رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

ديولافوا

رحلة مدام ديولافوا من المحمّرة إلى البصرة وبغداد

المؤلف:

ديولافوا


المترجم: علي البصري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

١
٢

٣
٤

٥
٦

تقديم

هذه رحلة إلى العراق ليست كالرحالات الأخرى ممّا تعوّدنا قراءته منها ، إنها رحلة أديبة مؤرخة فرنسية أو مولعة بالتاريخ القديم ، في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد ، تمثّل لك ضروبا من الملاحظات في سيرة العراقيين الاجتماعية وغيرهم من الشعوب للمقابلة والمقايسة ، وتكشف لك عن ثقافة تاريخية قلّما تراها اليوم عند امرأة غربية مثقفة فضلا عن امرأة شرقية ، كما تذكر لك الرأي السياسي لهذه السائحة التي لم تتعود غير التصريح في كتابتها.

وردت العراق السيدة «ديولافوا» المركّب اسم عائلتها من الله والإيمان سنة «١٨٨١ م ـ ١٢٩٩ ه‍» في ولاية تقي الدين باشا الثانية على العراق ، وأساءت الثناء على الأتراك من ولاة وأتباع ، وجدّبت إدارتهم ، واستقبحت سيرهم ، ويفهم من أقوالها أنها كانت تكرههم كأكثر الأمم الأوروبية يومئذ وهي بغضاء موروثة ، كما يفهم من خلالها أنها كانت تحب الفرس وهم أعداء الأتراك إذ ذاك.

٧

وقد سجلت في رحلتها فوائد طريفة في عادات العراقيين وألبستهم ، وأحوالهم الاجتماعية الأخرى تسجيلا مفصلا يجعل رحلتها إلى القصة أقرب منها إلى الرحلة ، فلا ينفك القارئ فيها مقبلا على قراءتها حتى يتمّها مشغوفا بها ، مفتونا بما يتخلّلها من ملحوظات بارعة ، ونكت فائقة ، وانتقادات مرّة ، وفضول غريب يصوّر لنا طبيعة نسوية خاصة لا أثر لها عند السياح ، ولا عند كثير من النساء ، ويمثّل طرازا من التفكير ينبغي لنا أن نطلع عليه ، كما يعرب لنا عن حقيقة إخلاصها لزوجها ، ومكابدتها المشقات من أجله ، وأسلوب هذه السيدة السائحة أسلوب أدبي بارع ممتع ، تعمدت فيه الإطالة خوفا من الملالة ، التي تنشأ في العادة من الأسلوب الرياضي المألوف في أكثر الرحل الجافة ، فالرحلة قطعة أدبية جميلة.

هذا وأرجو أن يستفيد قراء العربية المولعون بالرحل من هذه الرحلة فوائد جليلة في الاجتماع والتاريخ والآثار والذوق الأدبي.

د. مصطفى جواد

٨

رحلة مدام ديولافوا

عاش في فرنسا بين سنتي ١٨٤٣ ـ ١٩٢٠ م مهندس معماري معروف وعالم أثري كبير ، يدعى «مارسل ديولافوا» كانت له بحوث وتحقيقات قيّمة في فن العمارة والريازة في الحضارات الشرقية المختلفة. ومن المسائل التي تصدّى لها والأسئلة التي أثارها : هو أكان للحضارة الساسانية تأثير في الفن الإسلامي أم لا؟

ولقد كلفت «مارسل ديولافوا» الإجابة عن هذا السؤال تكليفا كثيرا ، إذ لم يشف غليله كل ما وقع في يديه من كتب تعنى بمثل هذه الموضوعات في أوروبا كلها. ولم ير باحثنا المحقّق في الأخير بدّا من شدّ رحاله إلى الشرق نفسه ، ليستقي منه معلوماته ويلقى طلبته في الإجابة عن السؤال الذي عنّ له.

يمّم وجهه شطر الشرق ـ أول مرّة ـ عام ١٨٨١ م على حسابه الخاص ، وأمضى ما يقرب من سنة في تركيا والقفقاز وإيران والعراق ، يدقّق النظر ويطلع على الأبنية التاريخية العتيقة فيها حتى فتح الله عليه الجواب واطمأنّ له!

