النظام العائلي

الدكتور زهير الاعرجي

النظام العائلي

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٤

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) البقرة :١٢٠.

٥

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

لا شك ان كل فرد من الافراد اختبر لونا من الوان الحياة العائلية في حياته الاجتماعية. ولذلك ، فان كلامنا هذا حول المؤسسة العائلية في المجتمع الاسلامي موجه في واقع الامر لكل الافراد مهما كانت افكارهم ومعتقداتهم. والسؤال الذي يبرز هنا بشكل صارخ هو : هل ان المؤسسة العائلية ظاهرة تكوينية ام انها مختصة بلون معين من المجتمعات ، فتكون دراستنا المقارنة بين النظرية الاسلامية والنظرية الغربية مجرد عبث لاينفع الاجيال؟

وقد جاء الجواب عن طريق المدرسة الاجتماعية الامريكية ، وبالخصوص عن طريق عالم الاجتماع الامريكي (جورج ميردوخ) (١) الذي درس العائلة ووظيفتها وتركيبتها الاساسية في اكثر من مائتين وخمسين مجتمعا من مجتمعات العالم ، وتوصل الى نتيجة مهمة وهي ان ظاهرة العائلة النووية الصغيرة انما هي ظاهرة تكوينية عالمية ، يختبرها كل مجتمع انساني مهما كان تركيبه العلمي او الديني او الثقافي. فالعوائل الانسانية جميعا تتحد في صفات مشتركة كالتعاون الاقتصادي ، والسكن المشترك ، وعملية الانجاب : الا ان الاختلاف يقع في طبيعة تركيب العائلة الكبيرة ، خصوصا

__________________

١ ـ ( جورج ميردوخ ). التركيب الاجتماعي. نيويورك : ماكميلان ، ١٩٤٩ م.

٧

فيما يتعلق بتعدد الزوجات ، او الاستقلال الزوجي عن الابوين والاحفاد ، أو الغربة الاجتماعية عن الروابط الانسانية الطبيعية التي جلبها التصنيع الحديث.

ولو قرأنا تاريخ البشرية منذ البداية لرأينا ان السيطرة الاجتماعية على السلوك الانساني تنبثق في اغلب الاحيان من العائلة. فالمجتمع لايستطع ان يحيا دون وجود مؤسسة للسيطرة على السلوك الانساني. وهذه السيطرة هي التي ولٌدت العرف العقلائي الخاص بالسلوك الجنسي المتفق عليه اجتماعيا. ولولا الحقوق والواجبات التي وضعت على الافراد أو لهم ضمن المجموع ، لما تحقق وجود المجتمع والنظام الاجتماعي ، بل كان الافراد مجرد كائنات حية تعيش بانفراد دون نشاط اجتماعي ملحوظ.

وعلى الصعيد التاريخي ، فان للزواج وللعائلة دوراً حيوياً في السيطرة على السلوك الاجتماعي. فقد طورٌت المجتمعات الانسانية ـ عبر رسالة الدين والفلسفة الاجتماعية ـ العلاقات التفاعلية في الزواج ، ومسؤولية رعاية مصلحة القاصرين من الاطفال والعجزة ، وانتقال الملكية ، والحقوق المدنية ، والمنزلة الاجتماعية ، وانتقال العلوم المتراكمة من جيل لآخر.

الا ان تطور المجتمع عبر الاحقاب الزمنية المتعاقبة ، جعل السيطرة الاجتماعية المنبثقة عن العائلة وحدها بعيدة المنال ، وجعل الدولة والمؤسسة السياسية الحديثة تقوم بتبني دور السيطرة الاجتماعية : فكان من مباني هذا الدور الاجتماعي للدولة إن القوانين إنما جاءت لتلزم الافراد بالانصياعل للتشريعات الاجتماعية أو الدينية. والفرق بين القانون والعرف الاجتماعي ،

٨

هو إن القانون أو التشريع يكتب بينما يبقى العرف الاجتماعي أمرا معنويا متغيرا مع تغير الاحداث والافراد. ولذلك ، فان القانون أو التشريع له خاصية الديمومة والاستمرار أكثر من العرف الاجتماعي.

ولاريب إن القوانين والتشريعات باجمعها تقدم للمجتمع ، نظريا على الاقل ، شكلاً عادلاً من أشكال السيطرة الاجتماعية لكل الافراد. وعندها يعرف الفرد حدود حقوقه المدنية ، ويتوقع الازامات التي فرضها المجتمع أو الدين عليه.

