رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

رحلة الإيطالي كاسبارو بالبي

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٨

١
٢

٣
٤

مقدمة المعرب

هذه رحلة الجوهري البندقي ـ نسبة إلى مدينة البندقية بإيطاليا ـ كاسبارو بالبي Gasparo Balbi الذي قدم إلى العراق في الربع الأخير من القرن السادس عشر وهو في طريقه إلى الهند. وتعد هذه الرحلة من أهم الرحلات لما فيها من معلومات تاريخية وجغرافية تخص العراق أولا ، ولقدمها ثانيا ، ولم ينقل نصها إلى العربية حتى الآن ، لذلك أخذت على عاتقي هذا العمل خدمة للباحثين والمؤرخين.

صاحب الرحلة

تعد أسرة بالبي من البيوتات العريقة في مدينة البندقية. في هذه الأسرة ولد الرحّالة كاسبارو بن ترانكويللو الذي كان يعمل مساعد قبطان في إحدى السفن المخصصة لحامية كريت.

ولد كاسبارو نحو سنة ١٥٥٠ في البندقية ، ولا نعلم

٥

شيئا عن مطلع حياته ، كل ما لدينا من معلومات عنه إنه قرر الرحيل إلى الشرق في مرحلة كثرت فيها رحلات العمل والتجارة إلى الشرقين الأوسط والأقصى سعيا وراء التوابل والأحجار الكريمة وغير ذلك.

وكانت البندقية في ذلك العهد في أوج عزها وكانت تسعى لمنافسة البرتغال وأسبانيا في ميدان التجارة الخارجية.

فاتح كاسبارو تاجرين معروفين في مدينته ليقرضاه بضائع مرغوبة في الشرق ليتاجر بها في بلاد الشام لقاء أحجار كريمة يحصل عليها هناك فيرسلها إليهما ، فإقتنعا بكلامه ولبيا طلبه ، فتسلم منهما ما قيمته ١٠٤٤ دوكاه (دوقية) وشد الرحال إلى الشرق نحو سنة ١٥٧٦ أو بعدها بقليل وهو إنذاك في عز وشبابه.

مرت الأيام والسنون والتاجران ينتظران على أحر من الجمر وصول الأحجار الثمينة التي كانا يحلمان بها لكنهما لم يتسلما شيئا ، بل لم يصلهما خبر من بالبي ، فتسربت الشكوك إلى نفسيهما وعيل صبرهما ، عندئذ كتبا إلى صديق لهما مقيم في حلب ، إذ كان في حلب مكاتب عديدة للصيرفة تعمل هناك ، فوجها إلى هذا الصديق وكالة تاريخها ١٦ نيسان ١٥٧٩ يخولانه فيها البحث عن بالبي ومقاضاته. عندئذ كتب بالبي رسالة تاريخها ١ تشرين الثاني من تلك

٦

السنة يشرح فيها سبب صمته الطويل ، فقد عانى الكثير في رحلته المزعجة ، لكن مع كل ذلك مضى قدما إلى الهند عن طريق ما بين النهرين ، ويضيف : إنه استدان مبالغ طائلة من أصدقاء بندقيين آخرين ليتاجر بها في الشرق الأقصى. ويعدهما أخيرا بأنه سيعود بعد سنتين ، ويتعهد بإعادة المبالغ التي لهما في ذمته.

طال الغياب ، وانتقل التاجران إلى الرفيق الأعلى ، ولم يعد صاحبنا إلى بلده إلا بعد سنوات أي نحو سنة ١٥٨٨ ؛ فأقام ورثة التاجرين المتضررين دعوى عليه ، وبعد أخذ ورد توصل الطرفان إلى حسم النزاع سلميّا ، لكن بالبي لم يلتزم بوعده ، فأشتكيا عليه من جديد وألقي القبض عليه هذه المرة وزج في السجن في ١١ تموز ١٥٩٠ وبقي نزيل السجن أسبوعا كاملا حتى خرج منه بكفالة. ويظهر من أعمال المحكمة أنه كان يستعد لرحلة جديدة إلى الهند ، لكننا لا نعلم أن كان قد رحل أم لا. كما لا نعرف بالضبط سنة وفاته التي حدثت بين سنة ١٦٢١ ـ ١٦٢٥ إذ نجد له وصية مكتوبة تاريخها ١٦٢١ وكان قد أصبح في ذلك الوقت صاحب محل للجواهر ، بينما في سنة ١٦٢٥ لا يرد اسمه في سجلات الكاتب العدل الخاصة بالجوهريين فلعله مات في إحدى تلك السنين.

