تراثنا ـ العدد [ 24 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 24 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٤

٧ ـ خروجه معتمدا على رجلين :

إنه وإن لم يتعرض في بعض ألفاظ الحديث إلى خروج النبي إلى الصلاة أصلا وفي بعضها إليه ولكن بلا ذكر لكيفية الخروج ... إلا أن في اللفظ المفصل ـ وهو خبر عبيد الله عن عائشة ، حيث طلب منها أن تحدثه عن مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ جاء : (ثم إن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وجد من نفسه خفة ، فخرج بين رجلين أحدهما العباس).

وفي حديث آخر عنها : (وخرج النبي يهادي بين رجلين ، كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض).

وفي ثالث : (فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفة ، فقام يهادي بين رجلين ، ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد).

وفي رابع : (فوجد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم من نفسه خفة ، فخرج وإذا أبو بكر يؤم الناس).

وفي خامس : (فخرج أبو بكر فصلى بالناس ، فوجد رسول الله من نفسه خفة ، فخرج يهادي بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض).

أقول : هنا نقاط نلفت إليها الأنظار على ضوء هذه الأخبار :

١ ـ متى خرج أبو بكر إلى الصلاة؟

إنه خرج إليها والنبي في حال غشوة ، لأنه لما وجد من نفسه خفة خرج معتمدا على رجلين ...

٢ ـ متى خرج رسول الله؟

إنه خرج عند دخول أبي بكر في الصلاة ، فهل كانت الخفة التي وجدها في نفسه في تلك اللحظات صدفة بأن رأى نفسه متمكنا من الخروج فخرج على عادته

٦١

أو أنه خرج عندما علم بصلاة أبي بكر إما بإخبار مخبر ، أو بسماع صوت أبي بكر؟ إنه لا فرق بين الوجهين من حيث النتيجة ، فإنه لو كان قد أمر أبا بكر بالصلاة في مقامه لما بادر إلى الخروج وهو على الحال التي وصفتها الأخبار!

٣ ـ كيف خرج رسول الله؟

لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقادر على المشي بنفسه ، ولا كان يكفيه الرجل الواحد بل خرج معتمدا على رجلين ، بل إنهما أيضا لم يكفياه ، فرجلاه كانتا تخطان في الأرض ... وإن خروجا كهذا ـ ليس إلا لأمر يهم الإسلام والمسلمين ، وإلا فقد كان معذورا عن الخروج للصلاة جماعة ، كما هو واضح ... فإن كان خروج أبي بكر إلى الصلاة بأمر منه فقد جاء ليعزله ، كما كان في قضية إبلاغ سورة التوبة حيث أمر أبا بكر بذلك ثم أمر بعزله وذاك من القضايا الثابتة المتفق عليها ، لكنه لم يكن بأمر منه للوجوه التي ذكرناها ...

٤ ـ على من كان معتمدا؟

واختلفت الألفاظ التي ذكرناها فيمن كان معتمدا عليهما ـ مع الاتفاق على كونهما اثنين ـ فمنها : (رجلين أحدهما العباس) ومنها : (رجلين) ومنها : (فقال : أنظروا لي من أتكئ عليه ، فجاءت بريرة ، ورجل آخر فاتكأ عليهما). وهناك روايات فيها أسماء أشخاص آخرين ...

ومن هنا اضطربت كلمات الشراح ...

فقال النووي بشرح (فخرج بين رجلين أحدهما العباس) :

وفسر ابن عباس الآخر بعلي بن أبي طالب. وفي الطريق الآخر : فخرج ويد له على رجل آخر ، وجاء في غير مسلم : بين رجلين أحدهما أسامة بن زيد. وطريق الجمع بين هذا كله : إنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة تارة هذا وتارة ذاك وذاك ، ويتنافسون في ذلك. وأكرموا العباس باختصاصه يبدو استمرارها له ، لما

٦٢

له من السن والعمومة وغيرها ، ولهذا ذكرته عائشة مسمى وأبهمت الرجل الآخر ، إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازما في جميع الطريق ولا معظمه ، بخلاف العباس ، والله أعلم) (١٥٧).

وفي خبر آخر عند ابن خزيمة عن سالم بن عبيد : (فجاءوا ببريرة ورجل آخر فاعتمد عليهما ثم خرج إلى الصلاة) (١٥٨).

ترى أن (الرجل الآخر) في جميع هذه الطرق غير مذكور ، فاضطر النووي إلى ذكر توجيه لذلك ، بعد أن ذكر طريق الجمع بين ذلك كله ، لئلا يسقط شئ منها عن الاعتبار!! بعد أن كانت القضية واحدة ...

وروى أبو حاتم أنه خرج بين جاريتين ، فجمع بين الخبرين بأنه (خرج بين الجاريتين إلى الباب ، ومن الباب أخذه العباس وعلي ، حتى دخلا به المسجد) (١٥٩).

