فضائل القدس

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

فضائل القدس

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: الدكتور جبرائيل سليمان جبّور
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: منشورات دار الآفاق الجديدة
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٦٨

وبرغم هذا كله ، فقد ظلت بغداد مدينة العلم والأدب ومحجة العلماء. وقد عاصر ابن الجوزي في مدى السنين السبع والثمانين التي عاشها أربعة وعشرين وزيرا ، منهم من اضطهده ، ومنهم من ناصره ، وعاصر من الخلفاء ستة ، هم المسترشد ، واستخلف من ٥١٢ ـ ٥٢٩. ثم الراشد ٥٢٩ ـ ٥٣٠ ، الذي لم تدم خلافته طويلا ، ثم المقتفي ٥٣٠ ـ ٥٥٥ ، ثم المستنجد ٥٥٥ ـ ٥٦٦ ، ثم المستضيء ٥٦٦ ـ ٥٧٢ وأخيرا الناصر ٥٧٢ ـ ٦٢٢. ولم نذكر المستظهر والد المسترشد لأنه توفي حين كان ابن الجوزي في الثانية من عمره.

وهكذا فان الحياة الأدبية لم تضعف في بغداد في عهد هؤلاء الخلفاء برغم ما اعتور العاصمة من ضعف سياسي. فقد ظلت بغداد موئل الحركة الأدبية وعرف فيها في القرنين الخامس والسادس كتّاب وشعراء مجيدون ذكر بعضا منهم ابن الجوزي نفسه في كتبه وذكر عماد الدين الاصبهاني الكاتب في كتابه خريدة القصر وجريدة العصر شعرا لكثيرين منهم كالشميم الحلّي وابن الخياط حتى الخلفاء أنفسهم والامراء والوزراء كان منهم في هذا الدور نفسه من نظم الشعر كالقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد والمستنجد والمستضيء من الخلفاء وظهير الدين وعميد الدولة وسديد الملك ويحيى ابن هبيرة وولداه من الوزراء والأعيان ومنهم من أجاد (٢٥).

وكانت الصبغة الغالبة في الحياة العلمية في بغداد الالتفات إلى علوم الدين ، وبخاصة تلك التي لها علاقة بالقرآن والحديث. ومن هنا فقد يسّر لابن الجوزي كما سنرى أن يدرس على كثير من الشيوخ ، ويحظى بثقافة دينية واسعة. ومع أن كتب الحديث الستة كانت قد دونت ، وأصبحت المرجع الأول بعد القرآن للمسلمين في ذلك العصر ، فقد استمرت دراسة الحديث

__________________

(٢٥) عماد الدين الاصبهاني خريدة القصر وجريدة العصر ، القسم العراقي ، الجزء الاول (بغداد ، ١٩٥٥) ٩ ـ ٣١ ، ٩٣ ، ٩٦ ، ١٠١ ، ١١٧.

٢١

وقتا طويلا بعد عصر هذه الكتب ، وظل نقد الحديث ، وتفسيره ، وتقدير رجاله ، وتصنيفهم إلى طبقات ، وتصنيف الحديث إلى أنواع ، ودرس القرآن وتفسيره ـ ظلت هذه كلها جوانب هامة من العلوم الدينية التي تعلّق بها الباحثون.

وكانت قد نشأت بعض الاختلافات بين المدارس الفقهية والفكرية منذ العصر العباسي الأول ، واستمرت إلى ما بعد زمن الغزالي الذي توفي سنة ٥٠٥ ، بعد أن حقّق بتعاليمه نصرا كبيرا لمدرسة المحافظين الأشعرية في معركة الجدل الفقهي الكلامي ولم تهمل في الوقت نفسه الفروع الأخرى من العلوم التي كانت قد أزدهرت في النصف الأول من العصر العباسي. فقد أسّس نظام الملك سنة ٤٥٩ ه‍. في بغداد المدرسة النظامية (٢٦) الشهيرة التي كان لها أثر كبير في استمرار الحركة العلمية. وكان قبل ذلك العهد قد ظهر عدد من العلماء البارزين الذين حملوا مشعل الحركة في علوم الدين وغيرها بحيث لم تنطفىء. وكان أبو نعيم الاصبهاني (ت ٤٣٠ ه‍.) قد وضع كتابه «حلية الأولياء» الذي استعان به ابن الجوزي في كتابه «صفة الصفوة» ، واختصره في كتاب آخر خاص. كذلك كان الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ ه‍.) قد ألف من الكتب ستة وخمسين مصنفا وقفها قبل موته على المسلمين. منها كتابه الشهير «تاريخ بغداد» الذي قرأه ابن الجوزي واقتبس منه الكثير في كتبه ، وبخاصة في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والامم» ، وذكر فيه أسماء نحو خمسين من تلك المصنفات. وكان علي ابن عقيل الحنبلي (ت ٥١٣ ه‍) ، قد وضع كتابه «الفنون» في مئتي مجلد ، جمعه طول عمره ، فاختصر منه ابن الجوزي عشر مجلدات ، فرقها في تصانيفه (٢٧). وكان ابو محمد القاسم الحريري (ت ٥١٦) ه. قد وضع

__________________

(٢٦) ابن العماد الحنبلي ٣ : ٣٠٧.

