المدرّس الأفضل - ج ٥

الشيخ محمّد علي المدرّس الأفغاني

المدرّس الأفضل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد علي المدرّس الأفغاني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٧

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على اعدائهم اجمعين من الآن الى قيام يوم الدين اما بعد فيقول العبد الفاني المحتاج الى رحمة ربه الغني محمد علي بن مراد علي المدعو بالمدرس الافغاني هذا هو الجزء الخامس من كتابنا المسمى بالمدرس الأفضل في شرح ما يرمز ويشار اليه في المطول وبه يتم الفن الاول اسئل الله العلي القدير ان يوفقني لاتمامه انه على كل شيء قدير وبالاجابة جدير.

٢

«الباب السادس الانشاء»

اعلم ان (الانشاء) في اللغة يطلق على الابداع والاختراع والاحداث واما في الاصطلاح فيطلق على شيئين لانه (قد يقال) اي يطلق (على الكلام الذي ليس لنسبته خارج تطابقه او لا تطابقه) قد تقدم الكلام في ذلك في اوائل الكتاب في اول التنبيه فلا حاجة الى الاعادة ولكن لبعض المحققين كلام يناسب المقام يعجبني ذكره قال في الحاشية في بحث تقديم المفعول في الباب الرابع من هذا الكتاب الخطأ فى الحكم إنما يتصور اذا كان السامع عالما به قبل القاء الكلام وفي الانشاء إنما يفهم من نفسه وما قيل من ان الخطأ إنما يكون في الحكم ولا حكم فى الانشاء لانه من قبيل التصورات فليس بشيء لان ذلك اصطلاح المنطقيين واما عند علماء العربية فالحكم هو النسبة التي يصح السكوت عليها ولذا قسموا الجملة الى الخبرية والانشائية انتهى.

(وقد يقال) اي يطلق (على فعل المتكلم اعني القاء الكلام الانشائي كالاخبار) فانه ايضا قد يطلق على نفس الكلام الذي كان لنسبته خارج تطابقه او لا تطابقه وقد يقال على فعل المتكلم اعني القاء هذا الكلام الخبرى.

فالمقام نظير ما قال محشى التهذيب من ان العكس كما يطلق على المعنى المصدرى المذكور كذلك يطلق على القضية الحاصلة من التبديل وذلك الاطلاق مجازى من قبيل اطلاق اللفظ على الملفوظ والخلق على المخلوق.

٣

(والمراد) منه في صدر الكتاب الكلام لا القائه لانه قال هناك في وجه الحصر فى ثمانية ابواب لان الكلام اما خبر او انشاء والمراد (ههنا هو) الاطلاق (الثاني) المصدرى يعني القاء الكلام الانشائي (لانه قسمه) ههنا كما يأتي فى المتن الآتي (الى الطلب وغيره وقسم الطلب الى التمني والاستفهام وغيرهما) يعني الامر والنهي والنداء (واراد بها معانيها المصدرية) يعني القاء الكلام المشتمل على احد الامور المذكورة وذلك لان القسم عبارة عن المقسم مع ضم قيد زائد اليه الا ترى ان الانسان عبارة عن الحيوان بعينه مع ضم النطق اليه.

(لا الكلام المشتمل عليها) اى على الامور المذكورة (بقرينة قوله) فيما يأتي (واللفظ الموضوع له كذا وكذا لظهور ان ليت مثلا موضوع لافادة معنى التمني) اى طلب حصول شيء على سبيل المحبة (لا للكلام الذى فيه التمني) كقولنا ليت زيدا قائم (وكذا البواقي) فان لفظ هل مثلا موضوع لافادة معنى الاستفهام اى طلب حصول صورة الشيء في الذهن وقس عليه سائر الاقسام.

(ولا يتوهم ان هذا) اى كون المراد ههنا معانيها المصدرية القائمة بالقلب لا الكلام المشتمل على تلك المعاني (يقتضي كون البحث عن غير احوال اللفظ فيقتضي خروج مباحث هذا الباب عن علم المعاني لانه كما تقدم في صدر الكتاب علم يعرف به احوال اللفظ التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال (لان المقصود) من تلك المباحث (ينجر اليه) اى الى اللفظ (آخر الامر) باعتبار ان البحث فيها من كون اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني ومن المعلوم ان هذا اعتبار راجع الى اللفظ وهذا نظير ما قال هناك من ان احوال الاسناد ايضا من

٤

احوال اللفظ العربي باعتبار ان كون الجملة مؤكدة او غير مؤكدة اعتبار راجع اليها.

