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط ، واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى ، وكذلك بلغنا ردّ القاضي أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشيعه (٥) على الشافعي ، وكتب ابن عبدوس (٦) ومحمد بن سحنون وغير ذلك من خوامل تآليفهم (٧) دون مشهورها.

وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر «أزهد الناس في عالم أهله» ، وقرأت في الإنجيل أنّ عيسى ، عليه السلام قال : «لا يفقد النبيّ حرمته إلّا في بلده» وقد تيقنّا ذلك بما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، من قريش ـ وهم أوفر الناس أحلاما ، وأصحّهم عقولا ، وأشدّهم تثبّتا ، مع ما خصّوا به من سكناهم أفضل البقاع ، وتغذيتهم بأكرم المياه ـ حتى خصّ الله تعالى الأوس والخزرج (٨) بالفضيلة التي أبانهم (٩) بها عن جميع الناس ، والله يؤتي فضله من يشاء ؛ ولا سيما أندلسنا فإنها خصّت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم الماهر منهم ، واستقلالهم

__________________

(١) في ب : «في صفاتها وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها» وفي ه «في وصفها وذكر أسواقها ومحالها ..» وقد أثبتنا مما في أ.

(٢) في ب : «وسجستان والري والسند ..».

(٣) تاقت النفوس : اشتاقت.

(٤) في ب : «تواليفهم».

(٥) الصواب أنه عبد الله بن أحمد بن طالب. انظر علماء إفريقية : ٢٥٧ ، ٢٩٧.

(٦) انظر علماء إفريقية : ١٨٢.

(٧) كذا في أ، ب. وفي ه «حواصل تأليفهم».

(٨) الأوس والخزرج : أهم أهل المدينة المنورة الذين هاجر إليهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فكان لهم شرف إيوائه ونصرته ودعوا بعدئذ الأنصار.

(٩) أبانهم : أي ميزهم وأظهرهم.

١٤

كثير ما يأتي به ، واستهجانهم حسناته ، وتتبّعهم سقطاته وعثراته ، وأكثر ذلك مدّة حياته ، بأضعاف ما في سائر البلاد ، إن أجاد قالوا : سارق مغير ومنتحل مدّع ، وإن توسّط قالوا : غثّ بارد وضعيف ساقط ، وإن باكر الحيازة لقصب السّبق قالوا : متى كان هذا؟ ومتى تعلّم؟ وفي أي زمان قرأ؟ ولأمّه الهبل! وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إمّا شفوفا بائنا يعليه على نظرائه أو سلوكا في غير السبيل التي عهدوها فهنالك حمي الوطيس على البائس ، وصار غرضا للأقوال ، وهدفا للمطالب ، ونصبا للتسبّب إليه ، ونهبا للألسنة ، وعرضة للتطرق إلى عرضه ، وربما نحل ما لم يقل ، وطوّق ما لم يتقلّد ، وألحق به ما لم يفه به ولا أعتقده قلبه ، وبالحرى وهو السابق المبرّز إن لم يتعلّق من السلطان بحظّ أن يسلم من المتالف وينجو من المخالف ، فإن تعرّض لتأليف غمز ولمز ، وتعرّض وهمز ، واشتطّ عليه ، وعظم يسير خطبه ، واستشنع هين سقطه ، وذهبت محاسنه ، وسترت فضائله ، وهتف ونودي بما أغفل ، فتنكسر (١) لذلك همّته ، وتكلّ نفسه ، وتبرد حميّته ، وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعرا ، أو يعمل بعمل رياسة (٢) ، فإنه لا يفلت من هذه الحبائل ، ولا يتخلّص من هذه النّصب إلّا الناهض الفائت والمطفّف المستولي على الأمد.

وعلى ذلك فقد جمع ما ظنّه الظانّ غير مجموع ، وألّفت عندنا تآليف في غاية الحسن ، لنا خطر السبق في بعضها : فمنها كتاب «الهداية» لعيسى بن دينار (٣) ، وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك وابن القاسم ، وأجمعها للمعاني الفقهيّة على المذهب ، فمنها كتاب الصلاة وكتاب البيوع وكتاب الجدار في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق ، ومن الكتب المالكية التي ألّفت بالأندلس كتاب القطنيّ مالك بن علي (٤) ، وهو رجل قرشي من بني فهر ، لقي أصحاب مالك وأصحاب أصحابه ، وهو كتاب حسن فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل المولدات ، ومنها كتاب أبي إسحاق إبراهيم بن مزين في تفسير الموطأ والكتب المستقصية لمعاني الموطأ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضا ، وكتابه في رجال الموطأ وما لمالك عن كلّ واحد منهم من الآثار في موطّئه.

