كتاب الكنّاش في فنّي النّحو والصّرف - ج ١

عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن الأفضل علي الأيّوبي [ صاحب الحماة ]

كتاب الكنّاش في فنّي النّحو والصّرف - ج ١

المؤلف:

عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن الأفضل علي الأيّوبي [ صاحب الحماة ]


المحقق: الدكتور رياض بن حسن الخوّام
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-369-1
ISBN الدورة:
9953-34-369-1

الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسّلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد :

فقد نهجت دراسة الظواهر النحوية والصرفية منهجين متكاملين يردف كل واحد منهما الآخر :

الأول : دراسة الظاهرة وفق الأسس التي قدمها النحويون في كتبهم مع الاتصال بالدرس النحوي والصرفي في صورته الحديثة ، وهذا المنهج يتمثل في قتل القديم بحثا واتخاذ الدرس الحديث آلة من آلات فهم القديم ودراسته.

الثاني : تحقيق المخطوطات العربية ودراستها وإخراجها إلى النور لكونها المادة الأساسية لأصحاب المنهج الأول ورأيت أن أجمع بين المنهجين ، فآثرت (١) أن أتناول في تجربتي الثانية تحقيق إحدى المخطوطات ودراستها ، وبذلك أشارك أيضا في الجهود المبذولة لتحقيق جميع المخطوطات العربية ونشرها.

وقد فضلت هذه المخطوطة على غيرها لأربعة أسباب :

١ ـ أن أبا الفداء ذو شهرة علمية عالمية واضحة ، قد نالها من نشر كتابيه : «المختصر في أخبار البشر» و «تقويم البلدان» ، فقد حاز هذان الكتابان على مكانة سامية لدى الباحثين العرب وغير العرب ، فطبعا مرارا ، وترجما إلى عدة لغات.

٢ ـ أن الباحثين المحدثين لم يعرفوا أبا الفداء نحويا ، فلعل تحقيق «كنّاشه» ونشره يفيد أنه لا يقل تمكّنا في النحو والصرف من تمكّنه في علمي التأريخ

__________________

(١) تناولت هذه الدراسة في رسالتي التي نلت بها درجة الماجستير وكان موضوعها المقصور والممدود في اللغة العربية.

٥

والجغرافيا ، وبذلك نكشف عن جانب آخر من جوانب ثقافته المتنوعة ، مما يساعد على جلاء شخصيته وبيان ملامحها بدقة.

٣ ـ أن هذه المخطوطة تمثّل واحدا من كتب الكنّاش التي ما رأيت أحدا قد تناول تحقيق واحد منها ، ولعلّنا بتحقيقها ندفع الباحثين إلى الالتفات إلى تحقيق كتب الكنّاش المتفرقة في مكتبات العالم ، وفي ذلك كثير من الفوائد المرجوة لدراستنا اللغوية والنحوية والصرفية.

٤ ـ أن هذه المخطوطة شرح لأجزاء مختارة من مفصل الزمخشري ، وأجزاء من كافية ابن الحاجب وشافيته ، وهذه الكتب الثلاثة ذات قيمة معروفة بين المشتغلين بعلوم العربية ، وقد أتى أبو الفداء من شرح هذه الأجزاء على جميع الأبواب النحوية والصرفية والإملائية.

٥ ـ أنها مخطوطة نادرة وحيدة ، فمن الواجب العلمي تحقيقها ونشرها خوفا عليها من عوادي الزمن.

من أجل ذلك كله ، عزمت على تحقيق هذه المخطوطة ، وجعلت عملي بابين :

الباب الأول : الدراسة.

الباب الثاني : النص المحقّق.

وقسمت الباب الأول قسمين ، جعلت القسم الأول في ستة فصول :

الأول : اسمه وأسرته وإمارته على مدينة حماة.

الثاني : حياته العلمية وتكوينه الثقافي.

الثالث : مصنّفاته وشعره.

الرابع : منهج أبي الفداء في الكناش.

الخامس : شواهده ومصادره.

السادس : مذهب أبي الفداء النحوي ، وموقفه من النحاة.

وولي ذلك القسم الثاني الذي أتى في خمسة فصول :

الأول : التعريف بعنوان الكتاب «الكناش».

٦

الثاني : توثيق نسبة الكتاب إلى أبي الفداء.