وفي الواقع ، فأن النظام القانوني أو التشريعي بالتضامن مع السيطرة الاجتماعية يقٌدم للعائلة نظاماً محكما يجهٌز الفرد ـ وهو يكدح في حياته اليومية ـ بقابلية فريدة على توقع صحيح ودقيق لسلوك الافراد. وعلى ضوء ذلك التوقع يتم تفاعله مع هؤلاء الافراد. الا إن القانون الذي يصنعه الافراد لانفسهم يختلف عن التشريع الذي يشرعه الخالق عز وجل ؛ لان قوة القانون تتناسب مع كفاءة فهم الافراد للمتطلبات الاجتماعية في زمن ومكان محدد ، الا إن التشريع الآلهي محكم باعتبار صدوره من جهة المولوية المطلقة أولاً ، وباعتبار أنه لم يحدد بزمان معين أو مكان محدد ثانياً. ومن المتسالم به عند العقلاء ان القانون او التشريع لايمكن ضمان نجاحه ما لم ينزل الى الساحة الاجتماعية مع نظام متكامل للعقوبات. وقد تناولنا موضوع العقوبات في كتاب ( الانحراف الاجتماعي واساليب العلاج في الاسلام ).

إن الفرق ما بين التشريع الاسلامي الخاص بالعائلة وبين القانون الغربي الخاص بها إن القوانين المعاصرة التي وضعها الانسان ماهي الا

٩

احكام مثالية لاتتطابق مع الواقع المتغير في اغلب الاحيان ، على عكس احكام الشريعة التي أخذت الطبيعة البشرية بقطبيها ووضعت القوانين التي تتناغم مع كل أمواج الطبيعة الانسانية. وأغلب القوانين المدنية والحقوقية الخاصة بالعائلة والمعمول بها اليوم في الغرب مستمدة من أفكار الثورة الفرنسية والامريكية والقانون العرفي الانكليزي ؛ وهي قوانين يصعب تطبيق عشرها على الوضع الاجتماعي المعاصر (١).

إن الابعاد القانونية الخاصة بالعائلة في النظرية الغربية تشمل تشريعات في قانون الزواج ، وحقوق الاطفال ، والارث. ففكرة الزواج تستند على مبدأ كونه عقداً من العقود. الا إنه يختلف عن العقود التجارية لاعتبارين ؛ الاول : هو أن العلاقة الزوجية لايمكن فسخها بنفس الطريقة التي يمكن بها فسخ العقد التجاري في الحالات الاختيارية. والثاني : إن المتطلبات القانونية للدخول في عقد الزواج تختلف عن المتطلبات اللازمة للدخول في العقود التجارية. ومن الطبيعي أن الزواج في القانون الغربي ينبغي أن يسد حاجتين ؛ الاولى : سد الحاجة المالية للعائلة الجديدة ؛ بمعنى أن الدولة غير مسؤولة عن مساعدة الزوجة والاطفال والقاصرين ، بل يتعين على العائلة سد حاجتها المالية بنفسها. والثانية : سد الحاجة الاجتماعية فيما يتعلق بانجاب الذرية ، وتحديد النشاط الجنسي ضمن حدود الزواج القانوني (٢).

__________________

١ ـ ( هيلين كلارك ). التشريع الاجتماعي. نيويورك : ابلتون ـ سنچري وكروفتس ، ١٩٥٧ م.

٢ ـ ( هاريت بيلبل ) و( ثيودورا زافين ). « القوانين الخاصة بالزواج والعائلة ». مقالة علمية في كتاب ( دائرة معارف السلوك الجنسي ) ، تحرير : البرت اليس والبرت اباربانيل. نيويورك : كتب هاوثورن ، ١٩٦١ م.