وفي تفسير القرآن كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد فهو الكتاب الذي أقطع قطعا لا

__________________

(١) في ب ، ه : «فتنكس لذلك همته».

(٢) في ب ، ه : «أو يعمل رسالة».

(٣) هو عيسى بن دينار بن واقد الغافقي (انظر الجذوة : ٢٨٩).

(٤) هو مالك بن علي بن مالك بن عبد الله بن قطن الفهري ، ولذلك يقال له القطني (انظر الجذوة : ٣٢٤) ، وفي أ، ه «القصي» وهو تحريف.

١٥

أستثني فيه أنه لم يؤلّف في الإسلام تفسير مثله ، ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره.

ومنها في الحديث مصنّفه الكبير الذي رتّبه على أسماء الصحابة ، رضي الله تعالى عنهم! فروي فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيّف ، ثم رتّب حديث كلّ صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام ، فهو مصنّف ومسند ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله ، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه ، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلا ليس فيهم عشرة ضعفاء ، وسائرهم أعلام مشاهير. ومنها مصنّفه في فضل الصحابة والتابعين ومن دونهم ، الذي أربى فيه على مصنّف أبي بكر بن أبي شيبة ومصنّف عبد الرزاق بن همام ومصنّف سعيد بن منصور وغيرها ، وانتظم علما عظيما لم يقع في شيء من هذه ، فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام (١) ، لا نظير لها ، وكان متخيّرا لا يقلّد أحدا ، وكان ذا خاصّة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه!.

ومنها في أحكام القرآن كتاب ابن أمية الحجاري ، وكان شافعي المذهب بصيرا بالكلام على اختياره ، وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد ، وكان داودي المذهب قويّا على الانتصار له ، وكلاهما في أحكام القرآن غاية ، ولمنذر مصنّفات منها كتاب «الإبانة ، عن حقائق أصول الديانة».

ومنها في الحديث مصنّف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح ، ومصنّف محمد بن عبد الملك بن أيمن ، وهما مصنّفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنّفات. ولقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جدا ، منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل وكلامه ، ومنها كتاب «المجتبى ، على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقي» وهو خير منه وأنقى حديثا وأعلى سندا وأكثر فائدة ، ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة (٢) ، وكتابه في الناسخ والمنسوخ ، وكتاب غرائب حديث مالك بن أنس ممّا ليس في الموطأ. ومنها كتاب «التمهيد» لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر ، وهو الآن بعد في (٣) الحياة لم يبلغ سنّ الشيخوخة ، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا فكيف أحسن منه ، ومنها كتاب «الاستذكار» وهو اختصار التمهيد المذكور ، ولصاحبنا أبي عمر بن عبد البر المذكور كتب لا مثيل لها : منها كتابه المسمّى بالكافي في الفقه على مذهب

__________________

(١) في ب : «قواعد للإسلام».

(٢) «وكنانة» هذه الكلمة غير موجودة في الجذوة.

(٣) في أ«يعدّ في الحياة».

١٦

مالك وأصحابه خمسة عشر كتابا اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوّبه وقرّبه فصار مغنيا عن التصنيفات الطوال في معناه ، ومنها كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدّمين مثله على كثرة ما صنّفوا في ذلك ، ومنها كتاب «الاكتفاء ، في قراءة نافع وأبي عمرو بن العلاء ، والحجّة لكلّ واحد منهما» ومنها كتاب «بهجة المجالس ، وأنس المجالس ، ممّا يجري في المذاكرات ، من غرر الأبيات ونوادر الحكايات» ، ومنها كتاب «جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في روايته».

ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن يوسف بن الفرضي في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال ، ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلّا كتابين ، وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين ، لا أعلم مثله في فنّه البتّة ، ومنها تاريخ أحمد بن سعيد (١) ، ما وضع في الرجال أحد مثله إلّا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي ، ولم أره ، وأحمد بن سعيد هو المتقدّم في التأليف (٢) القائم في ذلك ، ومنها كتب محمد بن يحيى (٣) بن مفرج القاضي ، وهي كثيرة ؛ منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري ، وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري.

ومما يتعلّق بذلك شرح الحديث لعامر بن خلف السرقسطي ، فما شآه (٤) أبو عبيد إلّا بتقدّم العصر فقط.