الثالث : وصف المخطوطة.

الرابع : منهج التحقيق.

الخامس : طبعة قطر والنخبة المتميّزة من السّرّاق.

ثم جاء الباب الثاني للنص المحقّق «كتاب الكنّاش» ، وخدمته بصنع فهارس للآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية الشريفة ، والأشعار ، والأرجاز ، والأمثال والأقوال ، والألفاظ اللغوية ، والأعلام ، والقبائل ، والبلدان ، والكتب والمصادر ، والموضوعات.

وبعد : فقد جهدت في أن أخرج هذا الكناش على أحسن صورة أحسبها ترضي مؤلفه ـ رحمه‌الله ـ وفي أجمل حلّة أردتها له ، فلعلي قد وفّقت ، وإلا فحسبي أني حاولت ، وقد قالوا : العجز عن درك الإدراك إدراك.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا بالقول الثابت ، وأن يرزقنا الصواب ، ويلهمنا الحكمة ، وأن يجعل هذا العمل نافعا خالصا لوجهه الكريم ، وله الحمد والمنّة أولا وآخرا.

٦ / ١١ / ١٤١٧ ه‍

رياض بن حسن الخوّام

مكة المكرمة

٧
٨

الباب الأول

الدراسة

٩

القسم الأول

الفصل الأول : اسمه وأسرته وإمارته على مدينة حماة

الفصل الثاني : حياته العلمية وتكوينه الثقافي

الفصل الثالث : مصنفاته وشعره

الفصل الرابع : منهج أبي الفداء في الكناش

الفصل الخامس : شواهده ومصادره

الفصل السادس : مذهب أبي الفداء النحوي وموقفه من النحاة

١٠

الفصل الأول

اسمه وأسرته وإمارته على مدينة حماة

هو الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي بن السلطان الملك المظفر تقي الدين أبي الفتح محمود بن السلطان الملك المنصور ناصر الدين أبي المعالي محمد بن السلطان الملك المظفر تقي الدين أبي الخطاب عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي (١).

وواضح من هذا النسب الرفيع أن أبا الفداء ينتمي إلى الأسرة الأيوبية التي حكمت الشام ومصر وتاريخها أشهر من أن يعرّف. وتجمع المصادر التي ترجمت له على أن مولده كان في دمشق في شهر جمادي الأولى سنة ٦٧٢ ه‍ لأن أهله كانوا قد غادروا حماة إلى دمشق خوفا من التتار (٢).

وأشار أبو الفداء في كتابه المختصر إلى بعض الأخبار التي تلقي الضوء على

__________________

(١) انظر المختصر في أخبار البشر ، لأبي الفداء ، ١ / ٢ وتتمة المختصر ، لابن الوردي ، ٤ / ١٠٨ ، والوافي بالوفيات ، للصفدي ، ٩ / ١٧٣ وفوات الوفيات ، للكتبي ، ١ / ٢٨ وطبقات الشافعية ، للسبكي ، ٦ / ٨٤ وطبقات الشافعية ، للإسنوي ، ١ / ٤٥٥ والبداية والنهاية ، لابن كثير ، ١٤ / ١٥٨ والدرر الكامنة لابن حجر ، ١ / ٣٧١ والمنهل الصافي لابن تغري بردي ، مخطوط ، ١ / ٢٠٨ ظ وكتاب السلوك ، للمقريزي ، ٢ / ٣٥٤ وتاريخ الخلفاء ، للسيوطي ، ٤٨٨ وشذرات الذهب ، لابن العماد ، ٦ / ٩٨ وكشف الظنون ، لحاجي خليفة ١ / ٤٦٨ ـ ٢ / ٣٧٤ ـ ١٦٢٩ وإيضاح المكنون ، للبغدادي ، ٢ / ٣٨٢ والبدر الطالع ، للشوكاني ، ١ / ١٥١ والأعلام ، للزركلي ، ١ / ٣١٧ ودائرة المعارف الإسلامية ، ١ / ٣٨٦ ومعجم الأطباء لأحمد عيسى ، ١٤٢ ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ، ١ / ٢٨٢. وكتاب «المؤرخ الجغرافي أبو الفداء صاحب حماة في ذكرى مرور سبعمائة عام على ولادته ١٢٧٣ ه‍ ـ ١٣٣١ م ، مشتمل على عدد من البحوث العلمية الخاصة بأبي الفداء وعلومه ، وسيأتي ذكرها في مواضعها.