١٠

ومن أهم متطلبات الزواج القانونية في النظام الرأسمالي هو البلوغ ، والعقل ، وعدم شرعية زواج المحارم ، وعدم شرعية الزواج بين الاعراق المختلفة كالعرق القوقازي والزنجي والمنغولي. فسن البلوغ القانوني للزواج هو ثماني عشرة سنة للذكر وست عشرة سنة للانثى بشرط موافقة الابوين. أما سن البلوغ القانوني للزواج بدون موافقة الابوين فهو واحد وعشرين سنة بالنسبة للذكر وثماني عشرة سنة بالنسبة للانثى(١). ولكن ليس هناك دليل يثبت على إن موافقة أو عدم موافقة الابوين في النظرية الغربية تغير من الشروط الردعية التي تنظم عملية الزواج. أما شرط العقل ، فانه من الشروط المهمة في إتمام عملية العقد لان المضطرب عقلياً أو المجنون لايستطيع أن يقوم بمسؤولياته الاقتصادية والاجتماعية الخاصةبالزواج والعائلة. وبذلك فانه سيحمل الدولة مصاريف نفقات عائلته : ولذلك يعتبر زواج المجنون أو المضطرب عقلياً بعيداً عن الصفة القانونية والروح الاجتماعية. أما البعد عن الصفة القانونية فلأن العقد يجب أن يتم ما بين فردين لهما القابلية على الموافقة الصريحة أو الضمنية ، وهذا لايتم مع المجنون. وأما البعد عن الصفة الاجتماعية أو العملية فلأن المجنون ربما يسبب حرجاً شديداً لعائلته وللمجتمع الذي يعيش فيه.

ولايجوز العقد على المحارم في النظرية القانونية الغربية ، لان الكنيسة في القرون الماضية حرمت ذلك. ومن المسلٌم به ان هذا القانون مستمد من الشرائع السماوية ، الا ان القانون الحديث البعيد عن روح الدين

__________________

١ ـ ( وليم كيفارت ). « الابعاد القانونية والاجرائية للزواج والطلاق ». مقالة علمية في كتاب ( الزواج والعائلة ) تحرير : هارولد كريستنسن. شيكاغو : راند ميكانالي ، ١٩٦٤ م.

١١

لم يستطع تغيير ذلك. وبطبيعة الحال فان المحارم في القانون الغربي كانت قد قسمت الى نوعين : المحرم الناتجة عن طريق النسب ، والمحارم الناتجة عن طريق السبب. أما القانون العرفي الانكليزي المتعلق بالزواج فهو يشترط شرطين لتحقق الزواج ؛ أولهما : أن يكون الفردان صالحين للعقد ، من ناحية سن البلوغ ، والخلو من الموانع الزوجية ونحوها. وثانيهما : العيش معاً في سكن واحد والاعلان عن زواجهما للملأ والمجتمع المحيط بهما (١).

والى هذا الحد فان القانون الغربي ينطبق تماما في الموارد السابقة مع الشريعة الاسلامية. وليس هناك أدنى شك من ان فلاسفة ومقنني اوروبا وامريكا قد اقتبسوا من احكام الشريعة الاسلامية كل هذه القوانين التي لايزيد عمرها على أربعة قرون على الاكثر ، بينما يبلغ عمر الشريعة الاسلامية أكثر من أربعة عشر قرناً.

ولكن أحد أهم القوانين التي تعارضه النظرية الاسلامية تماما والمعمول به حتى اليوم في الولايات المتحدة هو قانون ( حرمة تمازج الاجناس عن طريق التزاوج ) : بمعنى ان هذا القانون يحرَم على الفرد الابيض التزاوج من الاجناس الاخرى ، خصوصا الجنس الزنجي ، بدعوى ان التزاوج بين الاجناس المختلفة يساهم في اضعاف الجنس المسيطر على النظام الاجتماعي. ولحد العقد السادس من القرن العشرين كانت احدى وثلاثون ولاية امريكية في الجنوب والجنوب الغربي للولايات المتحدة تحرَم التزاوج بين الافراد البيض وبين أفراد الجنس الاصفر أو المنغولي ، واربع

__________________

١ ـ ( وليم كيفارت ). العائلة ، المجتمع ، والفرد. بوستن : هوتن ميفلن ، ١٩٦١ م.

١٢

ولايات في الجنوب الامريكي تحرَم الزواج بين الافراد البيض وبين الهنود الحمر ، وهم اصحاب البلاد الاصليين (١). ولاشك ان مخالفة ذلك القانون تستدعي عقوبات قاسية ، فتعتبره الدولة زواجاً باطلاً ، والاطفال المتولدين عنه غير شرعيين ، وتلك العلاقة الجنسية بين الزوج وزوجته جنحة مخلة بالشرف.