لكن خبر خروجه بين جاريتين وهم صدر من الذهبي أيضا (١٦٠).

وذكر العيني الجمع الذي اختاره النووي قائلا : (وزعم بعض الناس) ثم أشكل عليه بقوله : (فإن قلت : ليس بين المسجد وبيته مسافة تقتضي التناوب ...) فأجاب بقوله : (قلت : يحتمل أن يكون ذلك لزيادة في إكرامه أو لالتماس البركة من يده) (١٦١).

وأنت تستشم من عبارته (وزعم بعض الناس) ثم من الإشكال والجواب عدم ارتضائه لما قاله النووي وكذلك ابن حجر رد ـ كما ستعلم ـ على ما ذكره النووي بما جاء في رواية معمر : (ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير) ورواية الزهري : (ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير).

__________________

(١٥٧) المنهاج شرح مسلم هامش إرشاد الساري ٣ / ٥٧.

(١٥٨) عمدة القاري ٥ / ١٨٧.

(١٥٩) عمدة القاري ٥ / ١٨٧.

(١٦٠) عمدة القاري ٥ / ١٩٠.

(١٦١) عمدة القاري ٥ / ١٨٧.

٦٣

والتحقيق : إن القضية واحدة ، و (الرجل الآخر) هو علي عليه‌السلام (ولكن عائشة ...) أما ما ذكره النووي فقد عرفت ما فيه ، وقد أورد العيني ما في رواية معمر والزهري تم قال : (وقال بعضهم : وفي هذا رد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة ولا معظمها) قال العيني : (أشار بهذا إلى الرد على النووي ولكنه ما صرح باسمه لاعتنائه به ومحاماته له) (١٦٢).

قلت : والعيني أيضا لم يذكر اسم القائل وهو ابن حجر ، ولا نص عبارته لشدتها ، ولنذكرها كاملة ، فإنه كما لم يصرح باسم النووي كذلك لم يصرح باسم الكرماني الذي اكتفى هنا بأن قال : (لم يكن تحقيرا أو عداوة ، حاشاها من ذلك) (١٦٣) وهي هذه بعد روايتي معمر والزهري :

(وفي هذا رد على من تنطع فقال : لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة ، ورد من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة ... وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس ، وأختص بذلك إكراما له. وهذا توهم ممن قاله ، والواقع خلافه ، لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد) (١٦٤).

إلا أن من القوم من حملته العصبية لعائشة على أن ينكر ما جاء في رواية معمر والزهري ، وقد أجاب عن ذلك ابن حجر حاملا الإنكار على الصحة فقال : (ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبر عنها بعبارة شنيعة) (١٦٥).

٨ ـ حديث صلاته خلف أبي بكر :

وحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتم في تلك الصلاة بأبي بكر ـ بالإضافة إلى أنه في نفسه كذب كما سيأتي ـ دليل آخر على أن ، أصل القضية ـ أعني أمره أبا

__________________

(١٦٢) عمدة القاري ٥ / ١٩١.

(١٦٣) الكواكب الدراري ٥ / ٥٢.

(١٦٤) فتح الباري ٢ / ١٢٣.

(١٦٥) فتح الباري ٢ / ١٢٣.

٦٤

بكر بالصلاة ـ كذب ... وبيان ذلك :

٩ ـ وجوب تقديم الأقرأ :

هذا ، وينافي حديث الأمر بالصلاة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ثبت عنه من وجوب تقديم الأقرأ في الإمامة إذا استووا في القراءة ، وفي الصحاح أحاديث متعددة دالة على ذلك ، وقد عقد البخاري (باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم (١٦٦).

وذلك لأن أبا بكر لم يكن الأقرأ الإجماع ... وهذا أيضا من المواضع المشكلة التي اضطربت فيها كلماتهم :

قال العيني : (اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة فقالت طائفة : الأفقه ، وقال آخرون : الأقرأ) فأجاب عن الإشكال بعدم التعارض : (لأنه لا يكاد يوجد إذ ذاك قارئ إلا وهو فقيه) قال : (وأجاب بعضهم بأن تقديم الأقرأ كان في صدر الإسلام) (١٦٧).

وقال ابن حجر بشرح عنوان البخاري المذكور :

(هذه الترجمة منتزعة من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي مسعود الأنصاري وقد نقل ابن أبي حاتم عن أبيه أن شعبة كان يتوقف في صحة هذا الحديث. ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاري. قيل : المراد به الأفقه. وقيل : هو على ظاهره.

وبحسب ذلك اختلف الفقهاء ، قال النووي قال أصحابنا : الأفقه مقدم على الأقرأ ، ولهذا قدم النبي أبا بكر في الصلاة على الباقين ، مع أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم نص على أن غيره أقرأ منه ـ كأنه عنى حديث : أقرؤكم أبي ـ قال : وأجابوا

__________________

(١٦٦) صحيح البخاري بشرح العيني ٥ / ٢١٢.