(فالانشاء ضربان طلب كالاستفهام والامر والنهي ونحو ذلك او غير طلب كافعال المقاربة وافعال المدح والذم وصيغ العقود) والايقاعات (والقسم ولعل ورب وكم الخبرية ونحو ذلك) كالتنبيه والالتماس ونحوهما وكصيغ التعجب وفعلية التي ذكرها السيوطي عند قول ابن مالك :

بافعل انطق بعد ما تعجبا

او جىء بافعل قبل مجرور ببا

قال في شرح المطالع ما خلاصته ان الكلام الانشائي اما ان يدل على طلب الفعل دلالة اولية اى او لا وبالذات او لا فان دل وكان مع الاستعلاء فهو امران كان الفعل المطلوب غير كف ونهى ان كان كفا مع التساوى التماس ومع الخضوع سؤال ودعاء وانما قيد الدلالة بالاولية ليخرج الاخبار الدالة على طلب الفعل فان قولنا اطلب منك الفعل لا يدل بالذات على طلب الفعل بل على الاخبار بطلب الفعل والاخبار بطلب الفعل يدل على طلب الفعل فدلالته على طلب الفعل بواسطه الاخبار به لا بالذات.

وان لم يدل على طلب الفعل دلالة اولية فهو التنبيه ويندرج فيه التمني والترجي والقسم والنداء والاستفهام والتعجب والفاظ العقود وقال ايضا ان دلالة نحو ليت زيدا يضرب ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا ليست ذاتية اولية لانها بواسطة تمنيه او ترجيه فلذلك جعلهما من اقسام ما لم يدل على طلب الفعل دلالة اولية فتأمل.

(والمقصود بالنظر ههنا) من قسمي الانشاء (هو الطلب لاختصاصه

٥

بمزيد ابحاث لم تذكر في بحث الخبر ولا كثيرا من الانشاءات الغير الطلبية لان الاصل في كثير منها الاخبار واما ما ليس الاصل فيها ذلك فهو نحو رب وكم الخبرية فتأمل جيدا.

(فالانشاء ان كان طلبيا استدعى مطلوبا غير حاصل وقت الطلب لامتناع طلب الحاصل) وايضا الانشاء انما يتعلق بالمستقبلات ولذا قالوا الانشاء ايجاد ما لم يجد ولكن لا بد فيه من ان يكون مشعورا به بوجه ما لامتناع توجه النفس نحو المجهول المطلق فضلا عن طلبه.

(والغرض ان جميع انواع الطلب يستدعي ذلك) المطلوب غير الحاصل (حتى اذا كان المطلوب حاصلا) وقت الطلب (يمتنع اجرائها على معناها الحقيقي ويتولد منها بحسب القرائن) معان مجازية حسب (ما يناسب المقام) كارادة استمرار الهداية ودوامها في قرائة (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) واستمرار عدم الحسبان في قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وسيأتي الكلام فيهما في آخر بحث النهي وكالمعاني المجازية المتولدة عن اداة الاستفهام وسيأتي بيانها.

(وانواعه) اي انواع الطلب (كثيرة) وقد اشير اليها فيما نقلناه عن شارح المطالع (وهي على ما ذكره المصنف) ههنا (خمسة التمنى والاستفهام والامر والنهي والنداء لانه اما ان يقتضي كون مطلوبه ممكنا أو لا الثاني التمني والاول ان كان المطلوب به حصول امر) اي صورة شيء (في ذهن الطالب فهو الاستفهام وان كان المطلوب به حصول امر) اي شيء (في الخارج فان كان ذلك الامر انتفاء فعل) وعدمه على قول او كف النفس عنه على قول آخر وسيأتي بيانهما (فهو النهي) ان كان معه استعلاء وإلا فهو الالتماس او الدعاء (وان كان) ذلك

٦

الأمر (ثبوته فان كان) طلبه (باحدى حروف النداء فهو النداء وإلا) اي لم يكن طلبه باحدى حروف النداء (فهو الامر) ان كان معه استعلاء وإلا فهو الالتماس او الدعاء.

(منها) اي من انواع الطلب (التمني وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبة واللفظ الموضوع له ليت) واما سائر ما يتمنى به كهل ولو فليست موضوعة له بل انما تستعمل فيه مجازا كما سيصرح بذلك الآن (ولا يشترط امكان المتمني لان الانسان كثيرا ما يحب المحال ويطلبه فهو) اي المتمني (قد يكون ممكنا كما تقول ليت زيدا يجيىء وقد يكون محالا) عادة (كما تقول ليت الشباب يعود لكنه اذا كان ممكنا يجب ان لا يكون لك توقع وطماعية في وقوعه وإلا لصار ترجيا ويستعمل فيه) اي في الترجي لفظة (لعل او عسى) فانهما موضوعان للترجي.

