تراثنا ـ العدد [ 22 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 22 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

١

الفهرس

كلمة التحرير

*ذكرى الرسول الأعظم وإحياء تراث عترته صلوات الله وسلامه عليه وعليهم

................................................................. هيئة التحرير ٧

*السنّة النبوية الشريفة وموقف الحكّام منها في القرن الهجري الأول تدويناً وكتابةً ونقلاً وتداولاً

.................................................... السيد محمدرضا الحسيني ١١

*من التراث الأدبي المنسي في الأحساء

* حسن العيثان

......................................................... الشيخ جعفر الهلالي ٥٨

٢

*دليل المخطوطات

* فهرس مخطوطات المدرسة الباقرية ـ مشهد المقدّسة (١)

........................................................ الدكتور محمود فاضل ٦٦

*الإمامة : تعريف بمصادر الإمامة في التراث الشيعي (٥)

.......................................................... عبدالجبّار الرفاعي ١٢٨

*من ذخائر التراث

*الاسطنبولية في الواجبات العينيّة ـ للشهيد الثاني

............................ تحقيق : الشيخ أحمد العابدي والشيخ رضا المختاري ١٦٩

*من أنباء التراث............................................................ ٢٠٥

٣
٤

٥
٦

كلمة التحرير

ذكرى الرسول الأعظم (ص)

وإحياء تراث عترته عليهم‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

يقترن هذا العدد .. بذكرى مرور أربعة عشر قرنا (١١ ـ ١٤١١ ه) على وفاة سيد البشرية ، رسول الإسلام ، خاتم المرسلين ، وإمام الموحدين ، سيدنا ومولانا «محمد» رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بعد أن حمل أعباء أعظم رسالة إلهية وأخلدها ، فقضى «ثلاثا وعشرين» سنة في سبيل تثبيت الإسلام ، وتخليد كلمة التوحيد ، صادعا بالوحي المبين : القرآن الكريم ، بكل صلابة ، متحملا في سبيل هداية البشر كل أنواع الأذى ، من قومه العرب المشركين ، ومن اليهود والنصارى أعداء الحق الألداء ومن المنافقين أعداء الحقيقة الجبناء ، ولم يثنه عن أداء واجبه كل المجابهات القاسية ، ولم يصده عن قوله الحق تكتل الأعداء ، واتهاماتهم الواهية فدخل الحروب ، وقاوم الأهواء ، وجابه المشاكل ، بكل صبر وقوة حتى انتصر الإسلام على الشرك كله.

وركز ـ في طول المدة ـ قواعد الإسلام ، بما يحمله هذا الدين العظيم ، في طيات تعاليمه من كرامة ، وعلم ، وروح ، وصبر ، ومقاومة ، وأمجاد ، وحضارة.

وخلف من بعده خليفتين ، أرجع أمته إليهما ، ليخلصاها من الضلال ، وهما : كتاب الله الخالد ، القرآن الكريم ، وعترته الطاهرة ، الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ،

٧

وعبر عنهما بالثقلين وحث الأمة على اتباعهما والاسترشاد بهديهما ، في الحديث المتواتر : «إني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا».

والمسلمون اليوم يملكون تراث نبيهم هذا ، الذي خلفه لهم ، طريقا أمينا للوصول إلى أهداف الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا هو الذي نصبته «تراثنا» أمامها فجعلت في مقدمة أهدافها «إحياء تراث أهل البيت عليهم‌السلام» ، أداء لحق هذا الثقل الذي غفل عن ذكره الغافلون.

وكانت «تراثنا» قد أحيت ذكريات خالدة من قبل ، وشاركت فيها ، بأعداد خاصة ، وبمقالات عديدة ، مساهمة في تعظيم تلك الذكريات اعتقادا منها أن ذلك جزء من التراث الزمني ، الذي لا بد من إحيائه.

و «تراثنا» إذ تقدس هذه الذكرى ، تعاهد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم أن تجند طاقاتها في سبيل الإسلام وتراثه وتدعو الله أن يجزي نبينا العظيم عنا وعن الإسلام خير الجزاء. وأن يؤتيه الوسيلة ، والشفاعة ، والزلفى ، والكرامة والدرجة الرفيعة ، وأن يبلغه المقام المحمود عنده ، وأن يصلي عليه صلاة دائمة متواترة.

وبهذا العدد :

تدخل «تراثنا» عامها السادس ، وقد خلفت وراءها أعواما خمسة ، مثقلة بالجهود ، مزدانة بألوان شيقة من المعرفة التراثية ، قدمتها بكل إخلاص إلى محبي التراث المجيد.