(١٦٧) عمدة القاري ٥ / ٢٠٣.

٦٥

عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه).

قال ابن حجر : (قلت : وهذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر ، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه).

قال : (ثم قال النووي بعد ذلك : إن قوله في حديث أبي مسعود : فإن كانوا قي القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة.

يدل على تقديم الأقرأ مطلقا. إنتهى).

قال ابن حجر : (وهو واضح للمغايرة) (١٦٨).

أقول : فانظر إلى اضطراباتهم وتمحلاتهم في الباب ، وما ذلك كله إلا دليلا على عجزهم عن حل الإشكال ، وإلا فأي وجه لحمل حديث تقديم الأقرأ على (صدر الإسلام) فقط؟ أو حمله على أن المراد هو (الأفقه)؟! وهل كان أبو بكر الأفقه حقا؟!

وأما الوجه الآخر الذي نسبه النووي إلى أصحابه فقد رد عليه ابن حجر ... وتراهم بالتالي يعترفون بوجوب تقديم الأقرأ أو يسكتون!!

إن المتفق عليه في كتابي البخاري ومسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الإمام في تلك الصلاة. وكذا جاء في حديث غيرهما ... فهذه طائفة من الأخبار صريحة في دلك ...

وطائفة أخرى فيها بعض الاجمال ... كالحديث عند النسائي : (وكان النبي بين يدي أبي بكر ، فصلى قاعدا ، وأبو بكر يصلي بالناس ، والناس خلف أبي بكر). والآخر عن ابن ماجة : (ثم جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتى قضى أبو بكر صلاته).

وطائفة ثالثة ظاهرة أو صريحة في صلاته خلف أبي بكر ، كالحديث عند النسائي

__________________

(١٦٨) فتح الباري ٢ / ١٣٥.

٦٦

وأحمد : (إن أبا بكر صلى للناس ورسول الله في الصف) والحديث عند أحمد : (صلى رسول الله خلف أبي بكر قاعدا) وعنده أيضا : (وصلى النبي خلفه قاعدا).

ومن هنا كان هذا الموضع من المواضع المشكلة عند الشراح ، حيث اضطربت كلماتهم واختلفت أقوالهم فيه ... قال ابن حجر : (وهو اختلاف شديد) (١٦٩).

فابن الجوزي وجماعة أسقطوا ما أفاد صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم خلف أبي بكر عن الاعتبار ، بالنظر إلى ضعف سنده ، وإعراض البخاري ومسلم عن إخراجه (١٧٠) قال ابن عبد البر : (الآثار الصحاح على أن النبي هو الإمام) (١٧١) وقال النووي : (كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر كان هو الإمام والنبي مقتد به ، لكن الصواب أن النبي كان هو الإمام وقد ذكره مسلم) (١٧٢).

لكن فيه : أنه إن كان دليل الرد ضعف السند ، فقد عرفت أن جميع ما دل على أمره أبا بكر بالصلاة ضعيف ، وإن كان دليل الرد إعراض الشيخين فقد ثبت لدى المحققين أن إعراضهما عن حديث لا يوهنه ، كما أن إخراجهما لحديث لا يوجب قبوله. نعم ، خصوم ابن الجوزي وجماعته ملتزمون بذلك.

وعبد المغيث بن زهير وجماعة قالوا : كان أبو بكر هو الإمام أخذا بالأحاديث الصريحة في ذلك قال الضياء المقدسي وابن ناصر : (صح وثبت أنه صلى خلفه مقتديا به في مرضه الذي توفي فيه ثلاث مرات ، ولا ينكر ذلك إلا جاهل لا علم له بالرواية) (١٧٣).

__________________

(١٦٩) فتح الباري ٢ / ١٢٠.

(١٧٠) لابن الجوزي رسالة في هذا الباب أسماها (آفة أصحاب الحديث) نشرناها لأول مرة بمقدمة وتعاليق هامة سنة ١٣٩٨ ه.

(١٧١) عمدة القاري ٥ / ١٩١.

(١٧٢) المنهاج ، شرح صحيح مسلم ٣ / ٥٢.

(١٧٣) عمدة القاري ٥ / ١٩١ ، لعبد المغيث رسالة في هذا الباب ، رد عليها ابن الجوزي برسالته المذكورة.

٦٧

لكن فيه : أنها أحاديث ضعيفة جدا ، ومن عمدتها ما رواه شبابة بن سوار المدلس المجروح عند المحققين ... علي أن قولهما : (ثلاث مرات) معارض بقول بعضهم (كان مرتين) وبه جزم ابن حبان (١٧٤) وأما رمي المنكرين بالجهل فتعصب ...

والعيني وجماعة على الجمع بتعدد الواقعة ، قال العيني : (روي حديث عائشة بطرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما ، وفيه اضطراب غير قادح.