٧
٨

الرحلة

تبدأ رحلته عند مغادرته حلب في ١٣ كانون الأول ١٥٧٩ وبعد يومين يصل إلى بيره جك على الفرات حيث يستقل مركبا ينحدر به إلى الفلوجة ، بعد أن يمر بالقائم وعنه وهيت. ومن الفلوجة يذهب برّا إلى بغداد لينزل في دجلة إلى البصرة التي يصلها في ٢١ آذار ١٥٨٠ ويغادرها بطريق البحر إلى هرمز. إنه الطريق التي مر به الرحالة العربي ابن بطوطة صاعدا. وقد ذكر بالبي في هذا القسم من الرحلة ـ أي القسم العراقي ـ نحو مئة وثلاثين موقعا بين مدن مهمة وقصبات وقرى صغيرة ، وهنا تكمن أهمية هذه الرحلة.

بعد أن طاف في الهند وسيلان وغيرهما عاد سنة ١٥٨٧ إلى البصرة ومنها إلى بغداد عن طريق دجلة أيضا فوصلها في ٢٣ تشرين الثاني من تلك السنة. ثم تركها عن طريق حلب راجعا إلى بلاده.

عند قراءة الرحلة نستنتج أن بالبي كان يحتفظ بدفتر

٩

يسجل فيه يوميات السفر ، ففي رحلته دقة لا نلقاها في نصوص الرحلات الأخرى ، فهو يذكر التواريخ والساعات وأسماء المواقع ، بحيث يستطيع القارئ تتبع محطات رحلته يوما بعد يوم.

إنه يحب الإختصار ، ولذا أهمل عن تعمد سرد أحداث الرحلة من البندقية إلى حلب لأن كثيرين من قبله تطرقوا إليها فهي معروفة لدى القراء ، وفعل ذلك أيضا في نهاية الرحلة إذ توقف عن الكلام بعد مغادرته بغداد.

ليس من الواضح أن كان بالبي يتكلم العربية أم لا ، ولعله كان يستطيع التفاهم بها ، فسأل مرافقيه عن أسماء المدن والقرى وكتبها نقلا عن السماع لا أكثر ، فضبط بعضها وتشوه بعضها في كتابه.

ملاحظات في الرحلة

(أ) لم يترك بالبي صغيرة ولا كبيرة دون أن يسأل عنها المسافرين أو الملاحين وكان يسجل في دفتره أسماء المواقع كما يسمعها منهم ، وأخبار الناس وعاداتهم كما يفهمها من مرافقيه. لذا نجد في رحلته وصفا حسنا للسفن والقوارب المستعملة في العراق ، وأسماء المدن والقرى ، وبعض الملاحظات عن المواقع الأثرية في قطرنا.

وهنا لا بد أن أشير إلى الصعوبة التي جابهتنا أثناء

١٠

العمل ، ذلك أن المؤلف عند إيراده أسماء المواقع ، كثيرا ما يذكرها بصورة مغلوطة. لذا أوردت في الترجمة تلك الأسماء بحروفها الأصلية كما هي في النص الإيطالي ، فأشرنا إلى المواقع التي تعرفنا عليها ، وبقيت مواقع عديدة لم نتوصل إلى معرفتها ، ولعلها اندثرت مع الأيام.

(ب) ولما كان الرجل يعنى بالتجارة لذا نراه يهتم كثيرا بالموازين والمقاييس والنقود المتداولة في أهم المدن التي حل بها ، فخصص فصلا بهذه الأمور عن كل من : بغداد والبصرة ومضيق هرمز ، وقارنها بما يعادلها بحساب حلب لأنها منطقة معروفة ، وبالبندقية لأنها موطن التجار المحليين.

(ج) ونوّه أيضا بالأماكن التي يجب دفع الرسوم فيها ، ومقدارها ، والهدايا التي يجب على التجار أعدادها وتقديمها إلى رؤساء العشائر وأكابر القوم في تلك المدن لتسهيل أمرهم.

(د) ولهذه الرحلة أهمية جغرافية كبيرة ، فقد توسع كاتبها بذكر أسماء المدن والقرى كما أسلفنا ، لذلك استفاد منها الجغرافيون ومصممو الخرائط من المعلومات الواردة فيها ، خاصة بما يتعلق بالعراق.

