بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

إنّ من وظائف الحوزة العلمية رفع مستوى الطلاب العلمي وتحكيم المباني الفقهيّة والاصوليّة والاعتقاديّة وغيرها متناسبا لحاجات الامّة الاسلاميّة والعالم الإسلامي.

ولذلك قرّر الشورى المركزي لإدارة الحوزة العلمية بقم المشرّفة دروسا اخرى في جنب الدروس الفقهيّة والاصوليّة تحقيقا بوظيفته المقدسة.

ومما منّ الله عليّ هو أن دعاني الشورى المركزي لإلقاء أبحاث ومحاضرات حول عقائد الإمامية لطلاب العلوم الدينية. إنّي وإن لم أر أهلية لنفسي لذلك ولكن استعنت بحول الله وقوّته وهو تعالى أعانني بالتوفيق لإلقاء تلك المباحث.

واتخذت كتاب عقائد الإمامية للعلم المعروف في الحوزات العلميّة آية الله الشيخ محمّد رضا المظفر قدس‌سره متنا لتلك الأبحاث ؛ لكونه جامعا للمسائل الاعتقاديّة ، بمختصر العبارات ، مع ما فيه من الإشارات إلى المهمّات من المباحث الراقيات ، وشرحته وعلّقت عليه تتميما ، وتبيينا ، وسمّيته ببداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية.

ودأبي في هذا المتن والكتاب والإلقاء هو أن ابين المباحث المهمّة وأدلّلها بالبراهين الواضحة والمحكمات من الأدلّة ، من دون اقتصار على علم خاص ، كالفلسفة أو الكلام ، بل كل ما رأيته تامّا أخذته وأوردته ولو كان في الروايات

٥

والآثار ، وأرجو من الله تعالى أن يوفقني لإتمامه ، وأن يكون نافعا لي ولإخواني المؤمنين ، ولا أدعي أنه تام كامل. كيف يمكن هذه الدعوى مع نقص المؤلف وعجزه وضعفه ، ولكن كان رجائي بعون الله ولطفه وهو خير معين.

وفي الختام اشكر شكرا جزيلا الشورى المركزي في إعاناتهم حول تلك المقاصد وأدعو وأطلب من الله أن يزيد في توفيقاتهم حتى ينالوا مقاصدهم كمال النيل وشكر الله مساعيهم الجميلة وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

السيد محسن الخرازي

سنة ١٣٦٦ الهجرية الشمسية ـ قم المقدسة

٦

تمهيد

١ ـ عقيدتنا في النظر والمعرفة

٢ ـ عقيدتنا في التقليد بالفروع

٣ ـ عقيدتنا في الاجتهاد

٤ ـ عقيدتنا في المجتهد

٧
٨

١ ـ عقيدتنا في النظر والمعرفة

نعتقد ان الله تعالى لما منحنا قوة التفكير ووهب لنا العقل أمرنا أن نتفكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه ، ونتدبر في حكمته واتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي انفسنا ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فصلت : ٥٣.

وقد ذم المقلدين لآبائهم بقوله تعالى : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) البقرة : ١٧٠. كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) الأنعام : ١١٦ و ١٤٨ ويونس : ٦٦ والنجم : ٢٣.

وفي الحقيقة أن الذي نعتقده أن عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون ، كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدعي النبوة وفي معجزته (١).

__________________

(١) ولا يخفى عليك أن الدليل العقلي على وجوب المعرفة إما هو وجوب دفع الضرر المحتمل ، بتقريب أنه مع عدم طلب المعرفة يحتمل الضرر الاخروي وحيث أن دفع الضرر المحتمل واجب يكون طلب المعرفة واجبا.

٩

لا يقال : إن العقلاء كثيرا ما يتحملون الضرر لدواع مختلفة فكبرى القياس ممنوعة ، لأنا نقول : إن ما يتحمله العقلاء في امورهم هو الحقير من الضرر أو الضرر المنجبر بفائدة مهمّة لا الخطير والكثير منه ، لا سيما ما فيه ضرر النفس وهلاكها ، والضرر الاخروي على تقدير ثبوته ضرر خطير ، فاحتماله يوجب لزوم دفعه وإن كان الاحتمال ضعيفا ؛ لأن المحتمل قوي وخطير.

والشاهد عليه هو استحقاق المذمة على عدم دفعه.

ثمّ لا يخفى عليك أنه لا منافاة بين كون لزوم دفع الضرر عقليا وبين كون الدفع المذكور جبليّا أيضا لكل ذي شعور ؛ لإمكان اجتماعهما.