(ولما ذكر ما هو موضوع للتمنى اشار الى ما يستعمل في التمنى مجازا فقال وقد يتمنى بهل نحو هل لي من شفيع حيث) اي في مقام او زمان (يعلم) القائل لهذا الكلام (ان لا شفيع) له فان قلت لم لم يحمل الكلام على حقيقة الاستفهام وهو الاصل في اداة الاستفهام.

قلت (لانه حينئذ) اي حين يعلم القائل ان لا شفيع له (يمتنع حمله) اي حمل الكلام (على حقيقة الاستفهام لحصول الجزم بانتفاء هذا الحكم) اى كون شفيع للقائل (واستدعاء الاستفهام) الحقيقي (الجهل بثبوته) اى الحكم (وانتفائه) فلو حمل الاستفهام على حقيقته للزم التناقض فتدبر جيدا.

(والنكتة فى التمني بهل) مع كونه مجازا فيه وخلاف الاصل

٧

(والعدول) اي عدول المتكلم (عن ليت) مع كونه حقيقة فيه واصلا (هو) الاولى تأنيث الضمير لانه عائد الى النكتة ولعل التذكير باعتبار الخبر اعني (ابراز المتمنى لكمال العناية به في صورة) الشيء (الممكن الذي لا جزم بانتفائه) فيناسبه اداة الاستفهام الذي يقتضي الجهل بالثبوت والانتفاء.

(وقد يتمنى بلو) ايضا مجازا (نحو لو تأتني فتحدثني بالنصب) اى بنصب تحدثني (على تقدير فان تحدثني فان النصب قرينة على ان لو ليست على اصلها الذى هو الشرط فى الماضي مع القطع بانتفاء ما يليها (اذ لا ينصب المضارع بعدها) اذا تكون على اصلها (على اضماران) المصدرية (وانما يضمر) لفظة (ان) المصدرية (في جواب الاشياء الستة) او الثمانية التي اشار اليها ابن مالك بقوله :

وبعد فاء جواب نفي او طلب

محضين ان وسترها وجب

(والمناسب للمقام ههنا) من تلك الستة (هو التمني) فثبت ان كلمة لو ههنا استعمل في التمنى مجازا والنكتة ههنا مثل ما تقدم آنفا فتبصر.

(و) اعلم ان استعمال لو في موقع ليت انما هو لمناسبة بينهما في اصل المعنى اذ (كما يفرض بلو غير الواقع واقعا) كما بينه السيوطي في شرح قول الناظم :

لو حرف شرط في مضى ويقل

ايلائها مستقبلا لكن قبل

(كذلك يطلب بليت وقوع ما لا طماعية في وقوعه) ولو كان ممكنا فبينهما مناسبة ظاهرة.

(وقيل) والقائل الرضي وجماعة (انها) اى لو التي يتمني بها

٨

(لو التي تجيء بعد فعل فيه معنى التمني نحو (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) وهي) كما صرح به السيوطي في باب الموصول (حرف مصدرية وكثيرا ما يستغنى بها عن) ذكر (فعل التمني فينتصب الفعل بعدها) بان الناصبة المقدرة كما ينتصب الفعل بان المقدرة بعد سائر الاشياء الستة (نحو لو كان لي مال فاحج قال الله تعالى (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً)).

قال في المغنى في بحث لو الرابع ان تكون للتمني نحو لو تأتيني فتحدثني قيل ومنه فلو ان لناكرة اى فليت لناكرة ولهذا نصب فتكون في جوابها كما انتصب فافوز في جواب ليت فى ياليتني كنت معهم فافوز الى ان قال واختلف في لو هذه فقال ابن الضايع وابن هشام هي قسم برأسها لا تحتاج الى جواب كجواب الشرط ولكن قد يؤتي لها بجواب منصوب كجواب ليت وقال بعضهم هي لو الشرطية اشربت معنى التمني بدليل انهم جمعوا لها بين جوابين جواب منصوب بعد الفاء وجواب باللام كقوله :

فلو نبش المقابر عن كليب

فيخبر بالذنائب اى زير

بيوم الشعثمين لقرعينا

وكيف لقاء من تحت القبور

وقال ابن مالك هي لو المصدرية اغنت عن فعل التمنى وذلك انه اورد قول الزمخشرى وقد تجيء لو في معنى التمني نحو لو تأتيني فتحدثنى فقال ان اراد الاصل وددت لو تأتيني فحذف فعل التمني لدلالة لو عليه فاشبهت ليت في الاشعار بمعنى التمني فكان لها جواب كجوابها فصحيح او انها حرف وضع للتمني كليت فممنوع لاستلزامه منع الجمع بينها وبين فعل التمنى كما لا يجمع بينه وبين ليت انتهى.

