كتاب الأفعال - ج ١

أبي عثمان سعيد بن محمد المعافري السرقسطي

كتاب الأفعال - ج ١

المؤلف:

أبي عثمان سعيد بن محمد المعافري السرقسطي


المحقق: دكتور حسين محمد محمد شرف
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

بقلم الدكتور مهدى علام ، عضو مجمع اللغة العربية

«الفعل» فى كل لغة ، وفى كل لغة راقية على وجه الخصوص ، هو مصدر التعبير عن أفكار المتحدثين بهذه اللغة ؛ هو اللفظ الذى يصور النشاط والحركة وكل ما تموج به حياة البشر من فكر ووجدان. ويدلنا على هذا أن اللغات البدائية : التى لا تتعدد فيها صور الحياة المتطورة ، تعتمد ـ أكثر ما تعتمد ـ على «الأسماء» ، وتستعين بقدر قليل من «الأفعال». وحينما يرتفع مستوى تفكيرها إلى الحاجة إلى مزيد من التمييز بين صور نشاطها التى يعبر عنها بصيغ «الأفعال» ، تستعين عندئذ بإضافة ألفاظ إلى مجموعة «الأفعال» التى لديها ـ ألفاظ تعدّل معانى هذه الأفعال ، وتنوع دلالاتها ، كإلحاق ما يقابل عندنا فى العربية «الظرف» أو «الحال». ومن أمثلة ذلك «الأفعال» التى تنتمى إلى أصل «أنجلوسكسونى» فى اللغة الإنجليزية ، قبل أن تثرى هذه اللغة بالأفعال التى استعارتها من الغتين العريقتين ، اللاتينية واليونانية ..

وإن نظرة سريعة إلى بعض تلك الأفعال «الأولية» فى أى معجم إنجليزى ، لتدل على مدى تنوع الدلالات لفعل الواحد ، بإضافة هذه المكملات النحوية إليه. ففعل) Get (مثلا يعبر عن عشرة معان (أى ما يساوى عشرة أفعال مختلفة) بسبب الإضافات التى تلحقه ، مثل) IN ,N (out ـ Away) الخ. وفعل) ck L (يدل ، بسبب مثل هذه الإضافات ، على سبع دلالات. وفعل) Set (على سبع كذلك ، وفعل) Put (على نحو عشرين.

٣

وقد كان اختيار النحاة العرب المصطلح «فعل» لهذا الجزء من الجملة اختيارا موفقا ، وهو لا شك اختيار مستوحى من معناه ووظيفته فى اللغة ، فهو ـ كما أشرت ـ مصدر الفعل والنشاط والحياة فى التعبير.

وشبيه بهذا التوفيق فى اختيار مصطلح ذى إيحاء لمعنى هذا اللفظ النحوى ، أى «الفعل» ، المصطلح الذى تستعمله له اللغات الأوربية جميعها ، وهو لفظ) Verp (و) Verpe (المستعار من اللفظ اللاتينى) Verpuw (، ومعناه «الكلمة». كأن وظيفة «الفعل» فى الجملة هى «الكلمة المعبرة» ، هى اللفظة المؤدية لأهم معنى فى الجملة.

وهنا أشعر بميل للمجازفة بهذه الدعوى : وهى أن الجملة الاسمية التى يقتصر عليها التعبير فى اللغات الهندية الأوربية (فليس فى هذه اللغات ما يقابل الجملة الفعلية فى اللغات السامية) ليست فى جوهرها وأدائها إلا جملة فعلية ذات ترتيب خاص فى وضع ألفاظها ، بحيث لا يبدأ فيها بالفعل ، ولكنها لا تستغنى أبدا عن الفعل فى مناط الإسناد ، حتى فى أبسط صورها ، عند ما يكون مناط الإسناد هو مجرد فعل الكينونة ، أو ما يسمى فى اصطلاحنا النحوى «الكون العام».

ونظرا لأهمية هذا الجزء من التركيب اللغوى ، أى الجملة ، وهو «الفعل» ، قد اهتم به علماء اللغة والنحو فى جميع اللغات ، حصرا وتوضيحا ، وجدولة ، وتأليفا. ولكل لغة مواضع اهتمامها بضبط «الأفعال» فيها ، من حيث اشتقاقها ، وتصريفاتها ، وما هو مطرد منها على نسق واحد (وهو قليل فى معظم اللغات) ، وما هو غير مطرد على قياس ، بل يختلف اختلافا قليلا أو كثيرا عن القياس ، وما هو شاذ شذوذا كاملا.

