الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي عجزت العقول عن كنه معرفته ، وقصرت الألباب عن الإحاطة بكماله ، والصّلاة والسّلام على أفضل خليقته وأشرف بريّته أبي القاسم المصطفى محمّد الّذي بعثه بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته ، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين الذين هم موضع سرّه ، وعيبة علمه ، وموئلُ حُكْمِه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه.

أمّا بعد ، فإنّ خلود الشريعة وبقاءها على مرّ الزمان ومسايرتها للحضارات الإنسانية ، واستغناءها عن كلّ تشريع ، رهن أمرين :

الأوّل : احتواء التشريع على مادة حيوية خلّاقة للتفاصيل ، بحيث يتمكّن علماء الأُمّة من استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.

الثاني : فتح باب الاجتهاد وعدم إيصاده ، ليقوم الفقهاء بدورهم في استنباط الأحكام التي تنسجم مع تطور الحياة ومواكبة العصر.

٥

ومن مفاخر الشيعة الإمامية هو عدم ايصاد باب الاجتهاد منذ رحيل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلى يومنا هذا ، فلذلك صار هذا سبباً لحفظ غضاضة الفقه وطراوته عندهم.

ومما لا شكّ فيه انّ أُصول الفقه يحظى بأهمية كبيرة في استنباط الأحكام الشرعية ، ففي ظلّ قواعده يُتاح للمجتهد أن يُبدي رأيه في كافة الحوادث والمستجدّات.

ولقد قام بالتأليف حول هذه المهمة واحد بعد واحد من أُولي البصائر ، وكابر بعد كابر من الأعاظم والفطاحل ، فلله درّ عصابة ألّفوا فأسّسوا ، وصنّفوا فأفادوا ، وقد كانت كتبهم محور الدراسة جيلاً بعد جيل.

غير انّ لكلّ عصر لغتَه ، ولكلّ مجتمع حاجتَه ، هذا وذاك ، ممّا يُلزم أساتذة الحوزة والمشرفين على المناهج الدراسية بإعادة النظر في ما أُلّف وصار محوراً للدراسة ، لكي يُنتفع بنقاط قوته ويضاف إليه مسائل جديدة تلبّي حاجات عصره ، حتى يكون التأليف كحلقة متسلسلة من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق.

وهذا ، ما قمت به بفضل من الله خلال تدريسي لأُصول الفقه أزيد من خمسين سنة فجاء متمثّلاً في هذه الكتب :

١. «الموجز» أعددته للمبتدئين في علم الأُصول في جزء واحد.

٢. «الوسيط» أعددته لمن أراد الخوض في علم الأُصول في جزءين بعد انّ كوّن فكرة عامّة عن المسائل الأُصوليةِ عبر دراسته لكتاب «الموجز».

وأمّا المرحلة النهائية فقد ألقيت محاضرات لدورات متتابعة حتى انتهى بنا الأمر إلى الدورة الخامسة كلّ ذلك بفضل منه سبحانه فجاءت خلاصتها في كتابين :

٦

١. «المحصول» طبع في أربعة أجزاء.

٢. «إرشاد العقول إلى مباحث الأُصول» طبع منه إلى الآن جزءان.

وانبرى بعض الفضلاء من حضار بحوثي «حفظهم الله» إلى كتابتها وتدوينها.

والتمس من طالع «الوسيط» بكلا جزأيه أن يرشدني إلى مواضع الخلل فيه «فانّ أحبّ إخواني من أهدى إليَّ عيوبي».

كما أرجو من الله سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.

جعفر السبحاني

قم مؤسسة الإمام الصادق (عليه‌السلام)

١٧ رمضان المبارك ١٤٢١ ه

٧
٨

المقصد السادس

في الحجج والأمارات

١. العقل

٢. الإجماع

٣. الكتاب

٤. السنّة

٥. الإجماع المنقول بخبر الواحد

٦. الشهرة الفتوائية

٧. قول اللغوي

٩
١٠

تمهيد

يعلم الفقيه أنّ بينه وبين ربّه حججاً معتبرة تقطع العذر وتُنجّز الواقع ، غير انّه لا يعلم في بدء الأمر خصوصياتها ومعالمها ، فيبعثه العقل إلى التعرّف عليها بالتفصيل عن كثب ، وهي عند الشيعة الإمامية أربعة : الكتاب ، السنّة ، الإجماع ، والعقل التي يدور عليها رحى الفقه والاستنباط ، وأمّا سائر الأمارات فهي غير معتبرة عندنا وإن كانت معتبرة عند الآخرين.