(٢٧) سبط ابن الجوزي ٨ : ٥١.

٢٢

في الأدب مقاماته الشهيرة سنة ٥٠٤. ووضع بعده يحيى ابن سعيد الطبيب النصراني (ت ٥٥٨ ه‍). ستين مقامة تضاهي مقامات الحريري. وقال عنه سبط ابن الجوزي أنه أوحد زمانه في معرفة الطب والأدب (٢٨) وكثيرون غيرهم من العلماء والأدباء. وهذا كله يشير إلى أن الحركة العلمية لم تمت.

وكان فنّ الخطّ والنسخ قد ارتقى بفضل رغبة الكتّاب في نسخ القرآن والدواوين الشعرية وكتب الحديث وغيرها لمكتبات الخلفاء والامراء والوزراء وللمريدين. فصار لهذه الطبقة من الكتّاب مكانة مرموقة بعد ظهور الخطاطين المشهورين ـ الريحاني وابن مقلة وابن البوّاب. وأصبح النسخ أمرا شائعا وسهلا ، وأصبحت الكتابة أمرا مستجادا. ومع أننا لم نطلع على أي نسخة خطية من كتب ابن الجوزي ممّا يمكن أن يكون كتبها بيده فاننا لا نستغرب ـ بعد أن اطلعنا على المخطوطات التي تخلفت عن ذلك العصر ـ أن يكون ممن أجادوا الخط لا سيما وانه قد كتب بخط يده الوف الصفحات وقد زعم الرواة أنه كان يكتب كل يوم أربع كراريس (٢٩). وقد ذكر ابن خلكان وابن الفرات ان ابن الجوزي جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث الرسول ، فحصل منها شيء كثير ، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ، ففعل ذلك وكفت وفضل منها (٣٠). وسنرى حين نعرض لتآليفه أنه وضع من الكتب ما يزيد عن ثلاثمئة ، كتبها كلها بخط يده. وقد لاحظ ذلك ابن العماد الحنبلي ، فقال فيه : وكتب بخطّه ما لا يوصف (٣١). وقال ابن الساعي خازن كتب المستنصرية

__________________

(٢٨) سبط ابن الجوزي ٨ : ١٥٢.

(٢٩) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٣٠ ، ابن الفرات : المجلد ٤ ج ٢ ص ٢١٠ ينقل عن ابن خلكان ان هناك من زعم انه كان يكتب ٩ كراريس.

(٣٠) ابن الفرات المجلد ٤ ج ٢ ص ٢١٠.

(٣١) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٢٩.

٢٣

عنه : «وكتب بخطه ما لم يدخل تحت حصر» (٣٢).

كان ابن الجوزي حنبليا. وكانت الجماعة الاسلامية قد انقسمت قبل عهده بزمن طويل إلى فئتين رئيستين ـ كما هو معروف ـ ، هما فئة السنّة وفئة الشيعة. وقد تفرّعت الأولى إلى أربعة مذاهب ، هي المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية. وكان من الطبيعي لكل فرقة من أتباع هذه المذاهب أن تعمد إلى القرآن والحديث للدفاع عن مذهبها. فدعا هذا الأمر إلى كثرة الشيوخ من علماء الدين ، بحيث زعم ابن الجوزي أنه سمع من أكثر من ثمانين شيخا ذكرهم في كتابه «المشيخة» وذكر بعضهم سبطه في مرآة الزمان. وابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة. وهكذا وجد ابن الجوزي طريقه إلى التعمق في دراسة القرآن والحديث ، بحيث استطاع أن يقول عن نفسه حين شعر بتفوقه في علم الحديث : «لا يكاد يذكر لي حديث ولا يمكنني أقول صحيح او حسن أو محال» (٣٣).

وقد أدى الاختلاف بين بعض أتباع هذه المذاهب ، في كثير من الأحوال ، إلى النزاع كما نرى من بعض كتبه التي تعرّض بها لاتباع بعض المذاهب الأخرى. أو إلى الاضطهاد من الذين كانوا يتولّون السلطة ، كما جرى له هو نفسه على يد بعض الوزراء وأعوانهم في بغداد.