(قال السكاكي كان حروف التنديم وهي هلا والا بقلب الهاء

٩

همزة) وبتشديد اللام فيهما (ولو لا ولو ما مأخوذة منهما اى كأنها مأخوذة من هل ولو اللتين للتمني حال كونهما مركبتين مع لا) فى الثلث الاول (وما) في الاخيرة (المزيدتين) وانما اتى بلفظ كان الدال على الظن لعدم الجزم بما ذكره من التركيب لجواز ان يكون كل واحدة منها كلمة برأسها لان التصرف فى الحروف بعيد وسيأتي تصريحه بذلك عن قريب.

(لتضمينهما علة لقوله مركبتين والتضمين جعل الشيء في ضمن الشيء تقول ضمنت الكتاب كذا بابا اذا جعلته متضمنا لتلك الابواب يعني ان الغرض من هذا التركيب والتزامه جعل هل ولو متضمنتين معنى التمني).

ان قلت ان هل ولو كانا قبل التركيب مع لا وما للتمنى فما معنى كون تركيبهما معهما لاجل ان يضمنا معنى التمني.

قلت انهما قبل التركيب كانا للتمني جواز او احتمالا وبعده يكونان للتمنى وجوبا فمعنى المتن لتضمينهما معنى التمني على التنصيص والوجوب.

(ليتولد علة لتضمينهما يعني ان الغرض من تضمينهما معنى التمنى ليس افادة التمنى) فحسب (بل) الغرض من ذلك التضمين (ان يتولد منه اي من معنى التمني المتضمنتين هما) اي هل وان (اياه) اي معنى التمنى (في الماضي التنديم) اى التوبيخ واللوم على ترك الفعل فيما مضى (نحو هلا اكرمت زيدا ولو ما اكرمته على معنى ليتك اكرمته قصدا الى جعله نادما على ترك الاكرام).

قال الرضي ولا يكون التحضيض في الماضي الذي قد فات إلا انها

١٠

تستعمل كثيرا في لوم المخاطب على انه ترك في الماضي شيئا يمكن تداركه في المستقبل فكأنها من حيث المعنى للتحضيض على فعل مثل ما فات (وفي المضارع التحضيض) اي الحث على الفعل والترغيب فيه (نحو هلا تقوم ولو ما تقوم على معنى ليتك تقوم قصدا الى حثه على القيام) وترغيبه فيه (ومع هذا فلا يخلو) في المضارع كما في الرضي (من ضرب من التوبيخ واللوم على ما كان يجب ان يفعله المخاطب قبل ان يطلب منه).

فان قلت اذا كان تولد معنى التنديم والتحضيض من معنى التمنى فيجوز ان يتولدا من معنى التمنى المستعمل فيه هل ولو مفردتين فما وجه التزام التركيب ليحصل لزوم معنى التمنى ليتولد التنديم والتحضيض.

قلت لعل ذلك باعتبار انه الى الضبط اقرب وبقواعد الوضع انسب وسيأتي الاشارة الى ذلك ايضا في ضمن كلامه عن قريب.

(فقوله لتضمينهما مصدر مضاف الى المفعول الأول ومعنى التمنى مفعوله الثاني وهذا) اى قوله لتضمينهما معنى التمنى (وان لم يكن مصرحا به في لفظ المفتاح لكنه حاصل معناه لانه قال مركبة مع ما ولا المزيدتين مطلوبا بالتزام التركيب التنبيه على الزام هل ولو معنى التمنى وهذا) اللفظ من المفتاح (مشعر بان ما وقع في بعض النسخ) من المتن (لتضمنهما) بصيغة المصدر من باب التفعل (ليس على ما ينبغي) اذ المناسب لقول المفتاح الزام هل ولو معنى التمنى ان يؤتي كما في هذه النسخة بصيغة المصدر من باب التفعيل وجه الاولوية ان الاول لازم والثاني متعد كالالزام فتدبر جيدا.