وفي هذه السفرة ـ الأولى ـ التي قام بها مارسل كانت زوجه معه وهي معروفة بأسلوبها الرقيق وبموهبتها الفنية في الرسم ولم تدع الفرصة تفوتها فأخذت على نفسها تسجيل يومياتها وخواطرها منذ إقلاعها من مرسيليا حتى عودتها ثانية إلى فرنسا في كتاب سمته «رحلة ديولافوا إلى إيران وشوش وكلدة» ولقد كان لصدور هذا السفر الجليل في باريس صداه البالغ وأثره البعيد في يومه ـ لا لما تضمن من طرائف مستملحة وأخبار غريبة عن تلك المناطق التاريخية فحسب ، بل لما احتوى عليه مما توصل إليه زوجها من

٩

حقائق واستكشافات وإن كان قد خانه التوفيق في بعضها فبالغ في أهمية الفن الساساني وأثره في فن العمارة الإسلامية.

نرانا مضطرين إلى ترجمة القسم الخاص بالعراق فقط آملين أن يجد عشّاق كتب الرحلات والأسفار لذتهم ومتعتهم فيه كما نرجو أن نوفق في تقديم الصورة التي رسمتها المؤلفة للعراق يومئذ وتسليط الضوء على حوادث وشؤون العراق في تلك البرهة المظلمة ... والمغفلة من التاريخ.

الناشر

١٠

في شط كارون

١ ـ سبتمبر ١٨٨١

ذهبنا مع حراسنا المدججين بالسلاح لزيارة مقبرة كانت تتراءى لنا من بعيد ونحن نمخر شط كارون. ولقد وجدنا هذه المقبرة مهجورة ومتروكة تماما لم يلفت نظرنا منها شيء!

وعند عودتنا كنت مبلبلة الخواطر ضجرة بحيث لم تكن عندي الرغبة في تسويد دفتر يومياتي كالمعتاد ورأيتني أترامى في حجرة الزورق الذي كان يقلّنا. أمّا زوجي مارسل فلقد كان يعمل بجد وبكثير من الصبر شراعا لزورقنا ...

ولكن المؤسف بعد كل تلك الجهود أن الريح بدأت تسكن وتهدأ رويدا رويدا كما أن طعامنا أوشك أن ينفد!

٢ ـ سبتمبر

مضى يومان كاملان وما زلنا نمخر عباب نهر كارون في صعود وهبوط ، كالأشخاص المصابين بالمالنخوليا. ففي أثناء المد انحرفنا عن الطريق الذي

١١

كنّا نسير فيه ـ في حالة الجزر ـ وهددنا الخطر واستولى علينا الخوف أكثر من قبل. ولكن الله كان في عوننا ، ولم يذهب دعاء الدرويش الشيخ (١) لنا عبثا إذ سرعان ما لاحت لنا عن كثب سفينة شراعية تحمل حنطة ، فبادرنا بالتلويح لها والإشارة إلى ما نحن فيه من مأزق. فدنت منّا ورمت إلينا بحبل محاولة إنقاذنا ولكن الطالع السيّئ أبى إلّا أن يحبط هذه المحاولة ويسقط الحبل دوننا وأن تحمل الريح السفينة الشراعية بعيدا عنّا بسرعة عقلت ألسنتنا وبعثت في نفوسنا اليأس والخوف.

بيد أن مارسل أمر أن تحرّك ماكنة الزورق المطفأة وأن يغطى مخزن البخار بغطاء ثخين فورا. وعلى أثر هذا تزايدت قوة النار ودفعت الزورق بسرعة إلى أمام في أثر السفينة الشراعية. ومن حسن الحظ تباطأت السفينة بسيرها بسبب الرياح المعاكسة التي هبّت في تلك اللحظة ولانعطاف مجرى النهر فاستطعنا أن نلحق بها وأن نربط زورقنا ربطا محكما بمؤخرتها. وأخيرا وقبيل بزوغ الشمس وصلنا إلى المحمرة (٢). وهنا قيل لنا إنه ينبغي لنا ترك زورقنا في هذا الساحل لأنه من الصعوبة بمكان أن يقدر على قطع الشط ويصل بسلام إلى الفيلية. أخذنا بهذا الرأي من غير تردد لما كنا قد لقيناه من المتاعب في عبور نهر كارون ومخافة أن تعاد المأساة مرّة أخرى. فتركنا زورقنا وذهبنا لزيارة البصرة وبغداد أوّلا على أن نعود لزيارة خوزستان في وقت آخر.

الوصول إلى البصرة عمل سهل فالقوارب تستطيع أن تقطع المسافة إليها من المحمّرة في ثماني ساعات والطريق غير محفوف بمخاطر ولا بمشاق. ولكن الذي يشتد ويشق احتماله على المسافر من هذا الطريق هو وجوب بقائه مع كافة أمتعته في «الكرنتينة» في الساحل العثماني ـ وتقصد المؤلفة بالبداهة ساحل البصرة العراقي ـ زهاء عشرة أيام حال وصوله إليه بحجة منع انتقال وباء الطاعون إلى البلاد!