شيوخه

وفدت أسرة ابن الجوزي إلى بغداد من فرضة جوزة كما مر معنا ، وكان والد ابن الجوزي فيما يظهر من تجار النحاس ، وقد مات حين كان لابنه ثلاث سنين من العمر ، فعهد بتربيته إلى عمّة له كانت صالحة ، فبذلت

__________________

(٣٢) ابن الفرات المجلد ٤ ج ٢ ص ٢١٥.

(٣٣) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٣٠.

٢٤

عناية فائقة بأمره ، وعنيت بتعليمه عند بعض الشيوخ. فشرع في تعلّم القرآن قبل العاشرة. وهو يذكر بين شيوخه في حفظ القرآن المبارك ابن جعفر المتوفى سنة ٥١٨ ه‍. أي حين كان ابن الجوزي في الثامنة أو السابعة من العمر.

وحين بلغ العاشرة أخذ يدرس على أبي القاسم العلوي (ت ٥٣٦ ه‍). ويروى عنه أنه ألقى وهو في ذلك العمر عظة أمام جمع غفير في جامع بغداد كان استاذه هذا علمه إياها (٣٤). وأخذته عمّته في هذا العهد إلى مسجد خاله الشيخ أبي الفضل محمد ابن ناصر (ت ٥٥٠ ه‍). فاعتنى به ، واسمعه الحديث ، وظل يدرس عليه أكثر من ثلاثين سنة. وزعم أنه استفاد من خاله أكثر مما استفاد من أي شيخ آخر. وبطريقته أخذ علم الحديث (٣٥). وكان من أساتذته في هذه السنين جماعة من الشيوخ بلغوا كما ذكر هو نفسه أكثر من ثمانين شيخا ما عدا ثلاث سيدات عالمات هن فاطمة بنت الحسين الرازي (ت ٥٢١ ه‍). وفاطمة بنت عبد الله الخيري (ت ٥٣٤ ه‍). وفخر النساء الشهدة بنت أحمد الاثري (ت ٥٧٤ ه‍) وقد عمرّت الأخيرة حتى قاربت المئة ، وكانت تكتب الخط الحسن (٣٨). وكان من شيوخه جماعة من أشهر علماء عصرهم. منهم ابن الزاغوني (ت ٥٢٧ ه‍) (٣٩) وقد صحبه زمانا وسمع منه الحديث وعلق عنه من الفقه والوعظ. وأبو بكر

__________________

(٣٤) سبط ابن الجوزي ٨ : ٧٢ وفي ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ٣٢ انه توفي سنة ٥٢٧ ه‍.

(٣٥) سبط ابن الجوزي ٨ : ١٣٨ والذهبي (تذكرة) ٤ : ٨٢ ، ٨٤ ، ١٣٣.

(٣٨) ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ٢٨٨ وسبط ابن الجوزي ٨ : ٢٢٤.

(٣٩) ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ٣٢ وابن رجب (الذيل) ١ : ١٨٠ ـ ١٨٤ وابن العماد الحنبلي ٤ : ٨٠.

٢٥

الدينوري الحنبلي (ت ٥٣٢ ه‍) (٤٠). قال ابن الجوزي حضرت درسه بعد موت شيخنا ابن الزاغوني نحوا من أربع سنين (٤١) ومنهم أبو منصور الجواليقي (ت ٥٤٠ ه‍). (٤٢) وابراهيم ابن دينار النهرواني (ت ٥٥٦ ه‍) (٤٣) وعبد الوهاب ابن المبارك الانماطي (ت ٥٣٨ ه‍) (٤٤). وقد ذكره في عدة مواضع من كتبه وأثنى عليه كثيرا وروى عنه في فضائل القدس ص ٢٩ من المخطوطة ، وقال عنه في المنتظم «وكنت أقرأ عليه الحديث وهو يبكي فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته» (٤٥). وقد توفي كثير من شيوخه قبل منتصف ذلك القرن. وكان جلّهم من الحنابلة ومن علماء الدين. ولكنه لم يكتف بالعلوم الدينية بل حاول أن يلمّ بعلوم أخرى بحيث نرى بين تآليفه كتبا في الأدب واللغة والطب.

رحلاته

لقد كفته بغداد مؤونة الارتحال في طلب العلم. ولكنه قام في سنة ٥٤١ ه‍. بحجة إلى مكة مع نسطو الخادم أمير الحاج بالعراق وكان معه شيء من سماعاته ليقرأها عليه بمكة والمدينة ، فلما رأى ظلمه للحمالين لم يكلمه (٤٦). وقام بعدها باثنتي عشرة سنة بحجة أخرى زار فيها المدينتين ،

__________________

(٤٠) ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ٧٣ وابن رجب (الذيل) ١ : ١٩١.