الا ان هذه القوانين كلها عرضة للتغيير والتبديل. وهذا التبديل الذي يطال هذه القوانين يعكس قصور الانسان وفكره البشري على انشاء قوانين محكمة تصلح للتطبيق في كل الاحوال دون النظر الى الزمان أو المكان. الا ان الرسالة الدينية والاسلامية بالخصوص تحقق ما عجزت النظرية القانونية الغربية عن تحقيقه.

ان الدين في الدول النصرانية له تأثير كبير على شكل علاقة التغشي ما بين الرجل والمرأة. فالسلوك الجنسي يعتبر خطيئة وجرما ، الا ان الزواج يلغي هذا الالصاق: لان النصرانية تؤمن بان هدف التزاوج هو حفظ النسل الانساني من الانقراض وليس مجرد المتعة الجسدية. وقد نظَم مفهوم الدولة الحديثة عملية العلاقة الجسدية ما بين الزوج والزوجة ، واعتبر البغاء ـ ولو نظرياَ ـ جريمة يعاقب عليها. الا انفصال الدين عن السياسة في النظام الرأسمالي ، جعل هذه القوانين المتعلقة بالجرائم الاخلاقية تنحلَ تدريجيا بتغير الوضع الاجتماعي ، بحيث أصبحت المشكلة الاجتماعية التي يعاصرها الغرب الرأسمالي هي كيفية حفظ التصميم العائلي الذي يجرفه التغير الاجتماعي المعاصر. ولعل جوهر الخلاف بين النصرانية والنظرية الرأسمالية

__________________

١ ـ ( ارفينك مانديل ). قانون الزواج والطلاق. نيويورك : مطبوعات اوشينا ، ١٩٥٧ م.

١٣

هو ان النصرانية تعتبر المؤسسة العائلية مؤسسة للانجاب والتناسل ، بينما تعتبر الدولة الرأسمالية العائلة مؤسسة اجتماعية للمشاركة الجنسية واشباع الشهوات. ولذلك فان عدم الانجاب لايعطي الزوج حقاً في الطلاق ، بموجب رأي النظرية الرأسمالية. الا ان عدم القدرة على المشاركة الجنسية كالعنن والعفل ونحوها يعطي الزوج أو الزوجة حق الطلاق.

وهناك مشكلة خطيرة تواجه العائلة الحديثة وهي مشكلة تحديد النسل. فتحديد النسل البشري يتم عبر طريقين ؛ الاول : استخدام وسائل منع الحمل المصنَعة. والثاني : الاجهاض. والفرق بين الطريقين ان الاول يمنع تخلق الجنين قبل انعقاد النطفة. والثاني يمنع تخلق الجنين بعد انعقادها. فالاجهاض ينهي الحمل قبل ان يمنح الجنين فرصة حقيقية للحياة. ولاشك ان الكنيسة الكاثوليكية ، واليهودية الارثودوكسية حرَمت ـ بتاتاً ـ استخدام كل وسائل تحديد النسل ، ميكانيكية كانت او كيميائية او فسلجية او إجهاضاً. الا ان الكنيسة البروتستانتية. واليهودية الاصلاحية ارجعتا قضية تحديد النسل الى الجانب العقلائي والدافع الذي يدفع الفرد للاقدام على ذلك العمل. فان كانت هناك مصلحة بهدف الحفاظ على حياة الام او تنظيم الاسرة فلا بأس بالتحديد ، برأي تلك المدرستين الدينيتين. اما الاسلام فقد جعل الحرمة مرتبطة بانعقاد النطفة ؛ فاذا انعقدت النطفة فلا يجوز الاجهاض او قتل الجنين.

ومشكلة اخرى خطيرة تواجه العائلة الغربية المعاصرة وهي انه فيما اذا كان احد الزوجين عقيما ، فهل يجوز له سلوك ذلك الطريق الذي يحل مشكلته الاجتماعية؟ علماً ان هناك طريقين لحل هذه المشكلة ، وهما : اولا :

١٤

التبني ، وثانياً : التخصيب الخارجي.

فالتبني هو نسبة فرد من عائلة معينة الى عائلة اخرى بطريق قانوني وانتقاله للسكن مع تلك العائلة الجديدة بصورة دائمية. فتنتقل ـ عندئذ ـ كل الحقوق المالية والقانونية الى الفرد المتبنى. ولكن المشكلة تبرز عندما تطالب العائلة البيولوجية برجوع ابنها اليها من العائلة القانونية المتبنية لذلك الطفل. ولاشك ان التبني يسبب اضطراباً عاطفياً واجتماعياً للطفل المتبنى بسبب العلاقات العائلية والقانونية الجديدة التي استحدثت دون ادراك الصبي لما يجري ، خصوصا فيما يتعلق بمصلحته الشخصية.