(٢) تتمة المختصر لابن الوردي ، ٤ / ١٠٨ وشذرات الذهب لابن العماد ، ٦ / ٩٨.

١١

أحوال أسرته فذكر أن أباه الملك الأفضل علي بن الملك المظفر محمود بقي يشارك أخاه صاحب حماة الملك المنصور أحمد في معاركه وفتوحاته ضد الصليبيين (١) حتى توفي بدمشق سنة ٦٩٢ ه‍ (٢) وأنّ والدته كانت على قدم كبير من العبادة والتقوى وتوفيت سنة ٧٢٨ ه‍ (٣) وأنّ له أخوين هما أسد الدين عمر ، وبدر الدين حسن الذي توفي سنة ٧٢٦ ه‍ (٤) وأنّ أبا الفداء رزق ولدا أسماه محمدا سنة ٧١٢ ه‍ (٥) وذكر ابن الوردي أنّ محمدا استلم الملك بعد وفاة أبيه وعمره عشرون عاما وأنّه توفي سنة ٧٤٢ ه‍ (٦).

والعجيب حقا أنّ كتب التراجم لم تحدثنا الكثير عن طفولة أبي الفداء ونشأته الأولى ـ مع كونه سليل ملوك وملكا بعد ذلك ـ سوى نصّها على أنه كان أميرا بدمشق من جملة أمرائها (٧) في حين ذكر أبو الفداء أيضا ما يدلنا على أنه بدأ حياته العسكرية مبكرا ؛ فقد شارك عمّه وأباه في معاركهما ضد الصليبيين وفتح معهما قلعة المرقب وكان عمره اثنتي عشرة سنة (٨).

وتجمع المصادر ـ مبيّنة كيف تولّى السلطنة على حماة ـ على أن أبا الفداء «خدم الملك الناصر ـ محمد بن قلاوون ـ لمّا كان بالكرك وبالغ في ذلك فوعده بحماة

__________________

(١) المختصر ، ٤ / ٢٢ ـ ٢٤ ـ ٢٥ ـ ٢٨.

(٢) المرجع السابق ، ٤ / ٣٠.

(٣) المرجع السابق ، ٤ / ١٠١.

(٤) المرجع السابق ، ٤ / ٩٨.

(٥) المرجع السابق ، ٤ / ٧٣.

(٦) تتمة المختصر لابن الوردي ، ٢ / ٢٩٧ (المطبعة الوهبية) وانظر التذييل المطبوع مع كتاب المختصر المنقول من تاريخ ابن الوردي المذكور ، ٤ / ١٠٨ ـ ١٤٠.

(٧) الوافي بالوفيات ، ٩ / ١٧٣ وطبقات الشافعية للسبكي ، ٦ / ٨٤.

(٨) المختصر ، ٤ / ٢٢ ودائرة المعارف الإسلامية ، ١ / ٣٨٦ ولمعرفة معاركه التي خاضها منذ كان صغيرا حتى وفاته انظر المختصر ، ٤ / ٢٢ ـ ٢٥ ـ ٢٨ ـ ٣٦ ـ ٤٨ ـ ٤٩ ـ ٥٠ وانظر أبو الفداء وتاريخه للدكتور عبد العزيز الدوري ٢٢٦ ومذكرات أبي الفداء للدكتور نقولا زيادة ١٥٢ وأبو الفداء ملكا وعالما للأستاذ قدري الكيلاني وكامل شحادة ، ٢٥١ وأبو الفداء والبيئة للدكتور سهيل زكار ، ٤٨ ـ ٥١ بحوث ضمن كتاب (المؤرخ الجغرافي أبو الفداء صاحب حماة ، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية سوريا).

١٢

ووفّى له بذلك وأعطاه حماة بعد أن أمّر أسندمر ـ الذي كان أميرا عليها ـ على حلب بعد موت نائبها قبجق ـ وجعله صاحبها ، سلطانا يفعل فيها ما يختار من إقطاع وغيره ليس لأحد من الدولة بمصر من نائب ووزير معه فيها حكم ، اللهم إلّا إن جرّد عسكر من مصر والشام جرّد منها ؛ وأركبه في القاهرة سنة ٧٢٠ ه‍ بشعار الملك وأبّهة السلطنة ، ومشى الأمراء والناس في خدمته حتى الأمير سيف الدين أرغون ، ولقبه الملك الصالح ، ثم بعد قليل لقبه الملك المؤيّد (١) وعاد أبو الفداء إلى حماه بعد أن جهّزه السلطان بسائر ما يحتاج إليه (٢).