وإما هو وجوب شكر المنعم ، بتقريب أن مع ترك طلب المعرفة يحتمل ترك شكر المنعم وتضييع حقه على تقدير وجوده وحيث إن تضييع حق المنعم قبيح وشكره واجب ، فطلب المعرفة واجب حتى لا يلزم تضييع حقه على تقدير وجوده.

لا يقال : إن كبرى وجوب شكر المنعم لا تدل على وجوب شكر المنعم ما لم تحرز المنعمية والمفروض أن المقام قبل الفحص عن الدليل كذلك ، إذ لم تثبت الخالقية والمنعمية.

لأنا نقول : لا مجال للبراءة العقلية قبل الفحص والنظر في الواجبات العقلية ، بل اللازم هو الفحص والنظر عن موضوعها وإلّا لزم ترك الواجبات العقلية من دون عذر ومن الواضح أنه قبيح.

ثم لا يخفى عليك ، أن الوجه الثاني لا يرجع إلى الوجه الاول ، بل هو وجه آخر لأن ملاك الحكم في الثاني هو ملاحظة حق المولى فيمنع العقل عن تضييع حقه بترك شكره ويحكم بوجوب شكره ، بخلاف الوجه الأول ، فإن ملاك الحكم فيه هو ملاحظة جانب العبد لئلا يقع في الضرر والتهلكة بسبب ترك المعرفة ، فافهم.

١٠

ثم إنه قد استدل لوجوب طلب المعرفة بأن المعرفة ممّا اقتضتها الفطرة إذ من الفطريات فطرة طلب الحقائق وكشفها.

ويمكن أن يقال : إنّ مجرد كون الشيء فطريا لا يستلزم الايجاب والالزام بخلاف الحكم العقلي ، فإنه وإن كان إدراكا لضرورة المعرفة بأحد الوجوه المذكورة إلّا أن الضرورة المدركة بالدرك العقلي تدعو الإنسان نحو تحصيل المعرفة بحيث لو تخلف عنه لاستحق المذمة. نعم ، يصلح هذا الوجه لتأييد ما ذكر ولنفي ما توهمه الملحدون من انبعاث الفكر الديني عن العوامل الوهمية.

ثم إن وجوب دفع الضرر المحتمل أو وجوب شكر المنعم كما يدلان على وجوب طلب المعرفة وتحصيلها ، كذلك يدلان على وجوب التصديق بعد المعرفة والتدين به ، اذ بدون التدين والتصديق لا يحصل الايمان ومع عدم حصوله يبقى احتمال الضرر الاخروي وتضييع حق المولى المنعم إن لم نقل بأنه مستلزم للعلم بالضرر الاخروي وتضييع حقه.

ولذا ذمّ سبحانه وتعالى من أيقن ولم يؤمن بما أيقن به (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) النمل : ١٤ ، كما صرّح به المحقق الخراساني في تعليقته على فرائد الاصول (١).

ثم بعد ما عرفت من وجوب المعرفة والتصديق والتدين فاعلم أن النظر والفحص والتحقيق واجب من باب المقدمة ، إذ الواجبات المذكورة لا تحصل بدون ذلك ، فليس لأحد أن لا ينظر إلى نفسه أو إلى الآفاق لتحصيل معرفة الخالق أو أن لا يسمع دعوى من يدعي النبوة والإمامة ولا يتفحص عن معجزته.

ثم لا يخفى عليك ، أن للتحقيق والنظر مراتب مختلفة من الإجمال والتفصيل ،

__________________

(١) ص : ١٠٤.

١١

أدناها ما يرتفع به احتمال الضرر أو تضييع حق المولى المنعم وهو واجب على العموم وما زاد عنه مستحب ، ما لم يدل دليل على وجوبه كما إذا توقف إزالة شبهات المبطلين وحفظ الدين عليه ، فيجب على الخواص أن يزيدوا في المراتب حتى يتمكن لهم ذلك.

ويتحقق الواجب من المعرفة بتحصيل العلم مطلقا سواء كان من الدليل الفلسفي أو الكلامي أو العقلائي أو غير ذلك من الطرق إلّا إذا ورد النهي عن سلوك طريق خاص ، فلا مدفع للضرر المحتمل.

فالأولى هو الاقتصار على المحكمات من البراهين والأدلة حتى يدفع احتمال الضرر ويحصل شكر المولى المنعم.