(٤١) ابن رجب (الذيل) ١ : ١٩٠ وابن العماد الحنبلي ٤ : ٩٨.

(٤٢) ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ١١٨. وراجع ابن رجب (الذيل) ١ : ٢٠٦. وسبط ابن الجوزي ٨ : ١١١ حيث تذكر وفاته سنة ٥٣٩.

(٤٣) ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ٢٠١ وابن العماد الحنبلي ٤ : ١٧٦.

(٤٤) الذهبي (تذكرة) ٤ : ٧٥ ، وابن رجب (الذيل) ١ : ٢٠٣ وسبط ابن الجوزي ٨ : ١٣٨ ، ١٤٥.

(٤٥) ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ١٠٨.

(٤٦) سبط ابن الجوزي ٨ : ١٢٤

٢٦

وكانت شهرته قد ذاعت وعرفت مكانته ، فألقى عظة في كلّ من الجامعين الكبيرين فيهما. وهكذا فانه لم يقم بأيّ رحلة إلى قطر غير الحجاز ، وظلّ طول حياته في بغداد ما عدا السنين التي نفي فيها إلى واسط. وقد وصف ما رآه في زيارته الثانية للحجاز ، فقال : «ودار بنا الدليل على طريق خيبر ، فرأيت من الجبال وغيرها العجايب» وعلّق حفيده على كلام جدّه فقال : «ما رأى رحمه الله جبل لبنان وجبل الثلج وايلة وغيرها» (٤٧). ويقصد سبطه بهذا القول أنه لو رأى هذه المواضع ، لما بلغ إعجابه إلى هذا الحد بما رأى في الحجاز.

نكبته في طوفان بغداد

وفي آخر خلافة المتقي (٥٣٠ ـ ٥٥٥ ه‍) كان ابن الجوزي قد كتب كتبا كثيرة ، ولكنها غرقت فيما يقول سبطه ، وذلك بسبب الطوفان العظيم الذي اجتاح بغداد سنة ٥٥٤ ه‍. ودمّر كل الضاحية التي كانت فيها داره ، وكانت في شارع اسمه درب الغبار فاضطر ابن الجوزي ، حين أخذ الطوفان يحتاج الحي الذي كانت داره فيه ، إلى أن يعبر الجانب الغربي ، حتى إذا عاد بعد ذلك بيومين ، لم يجد حائطا قائما ، ولم يستطع أن يعرف أين كانت ، بل لم يستدل على الدرب نفسه إلا من منارة المسجد فانها لم تقع (٤٨). وقد نكب في تلك السنة نفسها بوفاة ابنه الاكبر عبد العزيز

__________________

(٤٧) سبط ابن الجوزي ٨ : ١٤١. يقصد بجبل الثلج الجبل المعروف الان في لبنان بجبل الشيخ وقد رآه السبط كما نعرف من اخباره.

(٤٨) سبط ابن الجوزي ٨ : ١٤٣. اما ابن الجوزي نفسه فانه حين ذكر اخبار تلك السنة في كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والامم. ج ١٠ ص ١٨٩ ـ ١٩٠ ذكر الطوفان في ١٨ ربيع الاول وهدمه للدور والسور ولكنه لم يشر الى غرق كتبه مع انه قال : وخرجت من داري بدرب القيار (بالقاف والياء) يوم الاحد وقت الضحى فدخل اليها الماء وقت الظهر فلما كانت العصر وقعت الدور كلها ... وتهدم السور ... وجئت بعد يومين الى درب القيار فما رايت حائطا قائما ولم يعرف احد موضع داره الا بالتخمين.

٢٧

(أبي بكر) وكان مقيما في الموصل ، ويقال أن وفاته كانت بالسم (٤٩). وكان له من البنين في ذلك العام اثنان أكبرهما عبد العزيز أبو بكر.

وكان قد تعرض قبل هذه النكبة لشيء من خصومة المتعصبين على الحنابلة. فقد كان للمقتفي خادم اسمه مرجان ، زعم سبط ابن الجوزي ، نقلا عن جدّه ، أن هذا الخادم كان متعصبا ببغض الحنابلة ، وتعصب على على ابن الجوزي ، بحيث قال جدّه عنه : «عاداني دون الكل وناصبني ، فقيل له في ذلك فقال : «قصدي أن أقلع مذهب الحنابلة». وسعى بي إلى الخليفة فلم يلتفت إليه». ثم قال : فلما رأيته كذا ، لجأت إلى الله تعالى ودعوت عليه ، وسألته أن يكفيني شره ، فمات سنة ٥٦٠ ه‍. وسر الحنابلة بموته لأنه لما حج قلع الحطم الذي كان لهم بمكة ، وابطل امامتهم وبالغ في أذاهم (٥٠).