ولو أن التراث بنفسه ، يحتل موقعا استراتيجيا من الحضارة البشرية ، فما قدمته «تراثنا» في قصر المدة لا يمثل إلا جزءا مما وجب أن يعمل.

إلا أن الذي لا يمكن التغاضي عنه. أن ما قامت به «تراثنا» هو «فريد» من نوعه ، في مثل الظروف والأجواء التي مرت بها ، في السنوات الخمس التي مضت.

ولو أخذنا بنظر الاعتبار «الإخلاص» الذي التزمت به «تراثنا» في العمل ، و «الهدوء» و «التواضع» اللذان زانت بهما «نتاجها الخصب» وعدم اللجوء إلى ما يشوب

٨

أهدافها بسوء ، في كل ماضيها ، فإن ما قامت به (تراثنا) لا بد أن يعد «كبيرا ونادرا».

ولم يحصل كل هذا ، إلا بتوفيق من الله العلي القدير ، الذي التزمت «تراثنا» أن يكون العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونصرا لدينه القويم ، ونشرا لذكر تراث أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وجعلهم أئمة يهدون بأمره ، بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولقد كان للعلماء ، والمحققين ، والكتاب ، والأدباء ، ومحبي التراث كافة ، وهواة علم أهل البيت عليهم‌السلام ، أثر بارز مشكور في دعم «تراثنا» المعنوي ، بما أبدوه من كلمات تمجيد ، وثناء ، وتثمين ، ومتابعة حسنة للمواد المنشورة ، وإحاطتها بالحفاوة الكريمة ، وا لرعاية الفائقة ، وخاصة : المؤسسات العلمية ، والجهات الثقافية ، والجامعية ، في كل أقطار العالم.

ولا غرو فإنما يعرف ذا الفضل من العمل ذووه.

وكل هذا مما يزيد في عزم «تراثنا» قوة ، على المضي قدما ، بخطى ثابتة ، وجد ، وتصميم ، من دون كلل ، بعون الله.

فالتراث ، بلا ريب ، جزء عظيم من حضارتنا ، وهو المتمثل فيه ثقافتنا ، وفكرنا ، وجهود علمائنا ، وأمجادهم العلمية ، وآثار أسلافنا العلمية.

و «تراثنا» تعتبر نفسها منبرا حرا ، معبرا عن تلك الحضارة على عظمتها ، وعن تلك الثقافة على سعتها ، وعن ذلك الفكر مدى خلوده.

وتريد «تراثنا» أن تبرز ـ بأسلوبها ـ كل تلك الأمجاد ، وتسهل عرضها على العالم ، وتيسر تعريفها لكل المؤسسات الثقافية ، ليكون طريقا إلى إحياء كل تلك الآثار.

وهذا الهدف ، في نفسه ، كبير ، و «تراثنا» سعت في الماضي ، وستسعى في المستقبل ، للوصول إليه.

إلا أن ضخامة الهدف ، وسعة أطرافه تستدعي جهودا أوفر ، وعملا أوسع ، ومتابعة أكبر!

٩

ولذلك ، فإن «تراثنا» تستنهض همم كل المخلصين الأمناء ممن ينتمي إلى هذه الحضارة الإلهية ، وجميع محبي التراث الإسلامي العظيم ، وجميع هواة أهل البيت عليهم السلام وتراثهم.

تدعوهم أن يشتركوا في العمل الجاد ، وأن يشكلوا رابطة جامعة لإحياء التراث ، الذي هو بحاجة إلى أكثر من يد تعمل من أجله.

و «تراثنا» ترحب بكل جهد يتناسب مع هذا الهدف السامي المقدس ، وتستقبل كل ما يؤدي إلى رفع مستوى التراث ، إلى الأجود ، والأقوم ، والأفضل.

والله في عون كل مخلص أمين.

وفقنا الله للسير على نهج رسول الله الأقوم ، ورزقنا رضاه ، وبره ، وإحسانه ، وشفاعته يوم نلقاه.

بمنه وكرمه إنه ذو الجلال والاكرام.