(وكذا قوله ليتولد ايضا) ليس مصرحا به في لفظ المفتاح بل هو

١١

(محصول كلام المفتاح حيث قال اذا قيل هلا اكرمت زيدا فكان المعنى ليتك اكرمته متولدا منه معنى التنديم) والتحضيض.

(وانما لم يجعل تركيبهما من اول الامر لتضمين معنى التنديم والتحضيض من غير توسط معنى التمنى جريا على مقتضى المناسبة) لقواعد الوضع كما اشرنا اليه آنفا (فان هل ولو قد يستعملان للتمني وتمني ما مضى تناسب التنديم) والتوبيخ (و) تمنى (ما يستقبل) يناسب (السؤال) اي الطلب (والتحضيض) حسبما مر آنفا.

(وانما ذكر) السكاكي (هذا الكلام) المنقول عنه في المتن (بلفظ كان لعدم القطع بذلك) اي بكون هلا واخواته مركبة مع ما ولا المزيدتين (لاحتمال ان يكون كل منها حرفا) مستقلا (موضوعا للتنديم والتحضيض من غير اعتبار التركيب فان التصريف في الحروف مما ياه كثير من النحاة) منهم ابن مالك حيث يقول :

حرف وشبهه من الصرف برى

وما سواهما بتصريف حرى

(وقد يتمنى بلعل فيعطي له حكم ليت و) ذلك بان (ينصب في جوابه المضارع على اضماران) الناصبة المصدرية والى ذلك يشير في الالفية حيث يقول :

والفعل بعد الفاء في الرجا نصب

كنصب ما الى التمنى ينتسب

(نحو لعلى احج فازورك بالنصب) اي بنصب ازورك (لبعد المرجو عن الحصول) اي الحج واللام متعلقة بقوله يتمنى او بقوله فيعطي (فبسبب بعده عن الحصول اشبه المحالات والممكنات التي لا طماعية في وقوعها فيتولد منه التمنى لما مر من انه طلب محال او ممكن لا طمع في وقوعه بخلاف الترجي فانه ارتقاب شيء) اي انتظار شيء (لا وثوق بحصوله

١٢

فمن ثم لا يقال لعل الشمس تغرب) لانه متيقن الحصول (وتدخل في الارتقاب الطمع والاشفاق فالطمع ارتقاب المحبوب نحو لعلك تعطينا) ما نحتاج اليه (والاشفاق ارتقاب المكروه) او الخوف من وقوعه (نحو لعلي اموت الساعة وبهذا) اي بدخول الاشفاق في الترجي (ظهر ان الترجي ليس بطلب) وجه الظهور ان العاقل لا يطلب ما يكرهه او يخاف منه.

(ومنها اي من انواع الطلب الاستفهام وهو طلب حصول صورة في الذهن فان كانت تلك الصورة وقوع نسبة بين الشيئين او لا وقوعها فحصولها هو التصديق وإلا فهو التصور) وذلك لما قال في التهذيب من ان العلم ان كان اذ عانا النسبة فتصديق وإلا فتصور.

(والالفاظ الموضوعة له الهمزة وهل وما ومن واي وكيف وكم واين واني ومتى وايان فبعضها مختص بطلب التصور وبعضها بطلب التصديق وبعضها لا يختص بشيء منهما بل يعم القبيلتين) اى مشترك بينهما (وبهذا الاعتبار) اى باعتبار عمومه للقبيلتين (صار) هذا البعض (اهم فقدمه المصنف) على سائر الفاظ الاستفهام.

قال في المغنى ما خلاصته والالف اصل ادوات الاستفهام ولهذا اختصت باحكام احدها جواز حذفها سواء تقدمت على ام ام لم تتقدمها الثاني انها ترد لطلب التصور ولطلب التصديق وهل مختصة بطلب التصديق وبقية الادوات مختصة بطلب التصور الثالث انها تدخل على الاثبات وعلى النفي ذكره بعضهم وهو منتقض بام فانها تشاركها في ذلك تقول اقام زيد ام لم يقم انتهى باختصار.

والى بعض ذلك اشار بقوله (فالهمزة لطلب التصديق اى ادراك وقوع النسبة) ادراكا اذ عانيا (او) ادراك (لا وقوعها) كذلك.