مجالسه وصلته بالحكام

كان من حظ ابن الجوزي أن تولى الوزارة في خلافة المستنجد رجل حنبلي عالم شاعر كان ابن الجوزي قد سمع منه وأخذ عنه هو الوزير يحيى ابن محمد ابن هبيرة. فكان للحنابلة ولابن الجوزي في هذا الوزير وفي ابنه بعده خير نصير ، بحيث قال ابن العماد الحنبلي عن هذه العلاقة : «وعظم شأنه في ولاية ابن هبيرة» (٥١). بل كان يعظ في بيت الوزير نفسه. وفي أثناء حياته كان ينوب عنه في الوزارة ابنه عز الدين وكان شاعرا ، واشتدت هذه الصلة بين آل هبيرة وآل الجوزي بحيث انتهت إلى قربى ، وذلك

__________________

(٤٩) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣٢٥.

(٥٠) سبط ابن الجوزي ٨ ، ١٥٨.

(٥١) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٣٠ وانظر ابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ١٩٢

٢٨

حين زوج ابنه الثاني (أبو القاسم) من ابنة الوزير (٥٢). ولم يقتصر اثر ابن الجوزي في هذا العهد القصير على الوعظ في بيت الوزير ، بل كانت له مجالس في الجامع الكبير ، ومجالس في المدارس المختلفة التي تولى التعليم فيها بعد شيوخه. غير أنه في سنة ٥٦٠ فقد الحنابلة بموت يحيى ابن هبيرة عضدا عظيما ، وكان قد تفقه على مذهب ابن حنبل ، ودافع عن الحنابلة ، فتعرضوا بعد موته لمحنة من جماعة الاشعرية ، ومن بعض موظفي الدولة فقد سجن ابنا الوزير ومات أحدهما عز الدين خنقا في السجن سنة ٥٦١ ه‍ (٥٣). ومات شرف الدين في السجن سنة ٥٦٢ وكلاهما كان شاعرا مجيدا. حتى إذا توفي الخليفة المستنجد سنة ٥٦٦ ه‍. وخلفه المستضيء تغيّر الأمر ، فقد حظي ابن الجوزي عنده بمكانة كبيرة ، وسمح له أن يعظ بحضوره سلسلة عظات ، وأمر باقامة دكة له في جامع القصر ، وحضر مجلسه مرات من وراء الستر (٥٤). ولم يفت ابن الجوزي أن يذكر هذا العطف الخاص ، فقد أشار في كتبه إلى أن المستضيء كان لطيفا ومحسنا إليه ، وزعموا في اخباره أنه كان يحضر مجلسه في بغداد أكثر من عشرة آلاف نفس ، وقال سبطه : وربما مئة ألف. (٥٥). ولعل مصدر هذه المبالغة من سبطه تعود إلى ما قرأه في كتاب جده «المنتظم في تاريخ الملوك والامم» فهو يذكر فيه في أخبار سنة ٥٦٩ مجلسا حضره جمع كبير قال :

__________________

(٥٢) عرض السيد مصطفى عبد الواحد في مقدمته لكتاب ذم الهوى ص ٩ وقال : لم يعرف التجاؤه الى احد منهم [يقصد الحكام] غير ما يذكر ابن العماد الحنبلي من انه عظم شأنه في ولاية ابن هبيرة. فلا نعلم سر هذه العظمة أكانت اتفاقا حدث في ولاية هبيرة ام كانت من ابن هبيرة له» ويظهر ان السيد مصطفى لم يعلم بهذه الصلة من القربى والمشيخة.

(٥٣) راجع تفصيل خبر موته في : ابن الجوزي (المنتظم) : ١٠ : ٢١٨.

(٥٤) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٣٠.

(٥٥) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣١٠ وابن الجوزي (المنتظم) ١٠ : ١٩٤.