وقد صوّرت لنا المصادر أيضا تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية التي نالها أبو الفداء لدى الملك الناصر ، فقد تقدّم الملك الناصر إلى نوابه : «بأن يكتب إليه ـ يقبّل الأرض وهذا لفظ يختصّ ـ كما يقول الشوكاني ، بالسلطان الأعظم (٣) ـ وكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه‌الله يكتب إليه : يقبّل الأرض بالمقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيّدي العمادي ، وفي العنوان صاحب حماة ، ويكتب السلطان إليه (أخوه محمد بن قلاوون) أعزّ الله أيضا المقام الشريف العالي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي بلا مولوي : (٤) وكان تاريخ التقليد في الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ٧١٠ ه‍ (٥).

وقد قابل أبو الفداء هذا الإكرام والتعظيم بالوفاء والولاء ، فكان يتوجه «إلى مصر في كلّ سنة بأنواع من الخيل والرقيق والجواهر وسائر الأصناف الغريبة» (٦).

وبقي أبو الفداء ملكا على حماة حتى توفي فجأة في الثالث والعشرين من

__________________

(١) الوافي بالوفيات ، ٩ / ١٧٣ والدرر الكامنة ، ١ / ٣٧١ والمنهل الصافي ، ١ / ٢٠٩ ظ والبدر الطالع ، ١ / ١٥١ ـ ١٥٢.

(٢) النجوم الزاهرة لابن تغري بردي ، ٩ / ٢٩٢.

(٣) البدر الطالع ، ١ / ١٥٢.

(٤) الوافي بالوفيات ، ٩ / ١٧٣ ـ ١٧٤ والدرر الكامنة ، ١ / ٣٧٣ والنجوم الزاهرة ، ٩ / ٣٣ وكتاب السلوك ، ٢ / ٣٥٤.

(٥) المختصر ، ٤ / ٦٣.

(٦) الوافي بالوفيات ، ٩ / ١٧٤ والدرر الكامنة ، ١ / ٣٧٢.

١٣

المحرّم سنة ٧٣٢ ه‍ (١) عن ستين سنة إلا ثلاثة أشهر وأياما.

ودفن ضحوة عند والديه بظاهر حماة (٢) وقد رثاه جمال الدين محمد بن نباتة بقصيدة أولها : (٣)

ما للندى لا يلبّي صوت داعيه

أظنّ أنّ ابن شاد قام ناعيه

ما للرجاء قد استدّت مذاهبه

ما للزمان قد اسودت نواحيه

نعى المؤيّد ناعيه فيا أسفا

للغيث كيف غدت عنّا غواديه

__________________

(١) طبقات الشافعية للسبكي ، ٦ / ٨٤ وطبقات الشافعية للإسنوي ، ١ / ٤٥٦ والمنهل الصافي ، ١ / ٢١٠ و ، والبدر الطالع ، ١ / ١٥٢ وشذرات الذهب ، ٦ / ٩٩.

(٢) البداية والنهاية ، لابن كثير ، ١٤ / ١٥٨ ودفن في مسجده الذي بناه سنة ٧٢٧ ه‍ ، كما وجد مكتوبا على محيط ضريحه وسمي هذا المسجد بجامع أبي الفداء وكان يسمى أيضا بجامع الدهشة لجمال بنائه وروعة موقعه اللذين كانا يدهشان الناظر المتأمل إليه ، وتطلق العامة عليه «جامع الحيات» لتشابك ثمانية أضلاع في كل عضادتي شبابيك حرمه المطلة على نهر العاصي على شكل الأفاعي ، وقد أقيم هذا المسجد فوق التربة المظفرية التي دفن فيها جد البيت التقوي الملك المظفر الأول تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب المتوفى سنة ٥٨٧ ه‍ من بحث أبو الفداء ملكا وعالما للأستاذ قدري الكيلاني ، ٢٦٢.