وأما المعرفة الحسية والتجربية التي تسمى عند الغربيين بالعلم التجربي ، فلا يجوز الاكتفاء بها في المسائل الاعتقادية ، فانّ العلم التجربي لا يكشف إلّا عما يمكن تجربته وإحساسه ، فما لا يكون كذلك كوجود الله تعالى وصفاته والمعاد وغيرهما من الامور الغيبية التي لا يمكن إحساسها وتجربتها خارج عن حيطة التجربة والإحساس فلا يكشف وجوده أو عدمه بالعلم التجربي.

فإنكار الملحدين للمبدإ والمعاد بدليل أنهما لا يكونان قابلين للتجربة ، إنكار بلا دليل ومكابرة واقتصارهم على العلم التجربي يستلزم ترك الواجبات العقلية التي منها وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما المعرفة التعبدية كإثبات الصانع بقول الصانع أو بقول النبي المدعي أنه مرسل من ناحية الصانع فلا يجوز الاكتفاء بها ؛ للزوم الدور.

نعم يمكن الاكتفاء بها في جملة من العقائد بعد إثبات المبدأ والنبوة بالدليل العقلي ، كالمعاد وغيره.

وأما الاكتفاء بطريقة الكشف والشهود والعرفان ، في غير ما اقتضته الفطرة فحيث إن هذه الطريقة لا تخلو عن الخطأ والاشتباه فلا يجوز بدون ضميمة النظر

١٢

والاستدلال كما لا يخفى (١). نعم من نظر واستدل واهتدى إلى الطريق المستقيم امكن له الكشف والشهود بالاجتهاد في العبادة ومراحل الإخلاص فلا تغفل.

ثمّ إنه هل يتحقق الواجب المذكور بتحصيل العلم ولو من التقليد أم لا يكفي إلّا ما يكون مستندا إلى الدليل؟ ذهب العلّامة (٢) والحكيم المتأله المولى محمّد مهدي النراقي وغيرهما إلى لزوم كون المعرفة عن دليل فلا يكفي العلم الحاصل من التقليد (٣).

وأورد عليه المحقق الخوانساري بأن من حصل له العلم من التقليد محكوم بالإسلام وإن عصى في ترك تحصيل المعرفة من الدليل (٤) وظاهره لزوم كون التحصيل من الدليل ، لكن لو عصى كفى في كونه محكوما بالإسلام.

وأنكر الشيخ الأعظم الأنصاري ـ قدس‌سره ـ لزوم كونه من الدليل ، بل قال ما حاصله : إن مقصود المجمعين هو وجوب معرفة الله لا اعتبار أن تكون المعرفة حاصلة عن النظر والاستدلال كما هو المصرّح به عن بعض والمحكي عن آخرين باعتبار العلم ولو حصل من التقليد (٥).

فالأقوى كما ذهب إليه الشيخ ـ قدس‌سره ـ هو كفاية الجزم ولو حصل من التقليد فلا دليل على لزوم الزائد عليه.

ثمّ لا يخفى أن المخاطب بوجوب تحصيل المعرفة هو الذي لم يعلم بالمبدإ والمعاد وأما الذين عرفوهما ولو بأدنى مرتبة المعرفة كالموحدين والمؤمنين فلا يكونون من المخاطبين بهذا الوجوب ؛ لأن طلب المعرفة منهم تحصيل الحاصل ،

__________________

(١) راجع قواعد المرام : ص ٣٠ وغيره من الكتب.

(٢) راجع الباب الحادي عشر.

(٣) أنيس الموحدين : ص ٣٩.

(٤) راجع مبدأ ومعاد : ص ١١.

(٥) راجع فرائد الاصول : ص ١٦٩ و ١٧٥.

١٣

ولا يصح عندنا تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطرا (٢).

وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير واتباع العلم والمعرفة فإنما جاء مقررا لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء وجاء منبها للنفوس على ما جبلت عليها من الاستعداد

______________________________________________________

والمعرفة الزائدة ليست بواجبة على كل أحد. وإن أمكن القول بوجوبها على بعض كالطلاب دفعا للشبهات الواردة من ناحية المنكرين والملحدين ، فلا تغفل.

(٢) فإنه مع التقليد ـ ما لم يوجب العلم ـ يبقى احتمال الخطأ ومعه لا يكون معذورا فيما إذا لم يصادف ما أخذه بالتقليد مع الواقع فما يكون علة لوجوب المعرفة من وجوب دفع الضرر المحتمل أو وجوب شكر المنعم باق بحاله ، ويدعوه نحو تحصيل المعرفة ؛ لعدم حصول المعرفة المطلوبة بالتقليد المذكور.