هيئة التحرير

* * *

١٠

السنة النبوية الشريفة

وموقف الحكام منها في القرن الأول الهجري

تدوينا وكتابة ونقلا وتداولا

السيد محمد رضا الحسيني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، الذي شرع الدين قيما ، وبعث محمدا بالإسلام بشيرا ونذيرا ، وجعله علينا حكما ، وأمرنا بإطاعته وأوجب التأسي بسنته ، واعتبرها من الدين ، على حد الوحي المبين ، ونصب لنا الأئمة من آله الأطهار أعلاما معصومين طاهرين مطهرين ، هداة مهديين ، ووفقنا لاتباعهم والاقتداء بهم ، والتمسك بأذيال ولايتهم ، وبأنوار معارفهم ، صلوات الله عليهم ، ورزقنا في الآخرة شفاعتهم آمين رب العالمين.

وبعد ، فالسنة المحمدية الشريفة هي ثاني أعمدة الإسلام وقواعده المحكمة ، لا يشك في هذا مسلم ، ولم يختلف فيه جمهور العلماء منذ عصر الرسالة الأنور ، وحتى يومنا هذا ، لما دل على ذلك من الآيات القرآنية الكريمة ، والأحاديث القولية والفعلية ، القطعية المتفق على صحتها وقبولها ، والسيرة القائمة ، قبل إجماع علماء المسلمين.

وقد شذ عن هذا بعض من سولت له نفسه الخروج عن جامعة الإسلام ، وعن جماعة المسلمين ، فخرق الاتفاق المزبور وشذ عن الإجماع المذكور فشكك في حجية السنة النبوية واعتبارها.

إلا أن أعلام العلماء تصدوا لهم بالردود الحاسمة ، وتتبعوا عللهم الباطلة بإظهار

١١

فسادها ، فلم تعد لهم قائمة تذكر ، والحمد لله.

لكن اجتثاث جذور فتنتهم ، وقطع شأفة فسادهم ، يقتضي البحث عن أساس تشكيكاتهم وتسويلاتهم ، وأصل التعدي على هذا العماد العظيم من أعمدة الإسلام ، ليمكننا القضاء عليه من أسسه ، وهدم مبانيه على رؤوس مؤسسيه.

وقد أحفينا البحث والتنقيب ، في مجريات التاريخ الإسلامي في القرن الأول ، وفي فترة عهد الخلفاء ، لاقتناص تلك الأسباب والعلل ، فكانت النتيجة مذهلة ، إذ وجدنا أن السنة النبوية ـ والحديث الشريف بالخصوص ـ قد تعرضت لإجراءات عدائية غريبة ، في فترة عهد الخلفاء ، بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة.

بل ، قد بدأت المعارضة للحديث الشريف ، المتمثل في كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما يفارق هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الدنيا ، ولم يلفظ بعد أنفاسه الأخيرة ، حين طلب من أمته دواة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا ، لا يضلوا بعده أبدا.

فلم يلبوا طلبه ، بل واجهوه بأصعب من المخالفة ، حيث قال عمر : قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله (١).

فكانت هذه أول عملية منع لكتابة حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما كان هو الطالب لكتابته ، وقد هم بها بنفسه.

وهي أول عملية صد فيها عن الحديث ، بدعوى الاكتفاء بكتاب الله إ.

ولقد استعمل أولئك أسلوبين لمواجهة الحديث الشريف ، وكل منهما يكمل الآخر ويدعمه ، في الوصول إلى هدفهم :

أحدهما : منع تدوين الحديث وكتابته.

__________________

(١) رواه البخاري في مواضع من صحيحه ، من رواية عبد الله بن عباس ، منها باب مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ٦ / ١١.

وانظر : المصنف لعبد الرزاق ٥ / ٤٣٨ ، ومسند أحمد ١ / ٣٣٦ ، ودلائل النبوة ـ للبيهقي ـ ٧ / ١٨١ ، والملل والنحل ـ للشهرستاني ١ / ٢١.

١٢

وثانيهما : منع نقل الحديث وتداوله على الألسن.

أما الأسلوب الأول :

فقد كثر الكلام حوله ، قديما وحديثا ، فإن القدامى أولوه عناية كبيرة ، فألفوا فيه مؤلفات مستقلة ، مثل كتاب «تقييد العلم» للخطيب البغدادي ، وأما علماء الدراية ، ومصطلح الحديث ، فقد خصصوا له في كتبهم مقاطع مفصلة وبحثوا فيه بشكل مستوعب.

وأما في العصر الأخير ، فقد توسعت الكتابة حوله في المؤلفات المستقلة أو المقالات المفصلة ، وفي مقدمات الكتب ، كما استطرق إليه كل من كبت عن الحديث وعلومه وتاريخه ، من علماء الشيعة وأهل السنة.