٢٩

«وسألني أهل الحربية أن أعقد عندهم مجلسا للوعظ ليلة فوعدتهم ليلة الجمعة سادس عشر ربيع الأول فانقلبت بغداد وعبر أهلها عبورا زاد على نصف شعبان زيادة كثيرة فعبرت إلى باب النصر فدخلتها بعد المغرب فتلقاني أهلها بالشموع الكثيرة وصحبني منها خلق عظيم فلما خرجت من باب البصرة رأيت أهل الحربية قد أقبلوا بشموع لا يمكن احصاؤها فأضيفت إلى شموع أهل باب البصرة فحزرت بألف شمعة فما رأيت البرية إلّا مملوءة ضوءا وخرج أهل المحال الرجال والنساء والصبيان ينظرون وكان الزحام في البرية كالزحام في سوق الثلثاء فدخلت الحربية وقد امتلأ الشارع واكتريت الرواشن من وقت الضحى فلو قيل أن الذين خرجوا يطلبون المجلس في الصحراء بين باب البصرة والحربية مع المجتمعين في المجلس كانوا ثلثمائة ألف ما أبعد القائل» (٥٦).

مجالس ابن الجوزي التي حضرها ابن جبير

لعله ليس بين جميع الذين كتبوا عن ابن الجوزي من وصف مجالسه كما فعل الرحّالة الاندلسي الشهير ابن جبير. حتى حفيده لم يصف مجالس جدّه كما فعل ابن جبير. ومن الممتع أن نعلم أن ابن جبير يصفها وصف معاين. فقد قام برحلته إلى المشرق ، وحجّ ، وزار الاماكن المقدسة ، ومرّ ببغداد ، وحضر مجالس بعض شيوخها ، ومنها مجالس ابن الجوزي ، في عهد الخليفة الناصر ابن المستضيء. وذلك سنة ٥٨٠ ه‍. ومع أنه لم يرض عن أهل بغداد ، بل ذمّهم ، فانه استثنى فقهاءها المحدّثين ، ووعاظها المذكّرين ، ووصف بعض هذه المجالس ، وأطال في وصفه لمجالس ابن الجوزي ، واطنب في الثناء. ونرى من الخير أن نترك له الكلام قال :

__________________

(٥٦) ابن الجوزي ، المنتظم ١٠ : ٢٤٣.

٣٠

«ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الامام الأوحد جمال الدين أبي الفضائل ابن علي الجوزي بأزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة ... وهو يجلس به كل يوم سبت ، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد ، وفي جوف الفرا كل الصيد. آية الزمان ، وقرة عين الإيمان ، رئيس الحنبلية ، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية ، امام الجماعة ، وفارس حلبة هذه الصناعة ، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ، ملك ازمّة الكلام في النظم والنثر ، والفائض في بحر فكره على نفائس الدر ، فأمّا نظمه فرضي الطباع ، مهياري الانطباع ، وأما نثره فيصدع بسحر البيان ، ويعطل المثل بقس وسحبان. ومن أبهر آياته ، وأكبر معجزاته ، أنه يصعد المنبر ، ويبتدىء القرّاء بالقرآن ، وعددهم نيف على العشرين قارئا. فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القرآن ، يتلونها على نسق بتطريب وتشويق ، فاذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية. ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات ... فاذا فرغوا ، أخذ هذا الامام الغريب الشان في ايراد خطبته عجلا مبتدرا ، وافرغ في اصداف الاسماع من الفاظه دررا ، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقرا ، وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدّما ولا مؤخّرا ، ثم اكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك ، فكيف بمن ينظمها مرتجلا ويورد الخطبة الغرّاء بها عجلا؟ (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. إن هذا لهو الفضل المبين) فحدّث ولا حرج عن البحر ، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر ، ثم أنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ ، وآيات بيّنات من الذكر ، طارت لها القلوب اشتياقا ، وذابت بها الأنفس احتراقا ، إلى أن علا الضجيج ، وتردد بشهقاته النشيج ، واعلن التائبون بالصياح ، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح ، كل يلقي ناصيته بيدها فيجزها ، ويمسح على رأسه داعيا له.

٣١

ومنهم من يغشى عليه ، فيرفع في الأذرع إليه. فشاهدنا هو لا يملأ النفوس انابة وندامة ، ويذكرها هول يوم القيامة. فلو لم نركب ثبج البحر ، ونعتسف مفازات القفر ، الا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل ، لكانت الصفقة الرابحة ، والوجهة المفلحة الناجحة. والحمد لله على أن منّ بلقاء من يشهد الجمادات بفضله ، ويضيق الوجود عن مثله. وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل ، وتطير اليه الرقاع ، فيجاوب أسرع من طرفة عين. وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا إله سواه.