إذا كانت الحجج منحصرة عندنا في الأدلّة الأربعة كان اللازم على الأُصوليّين المتأخّرين الذين أفاضوا القول في علم الأُصول أن يعقدوا لكلّ منها فصلاً خاصاً ليتعرّف عليه المبتدئ ويقف على معالمه وحدوده ، ولكنّهم لم يقوموا بهذه المهمة.

ومع ذلك كلّه لم تفتهم الإشارةُ إليها في ثنايا بحوثهم حيث أدرجوا البحث عن الكتاب في مبحث حجّية الظواهر على الإطلاق ، والبحث عن السنّة في مبحث حجّية خبر الواحد ، كما أدغموا البحث عن الإجماع محصَّلاً كان أو منقولاً في مبحث الإجماع المنقول ، والبحث عن حجّية العقل في مبحث القطع. ولكن مرّوا عليها مروراً خاطفاً دون التركيز عليها. ولأجل الأهميّة التي تمتعت بها الأدلّة الأربعة عقدنا لكلّ واحد عنواناً خاصاً متميزاً عن غيره ومع ذلك فلصيانة المنهج السائد في الكتب الأُصولية عقدنا الفصول كالتالي:

العقل ، الإجماع المحصّل ، الكتاب ، والسنّة.

وإن كان الأنسب تقدّم الكتاب والسنّة على الآخرين.

١١

الأدلّة الأربعة

١

العقل أحد مصادر التشريع

انّ العقل أحد الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلّا قليلاً منهم على حجّيته في مجال استنباط الحكم الشرعي ، ثمّ إنّ البحث عن حجّية حكم العقل يقع في مقامين :

الأوّل : حجّية حكم العقل بما انّه من مصاديق القطع.

الثاني : كشفه عن حكم الشارع.

أمّا الأوّل فالبحث فيه من فروع البحث عن حجّية القطع مطلقاً (١) وانّ حجّيته ذاتية. وهذا هو الذي بسط الأُصوليون الكلام فيه في رسالة القطع وبحثوا عن حجّيته بحثاً مُسْهباً.

وأمّا الثاني فيرجع فيه البحث إلى وجود الملازمة بين حكمي العقل والشرع وعدمه وهذا هو الذي اختصروا الكلام فيه غالباً (٢). دون أن يعقدوا له فصلاً مستقلاً ، ولأجل مزيد ايضاح ، نفرد لكل بحثاً مستقلاً في ضمن مقامين :

__________________

(١). سواء أكان مصدره العقل أو غيره.

(٢). إلّا المحقّق القمي في قوانينه وصاحب الفصول في فصوله.

١٢

المقام الأوّل

في أحكام القطع وأقسامه

وفيه أُمور :

الأمر الاوّل

في حجّية القطع

لا شكّ في وجوب متابعة القطع والعمل على وفقه ما دام موجوداً ، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وهو حجّة عقلية ، وليس حجّة منطقية أو أُصولية ، ولإيضاح الحال نذكر أقسام الحجّة ، فنقول : إنّ الحجّة على أقسام :

١. الحجّة العقلية.

٢. الحجّة المنطقية.

٣. الحجّة الأُصولية.

أمّا الأُولى ، فهي عبارة عمّا يحتج به المولى على العبد وبالعكس ، وبعبارة أُخرى ما يكون قاطعاً للعذر إذا أصاب ومعذِّراً إذا أخطأ ، والقطع بهذا المعنى حجّة ، حيث يستقل به العقل ويبعث القاطعَ إلى العمل وفْقَه ويُحذّره عن المخالفة ، وما هذا شأنه ، فهو حجّة بالذات ، غنيّ عن جعل الحجّية له.