وقد وفقني الله ربي ـ فيما وفقني له من أعمال ـ أني قمت بتأليف متواضع في تدوين الحديث ، فخرج محتويا على أدلة كل المانعين له ، والمبيحين بشكل مستوعب ، معتمدا كل مصادر البحث من طارف أو تليد.

وبالرغم من وجود بحوث متفرقة ضمن المؤلفات التي كتبها علماؤنا الأبرار إلا أني لم أقف قبل كتابي هذا ، على تأليف مستقل في هذا الموضوع ، والحمد لله على توفيقه ونسأله العون على إخراجه.

وقد وقفنا في ذلك الكتاب على كل ما اتخذوه من إجراءات قاسية ضد تدوين الحديث ، إلى حد الاحراق ، والإماثة في الماء ، والغسل ، والدفن ، وشتى طرق الإبادة الأخرى.

وقد استند المانعون أنفسهم في تصرفاتهم تلك إلى أعذار أقبح من الأفعال تلك ، مثل أنهم فرضوا أن الاشتغال بالسنة وكتابتها يؤدي إلى إهمال القرآن.

فأوضحنا في ذلك الكتاب أن هذه المقابلة بين السنة من جانب ، والقرآن من جانب آخر ، أمر باطل أساسا ، إذ لا منافاة بينهما ، بل السنة شارحة للقرآن ، ومبينة لأغراضه.

١٣

وانبرى حماة أولئك المانعين عن التدوين بتقديم أعذار أخرى أوهى من هذه.

وقد أوضحنا أيضا في ذلك الكتاب ضعف كل تلك التوجيهات وبطلانها.

وأما الأسلوب الثاني : فهو منع نقل الحديث وتداوله :

فإن المعارضين للسنة الشريفة ، وقفوا من نقل الحديث شفهيا موقفا مماثلا لموقفهم من تدوين الحديث ، إن لم يكن أشد! فمنعوا الصحابة الكرام من التحديث بما سمعوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم ونشره ، ونقله ، وتداوله.

واستعملوا لذلك أساليب قاسية ضد من لم ينته بنواهيهم ، مثل الحبس والجلب ، والتوقيف ، والتبعيد ، والتهديد بالضرب!.

وقد اعتل المانعون في هذه التصرفات أيضا ، بمثل تلك الأعذار التي منعوا بها تدوين الحديث ، مما يدل على أن عملية معارضة الحديث ومنعه تدوينا ونقلا ، كانت مبرمجة ، وتتعقب هدفا موحدا ، نصبه المانعون أمام أعينهم.

والواقع أن البرنامج الذي قرر لمعارضة الحديث ، وإسقاطه عن الاعتبار كان قويا ومدروسا ، حيث أن الجمع بين الأسلوبين : منع التدوين من جهة ، ومنع النقل من جهة أخرى ، لا يدع منفذا للحديث يتسرب منه إلى الخارج إ. فإذا كان نص ، ممنوعا أن يكتب ويثبت في الصحف ، وممنوعا أن ينقل ويتحدث به ، أو يتداول على الألسنة والشفاه ، فكم يرجي أن يبقى ويستمر في الذاكرة؟! ولا يموت بموت حامله وحافظه على الخاطر؟!

وهل يتصور عداء أصرح من هذا تجاه الحديث والسنة الشريفة؟!

وهل لأعدى أعداء السنة ، أن يعمل أكثر من هذا إذا أراد القضاء عليها ، وعلى نصوصها؟؟!.

والعجب من سكوت من يتسمون بأهل السنة عن كل هذا الاعتداء على السنة ، بل محاولة بعضهم الدفاع عن كل هذه التصرفات ، بأعذار أوهى من بيت

١٤

العنكبوت!.

والكلام عن منعهم للتدوين وإن كان كثيرا ـ في الكتب والمقالات والبحوث ـ إلا أن البحث عن منعهم لنقل الحديث ليس بتلك المثابة.

ولذلك رأينا أن نذكر هذا البحث ، ونفصل الكلام فيه ، مستعرضين ما ورد في ذلك من آثار وأخبار ومتتبعين أساليبهم التي قاموا بها لتنفيذه من الحبس ، والتبعيد ، والتهديد بالضرب ، وغير ذلك.

ثم تصدينا للتوجيهات الذي ذكروها لتلك التصرفات ، ومناقشتها ليكون مكملا لما في كتاب التدوين ، وبالله التوفيق ، وهو المعين.

وكتب

السيد محمد رضا الحسيني

الجلالي

١٥

أبو بكر يمنع رواية الحديث :

روى الذهبي في ترجمة أبي بكر ، قال :

أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبتهم ، فقال : إنكم تحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم؟ فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (٢).