ثم شاهدنا مجلسا ثانيا له بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في ساحة قصور الخليفة ، ومناظره مشرفة عليه. وهذا الموضع المذكور وهو من حرم الخليفة ، وخصّ بالوصول اليه ، والتكلم فيه ، ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم. ويفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع ، وقد بسط بالحصر. وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس. فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور ، وقعدنا إلى أن وصل هذا الحبر المتكلم ، فصعد المنبر وارخى طيلسانه عن رأسه تواضعا لحرمة المكان ، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة ، فابتدروا القراءة على الترتيب وشوقوا ما شاؤوا. واطربوا ما أرادوا ، وبادرت العيون بارسال الدموع. فلما فرغوا من القراءة وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات ، صدع بخطبته الزهراء الغراء ، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات ، ومشي الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكملها ، وكانت الآية (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) فتمادى على هذا السيّن ، وحسّن أي تحسين ، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه. ثم أخذ في الثناء على الخليفة ، والدعاء له ولوالدته ، وكنى عنها بالستر الاشرف ، والجناب الارأف. ثم سلك سبيله في الوعظ. كل ذلك بديهة لا روية ، ويصل كلامه في ذلك

٣٢

بالآيات المقروآت على النسق مرة أخرى. فارسلت وابلها العيون ، وأبدت النفوس سرّ شوقها المكنون ، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين ، بالتوبة معلنين ، وطاشت الالباب والعقول ، وكثر الوله والذهول ، وصارت النفوس لا تملك تحصيلا ، ولا تميز معقولا ، ولا تجد للصبر سبيلا. ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق ، بديعة الترقيق ، تشغل القلوب وجدا ، ويعود موضوعها النسيبي وهدا. وكان آخر ما أنشده من ذلك وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام ، واصابت المقاتل سهام الكلام :

أين فؤادي أذابه الوجد

واين قلبي فما صحا بعد

يا سعد زدني جوى بذكرهم

بالله قل لي فديت يا سعد

ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه ، والمدامع تمنع خروج الكلام من فيه ، إلى أن خاف الافحام ، فابتدر القيام ، ونزل عن المنبر دهشا عجلا ، وقد أطار القلوب وجلا. وترك الناس على أحرّ من الجمر ، يشيعونه بالمدامع الحمر. فمن معلن بالانتخاب ، ومن متعفر في التراب. فياله من مشهد ما أهول مرآه ، وما أسعد من رآه. نفعنا الله ببركته ، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته. بمنّه وفضله. وفي أول مجلسه أنشد قصيدا نير القبس ، عراقي النفس ، في الخليفة أوله :

في شغل من الغرام شاغل

ما هاجه البرق بسفح عاقل

يقول فيه عند ذكر الخليفة :

يا كلمات الله كوني عوذة

من العيون للامام الكامل

ففرغ من إنشاده وقد هزّ المجلس طربا ، ثم أخذ في شأنه ، وتمادى في ايراد سحر بيانه ، وما كنّا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطى من ملكة النفوس والتلاعب بها ، ما أعطي هذا الرجل فسبحان من يخص بالكلام من

٣٣

يشاء من عباده لا إله غيره. وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن يستغرب شأنه بالاضافة لما عهدناه من متكلمي الغرب ، وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة شرفهما الله مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد ، فصغرت بالاضافة لمجلس هذا الرجل الفذ في نفوسنا قدرا ، ولم نستطب لها ذكرا ، واين تقعان مما أريد ، وشتان بين اليزيدين ، وهيهات ، الفتيان كثير ، والمثل بمالك يسير. ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه ، ويروق استطلاعه. وحضرنا له مجلسا ثالثا يوم السبت الثالث عشر لصفر بالموضع المذكور بازاء داره على الشط الشرقي ، فاخذت معجزاته البيانية مأخذها ، فشاهدنا من أمره عجبا ، صعّد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبا ، وأسال من دمعهم وابلا سكبا ، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا ، إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتئبا ، وغادر الكل متندّما على نفسه منتحبا ، لهفان ينادي يا حسرتا واحربا. والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحى ، وكل منهم بعد من سكرته ما صحا ، فسبحان من خلقه عبرة لأولي الالباب ، وجعله لتوبة عباده أقوى الاسباب ، لا إله سواه» (٥٧).

وبرغم ما في قول ابن جبير من المبالغة التي اقتضاها السجع أحيانا في أسلوبه البياني ، فان القارىء يدرك ما كان لمجالس هذا الامام الجليل من الأثر في نفوس الناس. وكان الخليفة المستضيء قبل الناصر يطلبه ويأمره بعقد مجلس الوعظ ، ويجلس بحيث يسمع ولا يرى (٥٨). ولمّا خطب للمستضيء بمصر صنّف ابن الجوزي كتابا خاصا بهذه المناسبة سمّاه النصر على مصر (٥٩). وكان لابن الجوزي في عهد الناصر نفسه

__________________

(٥٧) ابن جبير. ١٩٩ ـ ٢٠٣.