(٣) ديوان ابن نباته ، ٥٧٠ والوافي بالوفيات ، ٩ / ١٧٥.

١٤

الفصل الثاني

حياته العلمية وتكوينه الثقافي

يعدّ أبو الفداء موسوعة علمية ثقافية متنوعة ، فقد نهل من علوم كثيرة وأجاد في فنون متعدّدة ، فكان كما وصفته كتب التراجم «رجلا عالما جامعا لأشتات العلوم .. ماهرا في الفقه والتفسير والأصلين والنحو وعلم الميقات والفلسفة والمنطق والطب والعروض والتاريخ وغير ذلك من العلوم ، شاعرا ماهرا كريما ... وكان معتنيا بعلوم الأوائل اعتناء كبيرا (١) وله يد طولى في الهيئة» (٢).

ولا ريب أنّ هذا التنوع الثقافي قد قام على أسس متينة متنوعة ، غير أن كتب التراجم ضنّت علينا بأخبار حياته العلمية الأولى ولم تذكر لنا أسماء شيوخه ومؤدّبيه.

وأحسب أن أبا الفداء قد تردّد على العلماء والمؤدّبين ، أو جاء إليه المؤدبون والعلماء شأنه في ذلك شأن أولاد الملوك والأمراء ، فأخذ عنهم ونهل من معينهم ، وتفتّق ذهنه عن عبقرية مبدعة فأصبح «أعجوبة من عجائب الدنيا» (٣) وثمة إشارات وردت عرضا لدى أصحاب التراجم ، وفي كتابه المختصر تبين لنا بعض سيرته العلمية وتكوينه الثقافي وهي (٤) :

__________________

(١) طبقات الشافعية للإسنوي ، ١ / ٤٥٥.

(٢) الدرر الكامنة ، ١ / ٣٧٢ وعلم الهيئة هو علم يبحث عن أحوال الأجرام السماوية وعلاقة بعضها ببعض وما لها من تأثير في الأرض ، المعجم الوجيز ، هيأ.

(٣) طبقات الشافعية للإسنوي ، ١ / ٤٥٥.

(٤) انظر منهج أبي الفداء في البحث للدكتور حسن الساعاتي ، ٥٦ ـ ٥٧ والمؤرخ أبو الفداء ونزعته العلمية للدكتور كامل عياد ٧٥ ـ ٩٥ ، وأبو الفداء للدكتور عبد الرحمن حميدة ، ١١ ـ ١٧ وحماة في عصر أبي الفداء للأستاذ إحسان العظم ١٧٧ بحوث ضمن (كتاب المؤرخ الجغرافي أبو الفداء صاحب حماة).

١٥

١ ـ أن ابن تغري بردي في كتابه المنهل الصافي ذكر أن أبا الفداء «حفظ القرآن العزيز وعدّة كتب» (١) وهذا القول يدلّ على أنّ أبا الفداء قد قرأه وحفظه على يدي عالم مقرىء ، ويستتبع ذلك ـ فيما أظن ـ تعلّمه التجويد والتفسير والنحو والصرف ، لأنّ هذه العلوم ـ قديما ـ مترافقة متكاملة يردف بعضها بعضا ، ومما يؤكد ذلك أن كتاب الكناش الذي بين أيدينا هو كتاب نحوي صرفي ضمّنه أبو الفداء كثيرا من القراءات القرآنية مبيّنا اختلاف القرّاء حولها ، واختلافهم مع النحويين أحيانا ، ولا ريب أنه لو لم يكن متمكّنا من ذلك لما استطاع أن يتمثّل بهذه الشواهد.

٢ ـ أن أبا الفداء في كتابه المختصر أخبرنا عن اسم شيخ له هو جمال الدين محمد بن سالم بن واصل الشافعي المتوّفى ٦٩٧ ه‍ الذي كان مبرّزا في علوم كثيرة وصاحب كتاب «مفرج الكروب في أخبار بني أيوب» ، وبيّن بأنه «كان يتردّد عليه وعمره خمسة وعشرون عاما ، لأنّ مولده كان سنة ٦٧٢ ه‍ ـ وقرأ عليه شرحه لعروض ابن الحاجب وكان يعرض عليه ما لم يحلّه من إشكال كتاب أقليدس ويستفيد منه ويصحّح عليه أسماء من له ترجمة في كتاب الأغاني (٢).