__________________

(١) صادفت الرحالة هذا الدرويش في إيران ودعا لها بالتوفيق في سفرها.

(٢) أمر رضا شاه بإبدال اسم هذه البلدة ب (خرمشهر).

١٢

و «الكرنتينة» هذه ـ وقاك الله شرها ـ! عدّة أكواخ من الحصر أقيمت فوق أرض رطبة يلاقي نزلاؤه الأمرين فيها لا من حيث رطوبتها فحسب ، بل لما يقدم لهم من صنوف الطعام الرديء والماء العكر ... وكثيرا ما يقضي المسافرون نحبهم فيها من جرّاء ذلك إن لم يخترمهم الطاعون نفسه بعدواه!

ومن الغريب أن تكون هذه الإجراءات القاسية لا مبرّر لها البتة فقد مضت سنوات عديد. ولم تظهر إصابة في الطاعون في إيران.

ويعتقد أهالي لبصرة أن المحجر هذا لم ينشأ إلّا لإيجاد مصدر يدرّ المال الوفير على الموظفين الترك (١) في هذه المنطقة وأنه لم يكن ـ على أي حال ـ من باب رعاية السلطان العثماني لرعاياه أو رأفته بهم. إذ إنهم بوقاحة وبغير خجل يسطون على جيوب المسافرين فيتركونها صفرا ويتركونهم خالي

__________________

(١) تقصد المؤلفة بالترك رجال العهد العثماني البائد في زمن رحلتها.

١٣

الوفاض ، إما بصورة مباشرة أو باتباع طرق شيطانية يتحايلون بها. منها أنهم يشترون الأطعمة الفاسدة الزهيدة ويعرضونها على المسافرين المحجورين بأسعار باهظة فلا يجد هؤلاء المساكين بدّا من شرائها وأكلها لأنه محظور عرض أطعمة سواها. ثم إن الموظفين الصغار يعرضون على المحجورين إطلاق سراحهم مقابل مبالغ معيّنة باسم الرشوة والحلوان «البقشيش» وما إن يخرجون من «الكرنتينة» المخيفة حتى يقبض عليهم ثانية رجال آخرون ولا يطلقون ولا يسرحون إلّا بعد دفع مبالغ جديدة تكون من حصة الموظفين الكبار منهم.

وإذا رجعنا إلى الترك نراهم يقولون إن إيران موطن الأمراض المعدية لذا كانت إقامة الكرنتينة هنا أمرا ضروريا لا مندوحة منه على علّاته ، حرصا على سلامة الأهلين وللمحافظة على صحتهم!!!

ولكن الواقع خلاف هذا ، إذ إن إيران لم تكن موطن هذه الأمراض الوبائية بل إن مصدرها

١٤

أهوار ومستنقعات كربلاء والنجف التي يذهب الإيرانيون إليها بقصد زيارة العتبات المقدسة ويعودون إلى موطنهم وهم يحملون عدوى تلك الأمراض إن لم يموتوا هناك! (١)

على أي حال إن خبر حجرنا في هذه «الكرنتينة» النتنة الرطبة لمدة عشرة أيام ـ كما نقل إلينا في الزورق قد صعقنا وأورثنا شيئا كثيرا من الضيق والهم .. لذلك صمّمنا على أن نفرّ من قبضة السلطات التركية عند نزولنا الساحل مهما كلفنا الأمر ، ورأينا أن يكون ذلك بالزوارق التجارية.

__________________

(١) كان وباء الطاعون والكوليرا (أبو زوعه) يفدان من الهند.

١٥
١٦

البصرة بندقية الشرق

٣ ـ سبتمبر

إن كان قد أتعبنا وأرهقنا الاختفاء تحت البضائع المكدّسة في الزورق التجاري ، فلكم سررنا الآن بأننا استطعنا أن نهرب من قبضة المحجر المخيف!

ها نحن أولا نكاد نبلغ المرفأ وننظر إلى أنفسنا التي أخفيناها بين أكوام أطباق التمر بكثير من الدهشة والإشفاق. ففي يسارنا أقفاص جميلة صنعت من ألياف النخل تستعمل لخزن الأسماك التي تصاد والتي تفيض عن البيع فتوضع هناك لعرضها في السوق في الوقت المناسب!

وتبدو أمامنا على سواحل الشط التي تبعد قليلا مناظر فاتنة جدّا. فهذه هي النخل السامقة وتلك أرض الحقول الزاهية تخترقها مجاري المياه الرقراقة وفيها قطعان الجاموس التي لا يظهر منها إلّا رؤوسها وهي تمرح وتسرح بمطلق حريتها!