وبهذا يمتاز القطع عن الظن ، فإنّ العقل لا يستقلُّ بالعمل على وفق الظن ولا يحذِّر عن المخالفة لعدم انكشاف الواقع لدى الظن ، فلا يكون حجّة إلّا إذا أُفيضت له الحجّية من قِبَلِ المولى ، بخلاف القطع فانّ العقل مستقل بالعمل على

١٣

وفقه والتحذير عن مخالفته لانكشاف الواقع ، وإلى هذا يرجع قول القائل بأنّ حجّية القطع ذاتية دون الظن فإنّها عرضية.

وبذلك يتبيّن أنّ للقطع ثلاث خصائص :

١. كاشفيته عن الواقع ولو عند القاطع.

٢. منجّزيته عند الإصابة للحكم الواقعي بحيث لو أطاع يُثاب ولو عصى يعاقَب.

٣. معذِّريته عند عدم الإصابة ، فيُعذَّر القاطع إذا أخطأ في قطعه وبان خلافه.

وأمّا الثانية ، فهي عبارة عن كون الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له ، فيوصف بالحجّة المنطقية ، كالتغيّر الذي هو علّة لثبوت الحدوث للعالم.

يقال : العالم متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث.

والقطع بهذا المعنى ليس حجّة ، لأنّه ليس علّة لثبوت الحكم للموضوع ولا معلولاً له ، لأنّ الحكم تابع لموضوعه ، فإن كان الموضوع موجوداً يثبت له الحكم سواء أكان هنا قطع أم لا ، وإن لم يكن موجوداً فلا يثبت له ، فليس للقطع دور في ثبوت الحكم ولذلك يُعدُّ تنظيم القياس بتوسيط القطع باطلاً ، مثل قولك : هذا مقطوع الخمرية ، وكلّ مقطوع الخمرية حرام فهذا حرام ، وذلك لكذب الكبرى ، فليس الحرام إلّا نفس الخمر لا خصوص مقطوع الخمرية.

وأمّا الثالثة ، فهي عبارة عمّا لا يستقل العقل بالاحتجاج به غير أنّ الشارع أو الموالي العرفيّة يعتبرونه حجّة في باب الأحكام والموضوعات لمصالح ، فتكون حجّيته عرضيّة مجعولة كخبر الثقة ، ومن المعلوم أنّ القطع غنيّ عن إفاضة

١٤

الحجّية عليه ، وذلك لاستقلال العقل بكونه حجّة في مقام الاحتجاج ومعه لا حاجة إلى جعل الحجّية له.

أضف إليه انّ جعل الحجّية للقطع يتم إمّا بدليل قطعي ، أو بدليل ظنّي.

وعلى الأوّل يُنقل الكلام إلى ذلك الدليل القطعي ، ويقال : ما هو الدليل على حجّيته؟ وهكذا فيتسلسل.

وعلى الثاني يلزم أن يكون القطع أسوأ حالاً من الظن ، ولذلك يجب أن ينتهي الأمر في باب الحجج إلى ما هو حجّة بالذات ، أعني : القطع ، وقد تبيّن في محله «أنّ كلّ ما هو بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات».

وبذلك يعلم أنّه ليس للشارع الأمرُ المولويّ بالعمل بالقطع لسبق العقل بذلك ، كما ليس له المنع عن العمل بالقطع ، فلو قطع إنسان بكون مائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به ، لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع ، وفي الواقع إذا أصاب قطعه للواقع.

١٥

الأمر الثاني

تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي

إذا كان الحكم مترتباً على الواقع بلا مدخلية للعلم والقطع فيه ، كترتّبا لحرمة على ذات الخمر والقمار فيكون القطع بهما طريقيّاً ، ولا دور للقطع حينئذ سوى تنجيز الواقع ، وإلّا فمع قطع النظر عن التنجيز فالخمر والقمار حرام سواء أكان هناك قطع أم لا ، غاية الأمر يكون الجهل عذراً للمرتكب كما يكون العلم منجزاً للواقع.