وقال البيهقي ، لا تعارض في أحاديثها ، فإن الصلاة التي كان فيها النبي إماما هي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد ، والتي كان فيها مأموما هي صلاة الصبح من يوم الاثنين وهي آخر صلاة صلاها حتى خرج من الدنيا.

وقال نعيم بن أبي هند : الأخبار التي وردت في هذه القصة كلها صحيحة وليس فيها تعارض ، فإن النبي صلى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد ، في إحداهما كان إماما وفي الأخرى كان مأموما) (١٧٥).

قلت :

أولا : إن كلام البيهقي في الجمع أيضا مضطرب ، فهو لا يدري الصلاة التي كان فيها إماما أهي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد!؟ وكأن المهم عنده أن يجعل الصلاة الأخيرة ـ يوم الاثنين ـ صلاته مأموما كي ثبت الإمامة العظمى لأبي بكر بالإمامة الصغرى!!

وثانيا : إن نعيم بن أبي هند ـ الذي حكم بصحة كل الأخبار ، وجمع كالبيهقي بالتعدد لكن من غير تعيين لجهله بواقع الأمر! ـ رجل مقدوح مجروح لا يعتمد على كلامه كما تقدم في محله.

وثالثا : إنه اعترف بوجود الاضطراب في حديث عائشة ، وكذا اعترف بذلك ابن حجر ، ثم ذكر الاختلاف ، وظاهره ترك المطلب على حاله من دون اختيار ، ثم

__________________

(١٧٤) عمدة القاري ٥ / ١٩١.

(١٧٥) عمدة القاري ٥ / ١٩١.

٦٨

أضاف أنه (اختلف النقل عن الصحابة غير عائشة ، فحديث ابن عباس فيه : أن أبا بكر كان مأموما وحديث أنس فيه : أن أبا بكر كان إماما. أخرجه الترمذي وغيره) (١٧٦)

والتحقيق :

إن القصة واحدة لا متعددة ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج في تلك الواقعة إلى المسجد ونحى أبا بكر عن المحراب ، وصلى بالناس بنفسه وكان هو الإمام وصار أبو بكر مأموما ...

هذا هو التحقيق بالنظر إلى الوجوه المذكورة ، وفي متون الأخبار ، وفي تناقضات القوم ، وفي ملابسات القصة ... ثم وجدنا إمام الشافعية يصرح بهذا الذي انتهينا إليه ... قال ابن حجر :

(صرح الشافعي بأنه صلى الله عليه (وآله) وسلم لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة ، وهي هذه التي صلى فيها قاعدا ، وكان أبو بكر فيها أولا إماما ثم صار مأموما يسمع الناس التكبير) (١٧٧).

ثم إن هذا الذي صرح به الشافعي من أن أبا بكر (صار مأموما يسمع الناس التكبير) مما شق على كثير من القوم التصريح به ، فجعلوا يتبعون أهواءهم في رواية الخبر وحكاية الحال ، فانظر إلى الفرق بين عبارة الشافعي وما جاء مشابها لها في بعض الأخبار ، وعبارة من قال :

(فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو جالس ، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر).

ومن قال :

(فكان أبو بكر يصلي قائما ، وكان رسول الله يصلي قاعدا ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله ، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر).

__________________

(١٧٦) فتح الباري ٢ / ١٢٠.

(١٧٧) فتح الباري ٢ / ١٣٨.

٦٩

ومن قال :

فصلى قاعدا وأبو بكر يصلي بالناس ، والناس خلف أبي بكر).

ومن قال :

(فكان أبو بكر يأتم بالنبي والناس يأتمون بأبي بكر).

ومن قال :

(جاء رسول الله حتى جلس إلى جنب أبي بكر حتى قبض أبو بكر صلاته).

إنهم يقولون هكذا كي يوهموا ثبوت نوع إمامة لأبي بكر!! وتكون حينئذ كلماتهم مضطربة مشوشة بطبيعة الحال!! وبالفعل فقد وقع التوهم ... واختلف الشراح في القضية وتوهم بعضهم فروعا فقهية ، كقولهم بصحة الصلاة بإمامين!! :

فقد عقد البخاري : (باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم) وذكر فيه الحديث عن عائشة الذي فيه : (وكان رسول الله يصلي قاعدا ، ويقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله ، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر) (١٧٨).

وقال العيني بعد الحديث وفيه : (قيل للأعمش : وكان النبي يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه : نعم!).

قال : (استدل به الشعبي على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض وهو مختار الطبري أيضا ، وأشار إليه البخاري ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ.

ورد بأن أبا بكر كان مبلغا ، وعلى هذا فمعنى الاقتداء اقتداؤه بصوته ، والدليل عليه أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم كان جالسا وأبو بكر كان قائما ، فكانت بعض أفعاله تخفى على بعض المأمومين ، فلأجل ذلك كان أبو بكر كالإمام في حقهم) (١٧٩).