ومنها في الفقه «الواضحة» والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إيّاها ، ومنها «المستخرجة من الأسمعة» وهي المعروفة بالعتبية ، ولها عند أهل إفريقية القدر العالي والطيران الحثيث ، والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام الإشبيلي المعروف بابن المكوي (٥) ، والقرشي أبو مروان المعيطي في جمع أقاويل مالك كلّها على نحو الكتاب «الباهر» الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحدّاد البصري أقاويل الشافعي كلّها ، ومنها كتاب «المنتخب» الذي ألّفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة ، وما رأيت لمالكي قطّ كتابا أنبل منه في جمع روايات المذهب وشرح مستغلقها وتفريع

__________________

(١) هو أحمد بن سعيد الصدفي المتوفى سنة ٣٥٠. له كتاب في تاريخ الرجال. (انظر الجذوة : ١١٧ ، وابن الفرضي ١ : ٥٥).

(٢) في ب ، ه : «المتقدم إلى التأليف».

(٣) في ب : «محمد بن أحمد بن يحيى ...».

(٤) شآه : فاقه.

(٥) في الأصول : «ابن الكوى» والتصويب عن الجذوة والصلة.

١٧

وجوهها ، وتآليف قاسم بن محمد ، المعروف بصاحب الوثائق ، وكلّها حسن في معناه ، وكان شافعيّ المذهب نظارا جاريا في ميدان البغداديين (١).

ومنها في اللغة الكتاب «البارع» الذي ألّفه إسماعيل بن القاسم ، يحتوي على لغة العرب ، وكتابه في «المقصور والممدود والمهموز» لم يؤلّف مثله في بابه ، وكتاب «الأفعال» لمحمد بن عمر بن عبد العزيز (٢) ، المعروف بابن القوطية ، بزيادات ابن طريف مولى العبيديين (٣) فلم يوضع في فنّه مثله ، وكتاب جمعه أبو غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني في اللغة لم يؤلّف مثله اختصارا وإكثارا وثقة نقل ، وهو أظنّ في الحياة بعد.

وهاهنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها ، وهي أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي ، حدّثني أنّ أبا الجيش مجاهدا صاحب الجزائر ودانية وجّه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية ، وأبو غالب ساكن بها ، ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور «ممّا ألّفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد» فردّ الدنانير وأبى من ذلك ، ولم يفتح في هذا بابا البتّة ، وقال : والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب ؛ لأني لم أجمعه له خاصّة بل لكلّ طالب ، فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوّها ، وأعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها.

ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد (٤) في اللغة المعروف بكتاب «العالم» نحو مائة سفر على الأجناس في غاية الإيعاب ، بدأ بالفلك وختم بالذرة. وكتاب «النوادر» (٥) لأبي علي إسماعيل بن القاسم ، وهو مبار لكتاب «الكامل» لأبي العباس (٦) المبرد ، ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحوا وخبرا فإنّ كتاب أبي علي لأكثر لغة وشعرا ، وكتاب «الفصوص» لصاعد بن الحسن الربعي ، وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين.

ومن الأنحاء تفسير الجرفي (٧) لكتاب الكسائي ، حسن في معناه ، وكتاب ابن سيده في ذلك المنبوز ب «العالم والمتعلّم» وشرح له لكتاب الأخفش.

__________________

(١) انظر الجذوة ص ٣١٠.

(٢) في الأصول «لمحمد بن عامر الغزي». وقد طبع كتابه «الأفعال» مرتين.

(٣) كذا في أ. وفي ب ، ه «العبديين».

(٤) انظر ترجمته في الجذوة : ١١٠ والصلة : ١٤ والحميدي : ٣٨١.

(٥) هو الكتاب المعروف بأمالي القالي.

(٦) أبو العباس : هو المبرد.

(٧) في الأصول «الحوفي» والتصويب عن الجذوة : ٣٨٤.

١٨

ومما ألّف في الشعر كتاب عبادة بن ماء السماء في «أخبار شعراء الأندلس» كتاب حسن ، وكتاب «الحدائق» لأبي عمر أحمد بن فرج ، عارض به كتاب الزهرة لأبي محمد بن داود رحمه الله تعالى ، إلّا أنّ أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت ، وأبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرّر اسمه لأبي بكر ، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئا ، وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد ، فبلغ الغاية ، وأتى الكتاب فردا في معناه ، ومنها كتاب «التشبيهات من أشعار أهل الأندلس» جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسن الكاتب ، وهو حيّ بعد.

وممّا يتعلّق بذلك شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن الإفليلي لشعر المتنبي ، وهو حسن جدا.