اما التخصيب الخارجي فهو عملية طبية لوضع حيامن الزوج في رحم الزوجة ، او وضع حيامن رجل مجهول الهوية في رحم الزوجة وبموافقة زوجها. وسبب العقم في هذه الحالات هو ان حيمن الزوج لايستطيع الوصول الى بويضة الزوجة ليخصبها ، كما هو في الحالات الطبيعية. ولاشك ان التخصيب الخارجي الذي يقوم به الزوج لايتعارض اطلاقا مع الارتكاز العقلائي باعتبار ان الطب يقوم لايصال حيمن الزوج بطريق تقني متقدم لملاقاة بويضة الزوجة ، فيكون انعقاد النطفة في الرحم. ولكن المشكلة تكمن في التخصيب الخارجي من قبل رجل مجهول الهوية وهو ما يرفضه الدين والعرف العقلائي تماماً ؛ لان فيه اختلاطاً عظيماً للانساب وكآبة اعظم للزوج الذي حرم من امضاء بصماته الجينية على الجنين المخلَق من قبل رجل مجهول الهوية. وهذه المشاكل التي تواجهها الاسرة المعاصرة تستحق ـ على اقل تقدير ـ نقاشاً ورداً على الآراء الغربية الوافدة.

ان هذا الكتاب يعبَر عن محاولة ابتدائية لفهم دور الاسرة في البناء

١٥

الاجتماعي. وقد قسَمنا البحث في الكتاب الى قسمين ؛ الاول : ناقشنا فيه ارآء النظرية الاجتماعية الرأسمالية الغربية فيما يخص المؤسسة العائلية ونقدنا اهم مبانيها الفلسفية والاجتماعية. ثم عرضنا في القسم الثاني : النظرية الاجتماعية الاسلامية التي تناولت اهمية دور الاسرة في البناء الاجتماعي من خلال احكامها الشرعية الفريدة. وقد عقدنا في نهاية الكتاب مقارنة بين النظريتين لاكتشاف عناصر الكمال في النظرية الاجتماعية الالهية ، ومعرفة ضعف مقالة النظرية الاجتماعية الرأسمالية التي لاتعدو كونها مجرد فرضية صممها الانسان الغربي لتنظيم حياته الاجتماعية ، قد يكتب لها النجاح وقد يكتب لها الفشل.

ربي أنت المستعان ، ولك الحمد في الاولى والاخرة. وما توفقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.

زهير الاعرجي

قم المشرفة / ذو الحجة ١٤١٣ هـ

١٦

اطروحة الكتاب

تحتل النظرة الفلسفية لموقع (العائلة) في المجتمع الانساني دوراً مهماً في الفكرة الاجتماعية الغربية ، خصوصا على صعيدي النظرية التوفيقية بزعامة (هربت سبنسر) و ( اميلي ديركهايم ) ، ونظرية الصراع الاجتماعي بزعامة ( كارل ماركس ) و ( فريدريك انجلز ). فللمؤسسة العائلية ، حسب آراء ( سبنسر ) و ( ديركهايم ) دور حيوي خطير في حفظ المجتمع الانساني وسد الادوار الشاغرة التي يتركها الافراد حين الموت. الا إن نظرية الصراع الاجتماعي تصر ، حسب رأي ( فريدريك أنجلز ) ، على أن المؤسسة العائلية هي اول مؤسسة إضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية.

وتعارض النظرية الاجتماعية الرأسمالية فكرة تعدد الزوجات باعتبارها نقيضاً صارخاً لمفهوم ( المذهب الفردي ) الذي قامت على أساسه أركان النظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث. وهي تعارض أيضاً فكرة الاسر العشائرية الكبيرة التي تضم ـ بالاضافة الى الزوجين ـ الاجداد والاحفاد والاقارب ، باعتبارها عائقاً من عوائق زيادة الانتاج الاجتماعي.