١٣

قال في شرح المطالع ان القضية لا تحصل في العقل إلا اذا حصلت اربعة اشياء مفهوم الموضوع كزيد ومفهوم المحمول كالكاتب ولا شك انه من حيث المفهوم ممكن النسبة الى امور كثيرة فلا بد من تعقل نسبة ثبوتية بينه وبين زيد والرابع وقوع تلك النسبة او لا وقوعها فما لم يحصل في العقل ان تلك النسبة واقعة او ليست بواقعة لم تحصل ماهية القضية ايضا وان كان ربما يحصل النسهة بدون الحكم كما للمتشككين والمتوهمين فكل من الامور الاربعة اذا ارتفعت ارتفعت ماهية القضية لا وجودها فقط فهي اجزاء لها لكنها فى القضية السالبة خمسة اذ اللا وقوع عند التفصيل شيئان فالنسبة التي هي جزء القضية هي التى ورد عليها الايجاب والسلب ثم اذا حصل الحكم حدث لزيد مثلا صفة اعنى انه موضوع وللكاتب صفة اخرى وهي انه محمول فالموضوعية والمحمولية انما يتحققان بعد تحقق الحكم اذ لا معنى للموضوع إلا كونه محكوما عليه ولا معنى للمحمول إلا كونه محكوما به وما لم يتحقق الحكم لم يصر احدهما محكوما عليه والآخر محكوما به فكل من النسبتين ليس بمتقدم على الحكم والنسبة التي هي جزء القضية متقدم عليه فلا يكون احديهما نسبة هى جزء القضية نعم اذا تحقق الحكم يعرض لتلك النسبة انها نسبة المحمول الى الموضوع فان النسبة التي هى مورد الايجاب والسلب هى نسبة الكاتب الى زيد لا نسبة زيد الى الكاتب ولذلك قيل ان الجهة عارضة لها لا بمعنى ان الجهة عارضة للمحمولية بل لما صدقت هى عليها وتحققت قبلها بمرتبتين فحقق هذا الموضع على هذا النسق وامح عن لوح ذهنك ما يقولون ويزخرفون فلا شبهة بعد شروق الحق المبين. انتهى وانما نقلنا هذا الكلام بطوله لتعرف المراد من قوله (وهذا) الادراك

١٤

(معني الحكم والاسناد وما يجرى مجريهما) فانه من غوامض العبارات في هذا الكتاب وبعد في المقام كلام طويل الذيل فلذلك اثرنا طى ذكرها على غره.

(كقولك اقام زيد) في الجملة الفعلية (و) كقولك (ازيد قائم) في الجملة الاسمية (فانت عالم بان بينهما) اى بين زيد والقيام فى الجملتين (نسبة اما بالايجاب او بالسلب ولكن تطلب) انت (تعيينها) لتدركها.

(او) لطلب (التصور اى ادراك غير النسبة التامة من اجزاء القضية (كقولك في طلب تصور المسند اليه ادبس في الاناء ام عسل فانك تعلم ان في الاناء شيئا والمطلوب تعيينه) لتدركه (و) كقولك (فى طلب تصور المسند في الخابية) وهي وعاء كبير من الخزف يسمى بالفارسية خم او خمرة (دبسك ام في الزق) وهو كما في المصباح ظرف زفت او قير (فانك تعلم ان الدبس محكوم عليه بالكينونة في الخابية او الزق والمطلوب هو التعيين) ليدرك ما فيه الدبس.

(فالمطلوب في جميع ذلك معلوم بوجه اجمالي ويطلب بالاستفهام نفصياء) وتعيينه (ولهذا اى ولمجيىء الهمزة لطلب التصور لم يقبح في طلب تصور الفاعل ازيد قام كما قبح هل زيد قام ولم يقبح) ايضا (في طلب تصور المفعول اعمرا عرفت كما قبح هل عمرا عرفت) وذلك اى قبح استعمال هل في المثالين وعدم قبح استعمال الهمزة فيهما (لان التقديم) اى تقديم المرفوع وهو الفاعل المعنوى بناء على ما تقدم في الباب الثاني نقلا عن السكاكي فتذكر وتقديم المفعول (يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل) حسبما مر بيانه هناك من ان التقديم

١٥

يفيد التخصيص وهو يستدعى حصول ما ذكرا عنى التصديق بنفس الفعل (فيكون هل لطلب حصول الحاصل لان هل لطلب التصديق (وهو) اي طلب حصول الحاصل كما اشرنا اليه سابقا (محال).

فان قلت مقتضى هذا ان استعمال هل في المثالين ممنوع لا انه قبيح فقط.