وطلاب اللغات ، من أهلها ومن غيرهم ، يجدون أن أهم صعوبة تواجههم هى إتقان صيغ الأفعال وتصريفاتها. وحسبى أن أشير ـ تمثيلا لا حصرا ـ إلى الجداول

٤

والمجموعات التى تحصر أنواع التصريفات المختلفة للأفعال فى كل من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

أما لغتنا العربية ، بمالها من تطور عظيم ، واتساع وتقدم ، فلها نصيبها من هذه الميزة التى هى فى حقيقتها صعوبة ـ صعوبة المجد والرقى ـ فمن ذلك تحديد صيغ الفعل الثلاثى الذى هو أساس لصيغ الزيادة (إذا استثنينا القلة العددية للفعل الرباعى الأصل). وأفعالنا الثلاثية تحتاج إلى علم واسع ، وجهد عظيم ، لتحديدها ـ فى صيغتها ومعانيها ـ «فالبطاقة الشخصية» لكل فعل تحتوى على بنيته أو صيغته فى أحد الأبواب الستة المعروفة (وأحيانا خارج نطاقها) ، كما تحتوى على تحديد وظيفته ، لزوما وتعدّيا ، ثم على الدلالات التى يعبر عنها.

وأشير هنا إلى ضبط بنية الفعل بقليل من الأمثلة التى تدل على مدى الحاجة إلى حصر الأفعال وتحديد ضبط كل منها ، ولو لم يكن لكل فعل إلا بنية واحدة فى أحد الأبواب الستة للفعل الثلاثى لكان هذا كافيا فى وجوب تحديد هذه البنية أو الصيغة التى لا سبيل إلى معرفتها إلا بالتوقيف والتعليم ، (وإن يكن هناك ما يشبه الضوابط للاهتداء إلى بعضها) ، فكيف الحال ومئات الأفعال لها أكثر من صيغة واحدة فى أحد الأبواب الستة!.

فمما يأتى من بابين مثلا : نشأ ينشأ (من باب فتح) ، ونشؤ ينشؤ (من باب شرف) ؛ وهزىء يهزأ (من باب سمع) ، وهزأ يهزأ (من باب منع) ؛ وبصر يبصر (من باب شرف) ، وبصر يبصر (من باب فرح).

ومما يأتى من ثلاثة أبواب : بطر (من باب فرح ، ومن باب نصر ، ومن باب ضرب) ؛ وفطن (من باب فرح ، ونصر ، وشرف) ؛ ونعم (من باب فرح ، ونصر ، وضرب) ؛ وفضل (من باب نصر ، وفرح ، ثم فضل يفضل من غير باب).

٥

ومما يأتى من أربعة أبواب : حسب (من باب نصر ، وشرف ، وفرح ، وورث) ومثله برأ يبرأ (من باب فتح) وبرئ يبرأ (كفرح) ، وبرأ يبرؤ (كنصر) ، وبرئ يبرؤ (على غير باب) ، وملح (كفتح ، ونصر ، وشرف ، وفرح).

وقد تنبه علماء اللغة العربية لأهمية «الفعل» فى بنائه ومصدره ومعناه ، فألفوا الرسائل ثم الكتب فى ذلك.

ومن أهم هذه الكتب :

كتاب الأفعال لأبى عثمان سعيد بن محمد المعافرى القرطبى ثم السرقسطى (المعروف بابن الحداد) الذى توفى فى حدود سنة أربعمائة هجرية ، أى منذ نحو ألف سنة. وكان من بين الأهداف التى من أجلها ألف ابن الحداد كتابه هذا وفاؤه لأستاذه ابن القوطية. فقد عرض فى هذا الكتاب أكبر قدر من أفعال اللغة العربية ، وأوضح قياس تصاريفها ، وبين الصحيح والمعتل منها ، والمجرد والمزيد ، والمتعدى واللازم. ومصادر الفعل الثلاثى. وعددا آخر من المشتقات. وكان أساس المادة التى اختارها وكتب عنها هو «كتاب الأفعال» لابن القوطية. أستاذه الذى أثبت وفاءه له بهذه الطريقة العملية. بتأليف كتاب يستكمل فيه عمل أستاذه ويستدرك ما تركه.

وهذا الوفاء الذى يحمله التلاميذ لأساتذتهم معروف بين علماء العربية. فهناك مثال شبيه بهذا ، عند ما ألف أبو الفتح عثمان بن جنى كتابه «المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها». وقد ألفه وفاء لذكرى أستاذه أبى على الفارسى الذى كان ينوى أن يضع كتابا فى هذا الموضوع ، ولكن منيته عاجلته.

وقد حقق الكتاب الذى أقدمه هنا الدكتور حسين محمد شرف ، تحقيقا علميا ، اعتمد فيه على مخطوطتين. وقد عرف بهما تعريفا دقيقا ، وقارن بين نصيهما ، وتعقب الشواهد التى فى النص فشرحها ونسب ما أمكنه منها إلى قائليها.

٦

ويسرنى أن أقدم هذا الجزء من التحقيق للشادين والعلماء ، فهو جزء عزيز عظيم من تراثنا اللغوى الذى يقوم على نشره مجمعنا للغة العربية ، فى نطاق الأعمال العلمية التى ينشرها تحقيقا لرسالته.

مهدى علام

المعادى ١٩ من المحرم ١٣٩٥

٣١ من يناير ١٩٧٥

٧

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق

(ا)

أحمد الله الذى علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، على آلائه ونعمه ، وأثنى عليه بما لا يحصى من أفضاله فى خفى الأمر وظاهره.

وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وخاتم النبيين ، صلّى الله عليه وعلى آله ، وصحابته وسلم تسليما.

أما بعد فإن التصريف والاشتقاق من أبرز ظواهر العربية ، وأشرف علومها ، وقد أدرك النحويون واللغويون قيمة كل من هذين العلمين فى وقت مبكر ، وأولوهما كل اهتمام.

ولما كانت أبنية الأسماء ، وأبنية الأفعال هى مادة التصريف والاشتقاق ، فقد ظفرت هذه الأبنية باهتمام علماء اللغة ، والنحو ، والتصريف ، وألف فى هذه الأبنية جلة من العلماء ، وكان للأفعال نصيب وافر من هذه الدراسات. وكان لنحاة الأندلس سبق إلى هذا الميدان ، إذ شاركوا بباع طويل فيه ، ولعلهم أرادوا بذلك أن يسجلوا لأنفسهم سبقا فى مجال من مجالات العلوم يقفون به مع العلماء المشارقة على قدم المساواة.

وتنصّ كتب التراجم وفهارس الكتب على كثير من الكتب التى ألفت فى أبنية الأفعال قبل كتب المدرسة الأندلسية ، غير أنها إلى الرسائل أقرب منها إلى الكتب ، ومن هذه التواليف القائم بنفسه مثل :

ـ كتاب فعلت وأفعلت للأصمعى ، ومنه نسخة مخطوطة بالقاهرة ثانى ٢ / ٢٨

٨

ـ وكتاب فعلت وأفعلت لأبى عبيد ، ومنه نسخة مخطوطة بالقاهرة ثا ٣ / ٢٨١

ـ وكتاب فعلت وأفعلت لأبى حاتم السجستانى ، ومنه عدة نسخ مخطوطة بالقاهرة.

ـ وكتاب فعلت وأفعلت لأبى إسحاق الزجاج ، مطبوع فى القاهرة ١٣٦٨ ه‍.

ومن هذه التآليف الذى جاء فصولا وأبوابا فى تواليف أخرى مثل

ـ ما جاء عن فعلت وأفعلت فى «إصلاح المنطق» لابن السكيت ، مطبوع فى القاهرة ١٩٤٩ م.

ـ وما جاء عن أبنية الأفعال فى «أدب الكاتب» لابن قتيبة ، مطبوع فى القاهرة ١٣٢٨ ه‍.

ـ وما جاء عن فعلت وأفعلت فى «فصيح ثعلب» ، مطبوع فى القاهرة ١٣٦٨ ه‍.

ـ وما جاء عن فعلت وأفعلت فى «جمهرة ابن دريد» ، مطبوع فى حيدرأباد ١٣٤٥ ه‍.

وإذا كانت المحاولات السابقة قد وقفت كتبها عند أبنية خاصة ، فإن هناك كتبا أخرى تعرض أصحابها للأفعال عامة دون تخصيص بناء منها ، وعلى رأس هولاء من المتقدمين «أبو عبيد» ، «فابن السكيت» ، ومن المتأخرين «ابن سيده». وفتح «ابن القوطية» أحد علماء الأندلس ونحاته فى القرن الرابع الهجرى بتأليفه كتاب الأفعال الطريق أمام تلاميذه ، ومن جاء بعدهم فحذوا حذوه ، ووجدنا عدة مصنفات فى هذا الموضوع ترجع فى أغلبها لعلماء من الأندلس وهى :

ـ كتاب الأفعال لأبى بكر بن القوطية الذى توفى فى سنة سبع وستين وثلاثمائة ه.

ـ وكتاب الأفعال لأبى مروان عبد الملك بن طريف الأندلسى تلميذ «ابن القوطية» ذكره «ابن خير» فى فهرسته ، وصاحب «بغية الوعاة» فى ترجمة «ابن طريف» فقال : «وله كتاب حسن فى الأفعال (١)» ، وتوفى «ابن طريف» سنة أربعمائة تقريبا

__________________

(١) فهرسة ابن خير ٣٥٦. وبغية الوعاة ٢ ـ ١١١.

٩

ـ وكتاب الأفعال لأبى منصور محمد بن على بن عمر بن الجبّان ـ أحد العلماء المشارقة ـ ذكره صاحب «بغية الوعاة» فى ترجمة أبى منصور ، فقال : «وصنف أبنية الأفعال (١)» وقد توفى بعد سنة ست عشرة وأربعمائة ه.

ـ وكتاب الأفعال لأبى القاسم على بن جعفر السعدى اللغوى المعروف بابن القطاع الصقلى ، ذكره «ابن خلكان» فى ترجمته (٢) ، توفى سنة خمس عشرة وخمسمائة ه.

ـ وكتاب الأفعال لأبى عبد الله محمد بن يحيى بن هشام الأنصارى الخزرجى الأندلسى ، قال عنه صاحب البغية : «وصنف فصل المقال فى أبنية الأفعال (٣)» ، توفى سنة ست وأربعين وستمائة ه.