ولذا صرّح أبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف بأن اتباع الجل مع اختلافهم في الأقوال والآراء محال ؛ للتنافي ما بينهم ، واطراح الجل يقتضي كونه على ما كان عليه من الخوف ، واتباع البعض عن تقليد لا يرفع خوفه مما أطرحه من المذاهب لتجويز كونه حقا ولا يقتضي سكونه إلى ما ذهب إليه لتجويز كونه باطلا ، فلم يبق لتحرزه من الضرر المخوف إلّا النظر المميّز للحق من الباطل فوجب فعله ؛ لكونه تحرزا من ضرر (١).

ولا ينافي ذلك ما مر من كفاية حصول العلم بالتقليد فإن التقليد المبحوث عنه في المقام هو الذي لا يوجب العلم.

__________________

(١) تقريب المعارف : ص ٣٤.

١٤

للمعرفة والتفكير ، ومفتحا للأذهان وموجّها لها على ما تقتضيه طبيعة العقول.

فلا يصحّ ـ والحال هذه ـ أن يهمل الإنسان نفسه في الامور الاعتقادية أو يتّكل على تقليد المربين أو أيّ أشخاص آخرين ، بل يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر في اصول اعتقاداته (٣) المسماة باصول الدين التي أهمها التوحيد.

______________________________________________________

(٣) ولا يخفى أن المصنف أضاف في هامش الكتاب ما هو بلفظه «إنه ليس كل ما ذكر في هذه الرسالة هو من اصول الاعتقادات فإن كثيرا من الاعتقادات المذكورة كالقضاء والقدر والرجعة وغيرها لا يجب فيها الاعتقاد ولا النظر ويجوز الرجوع فيها إلى الغير المعلوم صحة قوله كالأنبياء والأئمة ، وكثير من الاعتقادات من هذا القبيل ، كان اعتقادنا فيها مستندا إلى ما هو المأثور عن أئمتنا من صحيح الأثر القطعي».

حاصله : هو التفصيل بين اصول الاعتقادات بمعنى أساسها وبين غيرها بكفاية الأدلة السمعية في الطائفة الثانية دون الاولى من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد.

وفيه أولا : أن في غير إثبات التوحيد والعدل والنبوة كالإمامة والمعاد يمكن الاكتفاء بالأدلة السمعية القطعية وإن كان لهما أدلة عقلية أيضا فإنه بعد إثبات المبدأ والنبوة يكون قول النبي في الإمامة والمعاد كافيا ومفيدا للعلم والجزم ، ويمكن الاعتقاد به ولا حاجة إلى إقامة الأدلة العقلية ، نعم الاستدلال بالأدلة العقلية في مثلهما يوجب قوة واشتدادا.

١٥

والنبوة والإمامة والمعاد (٤). ومن قلّد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الاصول فقد ارتكب شططا وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذورا أبدا.

______________________________________________________

وثانيا : إن نفي وجوب الاعتقاد في الطائفة الثانية بمجرد جواز الرجوع فيها إلى الأدلة السمعية محل إشكال ، بل منع ، لأن جواز تحصيل المعرفة من الأدلة الشرعية لا ينافي وجوب الاعتقاد بما يستفاد منها بعد فرض حصول القطع به.

ولذلك صرّح بعض الفحول بوجوب التدين بكلّ ما علم ثبوته من الدين ولو لم يكن من ضرورياته معللا ببداهة مساوقة ذلك للإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ثم لو لم يستقل العقل بوجوب معرفة شيء ، ولم يدل على وجوبها شرعا أيضا ، فمقتضى البراءة العقلية هو عدم وجوب المعرفة ، ولذا ذهب بعض الفحول إلى عدم وجوب المعرفة ببعض تفاصيل الحشر والنشر ، وبقية الكلام في محله.

(٤) وفيه أن اختصاص الاصول الاعتقادية بالأربعة دون الخمسة خلاف ما ذهب إليه المشهور من الإمامية والأحسن إتباع المشهور ، وإن كان العدل من الصفات الفعلية ويشمله لفظ التوحيد في اصطلاح علم العقائد كما يشمل سائر الصفات ، ولذا لم يذكروا البحث عن الصفات على حدة.

وذلك لأنّ مسألة العدل من المسائل المهمة التي انفردت الأشاعرة فيها عن العدلية القائلة بعدل الله تعالى فالمناسب هو افراده عن الصفات من جهة أهميته كما فعله المشهور.