بعد مضي أربع ساعات من تركنا المحمرة بلغنا الجانب الثاني من الشط وها هو زورقنا يقف أمام غابة صغيرة من أشجار الموز المتكاثفة. وعلى مسافة

١٧

منّا ترسو عدّة سفن بصواريها الطويلة التي تشاهد من مسافات بعيدة.

وممّا لفت نظرنا في هذا الساحل النائي قلّة الحركة فيه إذ لم يمر بنا إلّا قاربان صغيران للنزهة. ولقد سأل من كان فيهما ملاحينا عن الوجهة التي نقصد إليها وعمّا نحمل. فأجابهم هؤلاء بأنهم متجهون إلى البصرة لبيع ما يحملونه من التمر. وعلى أثر هذا ابتعد القاربان عنا دون أن يحس أحد فيهما بوجودنا. إذ كنا قد بالغنا في إخفاء أنفسنا حتى لم نجرؤ أن نحرّك أيدينا أو سوقنا لشدّة خوفنا من «الكرنتينة» اللعين!!

وما كاد ينتصف الليل حتى بدأ زورقنا بالحركة ثانية ، وأخيرا وبكثير من الحيطة والحذر دخل نهر العشار (١) وهنا تنفسنا الصعداء مسرورين بخلاصنا من المصيدة!!

__________________

(١) يسمى الآن شط العشار ويصل إلى مدينة البصرة وينتهي بالخوره.

١٨

ولكن سرورنا لم يدم طويلا إذ سرعان ما وقعت حادثة أعادت الهلع والخوف إلى نفوسنا. ذلك أن ملاحي زورقنا سمعناهم يقولون من دون سابق إنذار! إنهم أن هرّبونا من شر «الكرنتينة» فإن ضميرهم لا يطاوعهم أن يهرّبونا من إدارة الكمرك أيضا! وكان عبثا وبغير جدوى أن صرخنا محتجين منكرين ما يريدون الإقدام عليه ... وفي هذه الأثناء قفز أحد الملاحين إلى الساحل وهرول إلى إدارة الكمرك وعاد بعد هنيهة ومعه عشرة من موظفيها الغلاظ!

دخل هؤلاء الزورق وأخذوا يفتحون صناديق بضائعنا الواحد بعد الآخر ويفتشونها بتدقيق وعناية بحجة أنهم يبحثون عن أسلحة حربية مهربة!

والواقع أني لم أكن أدري مع أي نمط من الناس كنت؟ لكي أضبط أعصابي وأمنع نفسي من أن تخرج عن طورها لتلك التصرفات الشائنة التي قابلونا بها ... فرأيتني أركب رأسي ويأخذ التأثير والانفعال مأخذا كبيرا مني وتتناثر من فمي كلمات قارصة وهو الأمر الذي أثار رئيس هؤلاء القوم فأمر أن يعيدونا ثانية إلى «الكرنتينة» فورا ..

وما كدت أسمع كلمة «الكرنتينة» حتى ثبت إلى رشدي وضبطت أعصابي فغيّرت أسلوب حديثي وأخذنا ـ زوجي وأنا ـ نساعدهم في حل أربطة ما بقي

١٩

من صناديق أمتعتنا ووضعنا كل ذلك تحت تصرفهم ووقفنا حيالهم مكتوفي الأيدي ، ننتظر بفارغ الصبر أوامرهم المطاعة!!

ولقد أثمر موقفنا الجديد منهم هذا وما أعطيناهم من حلوان «بقشيش» إذ غيروا هم أيضا معاملتهم لنا وأخذوا يرفعون إلى أعينهم عدسات وأدوات المسح الخاصة بزوجي وهم يردّدون بقولهم : عجبا عجبا ليس بين هذه الأشياء وبين البنادق الأمريكية أي شبه؟! لشد ما نحن أغبياء!!

وهنا حمل أحدهم قنينة خاصة بغسل أفلام التصوير وطلب أن أهبها له ظنّا منه بأنها غالية الثمن ولكي نتخلّص من شر هؤلاء القوم الغلاظ بسرعة أبديت كرما على خلاف عادتي ووهبتها له على الفور بلطف وود!! ورفع شخص آخر منهم إلى عينيه نوعا من صابون غسل الأيدي ثم قرّبه من أنفه يتشمّمه بدهش وجنون وأخيرا ذاقه بلسانه وقال : اني لم أر حتى الآن مثل هذه الحلويات اللذيذة فما ألذّها. وثالث ـ وكان يبدو أنه أذكى الآخرين ـ أخذ

٢٠