(ه) نلاحظ أن بالبي اقتبس فقرات عديدة من كتاب رحلة مواطنه فيدريجي البندقي الذي سبقه إلى الشرق بأعوام

١١

قليلة ، وكان حيّا يرزق عند ما طبع بالبي رحلته ، ولا نجد تفسيرا لهذا الأقتباس والنقل الحرفي أحيانا ، إلا أن يكون قد وجد نقصا في بعض مراحل رحلته فالتجأ إلى النقل لملء الفراغ ، ولعله استأذن صاحبه ومواطنه فيدريجي.

(و) علينا أن ننظر إلى ما كتبه ضمن الإطار التاريخي عند ما كانت تتنافس للسيطرة على العراق قوات غريبة حاقدة كانت تعمل على انهاك المجتمع العراقي وتفتت روح المقاومة والتصدي لديه.

طبعات الكتاب

(أ) بعد عودة بالبي إلى وطنه انكب على كتابة أخبار رحلته ثم نشرها سنة ١٥٩٠ في البندقية ، واضعا لها عنوانا طويلا مشوقا : «رحلة إلى الهند الشرقية للجوهري البندقي كاسبارو بالبي التي تحتوي على ما رآه خلال تسع سنوات بين ١٥٧٩ إلى ١٥٨٨ مع الحديث عن الضرائب والأوزان والمقاييس في كل المدن خلال تلك الرحلة .. البندقية ١٥٩٠ ، عند الناشر كاميللو بوركومينيري ..» وكان الكتاب في ١٥٩ صفحة.

في سنة ١٦٠٥ ظهرت الرحلة بالألمانية في فرانكفورت ، وفي السنة التالية نشرت باللاتينية في المدينة نفسها ، لأن هذه اللغة كانت مفهومة لدى المثقفين في سائر

١٢

بلدان أوروبا في ذلك العهد. ثم ترجمت إلى الهولندية وطبعت في لندن سنة ١٧٠٦ بقطع صغيرة تحتفظ مكتبة المتحف العراقي بنسخة منها.

ثم ظهرت الرحلة مختصرة بالإنكليزية وطبعت في لندن سنة ١٦٢٥ وقد أهمل المترجم القسم الخاص بالعراق.

وطبعت الرحلة مرات عديدة بالإنكليزية والهولندية ، لكنه لم يعد طبعها بالإيطالية إلا في القرن العشرين عند ما تصدت الباحثة الإيطالية أولغا بينتوOlga PINTO لهذا العمل فنشرت رحلة بالبي مع رحلة فيدريجي بالعنوان الآتي :

Viaggi di C. Federicie G. Balbi alle Indie Orientali a cura di Olga Pinto, Ist. Polig. Dello Stato, Roma ll Nuovo ٢٣٩١

وطبعت ثانية سنة ١٩٦٢ ضمن سلسلة عنوانهاRamusio IV وقد علقت الباحثة على النص بهوامش كثيرة ، معظمها تفيد القارئ الإيطالي ، وما أخذته عنها ذكرته بأسمها الصريح. فأني كنت قد صورت هذه الرحلة عن نسخة المكتبة الوطنية في روما سنة ١٩٨٤ ثم علقت على ترجمتها بعد عودتي إلى العراق وانهيت الترجمة سنة ١٩٨٥ وأخيرا قدمتها للطبع في هذه السنة.

(ب) بعد أن فرغت من ترجمة النص ، وجدت فيه أمورا عديدة غير واضحة وتحتاج إلى شرح لذا وضعت الهوامش التي رأيتها مفيدة للقارئ.

١٣

(ج) إن لغة الرحلة عادية وتفتقر إلى الجمالية ، ويكثر بالبي من استعمال التعابير العامية المحلية الدارجة المستعملة في مدينة البندقية.

(د) ذكر الأستاذ كوركيس عواد ، رحمه‌الله ، في بحثه المرسوم : «المعرب من كتب الرحلات الأجنبية إلى العراق» ، مجلة الأقلام ، (١٩٦٤) ص ٥٧ ـ ٥٨ أن القس (البطريرك فيما بعد) بولس شيخو (ت ١٩٨٩) كان قد ترجم هذه الرحلة إلى العربية تلبية لطلب الأستاذ يعقوب سركيس (ت ١٩٥٩) الذي كان يهتم إهتماما عاليا بكتب الرحلات الأجنبية ولا أعلم بمصير تلك الترجمة لكن سركيس نوه بأن له ترجمة الرحلة ولم يذكر اسم مترجمها ودعاه «غاصبارو» (مباحث عراقية ٣ : ٧٧).