__________________

(١) راجع تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الاصول : ص ١٠٤.

١٦

وبالاختصار عندنا هنا ادعاءان :

الأول : وجوب النظر والمعرفة في اصول العقائد ولا يجوز تقليد الغير فيها.

الثاني : أن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوبا شرعيا ، أي لا يستقي علمه من النصوص الدينية وإن كان يصح أن يكون مؤيدا بها بعد دلالة العقل (٥).

وليس معنى الوجوب العقلي ، إلّا ادراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في اصول الاعتقادات (٦).

______________________________________________________

(٥) والأولى هو الإشارة إلى وجوه دلالة العقل وقد عرفت الإشارة إليها في التعاليق السابقة.

(٦) وذلك لأن شأن العقل ليس إلّا إدراك الكليات فالأمر والنهي هو من النفس في مقام النيل الى ما أدركه العقل بالادراك الكلي ، وقد صرّح المصنف ـ قدس‌سره ـ به في الاصول حيث قال : «ومعنى حكم العقل ـ على هذا ـ ليس إلّا إدراك أن الشيء مما ينبغي أن يفعل أو يترك وليس للعقل إنشاء بعث وزجر ولا أمر ونهي إلّا بمعنى أن هذا الادراك يدعو العقل إلى العمل أي يكون سببا لحدوث الإرادة في نفسه للعمل وفعل ما ينبغي» (١).

__________________

(١) راجع اصول الفقه : ج ١ ص ٢٢٢ ، وتعليقة المحقق الأصفهاني ـ قدس‌سره ـ على الكفاية : ج ٢ ص ١٢٤ ، ومبحث حجية الظن وفلسفة الأخلاق : ص ٤٠ ، وگوهر مراد : ص ٢٤٦.

١٧

٢ ـ عقيدتنا في التقليد بالفروع

أما فروع الدين وهي أحكام الشريعة المتعلقة بالأعمال ، فلا يجب فيها النظر والاجتهاد ، بل يجب فيها ـ إذا لم تكن من الضروريات في الدين الثابتة بالقطع كوجوب الصلاة والصوم والزكاة ـ أحد امور ثلاثة : إما أن يجتهد المكلف وينظر في أدلة الأحكام إذا كان أهلا لذلك ، وإما أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط ، وإما أن يقلد المجتهد الجامع للشرائط بأن يكون من يقلده عاقلا عادلا «صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه».

فمن لم يكن مجتهدا ولا محتاطا ثم لم يقلد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه ، وإن صلّى وصام وتعبد طول عمره ، إلّا إذا وافق عمله رأي من يقلده بعد ذلك وقد اتفق له أن عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى (١).

______________________________________________________

(١) بل لو صادف عمله للواقع ولو لم يوافق رأي من يقلده فهو صحيح إذ لا موضوعية لرأي المجتهد ؛ لأنه طريق إلى الواقع. نعم حيث لا يعلم بالمصادفة فلا بد أن يراعي موافقة عمله للحجة الفعلية.

١٨

٣ ـ عقيدتنا في الاجتهاد

نعتقد أن الاجتهاد في الأحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الإمام (١) بمعنى أنه يجب على كل مسلم في كل عصر. ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين ويكتفون بمن تصدّى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط فيقلدونه ويرجعون إليه في فروع دينهم.

ففي كل عصر يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم فإن وجدوا من بينهم من تبرع بنفسه وحصل على رتبة الاجتهاد التي لا ينالها إلّا ذو حظ عظيم وكان جامعا للشرائط التي تؤهله للتقليد ، اكتفوا به وقلّدوه ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم ، وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة ، وجب عليهم أن يحصل كل واحد رتبة الاجتهاد أو يهيئوا من بينهم من يتفرّغ لنيل هذه المرتبة حيث يتعذر عليهم جميعا السعي لهذا الأمر أو يتعسر ، ولا يجوز لهم أن يقلّدوا من مات من المجتهدين.

______________________________________________________

(١) ويدل عليه قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة : ١٢٢.

١٩

والاجتهاد هو النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والأحوال «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» والأدلة الشرعية هي الكتاب الكريم والسنة والإجماع والعقل على التفصيل المذكور في كتب اصول الفقه.

وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلّا لمن جدّ واجتهد وفرّغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها.

______________________________________________________

هذا مضافا إلى أن الفقه مما لا يتم الواجب إلّا به كإقامة الحدود والقضاء ونحو ذلك فالاجتهاد واجب شرعا وعقلا.

٢٠