أقول : ولذا شرح السيوطي الحديث في الموطأ بقوله :

(أي يتعرفون به ما كان النبي يفعله لضعف صوته عن أن يسمع الناس تكبير

__________________

(١٧٨) صحيح البخاري ـ بشرح العيني ـ ٥ / ٢٥٠.

(١٧٩) عمدة القاري ٥ / ١٩٠.

٧٠

الانتقال ، فكان أبو بكر يسمعهم ذلك) (١٨٠).

ويشهد بذلك الحديث المتقدم عن جابر : (اشتكى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره).

بل لقد عقد البخاري نفسه : (باب من أسمع الناس تكبير الإمام) وأخرج الحديث تحته (١٨١)!!

١٠ ـ لا يجوز لأحد التقدم على النبي :

هذا كله بغض النظر عن أنه لا يجوز لأحد أن يتقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما بالنظر إلى هذه القاعدة المسلمة كتابا وسنة فجميع أحاديث المسألة باطلة ، ولقد نص على تلك القاعدة كبار الفقهاء ، منهم : إمام المالكية وأتباعه ، وعن القاضي عياض إنه مشهور عن مالك وجماعة أصحابه ، قال : وهو أولى الأقاويل (١٨٢) وقال الحلبي بعد حديث تراجع أبي بكر عن مقامه : (وهذا استدل به القاضي عياض على أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه صلى الله عليه (وآله) وسلم ، لأنه لا يصح التقدم بين يديه ، في الصلاة ولا في غيرها ، لا لعذر ولا لغيره ، وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك ، ولا يكون أحد شافعا له ، وقد قال : أئمتكم شفعاؤكم. وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة ، وسيأتي الجواب عن ذلك) (١٨٣).

قلت : يشير بقوله : (وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك) إلى قوله عزوجل : (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (١٨٤) وقد تبع في ذلك إمامه مالك بن أنس

__________________

(١٨٠) تنوير الحوالك ـ شرح موطأ مالك ١ / ١٥٦.

(١٨١) فتح الباري ٢ / ١٦٢.

(١٨٢) نيل الأوطار ٣ / ١٩٥.

(١٨٣) السيرة الحبية ٣ / ٣٦٥

(١٨٤) سورة الحجرات ٤٩ : ١.

٧١

كما في فتح الباري (١٨٥) لكن من الغريب جدا قول ابن العربي المالكي : (قوله تعالى (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) أصل في ترك التعرض لأقوال النبي ، وإيجاب أتباعه والاقتداء به ، ولذلك قال النبي في مرضه : مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة لحفصة : قولي له : إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء ، فمر عليا (١٨٦) فليصل بالناس ، فقال النبي : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس.

يعني بقوله : صواحب يوسف الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز ، (١٨٧)

أقول : إن الرجل يعلم جيدا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتمثل بقوله : (إنكن صواحب يوسف) إلا لوجود فتنة من المرأتين ، فحرف الحديث من (فمر عمر) إلى (فمر عليا) ليتم تشبيه النبي المرأتين بصويحبات يوسف ، لأن المرأتين أرادتا الرد عن الجائز (وهو ـ صلاة أبي بكر) إلى غير الجائز (وهو صلاة علي!)

إذن ، جميع أحاديث المسألة باطلة.

أما التي دلت على صلاة النبي خلف أبي بكر فواضح جدا.

وأما التي دلت على أنه كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الإمام فلاشتمالها على استمرار أبي بكر في الصلاة ، وقد صخ عنه أنه في صلاته بالمسلمين عندما ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم .. لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة (استأخر) ثم قال : (ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله) ...

وهذا نص الحديث عن سهل بن سعد الساعدي :

__________________

(١٨٥) فتح الباري ٣ / ١٣٩.

(١٨٦) فكان الحديث بثلاثة ألفاظ ١ ـ (فمر غيره) ٢ ـ (فمر عمر) ٣ ـ (فر عليا) وهذا من جملة التعارضات الكثيرة الموجودة بين ألفاظ هذه القضية الواحدة!! لكنا نغض النظر عن التعرض ليس خوفا إلا من الإطالة.

(١٨٧) أحكام القرآن ٤ / ١٤٥.

٧٢

«إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ، فحانت الصلاة ، فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال : أتصلي للناس فأقيم؟ قال : نعم. فصلى أبو بكر. فجاء رسول الله والناس في الصلاة ، فتخلص حتى وقف في الصف ، فصفق الناس ، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته.

فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فأشار إليه رسول الله أن أمكث مكانك. فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، وتقدم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فصلى.

فلما انصرف قال : يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله ...).