قلت إنما لم يكن ممنوعا لجواز ان يكون التقديم لغير التخصيص كالتبرك والاستلذاذ ونحوهما مما مر فى المباحث المتقدمة فى الباب الاول والثاني فلذا لم يمنع استعماله فيهما وسيجينى تصريحه بذلك بعيد هذا (بخلاف الهمزة فانها تكون لطلب التصور وتعيين الفاعل او المفعول) ولا تستدعي ان لا يكون اصل الفعل معلوما فلا مانع من حصول التصديق باصل الفعل فلا يقبح استعمال الهمزة فى المثالين ولو كان التقديم فيهما للتخصيص إذ لا تنافي بين طلب التصور والتصديق باصل الفعل وبعبارة اخرى التقديم في زيد قام لتخصيص الفاعل بعد العلم والتصديق بوقوع اصل القيام فدخول اداة الاستفهام عليه للسؤال عن المختص بالقيام بعد العلم والتصديق بوقوع اصل القيام اما من زيد او من غيره والتقديم في عمرا عرفت لتخصيص المفعول بعد العلم والتصديق بوقوع اصل العرفان على مفعول فدخول اداة الاستفهام عليه للسؤال عن المختص بالمفعولية بعد العلم والتصديق بوقوع اصل العرفان على مفعول اما زيد او عمرو فاستعمال هل فى المثالين يكون لطلب التصديق باصل الفعل مع ان التصديق بذلك حاصل حسب الغرض فيكون استعمال هل فيهما لطلب حصول الحاصل وهو محال بخلاف الهمزة لان استعمالها فيهما لطلب التصور ولا تنافى بين طلب التصور وحصول

١٦

التصديق باصل الفعل.

(و) لكن (هذا) اي استدعاء التقديم حصول التصديق بنفس الفعل وقبح استعمال هل لذلك (ظاهر فى اعمرا عرفت) لان الاصل والغالب الراجح في تقديم ما حقه التأخير ان يكون للتخصيص فلا بد من ان يحمل تقديم عمرو فيه على التخصيص فيستلزمه حصول التصديق باصل الفعل اعني العرفان الصادر من الفاعل على مفعول ما فيقبح حينئذ استعمال هل لاستلزامه طلب حصول الحاصل وهو محال.

(واما في أزيد قام فلا) يكون ذلك الاستدعاء ظاهرا (اذ لا نسلم ان تقديم المرفوع يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل) وذلك لما مر في الباب الثاني من ان تقديم المسند اليه اذا كان مظهرا لا يكون على مذهب السكاكي للتخصيص البة اى لا يكون للتخصيص اصلا فلا يستدعي حصول التصديق باصل الفعل اعني القيام الصادر من فاعل ما فلا يلزم من استعمال هل فيه طلب حصول الحاصل فلا قبح فيه.

(غايته انه) اي التقديم في ازيد قام (محتمل لذلك) الاستدعاء (على مذهب عبد القاهر) وذلك لما مر ايضا هناك من ان تقديم المسند اليه ان لم يل حرف النفى فقد يأتي على مذهبه للتخصيص وقد يأتي لتقوية الحكم (فيجوز) على مذهبه (ان يكون) الاستفهام في (أزيد قام لطلب التصديق) باصل الفعل لا لطلب التصور (و) ذلك اذا (يكون تقديم زيد للاهتمام ونحوه من الاغراض فلا يقبح حينئذ استعمال هل فيه ويجوز ان يكون الاستفهام فيه لطلب التصور وذلك اذا يكون التقديم فيه للتخصيص لا لغيره من الاغراض فيقبح حينئذ استعمال هل لكونه حينئذ لطلب حصول الحاصل فظهر مما قررناه ان

١٧

استعمال هل في ازيد قام ليس بقبيح عند السكاكي ولا عند الشيخ عبد القاهر إلا اذا كان التقديم للتخصيص وسيأتي الكلام فيه عن قريب.

فتعليل قبح استعمال هل في ازيد قام بان التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل فيكون هل لطلب حصول الحاصل غير مرضى باعتبار اطلاقه كما يصرح بذلك عن قريب.

(ويدل على هذا) اي على جواز كون الاستفهام في ازيد قام لطلب التصديق ويكون التقديم فيه للاهتمام ونحوه فلا مانع فيه من دخول هل عليه من حيث كون هل فيه لطلب حصول الحاصل (انه) الضمير للشأن (علل) مبنى للمفعول اسند الى (قبح هل زقام بان هل بمعنى قد لا بانه) اي هل (مختص بطلب التصديق) ويحتمل ان يكون ضمير انه للمصنف وعلل مبنيا للفاعل والحاصل انه يدل على الجواز المذكور انهم عللوا قبح استعمال هل في المثال المذكور بانه بمعنى قد وهى من مختصات الافعال (كما سيجيىء) بيانه عن قريب لا بانه مختص بطلب التصديق والتقديم يستدعى حصول التصديق فيلزم من استعماله في المثال طلب حصول الحاصل.