ولنا في ما يرتبط بهذا الخبر بحثان.

الأول : في مدلول كلام أبي بكر ومغزاه :

١ ـ إن قوله : «لا تحدثوا عن رسول الله شيئا».

يدل على أنه إنما نهى عن عموم الأحاديث ، حيث جاء بكلمة «شيئا» في سياق النهي ، وهي نكرة ، فتفيد العموم ، كما ثبت في أصول الفقه.

٢ ـ قوله : «بيننا وبينكم كتاب الله»

وهذه الجملة خطيرة للغاية ، إذ فيها الدعوة ـ علنا ـ إلى الاكتفاء بكتاب الله في مقابل الحديث عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، وهي الدعوة التي حذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها في أحاديث «الأريكة» حيث قال : «يوشك الرجل متكئا على أريكته ، يحدث بحديث من حديثي ، فيقول : «بيننا وبينكم كتاب الله ...» (٣).

وقد أبدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استياءه من قائل ذلك ، بعبارات شتى ، مثل قوله. «لا أعرفن ...» و «لا ألفين ...» كما رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(٢) تذكرة الحفاظ ١ / ٣.

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٦ باب ٣ ح ١٢.

١٦

بقوله : «ألا ما حرم رسول الله ، كما حرم الله» (٤) على من فصل بين الكتاب والسنة.

البحث الثاني : مع الذهبي في دفاعه عن أبي بكر :

إن الذهبي ـ بعد أن نقل هذا الحديث ، عن أبي بكر ـ قال : «إن مراد الصديق التثبت في الأخبار ، والتحري ، لا سد باب الرواية ... ولم يقل (حسبنا كتاب الله) كما تقو ل الخوارج (٥).

أقول : يرد على الذهبي أمور :

١ ـ قوله : مراد الصديق التثبت ... لا سد باب الرواية.

ففيه : إن من يريد سد باب الرواية عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم ، ومنع نقل الحديث عنه مطلقا ، هل يجد كلاما أوضح دلالة ـ على عموم المنع ـ من قول : «لا تحدثوا عن رسول الله شيئا»؟!

ولو لم يرد المتكلم بهذا الكلام سد باب الرواية ، بل كان يريد التثبت والتحري  ـ كما فرضه الذهبي ـ لما جاز له أن يأتي بما يدل على عموم المنع والنهي عن الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كان عليه أن يقول ـ مثلا ـ : لا تحدثوا بكل ما تسمعون أو تروون. أو يقول : لا تحدثوا بما لا تتثبتون ... وما أشبه ذلك ، أو يأمرهم بالاحتياط ، ويحذرهم عن الخطأ والاشتباه.

كما أن قوله : «بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله ، وحرموا حرامه» قرينة واضحة على أن مراده نبذ السنة مطلقا وراء الظهور ، والاكتفاء بكتاب الله وما فيه من حلال وحرام ، تلك الدعوة التي نادى بها أهل الفصل بين الكتاب والسنة والاكتفاء بالكتاب والاستغناء عن السنة.

٢ ـ قول الذهبي : ولم يقل ـ يعني أبا بكر ـ حسبنا كتاب الله.

__________________

(٤) أوردنا نصوص الأحاديث عن مصادرها في كتابنا «التدوين».

(٥) تذكرة الحفاظ ١ / ٣ ـ ٤.

١٧

هل يتصور الذهبي أن منع الحديث والرواية مطلقا يتوقف على قول «حسبنا كتاب الله» فقط؟! أليس كل ما يؤدي مؤدى هذه الجملة فقائله ممن يمنع الحديث والرواية؟! ومؤدى جملة «حسبنا كتاب الله» هو الاكتفاء بالقرآن ، في مقابل الحديث وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقول أبي بكر : «بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه» يؤدي نفس هذا المعنى ويدل على الاكتفاء بالقرآن وما فيه من حلال وحرام ، وبما أنه ذكر هذه الجملة في مقابل الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يدل على الاستغناء عن الحديث ، وهذا واضح لا غبار عليه.

والعجيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد الإنكار على الفصل بين حديثه وبين الكتاب في حديث «الأريكة» حذر عن قول «بيننا وبينكم كتاب الله ...» بالذات.

فأي فرق يراه الذهبي بين جملة : «حسبنا كتاب الله» التي ذكرها وجملة : «بيننا وبينكم كتاب الله» التي ذكرها أبو بكر؟!