وليس بين أيدينا من كتب هذه المدرسة غير :

ـ كتاب الأفعال لابن القوطية ، طبع فى ليدن ١٨٩٤ م ، والقاهرة ١٣٧١ ه‍ ـ ١٩٥٢ م.

ـ وكتاب الأفعال لابن القطاع ، طبع فى حيدرأباد ١٣٦١ ه

وكتاب الأفعال لأبى عثمان سعيد بن محمد المعافرى القرطبى ثم السرقسطى المعروف بابن الحداد ، توفى فى حدود سنة أربعمائة ، شهيدا فى إحدى الغزوات. وهو الذى أقدّمه محققا لأول مرة ، وسوف يتبين لنا أنه أتمّ وأكمل كتاب يقدم للمكتبة العربية فى هذا الموضوع بإذن الله.

__________________

(١) بغية الوعاة ١ ـ ٨٥.

(٢) وفيات الأعيان ٣ ـ ١١ الترجمة ٤٢٠.

(٣) بغية الوعاة ١ ـ ٢٦٧

١٠

(ب)

السرقسطى ، ومكانته العلمية ، ومؤلفاته

١ ـ نسب أبى عثمان

هو سعيد بن محمد المعافرى اللغوى ، من أهل قرطبة ، يكنى أبا عثمان ، ويعرف بابن الحداد (١) ، ولقّبه بالحمار كل من «حاجى خليفة» صاحب كشف الظنون ، و «بروكلمان» فى تاريخ الأدب العربى.

وعبارة كشف الظنون : «ومنهم ـ أى ممن صنف فى الأفعال ـ أبو عثمان سعيد بن محمد السرقسطى المنبوز بالحمار (٢) ...

وعبارة «بروكلمان» ـ الترجمة العربية ـ «وكان أشهر تلاميذ ابن القوطية» أبا عثمان سعيد بن محمد المعافرى ، القرطبى ، السرقسطى المعروف بابن الحداد الحمار (٣). ولم يكن أبو عثمان أول من لقب بالحمار. إذ لقب به الخليفة الأموى «مروان بن محمد بن مروان» آخر خلفاء بنى أمية ، يتحدث الفخرى عنه ، فيقول : «ويقال له الحمار وإنما لقب بالحمار ، قالوا : لصبره فى الحرب ، وكان شجاعا صاحب دهاء ومكر (٤)».

«وأبو عثمان» هى الكنية التى اختارها «سعيد بن محمد» لنفسه ، وآثر أن يصدر بها كلامه فى الأفعال.

وليس نسب المعافرى فى اسم أبى عثمان دليلا على أن أبا عثمان ينتمى إلى أصل عربى ؛ لأنه يجوز أن يكون أحد الموالى الذين ينتسبون إلى قبيلة «معافر» بالولاء.

__________________

(١) الصلة ١ ـ ٢١٣ ، وبغية الوعاة ١ ـ ٥٨٩.

(٢) كشف الظنون ١ ـ ١٣٣.

(٣) «بروكلمان» الترجمة العربية ٣ ـ ٢٨١

(٤) الآداب السلطانية ١٠٩

١١

ولأبى عثمان سميان من نحاة الأندلس يشتر كان معه فى الاسم ، واسم الأب والكنية ، ويشترك أحدهما معه فى لقب الجد ، هما :

«سعيد بن محمد الغسانى أبو عثمان بن الحداد .. عده الزّبيدى من نحاة الطبقة الثالثة الأندلسيين (١) ، وذكر «الزبيدى» له يرجح أنه غير أبى عثمان صاحب الأفعال.

«وسعيد بن محمد النحوى القرطبى أبو عثمان» (٢) ، روى عنه أبو الحسن على بن أحمد بن سيده وغيره ، ورواية ابن سيده الذى ولد فى حدود الأربعمائة من الهجرة عنه ، ترجح أنه غير صاحب الأفعال كذلك.

٢ ـ مولد أبى عثمان

والنصوص التى كتبت عن «أبى عثمان» فى كتب التراجم لا تساعد على تحديد تاريخ مولده ، ومكانه ، ومعرفة الفترة الأولى من حياته ، ومراحل تلك الحياة ، وعدم المعرفة بتواريخ محددة لميلاد كثير من العلماء ظاهرة شائعة. والمدخل الذى يقربنا من فترة زمنية لمولد هذا العالم ما جاء فى «الصلة» و «بغية الوعاة» من أنه أخذ عن «أبى بكر بن القوطية» ، وهو الذى بسط كتابه فى الأفعال ، وزاد فيه ، وتوفى بعد الأربعائة شهيدا (٣).