ومن الأخبار تواريخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم ، وذلك كثير جدا ، وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها ، على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في أخبار بغداد وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها. وتواريخ متفرّقة رأيت منها : أخبار عمر بن حفصون القائم بريّة ووقائعه وسيره وحروبه ، وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالحوف (١) ، وفي أخبار بني (٢) قيس والتّجيبيين وبني الطويل والثغر ، فقد رأيت من ذلك كتبا مصنّفة في غاية الحسن ، وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار ريّة وحصونها وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق الليثي (٣) ، وكتاب محمد بن الحارث الخشني في «أخبار القضاة بقرطبة وسائر بلاد الأندلس (٤) ، وكتاب في أخبار الفقهاء بها ، وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في «أنساب مشاهير أهل الأندلس» في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها ، وكتاب قاسم بن أصبغ في «الأنساب» في غاية الحسن والإيعاب والإيجاز ، وكتابه في «فضائل بني أمية» ، وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره ، وانتشر ذكره ، ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس ، ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه الله تعالى ، رأيت منها «أخبار شعراء إلبيرة» في نحو عشرة أجزاء ، ومنها كتاب «الطوالع» في أنساب أهل الأندلس ، ومنها كتاب «التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس» تأليف أبي مروان بن حيّان نحو عشرة أسفار من أجلّ كتاب ألّف في هذا

__________________

(١) في ب ، ه : «القائم بالجوف».

(٢) في ب ، ه : «بني قسي».

(٣) في ب ، ه : «بن إسحاق القيني».

(٤) في ب : «سائر الأندلس».

١٩

المعنى ، وهو في الحياة بعد لم يتجاوز الاكتهال ، وكتاب «المآثر العامرية» لحسين بن عاصم في سير ابن أبي عامر وأخباره ، وكتاب الأقشتين (١) محمد بن عاصم النحوي في «طبقات الكتّاب بالأندلس» ، وكتاب سكن بن سعيد في ذلك ، وكتاب أحمد بن فرج في «المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم» ، وكتاب «أخبار أطباء الأندلس» لسليمان بن جلجل.

وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب حسان رفيعة (٢) ، وكتب محمد بن الحسن المذحجيّ أستاذنا رحمه الله تعالى! وهو المعروف بابن الكتاني وهي كتب رفيعة حسان ، وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش الزهراوي ، وقد أدركناه وشاهدناه ، ولئن قلنا إنه لم يؤلّف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقنّ ، وكتب ابن الهيثم في الخواصّ والسموم والعقاقير من أجلّ الكتب وأنفعها.

وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونا مؤلفة لسعيد بن فتحون السّرقسطي المعروف بالحمار دالّة على تمكّنه من هذه الصناعة ، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجيّ في ذلك فمشهورة متداولة وتامّة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة.

وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ، ولا تحقّقنا به ، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصّر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا إلّا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممّن اتّفق على رسوخه فيه يقول : إنه لم يؤلّف في الأزياج مثل زيج مسلمة (٣) وزيج ابن السمح (٤) ، وهما من أهل بلدنا ، وكذلك كتاب «المساحة المجهولة» (٥) لأحمد بن نصر فما تقدّم إلى مثله في معناه.

وإنما ذكرنا التآليف المستحقّة للذكر ، والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلّف عاقل عالم إلّا في أحدها ، وهي إمّا شيء يخترعه لم يسبق إليه (٦) ، أو شيء ناقص يتمّه ، أو شيء مستغلق يشرحه ، أو شيء طويل يختصره دون أن يخلّ بشيء من معانيه ، أو شيء متفرّق يجمعه ، أو شيء مختلط يرتّبه ، أو شيء أخطأ فيه صاحبه (٧) يصلحه.

__________________

(١) انظر ترجمته في الجذوة : ٧٤ ، ٨٢. وقد ورد اسمه في ب «الأفشين» محرفا.

(٢) في ب : «وهي كتب رفيعة حسان».

(٣) مسلمة : هو مسلمة بن أحمد المجريطي المتوفى سنة ٣٩٨. (ابن أبي أصيبعة ه ، ص ٣٩).

(٤) هو أصبغ بن محمد بن السمح الفرناطي المتوفى سنة ٤٢٦ (ابن أبي أصيبعة ج ٢ ص ٣٩).

(٥) هذه التسمية لا توجد في ج.

(٦) في ب : «لم يسبق إليه يخترعه».

(٧) في ب ، ه : «مؤلفه».

٢٠