٣ ـ قول الذهبي : «حسبنا كتاب الله» كما تقول الخوارج.

إنا لم نعهد ذكر الخوارج لجملة : «حسبنا كتاب الله» وإنما شعارهم «لا حكم إلا لله» وأما جملة «حسبنا كتاب الله» فهي معروفة من كلام عمر ، قالها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد جابهه بها وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فراش الموت.

وأهم ما يجب التنبيه عليه في هذا المجال :

أن النصوص النبوية الدالة على وجوب رواية الحديث ، ونقله ، وتبليغه ، ونشره وحمله ، وأدائه إلى الآخرين ، كي ينتفعوا به ، متضافرة ، لا مجال للتشكيك في صدورها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي تجوز حد التواتر المعنوي ، وبعض ألفاظها مستفيض قطعا ، إليك نصوصها ، ومصادرها :

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ، وأداها ،

١٨

فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه» (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث ـ «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم» (٧).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : «مثل الذي يتعلم علما ثم لا يحدث به ، مثل رجل رزقه الله مالا فكنره ، فلم ينفق منه» (٨).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» (٩).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من رغب عن سنتي فليس مني» (١٠).

ولا أظن مسلما يتردد في أن حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بد أن ينشر ويبلغ وينقل بل ، إن ذلك من بديهيات الإسلام.

فأين كان أبو بكر ـ في صحبته الطويلة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من هذه الحقيقة القطعية ، حتى يقف بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بفترة غير طويلة ـ ويمنع من نقل الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بقوله : لا تحدثوا عن رسول الله شيئا!.

__________________

(٦) رواه أحمد في مسنده ١ / ٤٣٧ و ٤ / ٨٠ و ٥ / ١٨٣ ، وفي طبعة شاكر ٦ / ٩٦ الحديث رقم ٤١٥٧.

وبألفاظ أخرى في ٤ / ٨٢ و ٣ / ٣٢٥.

وانظر سنن ابن ماجة ١ / ٤ ـ ٨٥ ، ومستدرك الحاكم ١ / ٨٧ و ٨٨ ، وجامع بيان العلم ١ / ٣٩ ، وكنز العمال ٥ / ٢٢١. فتح الباري ـ لابن حجر ـ ١ / ١٩٤ ، ومسند أحمد ١ / ٢٢٨.

(٨) الجامع لأخلاق الراوي والسامع.

(٩) مسند أحمد ٢ / ٢٦٣ و ٣٠٥ و ٤٩٥ و ٣٥٣ و ٢٩٦. وطبعة شاكر ١٤ / ٥ ح ٧٥٦١ و ١٥ / ٨٦ ح ٧٩٣٠. والمستدرك ـ للحاكم ـ ١ / ١٠١.

(١٠) ا لفقيه والمتفقه ـ للخطيب ـ ١ / ١٤٤.

١٩

عمر يمنع الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إن عمر كان أول من أعلن المنع عن تدوين الحديث ، بعد أن أراد كتابته ، وشاور الصحابة في ذلك ، وأشار عليه عامتهم بأن يكتب ، لكنه عزم على المنع.

وقد استعمل لتنفيذ ذلك أساليب عديدة منها الاحراق للكتب ، ومنها التهديد ، ومنها تعميم المنع رسميا على الأمة ، وقد فصلنا عن كل ذلك في كتاب التدوين.

وقد وقف عمر من رواية الحديث ونقله موقفه الشديد من تدوين الحديث ، فرويت أخبار في منعه نستعرضها فيما يلي :

١ ـ فمنع وفد الصحابة الذين أرسلهم إلى الكوفة ، عن الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال قرظة بن كعب : بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة ، وشيعنا إلى موضع قرب المدينة ، يقال له : «صرار» وقال : أتدرون لم شيعتكم ، أو مشيت معكم؟.

قال : قلنا : نعم ، لحق صحبة رسول الله ، أو : نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولحق الأنصار قال عمر : لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به ، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم ، إنكم تقدمون على قوم ـ أو تأتون قوما ـ تهتز ألسنتهم بالقرآن اهتزاز النخل ـ أو : للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل أو : لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ـ فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم ، وقالوا : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم ـ أو : فيأتونكم ، فليسألونكم عن الحديث ـ ...

فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا شريككم. ـ أو فلا تصدوهم بالحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (١١).

__________________

(١١) رواه أصحاب الكتب ، وقد جمعنا بين ألفاظهم المختلفة بقولنا : «أو : كذا».

٢٠