وقد التفت ابن حجر إلى هذا التعارض فقال بشرح الحديث :

(فصلى أبو بكر. أي : دخل في الصلاة ، ولفظ عبد العزيز المذكور : وتقدم أبو بكر فكبر. وفي رواية المسعودي عن أبي خازم : فاستفتح أبو بكر الصلاة وهي عند الطبراني.

وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين ، حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمر إماما وحيث استمر في مرض موته صلى الله عليه (وآله) وسلم حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في المغازي. فكأنه لما أن مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار ، ولما أن لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر) (١٨٨).

وهذا عجيب من ابن حجر!!

فقد جاء في الأحاديث المتقدمة : (فصلى) كما في هذا الحديث الذي فسره؟ ب (أي : دخل في الصلاة) : فانظر منها الحديث الأول والحديث السابع من الأحاديث المنقولة عن صحيح البخاري.

__________________

(١٨٨) فتح الباري ٢ / ١٣٣.

٧٣

بل جاء في بعضها : «فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفة» فانظر الحديث الثامن من أحاديث البخاري.

لكن بعض الكذابين روى في هذا الحديث أيضا : (فصلى رسول الله خلف أبي) قال الهيثمي : (رواه الطبراني وفي إسناده عبد الله بن جعفر بن نجيح وهو ضعيف جدا) (١٨٩).

فظهر إن لا فرق ... ولا يجوز لأبي بكر ولا لغيره من أفراد الأمة التقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا في الصلاة ولا في غيرها ...

١١ ـ رأي أمير المؤمنين عليه‌السلام في القضية :

وبعد أن لاحظنا متون الأخبار ومداليلها ، ووجدنا التعارض والتكاذب فيما بينها ، بحيث لا طريق صحيح للجمع بينها بعد كون القضية واحدة ... واستخلصنا أن صلاة أبي بكر في مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن بأمر منه قطعا ... فلنرجع إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لنرى راية في أصل القضية فيكون شاهدا على ما استنتجناه ، ولنرى أيضا أن صلاة أبي بكر بأمر من كانت؟؟

لقد حكى ابن أبي الحديد المعتزلي عن شيخه أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني حول ما كان بين أمير المؤمنين وعائشة ، جاء فيه :

(فلما ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه ، أنفذ جيش أسامة وجعل فيه أبا بكر وغيره من أعلام المهاجرين والأنصار ، فكان علي عليه‌السلام حينئذ بوصوله إلى الأمر ـ إن حدث برسول الله حدث ـ أوثق ، وتغلب على ظنه أن المدينة ـ لو مات ـ لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية ، فيأخذه صفوا عفوا ، وتتم له البيعة فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها. فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه وإعلامه بأن رسول الله يموت ما كان ، ومن حديث الصلاة

__________________

(١٨٩) مجمع الزوائد ٥ / ١٨١.

٧٤

بالناس ما عرف.

فنسب علي عليه‌السلام إلى عائشة أنها أمرت بلالا ـ موك أبيها ـ أن يأمره فليصل بالناس ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما روي قال : (ليصل بهم أحدهم) ولم يعين ، وكانت صلاة الصبح ، فخرج رسول الله وهو في آخر رمق يتهادى بين على والفضل بن العباس ، حتى قام في المحراب ـ كما ورد في الخبر ـ ثم دخل ، فمات ارتفاع ، الضحى ، فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه ، وقال : أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله في الصلاة؟! ولم يحملوا خروج رسول الله إلى الصلاة لصرفه عنها ، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن. فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي عليه‌السلام على أنها ابتدأت منها.

وكان علي يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا ويقول : إنه لم يقل صلى الله عليه وآله وسلم إنكن لصويحبات يوسف إلا إنكارا لهذه الحال وغضبا منها ، لأنها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما ، وإنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب ، فلم يجد ذلك ولا أثر ، مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهد له قاعدة الأمر وتقرر حاله في نفوس الناس ومن اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين والأنصار ..

فقلت له رحمة الله : أفتقول أنت : إن عائشة عينت أباها للصلاة ورسول الله لم يعينه؟!

فقال : أما أنا فلا أقول ذلك ، ولكن عليا كان يقوله ، وتكليفي غير تكليفه ، كان حاضرا ولم أكن حاضرا ...) (١٩٠).

نتيجة البحث :

لقد استعرضنا أهم أحاديث القضية وأصحها ، ونظرنا أولا في أسانيدها ، فلم نجد حديثا منها يمكن قبوله والركون إليه في مثل هذه القضية ، فرواة الأحاديث بين

__________________

(١٩٠) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩٦ ـ ١٩٨.

٧٥

(ضعيف) و (مدلس) و (ناصبي) و (عثماني) و (خارجي) ... وكونها في الصحاح لا يجدي ، وتلقي الكل إياها بالقبول لا ينفع ...