وأمّا إذا أُخذ القطع في موضوع الحكم الشرعي بحيث يكون الواقع بقيد القطع موضوعاً للحكم ، فيعبّر عنه بالقطع الموضوعي ، وهذا كما إذا افترضنا أنّ الشارع حرّم الخمر بقيد القطع بالخمريّة بحيث لولاه لما كان الخمر محكوماً بالحرمة ، وهذا التقسيم جار في الظنّ أيضاً ، ولقد وردت في الشريعة المقدسة موارد أخذ القطع وحده أو الظن كذلك موضوعاً للحكم ، نظير :

١. الحكم بالصحّة ، فإنّه مترتّب على الإحراز القطعي للركعتين في الثنائية وللركعات في الثلاثية من الصلوات وللأُوليين في الرباعية ، بحيث لولاه لما كانت محكومة بها.

٢. الحكم بوجوب التمام لمن يسلك طريقاً مخطوراً محرزاً بالقطع أو الظن.

٣. الحكم بوجوب التيمّم لمن أحرز بالقطع أو الظن كون استعمال الماء مضرّاً.

١٦

٤. الحكم بوجوب التعجيل بالصلاة لمن أحرز ضيق الوقت بكلا الطريقين.

فلو انكشف الخلاف ، وأنّ الطريق لم يكن مخطوراً ، ولا الماء مضرّاً ، ولا الوقت ضيّقاً لما ضرَّ بالعمل ، لأنّ كشف الخلاف إنّما هو بالنسبة إلى متعلّق القطع لا بالنسبة إلى الموضوع المترتب عليه الحكم.

ثمّ إنّه ليس للشارع أيّ تصرف في القطع الطريقي فهو حجّة مطلقاً من أيّ سبب حصل ، لانّ الحكم مترتب على الموضوع بما هو هو وليس للقطع دور سوى كونه كاشفاً عن الواقع ، فإذا قطع به ، انكشف له الواقع وثبت وجود الموضوع ، فيترتب عليه حينئذ حكمه ، ويحكم العقل بلزوم العمل به من غير فرق بين حصوله بالأسباب العادية أو غيرها فليس للشارع تجويز العمل بالقطع الحاصل من سبب والنهي عن القطع الحاصل من سبب آخر.

وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع فبما أنّ لكلّ مقنّن ، التصرفَ في موضوع حكمه بالسعة والضيق ، فللشارع أيضاً حقُّ التصرف فيه ، فتارة تقتضي المصلحة اتخاذ مطلق القطع في الموضوع سواء أحصلت من الأسباب العادية أم من غيرها ، وأُخرى تقتضي جعل قسم منه في الموضوع كالحاصل من الأسباب العادية ، وعدم الاعتداد بالقطع الحاصل من غيرها.

١٧

الأمر الثالث

تقسيم القطع الموضوعي إلى طريقي ووصفي

ثمّ إنّ القطع الموضوعي ينقسم إلى قسمين :

١. موضوعي طريقي.

٢. موضوعي وصفي.

توضيح ذلك : انّ القطع من الصفات النفسية ذات الإضافة ، فله إضافة إلى القاطع (النفس المدرِكة) وإضافة إلى المقطوع به (المعلوم بالذات والصورة المعلومة في الذهن) ، فتارة يؤخذ في الموضوع بما أنّ له وصف الطريقية والمرآتية فيطلق عليه القطع الموضوعي الطريقي ، أي أُخذ في الموضوع بما انّ له وصف الحكاية ، وأُخرى يؤخذ في الموضوع بما أنّه وصف نفساني كسائر الصفات مثل الحسد والبخل والإرادة والكراهة ، فيطلق عليه القطع الموضوعي الوصفي ، أي المأخوذ في الموضوع لا بما أنّه حاك عن شيء وراءه بل بما أنّه وصف للنفس المدركة.

لنفترض انّك تريد شراء مرآة من السوق ، فتارة تلاحظها بما أنّها حاكية عن الصور التي تعكسها ، وأُخرى تلاحظها بما أنّها صُنعت بشكل جميل مثير للإعجاب مع قطع النظر عن محاكاتها للصور.