٣ ـ أن ابن حجر في كتابه الدّرر الكامنة أشار إلى أن أبا الفداء كان يقتني «كتبا نفيسة ولم يزل على ذلك إلى أن مات» (٣) وهذا الخبر يدلّ على اهتمام أبي الفداء بالعلم الذي كان من نتيجته جمع هذه المكتبة النادرة ، ويؤكّد هذا الاهتمام أنّ أبا الفداء في كتابه المختصر يوجّه عنايته ، حين يترجم للرجال ، إلى ما صنفوه وما اقتنوه من كتب وينصّ على أماكن وجودها ، ففي ترجمته لأحمد بن يوسف المنازي المتوفى ٤٣٦ ه‍ ذكر أنه كان يقتني «كتبا كثيرة وأوقفها على جامع ميّافارقين وجامع آمد وهي ، إلى قريب ، كانت موجودة بخزائن الجامعين» (٤) ومن ذلك ما رواه أيضا عن أبي علي

__________________

(١) المنهل الصافي ، ١ / ٢٠٨ ظ.

(٢) المختصر ، ٤ / ٣٩ ـ ٤٠ وفي المختصر ، ١ / ١٠٦ ـ ١٠٧ ما يفيد أن أبا الفداء قد اعتمد على الأغاني حين ترجم لبعض الشعراء في المختصر فقد نص على أن «زهير بن خباب الكلبي قد ذكره صاحب الأغاني وأورد له شعرا وكذا معقر بن حمار البارقي».

(٣) الدرر الكامنة ، ١ / ٣٧٢.

(٤) المختصر ، ٢ / ١٧٦.

١٦

يحيى بن عيسى بن جذلة الطبيب المتوفى ٤٩٣ ه‍ من أنه «أوقف كتبه قبل موته وجعلها في مشهد أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه (١)» ومن مظاهر اهتمامه بالكتب والمؤلفات حرصه على معرفة كتب اليونان المترجمة وغير المترجمة ، فقد نقل من تاريخ ابن القفطي أن «فلوطيس» شرح كتب أرسطو ونقلت تصانيفه من الرومي إلى السرياني قال : ولا أعلم أن شيئا منها خرج إلى العربي ، وذكر أيضا أن «مقسطراطيس» شرح كتب أرسطو أيضا وخرجت إلى العربي (٢).

٤ ـ أنّ قصة علاجه ومداواته لابنه محمد حين سافرا إلى مصر تكشف لنا ثقافة أبي الفداء المتنوعة وتدلنا من جانب آخر على أنه كان طبيبا بارعا ، قال : «مرض ابني محمد مرضا شديدا فأرسل لنا السلطان رئيس الأطباء وهو جمال الدين إبراهيم بن أبي الربيع المغربي فحضر إلى سرياقوس وبقي يساعدني على العلاج ثم رحل السلطان من سرياقوس ودخل القلعة وأرسل إليّ حرّاقة فركبت أنا وابني محمد فيها وكان إذ ذاك يوم بحرّانه يعني سابع أيام المرض وهو يوم الخميس سادس ذي الحجة ونزلت بدار طقز تمر ، على بركة الفيل ، وأصبح يوم الجمعة المرض منحطا ولله الحمد» (٣) ويؤكد ذلك ما رواه أيضا الإسنوي في طبقاته فقد ذكر أن أبا الفداء حين قدم إلى الديار المصرية استدعاه إلى مجلسه فحضر «ـ الأسنوي ـ ومعه الصلاح ابن البرهان الطبيب المشهور فوقع الكلام اتفاقا في عدد من العلوم فتكلم كلاما محققا وشاركناه في ذلك ثم انتقل الكلام إلى علم النبات والحشائش فكلما وقع ذكر نبات ذكر صفته الدالّة عليه والأرض التي ينبت فيها والمنفعة التي فيه واستطرد من ذلك استطرادا عجيبا ، وهذا الفن الخاص هو الذي كان يتبجّح بمعرفته الطبيبان الحاضران وهما ابن القوبع وابن البرهان فإن أكثر الأطباء لا يدرون ذلك فلما خرجا تعجبا إلى الغاية ، وقال الشيخ ركن الدين ما أعلم من ملك من ملوك المسلمين وصل إلى هذا العلم» (٤).

__________________

(١) المرجع السابق ٢ / ٢٢٣.