ثم نظرنا في متونها ومداليلها بغض النظر عن أسانيدها ، فوجدناها متناقضة متضاربة يكذب بعضها بعضها ... بحيث لا يمكن الجمع بينها بوجه ... بعد أن كانت القضية واحدة ، كما نص عليه الشافعي ومن قال بقوله من أعلام الفقه والحديث ..

ثم رأينا أن الأدلة والشواهد الخارجية القويمة تؤكد عل استحالة أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أمر أبا بكر بالصلاة في مقامه.

وخلاصة الأمر الواقع : أن النبي لما مرض كان أبو بكر غائبا بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان مع أسامة بن زيد في جيشه ، وكان النبي يصلي بالمسلمين بنفسه ، حتى إذا كانت الصلاة الأخيرة حيث غلبه الضعف واشتد به المرض طلب عليا فلم يدع له ، فأمر بأن يصلي بالناس أحدهم ، فلما التفت بأن المصلي بهم أبو بكر خرج معتمدا على أمير المؤمنين ورجل آخر ـ وهو في آخر رمق من حياته ـ لأن يصرفه عن المحراب ويصلي بالمسلمين بنفسه ـ لا أن يقتدي بأبي بكر! ـ ويعلن بأن صلاته لم تكن بأمر منه ، بل من غيره!!.

ثم رأينا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يرى أن الأمر كان من عائشة و (علي مع الحق والحق مع علي) (١٩١).

وصلى الله على رسوله الأمين ، وعلى علي أمير المؤمنين والأئمة المعصومين ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١٩١) كما في الأحاديث الكثيرة المتفق عليها بين المسلمين. أنظر من مصادر أهل السنة المعتبرة : صحيح الترمذي ٣ / ١٦٦ ، المستدرك ٣ / ١٢٤ ، جامع الأصول ٩ / ٤٢٠ ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٣ وغيرها.

٧٦

أهل البيت (ع)

في المكتبة العربية

(١٥)

السيد عبد العزيز الطباطبائي

٥٢١ ـ مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام

للأعمش ، وهو أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي ـ مولاهم ـ الكاهلي الكوفي (٦١ ـ ١٤٨ ه).

قال الآلوسي في مختصر التحفة الاثني عشرية ص ٨ : (وللأعمش ـ وهو أحد مجتهدي أهل السنة ـ سفر كبير في مناقب الأمير كرم الله وجهه).

ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢٦ / ٢٦ ـ ٢٤٨ ووصفه بالإمام ، شيخ الإسلام ، شيخ المقرئين والمحدثين ... أصله من نواحي الري (١) فقيل : ولد بقرية (أمه) من أعمال طبرستان في سنة إحدى وستين ، وقدموا به الكوفة طفلا ، وقيل : حملا ...

وترجم له في تاريخ الإسلام ، في وفيات سنة ١٤٨ ه ، ص ١٦١ ، وحكى عن ابن عيينة أنه قال : (كان الأعمش أقرأهم لكتاب الله ، وأحفظهم للحديث ، وأعلمهم بالفرائض).

وعن الفلاس أنه قال : (كان يسمى (المصحف) من صدقه).

__________________

(١) قال ابن خلكان في ترجمته له : (كان أبوه من دماوند) أقول : وهي بين الري وطبرستان.

وقال الخطيب في ترجمته له : (وكان أبوه من سبي الديلم).

٧٧

وعن يحيى القطان أنه قال : (هو علامة الإسلام).

وعن وكيع أنه قال : (بقي الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى).

وعن الخريبي أنه قال : (ما خلف الأعمش مثله).

وعن العجلي أنه قال : (كان ثقة ثبتا ، كان محدث الكوفة).

قال الذهبي : (وكان مع جلالته في العلم والفضل صاحب ملح ومزاح).

أقول : ترجم له المحدث القمي في الكنى والألقاب ٢ / ٤٥ وقال : (ونقلوا عنه نوادر كثيرة ، بل صنف ابن طولون الشامي كتابا في نوادره سماه (الزهر الأنعش في نوادر الأعمش).

الأعمش وهشام

ذكره الدميري في حياة الحيوان (في كلمة : الشاة) أن هشام بن عبد الملك بعث إلى الأعمش : أن أكتب إلي بمناقب عثمان! ومساوئ علي!!

فأخذ الأعمش القرطاس فأدخله في فم شاة فلاكته ، وقال للرسول : قل له هذا جوابه ...

الأعمش والمنصور

كان الأعمش من صغار التابعين ، أدرك بعض الصحابة وروى عنهم ، وأخذ من كبار التابعين وروى عنهم في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام حديثا كثيرا ، فلا غرو إذا كان له سفر كبير في مناقبه عليه‌السلام.