وما جاء كذلك فى «تاريخ الأدب العربى» «لبروكلمان» من أنه «كان أشهر تلاميذ ابن القوطية ... قتل فى إحدى الغزوات بعد سنة ٤٠٠ ه‍». (٤)

__________________

(١) طبقات الزبيدى ٢٦١ ، وبغية الوعاة ١ ـ ٥٨٩

(٢) بغية الوعاة ١ ـ ٥٨٩

(٣) الصلة ١ ـ ٢١٤ ، والبغية ١ ـ ٥٨٩

(٤) بروكلمان الترجمة العربية ٣ ـ ٢٨١

١٢

وما جاء فى مقدمة «أبى عثمان» لكتابه من أنه روى أفعال ابن القوطية على مؤلفه ـ رحمه‌الله ـ (١).

وإذا قارنا تلمذته على ابن القوطية الذى توفى سنة سبع وستين وثلاثمائة (٢) ، وروايته كتابه عليه ، واستشهاده فى إحدى الغزوات بعد سنة أربعمائة ه ، وقدرته على الجهاد فى هذه الفترة ، أمكننا أن نقول : إن مولده كان فيما حول سنة أربعين وثلاثمائة من الهجرة ؛ لأن هذه البداية تصل بأبى عثمان عند وفاة شيخه إلى سن تسمح بتلمذة ، وتمنح شهرة على الأقران من تلاميذ ابن القوطية ، وتمكن من روايته كتاب شيخه عليه ، وتصحيح تلك الرواية ، وفى نفس الوقت تحتفظ لأبى عثمان بعد سنة أربعمائة ه بقدرة تمكنه من المشاركة فى الجهاد ، وجهاد عالم عامل قوى الإيمان ، يتطوع للجهاد طمعا فى الاستشهاد ، وهو فى الستين من عمره أمر كثير الحدوث.

٣ ـ نشأة السرقسطى

تقف المصادر التى ترجمت لأبى عثمان ، والنصوص التى بين أيدينا عنه ـ كما قلنا ـ قاصرة عن تزويد الباحث بما يمكنه من التعريف بنشأة هذا العالم فى سهولة ، وقصور المصادر لا يعنى العجز ، ولا يعفى الباحث من تتبع الظروف التى أحاطت بتلك الشخصية ، وتحليلها ، والربط بين نتائجها من أجل استنتاج ما يمكن أن يقترب من درجة الحقائق عن تلك الشخصية ، والبيئة العلمية التى عاش فيها أبو عثمان ، والخيوط الرفيعة التى بين أيدينا عن تلمذته ، وكتابه «الأفعال» ، ثم شهادته مجاهدا فى سبيل الله ، يمكن أن تكون منابع نستقى منها بعض معارف هذه النشأة.

__________________

(١) مقدمة أفعال أبى عثمان.

(٢) تاريخ ابن الفرضى ١ ـ ٣٧٠

١٣

وإذا كانت «قرطبة» قد حققت فى النصف الأول من القرن الرابع الهجرى على يد الخليفة الأموى «عبد الرحمن الناصر «٣٠٠ : ٣٥٠ ه‍» نوعا من الاستقرار السياسى ، وحقق لها هذا الخليفة النصر فى الداخل والخارج (١) ، وأقبلت على «قرطبة» وفود ملوك الروم ... وسائر الأمم خاضعة راغبة فى موادعته (٢) ، فإنها فى النصف الثانى من هذا القرن قد حققت فى عهد الخليفة الحكم المستنصر وعهد الحاجب «المنصور بن أبى عامر ـ الذى تسمى بالحاجب ـ سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ه (٣)» نهضة علمية ، وفكرية ، ولغوية واسعة ، وأصبحت جامعتها من أشهر جامعات العالم.

وكان يدرس الحديث فيها «أبو بكر بن معاوية القرشى» ، وفيها أملى «أبو على القالى» ـ ضيف الأندلس ـ دروسه عن العرب قبل الإسلام ، وكان «ابن القوطية» يدرس النحو. ، وكان يدرس بقية العلوم أساتذة من أعلام العصر ، وكان الطلبة يعدون بالآلاف (٤).

وإذا كان «المعافرى» أشهر تلاميذ ابن القوطية» وكتاب الأفعال له بسط لكتاب شيخه بعد أن أفرد له عنايته ، وجعل له حظا من نظره (٥) حتى خرج أكمل وأشمل كتب الأفعال التى بين أيدينا ، وأوفاها نحوا ، وصرفا ، ولغة ، وأدبا ، ثم آثر التطوع والجهاد فى سبيل الله ، وفضل ما عنده ، فإنى أقول مرجحا : إن أبا عثمان سعيد بن محمد المعافرى القرطبى السرقسطى ولد فى «قرطبة» أو رحل إليها صغيرا مع أسرته من «سرقسطة» حيث مجالات العمل فى «قرطبة» متوافرة ، وأنه نشأ ، وشب فى «قرطبة» يتمتع بقدرات فطرية طيبة من الذكاء ، وملكة الحفظ ، وروح التدين ، والقدرة على الاستيعاب ، والتقى بهذه القدرات مع شيوخ

__________________

(١) تاريخ الأدب العربى فى الأندلس د ـ إحسان عباس ١٤

(٢) نفح الطييب ١ ـ ٣٤٣

(٣) الدولة الإسلامية فى الأندلس محمد عبد الله عنان ٢ ـ ٥٥٢

(٤) نفس المصدر ٢ ـ ٥١٧

(٥) مقدمة أفعال أبى عثمان.