(٢) المختصر ، ١ / ٩٠.

(٣) المرجع السابق ، ٤ / ١٠٠.

(٤) طبقات الشافعية ، للإسنوي ، ١ / ٤٥٦ ومعجم الأطباء ، لأحمد عيسى ، ١٤٢. وانظر قصة علاجه للملك المظفر. في المختصر ، ٤ / ٣٧.

١٧

٥ ـ أنّ اهتمامه في مختصره بتراجم اللغويين والنحويين (١) يدل على شدة اتصاله بهذا الفن وذلك بمعرفة رجاله وأخبارهم ومصنّفاتهم ، فقد ترجم لكثير منهم تراجم وافية (٢) لم تخل من استطرادات علمية نافعة تكشف عن ثقافة واسعة وعلوم متنوعة امتلكها أبو الفداء واستثمرها في مؤلفاته المتعددة ، فبعد أن ترجم لابن الأعرابي قال ما نصّه «والأعرابي منسوب إلى الأعراب يقال : رجل أعرابي إذا كان بدويا وإن لم يكن من العرب ، ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا ، ويقال : رجل أعجم وأعجمي إذا كان في لسانه عجمة ، وإن كان من العرب ، ورجل عجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا ، هكذا ذكر محمد بن عزيز السجستاني في كتابه الذي فسر فيه غريب القرآن (٣).

ومن ذلك ذكره في ترجمة المتنبي ـ سؤال أبي علي الفارسي له إذ سأله قائلا : «كم لنا من الجموع على وزن فعلى فقال المتنبي في الحال : حجلى وظربى ، قال أبو علي : فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهما ثالثا ، فلم أجد» (٤) وعلّق أبو الفداء قائلا : «وحسبك من يقول في حقه أبو علي هذه المقالة» ومن قبل أثنى أبو الفداء على المتنبي لكونه «من المكثرين لنقل اللغة والمطلعين عليها وعلى غريبها لا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب (٥).

٦ ـ أن خطبة كتاب الكناش تفيد عزمه على تأليف سبعة كتب في فنون متنوعة

__________________

(١) واعتنى أيضا بذكر الشعراء وأخبارهم ، وسرد كثيرا من أشعارهم منسوبة إليهم ، وكان كثيرا ما يصدر المقطوعات الشعرية بقوله «من قصيدة مشهورة» ذاكرا أحيانا عدد أبياتها ، مما يدل على معرفته بها إن لم يكن حافظا لها ، وقد أفاد من الشعر أحيانا لتوثيق بعض الحقائق التاريخية وذكر في أكثر من موضع ما يفيد اعتماده على الأغاني وعلى العقد الفريد. انظر لذلك كله المختصر ، ١ / ٧٤ ـ ٧٥ ـ ٧٨ ـ ٧٩ ـ ٨٥ ـ ١٠٦ ـ ١٠٧ ـ ١١٠ ـ ١٤٤ ـ ١٥٥ ـ ١٩٤ ـ ١٩٥ ـ ٢ / ١ ـ ٢٢ ـ ٤٧ ـ ٧٢ ـ ١٠٩ ـ ١١١ ـ ١٥٤ ـ ١٦٣ ـ ٢١٧ ـ ٢١٨ ـ ٣ / ٢٣ ـ ٨٠ ـ ٨٢ ـ ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) انظر تراجم لسيبويه والفراء وقطرب والأصمعي وابن السكيت ، والمبرد ، والأزهري ، وابن فارس وأبي علي الفارسي ، والأعلم الشنتمري والحريري والزمخشري ، والجزولي والشلوبين وابن الحاجب في المختصر على التوالي ٢ / ١٦ ـ ٢٩ ـ ٣٠ ـ ٣٢ ـ ٤٣ ـ ٦١ ـ ١٢٨ ـ ١٣١ ٣ / ١٧ ـ ١٢١ ـ ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٣) المختصر ، ٢ / ٣٨.

(٤) المختصر ٢ / ١١١.

(٥) المختصر ، ٢ / ١١١.