فالقطع الموضوعي الطريقي أشبه بملاحظة المرآة بما أنّها حاكية ، كما أنّ القطع الموضوعي الوصفي أشبه بملاحظة المرآة بما لها من شكل جميل ككونها مربعة أو مستطيلة وغيرهما من الأوصاف.

وأمّا ما هو الأثر الشرعي لهذا التقسيم فموكول إلى دراسات عليا.

١٨

الأمر الرابع

الموافقة الالتزامية

لا شكّ أنّ المطلوب في الأُصول الدينيّة والأُمور الاعتقادية هو التسليم القلبي والاعتقاد بها جزماً ، إنّما الكلام في الأحكام الشرعية التي ثبتت وتنجّزت بالقطع أو بالحجّة الشرعية ، فهل هناك تكليفان؟

أحدهما الالتزام بأنّه حكم الله قلباً وجناناً.

ثانيهما الامتثال عملاً وخارجاً.

فهل لكلّ ، امتثال وعصيان ، فلو التزم قلباً وخالف عملاً فقد عصى عملاً ؛ كما أنّه لو وافق عملاً وخالف جناناً والتزاماً فقد ترك الفريضة القلبية ، فيؤاخذ عليه؟

أو أنّ هناك تكليفاً واحداً ، وهو لزوم امتثال الأحكام الفرعية في مقام العمل وإن لم يلتزم بها قلباً وجناناً ، وهذا كمواراة الميّت فتكفي وإن لم يلتزم قلباً بأنّها حكم الله الشرعي؟

فليعلم أنّ البحث في غير الأحكام التعبدية ، فإنّ الامتثال فيها رهن الإتيان بها لله سبحانه أو لامتثال أمره أو غير ذلك ممّا لا ينفك الامتثال عن الالتزام والتسليم بأنّه حكمه سبحانه ، فينحصر البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية وعدمه في الأحكام التوصلية.

ذهب المحقّق الخراساني إلى القول الثاني ، باعتبار أنّ الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان خير شاهد على عدم صحّة عقوبة العبد الممتثل لأمر

١٩

المولى وإن لم يلتزم بحكمه.

وربّما يقال : إنّ الالتزام مع العلم بأنّ الحكم لله أمر قهري ، فكيف يمكن أن يواري المسلمُ الميّتَ مع العلم بأنّه سبحانه أمر به ولا يلتزم بأنّها حكم الله ، فعدم عقد القلب على وجوبه أو على ضدّه أمر ممتنع وبذلك يُصبح النزاع غير مفيد.

وعلى هذا ، فالعلم بالحكم يلازم التسليم بأنّه حكم الله. (١)

ولكن الظاهر عدم الملازمة بين العلم والتسليم ، فربّ عالم بالحق ، غير مسلِّم قلباً ، فإنّ الإنسان كثيراً ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب ، لكنّه لا ينقاد له قلبه ولا يسلّمه باطناً ، وإن كان في مقام العمل يتحرّك بحركته خوفاً من سوطه وسطوته ، وهكذا كان حال كثير من الكفّار بالنسبة إلى نبيّنا ، حيث إنّهم كانوا عالمين بنبوّته كما نطق به القرآن ، ومع ذلك لم يكونوا منقادين له قلباً ولا مقرّين باطناً ، ولو كان ملاك الإيمان الحقيقي نفس العلم التصديقي لزم أن يكونوا له مؤمنين حقيقة. (٢)

والذي يدلّ على أنّ بين العلم والتسليم مرحلة أو مراحل قوله سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). (٣)

قيل : نزلت في الزبير ورجل من الأنصار خاصمه إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شراج (٤) من الحرّة كانا يسقيان بها النخل كلاهما ، فقال النبي للزبير : «اسق ثمّ أرسل إلى

__________________

(١). لاحظ تهذيب الأُصول : ٤٦ / ٢.

(٢). نهاية الدراية : ٢٦ / ٢.

(٣). النساء : ٦٥.

(٤). مسيل الماء من الحرّة إلى السهل ، و «الحرّة» : الأرض ذات الحجارة.

٢٠