١٤

عصره فى جامعة «قرطبة» ونهل من علومهم ، وأنه اختص من بين هؤلاء العلماء أبا بكر بن القوطية ، فلازمه ، وقرأ عليه ، واحتل مكان الصدارة بين طلبته ، وتخرج عليه فى علوم اللغة ، والنحو ، والتصريف ، كما تتلمذ على كتب مكتبة «قرطبة» التى جمع فيها الخليفة الحكم المستنصر ثروة زاخرة من الكتب فى مختلف فروع العلم والمعرفة ، واتصل بالقرآن وعلومه ، والحديث وشروحه ، تدفعه إلى ذلك روح دينية تمكنت منه ، فصرفته عن الدنيا ، والبحث عن الشهرة فيها ، وحببت إليه الآخرة ، والعمل من أجل الفوز بها.

٤ ـ شيوخ أبى عثمان

نصت المصادر التى ترجمت له على تلمذته لأبى بكر محمد بن عمر بن القوطية.

وكان أبو بكر هذا رأسا فى اللغة والنحو ، حافظا للأخبار وأيام الناس ، فقيها محدثا ، متقنا ، كثير التصانيف ، صاحب عبادة ونسك ، روى عن سعيد بن جابر ، وطاهر بن عبد العزيز وسمع بإشبيلية من محمد بن عبيد الزبيدى ، وبقرطبة من أبى الوليد الأعرج ، مدحه «أبو على القالى» : بأنه أنبل من رأى بقرطبة فى اللغة ، وقد تخرج عليه كثير من علماء الأندلس ، وكان أبو عثمان المعافرى أشهر تلاميذه. توفى ـ رحمه‌الله ـ يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الأول سنة سبع وستين وثلاثمائة ه (١). وروى أبو عثمان فى كتابه عن شيخ من معاصريه هو :

أبو العلاء صاعد بن الحسن بن عيسى الربعى البغدادى اللغوى. صحب الفارسى والخطابى وروى عنهم ، وكان متقدما فى علم اللغة ، وكان أحضر الناس شاهدا ، وأرواهم. لكلمة غريبة. دخل الأندلس سنة ثمانين وثلاثمائة ، وأصبح من متقدمى ندامى المنصور بن أبى عامر ... توفى ـ رحمه‌الله ـ بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة ه (٢).

__________________

(١) له ترجمة فى تاريخ علماء الأندلس ١ ـ ٣٧٠ ، ومعجم الأدباء ١٨ ـ ٢٧٢ ، وبغية الوعاه ١ ـ ١٩٨ ، وشذرات الذهب ١٣ ـ ٦٢ ، وطبقات المالكية ٩٩. وغيرها.

(٢) له ترجمة فى وفيات الأعيان ١ ـ ٢٢٩ ، ومعجم الأدباء ١١ ـ ٢٨١ ، ونفح الطيب ٢ ـ ٨٦ ، والمعجب ١٩

١٥

وقد نقل «أبو عثمان» عن «أبى العلاء» مصرحا بالرواية عنه فى سبعة أفعال من كتابه هى : أدا ـ أشر ـ أتم ـ أرم ـ ألق ـ هرّ ـ هبص.

ومع من التقى بهم «أبو عثمان سعيد المعافرى» من الشيوخ ، وأخذ عنهم من العلماء يظل «أبو بكر بن القوطية» شيخه الأول ، وصاحب الفضل الأكبر فى إذكاء نبوغه ، وتخريجه عالما فى اللغة ، والتصريف ، والنحو ، وأغلب الظن أن «أبا عثمان» ظل وفيا لشيخه ، ملازما له ، آخذا عنه حتى توفى الشيخ ـ رحمه‌الله ـ ، وأن أفعال «ابن القوطية» كانت الدافع الأول الذى دفع أبا عثمان» لتأليف أثره الوحيد الباقى بين أيدينا ، والذى كان سببا فى كشف شخصيته ، ونشر أثره.

٥ ـ مذهبه النحوى

إن الحركة اللغوية والنحوية التى عاش «أبو عثمان» فى كنفها ، وتتلمذ على شيوخها وتخرج فيها جاءت ثمرة عدة عوامل ، فى مقدمتها :

رحلة علماء من الأندلس إلى المشرق العربى ، التقوا فيه بالعلماء المشارقة المتقدمين من بصريين وكوفيين ، وتتلمذوا عليهم ، ورووا عنهم ، وتخرجوا على أيديهم ، وعادوا إلى الأندلس يحملون علم البصريين ، وعلم الكوفيين ، وعلم من أخذ عن المدرستين ، وجمع بين المذهبين ، رواية ومؤلفات ، وعلى هذا العلم تخرج النحاة واللغويون فى الأندلس.

