وبرغم هذا كله ، فقد ظلت بغداد مدينة العلم والأدب ومحجة العلماء. وقد عاصر ابن الجوزي في مدى السنين السبع والثمانين التي عاشها أربعة وعشرين وزيرا ، منهم من اضطهده ، ومنهم من ناصره ، وعاصر من الخلفاء ستة ، هم المسترشد ، واستخلف من ٥١٢ ـ ٥٢٩. ثم الراشد ٥٢٩ ـ ٥٣٠ ، الذي لم تدم خلافته طويلا ، ثم المقتفي ٥٣٠ ـ ٥٥٥ ، ثم المستنجد ٥٥٥ ـ ٥٦٦ ، ثم المستضيء ٥٦٦ ـ ٥٧٢ وأخيرا الناصر ٥٧٢ ـ ٦٢٢. ولم نذكر المستظهر والد المسترشد لأنه توفي حين كان ابن الجوزي في الثانية من عمره.
وهكذا فان الحياة الأدبية لم تضعف في بغداد في عهد هؤلاء الخلفاء برغم ما اعتور العاصمة من ضعف سياسي. فقد ظلت بغداد موئل الحركة الأدبية وعرف فيها في القرنين الخامس والسادس كتّاب وشعراء مجيدون ذكر بعضا منهم ابن الجوزي نفسه في كتبه وذكر عماد الدين الاصبهاني الكاتب في كتابه خريدة القصر وجريدة العصر شعرا لكثيرين منهم كالشميم الحلّي وابن الخياط حتى الخلفاء أنفسهم والامراء والوزراء كان منهم في هذا الدور نفسه من نظم الشعر كالقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد والمستنجد والمستضيء من الخلفاء وظهير الدين وعميد الدولة وسديد الملك ويحيى ابن هبيرة وولداه من الوزراء والأعيان ومنهم من أجاد (٢٥).
وكانت الصبغة الغالبة في الحياة العلمية في بغداد الالتفات إلى علوم الدين ، وبخاصة تلك التي لها علاقة بالقرآن والحديث. ومن هنا فقد يسّر لابن الجوزي كما سنرى أن يدرس على كثير من الشيوخ ، ويحظى بثقافة دينية واسعة. ومع أن كتب الحديث الستة كانت قد دونت ، وأصبحت المرجع الأول بعد القرآن للمسلمين في ذلك العصر ، فقد استمرت دراسة الحديث
__________________
(٢٥) عماد الدين الاصبهاني خريدة القصر وجريدة العصر ، القسم العراقي ، الجزء الاول (بغداد ، ١٩٥٥) ٩ ـ ٣١ ، ٩٣ ، ٩٦ ، ١٠١ ، ١١٧.