١٨

كان الكناش سيحتويها (١) ، وبدهيّ أنه لو لم يكن عالما بهذه الفنون لما عزم على التأليف فيها ، يضاف إلى ذلك أن مؤلفاته التي خلّفها لنا تدل على ما كان يتمتع به من ذهن وقّاد ، وذكاء حاد ، استطاع أن يجمع بين هذه العلوم المتفرقة ويؤلف فيها مؤلفات علمية معتبرة ، كالمختصر وتقويم البلدان (٢). وقد ذكر الكتبي بعد ذكره أن أبا الفداء قد نظم الحاوي في الفقه ما نصه «ولو لم يعرفه لما نظمه» (٣) وذلك كله يفيد أن سيرورته العلمية قامت على أسس متينة ، فاستطاع بها أن يلج أبواب التأليف بكل أنواعه وأشكاله وفنونه.

٧ ـ أن كتب التراجم قد ذكرت أن أبا الفداء منذ أن تولى سلطنة حماة اهتم بالعلماء ، فقرّبهم إليه وأجرى لهم الرواتب ، ومن هؤلاء أمين الدين عبد الرحمن الأبهري المتوفى ٧٣٣ ه‍ (٤) وعمر بن محمد المعروف بابن العديم المتوفى ٧٣٤ ه‍ (٥) وكان أبو الفداء يأمر من يعجب به من العلماء بالإقامة عنده فقد ذكر الإسنوي أن أخاه «عماد الدين رحمه‌الله لمّا رحل إلى الشام قصد حلب فاجتاز على حماة وكان قد رتب ـ أبو الفداء ـ من يحضر بمجلسه العلماء المارّين عليه والقاصدين إليه فحضر الأخ عنده وتكلم معه في علوم فأعجب به وأمره بالإقامة هناك وهيّأ له من الفرش والآلات ما يحتاج إليه ورتّب له رواتب كبيرة وولّاه مدارس ولازمه في الخلوة» (٦) ولم يقتصر أبو الفداء على تقريبه العلماء بل آوى إليه الشعراء كابن نباتة وصفي الدين الحلي وأجزل لهم العطاء فقد رتّب لشاعره «جمال الدين محمد بن نباتة كل سنة عليه ستمائة درهم وهو مقيم بدمشق غير ما يتحفه به» (٧).

وكان الشعراء يثنون عليه كثيرا ، ويمدحونه بغرر القصائد ، حتى قال ابن حجر :

__________________

(١) تنظر الصفحة الأولى من النص المحقق.

(٢) ينظر فصل مؤلفاته الآتي.

(٣) فوات الوفيات ، ١ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٤) الوافي بالوفيات ، للصفدي ، ٩ / ١٧٤. والدرر الكامنة ، ١ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

(٥) إعلام النبلاء ، للطباخ ، ٤ / ٥٦٣.

(٦) طبقات الشافعية ، للإسنوي ، ١ / ٤٥٦.

(٧) الوافي بالوفيات ، ٩ / ١٧٤ والمنهل الصافي ، لابن تغري بردي ، ١ / ٢١١ ظ.

١٩

«ولا أعرف في أحد من الملوك من المدائح ما لابن نباتة والشهاب محمود وغيرهما فيه إلا سيف الدولة وقد مدح الناس غيرهما من الملوك كثيرا ولكن اجتمع لهذين من الكثرة والإجادة من الفحول ما لم يتفق لغيرهما» (١).

ومن ذلك كلّه يتضح لنا أن أبا الفداء قد قضى حياته طالبا للعلم ، محبا لأهله ، كريما فاضلا ، جامعا بين الحكم والعلم ، فكان بحق «من فضلاء بني أيوب الأعيان منهم» (٢) وأصبحت حماة في عهده «محطّ رجال أهل العلم من كل فن ، ومنزلا للشعراء» (٣).

__________________

(١) الدرر الكامنة ، ١ / ٣٧٢ وانظر قصائد المديح التي نظمها ابن نباتة لأبي الفداء في الديوان ، ١٢٦ ، ١٣١ ـ ١٨٣ ـ ١٨٦ ـ ١٨٨ ـ ١٨٩ ـ ١٩٠ ـ ١٩١ ـ ١٩٤. وانظر شخصية أبي الفداء في شعر ابن نباتة وصفي الدين الحلّي» للأستاذ وليد قنباز ، ١٨٦ ـ ٢٢٣.

(٢) شذرات الذهب ، لابن العماد ، ٦ / ٩٩.

(٣) طبقات الشافعية ، للإسنوي ، ١ / ٤٥٥.

٢٠