وإذا رجعنا إلى كتاب «أبى عثمان» وجدنا أنه روى عن شيوخ المدرستين ، روى عن أبى زيد ، والأصمعى ، وابن دريد ، وأبى حاتم من شيوخ البصريين ، وروى عن ابن الأعرابى ، وابن السكيت ، وأبى عبيد من شيوخ الكوفيين ، وروى عن غير هؤلاء من الفريقين ، وأنه لم يرض لنفسه أن يكون أسير مذهب بعينه ، أو يتعصب لقول ، وإنما يأخذ عن المتقدمين ، ويروى لكثير منهم ، وينتصر للمحسن بعد أن يمحص ما روى عنه ، ويتثبت من أنه الصواب. ولا عجب فى هذا فتلك خطة التآليف فى ذلك العصر الذى نضجت فيه العلوم وتحددت المذاهب.

١٦

٦ ـ شخصية أبى عثمان العلمية

لم يظفر «أبو عثمان المعافرى» بما يستحق من اهتمام العلماء الذين ألفوا فى التراجم من المشارقة والمغاربة على السواء ، قريبين من عصره ، أو متأخرين ، حتى علماء الأندلس الذين عاصروه ، وتتلمذوا على «أبى بكر بن القوطية» شيخ أبى عثمان مثل أبى الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضى صاحب تاريخ علماء الأندلس ، ولم يكن «أبو عثمان» بدعا فى ذلك ، بل كان هذا نصيب كثير من العلماء ، وبخاصة علماء الأندلس ، يقول «بروكلمان» عن علماء مصر ، واليمن ، والأندلس «والترجمة لهؤلاء العلماء محدودة فى كتب التراجم ، فبينما نرى أن علماء البلاد الأخرى احتلت أسماؤهم الكثير من صفحات كتب التراجم أو معظمها ، إذ بنا نرى أن علماء مصر ، واليمن ، والأندلس لم ترد تراجمهم إلا فى كتب قلة من كتب التراجم ، وبعضهم لم يذكر فى شىء منها (١).

وإذا عزت النصوص المكتوبة التى تفيد فى تأكيد مكانة هذا العالم ، فإن كتاب الأفعال ـ بما حوى من ثروة لغوية ، ونحوية ، وصرفية ، وأدبية ، ودراية بالقراءات ، ونقول غير محدودة عن العلماء المتقدمين ، ودقة تامة فى نسبة ما رواه عنهم ، وإثبات كل هذا بشواهد من الشعر ، والرجز ، والقرآن ، والحديث ، والأمثال ، وأقوال الأعراب يقف بنا أمام عالم يتميز فى إنتاجه العلمى بسمات من أبرزها :

ـ الصبر والأناة والاستقراء لآراء العلماء حول المعنى الواحد.

ـ تتبع آراء العالم فى أكثر من موضع وأكثر من كتاب.

ـ عرض الآراء ، وتمحيصها ، ونقدها إن كان للنقد مكان.

ـ الاستيثاق التام فى نقل الآراء ونسبة الرواية والاستشهاد إذا أدى ترك النّص إلى اللبس.

ـ ثقافة ، وسعة معارف ، وثروة من الفوائد التى يحفل بها الكتاب.

__________________

(١) بروكلمان الترجمة العربية ٣ ـ ٢٧٤

١٧

ـ عالم أديب ذواقة لا يقف عند البيت الذى يورده لإثبات القاعدة وإنما يروى المقطوعة الشعرية ، والنادرة الطريفة التى تربى ذوقا ، وتكسب تجربة.

ـ ثقافة دينية ، ودراية واسعة بعلوم القرآن والحديث.

ـ أمانة علمية فائقة ، ودقة تامة فى نسبة الأقوال لمن تقدم من العلماء.

٧ ـ وفاته

لا نعرف على وجه التحديد تاريخ وفاة «أبى عثمان» ، وتجمع الروايات التى بين أيدينا على أنه توفى بعد الأربعمائة ، شهيدا فى إحدى الوقائع.

يقول «ابن بشكوال» (١) فى الصّلة : «وتوفى بعد الأربعمائة شهيدا فى إحدى الوقائع. ونقل السيوطى فى البغية (٢) عبارة ابن بشكوال».

ويقول «بروكلمان» : قتل فى إحدى الغزوات بعد سنة أربعمائة ه ألف وعشر بعد الميلاد (٣).

وإذا رجعنا إلى المصادر التاريخية للتعرف على الظروف التى مرت بها «قرطبة» مع خاتم المائة الرابعة ، والسنوات التى تلتها ، وحاولنا الاعتماد على هذه الظروف فى الاقتراب من تحديد تاريخ الوفاة على وجه التقريب وجدنا أن «قرطبة» عاشت فى حالة صراع عنيف حول الخلافة ، وفتن ضارية عصفت بحضارتها ، وشردت الكثير من أبنائها (٤) ، وعرفنا أن المسلمين شغلوا فى هذه الفترة عن الغزو الخارجى بالفتن الداخلية ، ورجحنا أن «ابن الحداد السرقسطى» قد استشهد فى إحدى هذه الفتن وبخاصة فتن سنة أربعمائة ، أو فتن سنة ثلاث وأربعمائة ، وهو يدافع عن «قرطبة» ، وعن حق الخليفة الذى آمن بأنّه صاحب الحق فى الخلافة من بين المطالبين.