فقد أخرج ابن المغازلي ـ المشتهر بابن الجلابي ـ في (مناقب أمير المؤمنين عليه السلام) (٢) برقم ١٨٨ ، بإسناده عن عمر بن شبة عن المدائني : وبإسناد ثان عن الحسن

__________________

(٢) يأتي كتابه هذا وترجمته في هذا العدد برقم ٥٢٨ فراجع.

٧٨

ابن عرفة عن أبي معاوية عن الأعمش ، وبإسناد ثالث عن سليمان بن سالم عن الأعمش.

وأخرج أخطب خوارزم في (مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام) (٣) برقم ٢٧٩ ، في الفصل التاسع عشر منه بإسناد آخر عن جرير بن عبد الحميد الضبي عن الأعمش ، قال : (وجه إلي المنصور! فقلت للرسول : لما يريدني أمير المؤمنين؟! قال : لا أعلم ، فقلت : أبلغه أني آتيه ، ـ ثم تفكرت في نفسي فقلت : ما دعاني في هذا الوقت لخير ، ولكن عسى أن يسألني عن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فإن أخبرته قتلني!!

قال : فتطهرت ولبست أكفاني وتحنطت ، ثم كتبت وصيتي ، ثم صرت إليه فوجدت عنده عمرو بن عبيد ، فحمدت الله تعالى على ذلك وقلت : وجدت عنده عون صدق من أهل النصرة ، فقال لي : أدن يا سليمان ، فدنوت.

__________________

(٣) يأتي كتابه وترجمته في هذا العدد برقم ٥٢٩.

وقد أخرجه في كتابه مقتل الحسين عليه‌السلام ١ / ١١١ بهذا الإسناد أيضا مقتصرا على قسم من الحديث مما يخص الحسن والحسين عليهما‌السلام.

وأورده المرزباني في (المقتبس) والحافظ اليغموري في (نور القبس المختصر من المقتبس) ص ٢٥١ موجزا.

وأخرجه الحافظ الطبراني بإسناد آخر ، ورواه عنه الشيخ الصدوق في أماليه ، في المجلس ٦٧ ، فقد رواه فيه عن أربعة من شيوخه بإسناد آخر عن الأعمش ، ثم رواه عن شيخه المكتب بإسناد آخر عنه ، ثم قال : (وأخبرنا سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي (الطبراني) فيما كتب إلينا من أصبهان ...).

ثم رواه الصدوق عن شيخه الطالقاني بإسناد آخر عن الأعمش ، ثم أورد المتن بطوله وأخرجه ابن العديم في (بغية الطلب) في المجلد السادس ، في الورقة ٩ ، من مخطوطة مكتبة طوبقبو في إسلامبول.

وقد رواه ابن عدي ـ المتوفى سنة ٣٦٥ ه ـ ورواه عنه حمزة السهمي صاحب (تاريخ جرجان) وسبب ذلك نقمة الذهبي المسكين وتألمه! فقال في ميزان الاعتدال ١ / ٥١٧ : (لقد نقمت على ابن عدي وتألمت منه! لروايته عنه فيما نقله حمزة السهمي عن ابن عدي ... حدثني الأعمش ، قال : بينا أنا نائم إذ انتبهت بالحرس من جهة المنصور ...).

(قصة الأعمش والمنصور سردها أخطب خوارزم الموفق بن أحمد الخوارزمي في كتاب مناقب علي).

٧٩

فلما قربت منه أقبلت على عمرو بن عبيد أسائله ، وفاح مني ريح الحنوط فقال : يا سليمان ما هذه الرائحة؟! والله لتصدقني وإلا قتلتك! فقلت : يا أمير المؤمنين ، أتاني رسولك في جوف الليل فقلت في نفسي : ما بعث إلي أمير المؤمنين في هذه الساعة إلا ليسألني عن فضائل علي ، فإن أخبرته قتلني! فكتبت وصيتي ولبست كفني وتحنطت.

فاستوى جالسا وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم قال : أتدري يا سليمان ما أسمي؟

قلت : عبد الله الطويل ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.

قال : صدقت ، فأخبرني بالله وبقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كم رويت في علي من فضيلة ، من جميع الفقهاء كم يكون؟

قلت : يسير يا أمير المؤمنين!

قال : على ذاك.

قلت : عشرة آلاف حديث وما زاد.

قال : فقال : يا سليمان ، لأحدثنك في فضائل علي حديثين يأكلان كل حديث رويته عن جميع الفقهاء! فإن حلفت لي أن لا ترويهما لأحد من الشيعة حدثتك بهما!

قلت : لا أحلف ولا أخبر بهما أحدا منهم.

فقال : كنت هاربا من بني مروان ، وكنت أدور البلدان أتقرب إلى الناس بحب علي وفضائله وكانوا يؤونني ويطعمونني ...) (٤).

__________________

(٤) الحديث طويل لا يحتمله المقام ، فمن أراده فليراجع مناقبي ابن المغازلي والخوارزمي المطبوعين غير مرة.

٨٠