(والمسئول عنه بها اي الذي يسئل عنه بالهمزة هو ما يليها كالفعل في اضربت زيدا اذا كان الشك في نفس الفعل اعني الضرب الصادر من المخاطب الواقع على زيد واردت انت ايها المستفهم (ان تعلم وجوده) اى وجود هذا الضرب بمعنى انه هل وجد ام لا (فهي) اى الهمزة (على هذا) المعنى (لطلب التصديق بصدور الفعل عنه واذا قلت اضربت زيدا ام اكرمته فهو اي هذا الكلام مع الهمزة (لطلب تصور

١٨

المسند اضرب هو ام اكرام والتصديق حاصل بثبوت احدهما) لا على التعيين.

فان قلت يظهر من هذا البيان تأخر التصور عن التصديق وهو خلاف المعهود عندهم من توقف التصديق على التصور اما شطرا او شرطا.

قلت نعم ولكن التصور المتأخر تصور خاص وهو تصور ان الصادر من المخاطب خصوص الضرب او خصوص الاكرام بخلاف التصور المتقدم المتوقف عليه التصديق فانه مطلق لانه تصور شيء دائر بين الضرب والاكرام لا خصوص احدهما المعين قتنبه وسيأتي الاشارة الى الايراد وجوابه عن قريب.

(فمثل هذا) الكلام الذي فيه الهمزة التي يليها الفعل (يحتمل ان يكون لطلب التصديق) كالمثال المتقدم في المتن (و) يحتمل (ان يكون لتصور المسند) كالمثال الذي ذكره في الشرح (ويفرق بينهما بحسب القرائن فنحو قولك افرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه سؤال عن وجود نفس الفعل) يعني الفراغ من كتابة الكتاب فهو لطلب التصديق بصدور الفراغ من المخاطب والقرينة على كونه لطلب التصديق انك تعلم اشتغاله بالكتابة لكنك اردت بالاستفهام ان تعلم انه وجد الفراغ منه ام لا.

(ونحو) قولك (اكتبت هذا الكتاب ام اشتريته سؤال عن تعيين المسند) اي الكتابة والاشتراء فهو لطلب التصور والقرينة على كونه لذلك انك تعلم ان الكتاب حصل له باحد الامرين اي الكتابة والاشتراء وانك اردت بالاستفهام تعيينه (وبهذا) اي بكون الهمزة

١٩

التي يليها الفعل لطلب التصديق تارة ولطلب التصور تارة اخرى (يظهر ان كلام المصنف) اي قوله والمسئول عنه هو ما يليها كالفعل فى اضربت زيدا (لا يخلو عن تعسف).

وجه التعسف انه اذا كان المطلوب اعنى المسئول عنه هو التصديق فلا لفظ له حتى يلي الهمزة اللهم إلا ان يقال ان المسئول عنه حينئذ النسبة التي هي بين المسند اليه والمسند وهي جزء مدلول الفعل وقد بينا ذلك مفصلا في المكررات عند قول الناظم :

المصدر اسم ما سوى الزمان من

من مدلولي الفعل كامن من امن

فعليه لا بد ان يلي الفعل الهمزة (و) نحو (الفاعل في ا انت ضربت زيدا اذا كان الشك في الفاعل مع العلم بوقوع ضرب علي زيد والمفعول في ازيدا ضربت اذا كان الشك في المفعول من هو مع القطع بوقوع ضرب من المخاطب وكذا سائر المتعلقات) فان المسئول عنه بالهمزة هو ما يليها من المتعلقات.

(نحو) الظرف فى (افي الدار صليت وايوم الجمعة سرت و) نحو المفعول له في (اتاديبا ضربته و) نحو الحال في (اراكبا جئت ونحو ذلك) كالتميز في قوله :

انفسا تطيب بنيل المنى

وداعي المنون ينادي جهارا

وان ادعى ابن هشام في اوائل الباب الرابع ان التقديم في البيت الضرورة لكنه ليس كذلك والى معنى البيت اشار الشاعر الفارسي بقوله :

اميد بسته برايد ولي چه فائده زانكه

اميد نيست كه عمر دوباره بازايد

٢٠