وقد كان نقدنا للنظريتين التوفيقية والصراع الاجتماعي يتلخص في أن العنف الذي يقع بين أفراد العائلة الواحدة ، وخصوصاً في المجتمع الصناعي الحديث ، يناقض إدعاءات النظرية التوفيقية بأن المؤسسة العائلية في

١٧

النظام الرأسمالي تشبع جميع الحاجات العاطفية للافراد وتكون مصدراً من مصادر الاستقرار النفسي. وخلصنا الى نتيجة مفادها ان المجتمع الرأسمالي الصناعي لايوفر ـ في اي حال من الاحوال ـ قاعدة عائلية تمنح الاستقرار النفسي والحاجة العاطفية للافراد. وكان اعتراضنا على نظرية الصراع الاجتماعي منبثقاً من فكرة إن مجرد ربط الاضطهاد الاسري بالاضطهاد الاجتماعي ومظالم النظام الرأسمالي لايتعدى مجرد عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حل بديل يعالج ذلك الاضطهاد المزعوم.

ولاشك ان اهم المشاكل التي أفرزتها الحضارة الغربية المعاصرة هو تغير ولاء الافراد تجاه بعضهم الآخر. فاصبح الفرد الرأسمالي يحصر جلَ اهتماماته العملية على تحقيق رغباته الشخصية دون الاكتراث لمسؤوليته الاجتماعية تجاه المؤسسة العائلية. وغدا الولاء الاجتماعي يتحول تدريجيا من العشيرة والاقارب الى الدولة والنظام السياسي ؛ لان الدولة أصبحت تقوم بتقديم أغلب الخدمات التي كانت تقدمها العشيرة للفرد كالخدمات التعليمية والطبية واعانة العجزة ورعاية الاطفال. الا ان النظرية الاجتماعية الرأسمالية اصيبت بخيبة امل شديدة في العقود الثلاثة الماضية ؛ لان هذا التحول في الولاء الاجتماعي انشأ مشاكل جديدة فيما يتعلق باستقرار القاعدة الاقتصادية والعاطفية للعائلة الصغيرة ، وخصوصا على أصعدة الطلاق والاجهاض والاعتداء الجسدي. ولاريب ان المشاكل العائلية الخطيرة التي يواجهها المجتمع الصناعي الرأسمالي الحديث ، يجعلنا نتوجه بكل ثقل نحو الرسالة الدينية لنستلهم منها افكارنا فيما يتعلق بدور واطار عمل المؤسسة العائلية في النظام الاجتماعي.

فالاسلام ينظر الى المؤسسة العائلية باعتبارها نقطة أستقرار لعالم متحرك ، تنتقل من خلالها ممتلكات الجيل السابق الى الجيل اللاحق عن طريق الارث والوصية الشرعية ، ومؤسسة اجتماعية لتعويض الخسائر البشرية الحاصلة نتيجة موت الافراد ، ومحطة فحص وتثبيت انساب الافراد عن طريق الزواج والاقرار بالنسب ، ومركز حماية الافراد فيما يتعلق بالحب والحنان والدفء والمطعم والملجأ ، ومكاناً لتهذيب السلوك الجنسي ، ومسرحاً لتعلم

١٨

المعارف قبل الخروج للساحة الاجتماعية ، وموضعاً عظيماً لتعلم وممارسة النشاطات الروحية والدينية. وقد قدٌم الاسلام في نظريته الفقهية الاجتماعية عرضاً مفصلاً لحقوق الزوجة المالية والمدنية ، وحقوق الابوين والاجداد والاحفاد ، وحق الحاق المولود على اساس قاعدة (امكان الالحاق) التي تسالم عليها الفقهاء ، وحقوق الرضاعة والحضانة ، واحكام الصبي ، والوصية الشرعية ، والارث. والاصل في النظرية الاسلامية ، ان يكون للعائلة ولي يدير شؤونها المالية والعاطفية والتربوية ، او وصي يدير شؤونها المالية ويرعى مصلحة افرادها. وبكلمة ، فان العائلة الاسلامية تساهم في خلق الفرد الاجتماعي المؤمن بالنظرية الاخلاقية الدينية ، الصالح للعمل والانتاج ، المجدّ في سبيل بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع الاسلامي. وبذلك ، فان النظرية الاسلامية تطرح للعالم المعاصر قاعدة عائلية تمنح الافراد كل مواطن الاستقرار النفسي والحاجات العاطفية التي حرمتهم منها التطبيقات الرأسمالية الغربية الحديثة.

١٩
٢٠