__________________

(١) الصلة ١ ـ ٢١٤

(٢) بغية الوعاة ١ ـ ٥٨٩

(٣) بروكلمان الترجمة العربية ٣ ـ ٢٨١

(٤) انظر تاريخ ابن خلدون ٤ ـ ٣٢٦ ، ونفح الطيب ١ ـ ٤٠٤ ، والكامل لابن الأثير ٧ ـ ٢٨٥

١٨

٨ ـ مؤلفاته

لم تحتفظ المكتبة العربية لأبى عثمان إلا بكتاب الأفعال ، ولم أقف ـ على كثرة ما رجعت إليه من التراجم ، والفهارس ، والتواريخ ، وكتب الطبقات ـ على آثار أخرى له.

والسؤال الذى يفرض نفسه.

أوقف تأليف «أبى عثمان» عند هذا الكتاب؟ أم أن لهذا العالم تواليف أخرى غير أنها لم تصل إلينا بعد؟

الاحتمال الأول يقول : إن كتاب الأفعال كتابه الوحيد ؛ لأن الذين ترجموا له لم يذكروا له كتبا أخرى ، ولو كانت له كتب أخرى لذكروها.

وأن «أبا عثمان» لم يحل فى كتاب الأفعال إلى كتب أخرى له شأن كثير من المؤلفين الذين نعرف كثيرا من ثبت كتبهم من خلال تواليفهم.

الاحتمال الثانى يقول : إن لأبى عثمان كتبا أخرى ، وأنها لم تصل إلينا بعد ؛ لأن الذين ترجموا له قلة من العلماء ، ومصدرها الذى استقت منه واحد.

وأن كتب «أبى عثمان» لم تقرأ عليه ، وتروعنه لانصرافه إلى الجهاد ، وأن من صار إليه مؤلف منها ضنّ به لنفاسته. يرجح هذا أن أبا بكر محمد بن خير الأموى الإشبيلىّ من علماء القرن السادس ، وأحد المصادر المبكرة الذى ترك فهرسة بالدواوين والكتب التى رواها عن شيوخه دقق فى سند رواية كل مؤلف حتى وصل به إلى مؤلفه غير كتب قليلة انقطعت سلسلة روايتها قبل مؤلفها ، وأحدها أفعال أبى عثمان ، وأن كتاب الأفعال مع غزارة مادته العلمية ، ومع أنه أوفى كتب الأفعال التى ظهرت ـ حتى الآن ـ لم يظفر بما يستحق من اهتمام.

١٩

وأشعر أن لأبى عثمان كتبا أخرى غير الأفعال إلا أنها قليلة ، ويقوم هذا الشعور على مسوغات منها :

أن كتاب الأفعال لأبى عثمان مع قيمته العلمية فى موضوعه قد أغفله كثير من أصحاب التراجم ، وأغفلوا صاحبه ، واقتصروا على ذكر «ابن القوطية» و «ابن القطاع (١)». وأن الفتنة الكبرى التى حلت بقرطبة سنة أربعمائة هجرية على يد البربر ألحقت دمارا ، كبيرا بمكتبة «قرطبة» ودورها ، وربما فقدت كتب أبى عثمان فيما فقد (٢). وأن استشهاد «أبى عثمان» فى إحدى الوقائع كان عاملا من عوامل تعرض كتبه للضياع.

وأن هذه العقلية المستوعبة لآثار الفكر المتشعبة من معرفة بالأحكام ، وإتقان للتراث الأدبى واللغوى ، ومعرفة غير يسيرة بأخبار الرجال ، وطبقات العلماء والرواة ، والمادة العلمية المتنوعة التى يفيض بها أثره الموجود الذى وصل إليها ، كلها شواهد تدل على أن ثقافة هذا الرجل لم تكن محدودة بحدود اللغة وتصريفها ، وربما كان للرجل آثار أخرى فى هذا الموضوع وفى غيره (٣) من الحقول الثقافية التى رأينا شواهد منها ، ولعل الأيام تصدق ذلك ، وتظهر آثارا أخرى من آثاره فتنصف عالما جديرا بالإنصاف ، وتزوّد المكتبة العربية بأثر آخر من آثار عالم عظيم.

__________________

(١) انظر معجم الأدباء ١٨ ـ ٢٨٢ ، وفيات الأعيان الترجمة ٦٢٢ ، نفح الطيب المقرى ٤ ـ ٧٤ شذرات الذهب ٢ ـ ٦٢

(٢) انظر الدولة الإسلامية فى الأندلس ٢ ـ ٥٠٩

(٢) انظر الدولة الإسلامية فى الأندلس ٢ ـ ٥٠٩

٢٠