(ه) ورد ذكر هذه الرحلة في كتاب : «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» لمؤلفه ه. لونكريك (ط ٤ / ١٩٦٨ ، ص ٣٩٧) وكتابه المعرب : «غاصبارو» وفي كتاب «مباحث عراقية» ليعقوب سركيس ١ : ٢٦٥ ؛ ٣ : ٧٦ ـ ٧٧ وفي كتب أخرى سننوه بها في محلها.

(و) وضعنا للكتاب فهارس متعددة : الأماكن والأعلام ... لترشد القارئ إلى أهم مواد الرحلة.

(ز) أسعدنا الحظ قبل سنوات بالتعرف على الأستاذ

١٤

المحامي فرحان أحمد سعيد الذي ساعدني للتوصل إلى معرفة أسماء بعض الأماكن المشوه لفظها في الرحلة.

(ح) إن الطبعة الإيطالية للرحلة خالية من الرسوم ، أما الطبعة الهولندية ففيها رسوم.

د. بطرس حداد

١٥
١٦

رحلة

الجوهري البندقي كاسبارو بالبي

إلى الهند الشرقية (١)

__________________

(١) تبدأ الرحلة في الصفحة ٧١ من النص الإيطالي المطبوع سنة ١٩٦٢.

١٧
١٨

الفصل الأول

طريق الرحلة من البندقية إلى حلب

لما كانت الرحلة أو الطريق البحري بين وطني أي مدينة البندقية وبين مدينة حلب معروفة جيدا لدى الجميع ، ارتأيت إلا حاجة للتوقف عند وصفها لكثرة السفن والمراكب التي تمخر البحر إنطلاقا من هذه المدينة الشهيرة إلى تلك المدينة الشرقية.

لهذا السبب قررت أن ابدأ بالتحدث عن رحلتي إنطلاقا من حلب إلى بغداد (١) ، ومن ثم إلى الهند الشرقية حتى بيكو (٢). ولكي يكون الوصف واضحا ، ساقسم رحلتي إلى عشرة أقسام أو أبواب ، وبهذا نتخلص من أي أشكال يحول دون فهم مراحل سفري.

__________________

(١) قال في الأصل «بابل» على عادة الرحالة في تلك العهود ، وكان السائح الإيطالي ديللافاليه أول من أصلح هذا التعبير وميز بين بابل التاريخية وبغداد. أنظر : رحلة ديللافاليه إلى العراق ، بغداد ٢٠٠١ ، ص ٤٢.

(٢) عاصمة بلد بالأسم نفسه كان ضمن بورما قديما.

١٩

ولهذا أقول : إن الطريق المسلوك عادة ، وهو الأكثر أمنا يبدأ من حلب إلى بغداد ، ومن بغداد إلى البصرة (١) ، ومن البصرة إلى هرمز (٢) ، ثم إلى ديو (٣) ، ومنها إلى كيافول (٤) ، ومن كيافول إلى غوا (٥) ، ثم إلى كوجي (٦) ، ومنها إلى سان تومي (٧) ، ثم إلى بيكو ، وأخيرا من بيكو إلى مرتبان (٨).

__________________

(١) في الأصل «بلصرة» وهو خطأ ردده معظم الرحالين الغربيين.

(٢) حصن مهم في مضيق هرمز كان تحت الاستعمار البرتغالي ردحا طويلا من الزمن ثم سيطر عليه الإنكليز.

(٣) ميناء في الهند احتله البرتغاليون مدة من الزمن.

(٤) مدينة في الهند.

(٥) مدينة استعمرها البرتغاليون إلى عهد قريب إذ استعادتها الهند سنة ١٩٦٤.

(٦) هي مقاطعة كوجين بالهند ومن مدنها المهمة مدارس.

(٧) تسمى اليوم ميلابور في الهند ، سميت قديما سان تومي نسبة إلى القديس توما أحد تلاميذ المسيح الحواريين فقد بشر هناك واستشهد وقبره هناك.

(٨) في بورما أو بيرمانيا على حد تعبير بالبي.

٢٠