(٥٨) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٢٥٠.

(٥٩) ابن رجب (الذيل) ١ : ٤٠٤.

٣٤

مجالس في مدارس ودور أخرى منها دار للوزير سعيد ابن حديدة كان يجلس فيها. وكان يمدحه (٦٠). وقال سبطه عنه : «وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره كتبت باصبعيّ هاتين الفي مجلدة ، وتاب على يدي مئة ألف ، واسلم على يدي الف يهودي ونصراني» (٦١).

مكانته

وهكذا فقد بلغ ابن الجوزي في هذه الحقبة من الشهرة والمكانة بحيث ذكر سبطه أنه لما غلب نور الدين ابن زنكي الصليبيين حول انطاكية وأسر بوهيمند الثالث وريموند الثالث كتب إلى ابن الجوزي يعلمه بهذا النصر ، ويخبره عن مقدار الاموال التي أخذها من بوهيمند ، والشروط التي فرضها عليه ليخلي سبيله. وقال ابن الجوزي عن نور الدين : «لقد كاتبني مرارا وذكر أسره لملوك الافرنج» (٦٢).

وفي سنة ٥٧٠ ه‍. أقام ابن الجوزي حفلة كبرى حين انهى تفسير القرآن الذي كان يمليه من المنبر في الجامع سنين عديدة. وكان بين الحاضرين

__________________

(٦٠) سبط ابن الجوزي ٨ : ٧١ ـ ٧٢. وليس غريبا ان يكون قد وضع في عهد الناصر كتابه المفاخر في ايام الناصر (١) كما وضع في عهد المستضيء نفسه المضيء بفضائل المستضيء. (٢) ومنه نسخة خطية في مكتبة المتحف العراقي تم تحقيقها في رسالة تقدمت بها الانسة ناجية عبد الله العربي الى قسم التاريخ بكلية الاداب بجامعة بغداد لنيل درجة الماجستير وتعكف وزارة الاعلام في المجمع العلمي العراقي على طبع الكتاب الذي يقع في مجلدين كل مجلد في ٥٥٠ صفحة بالقطع الكبير (عن نشرة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية).

(٦١) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣١١ وانظر ابن رجب (الذيل) ١ : ٤٠٩.

(٦٢) سبط ابن الجوزي ٨ : ١٩٧.

٣٥

في ذلك الحفل جمهور من الوجهاء والاعيان ، فمنحه الخليفة المستضيء ، جائزة وخلع عليه خلعة نفيسة. وقدم هو بدوره للخليفة دعاء خاصّا. وافتخر في خطبته بأنه لم يعرف أحدا قبله أكمل تفسير القرآن كله من المنبر. وقال عن ذلك اليوم : «وكان يوما مشهودا وخرجت وبين يدي الدعاة وارتفعت الأدعية للخليفة ووقف الناس صفوفا مثل يوم العيد». ثم قال : «وأصاب أهل المذهب يعني الحنابلة من ذلك غمّ شديد لأنهم حسدوني». ونقل سبطه هذا الخبر ثم قال : «وقال جدي والله لو لا أحمد [يعني الامام ابن حنبل] والوزير ابن هبيرة لانتقلت عن المذهب. فاني لو كنت حنيفا أو شافعيا لحملني القوم على رؤوسهم» (٦٣).

وفي سنة ٥٧١ عقد عقد ابنته رابعة على ابن رشيد الطبري (٦٤) في حفل عظيم جرى في دار بنفشا احدى نساء الخليفة نفسه. وزفّت بعدها في الدار نفسها وجهزتها بمال عظيم (٦٥). وكانت بنفشا هذه حنبلية ساهمت في أن يكون لابن الجوزي مثل تلك المكانة في بلاط المستضيء ، (٦٦). وتمّ في هذه السنة نفسها زواج ابنه الثاني (أبي القاسم) من ابنة الوزير ابن هبيرة (٦٧) أما صهره زوج رابعة فلم يعش طويلا ، فزوجت ثانية من مملوك لابن هبيرة. وانجبا ولدا هو سبط ابن الجوزي الذي دوّن مآثر جده في كتابه العظيم «مرآة الزمان» ، ودوّن فيه ثبتا باسماء ما عرف من كتب

__________________

(٦٣) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٠٦.

(٦٤) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٠٩.

(٦٥) نقل السبط هذه الاخبار عن جده ، ثم علق عليها بقوله : ما قصد جدي بهذا الكلام الا الاعلام بمكانته وعلو منزلته عند الخليفة ، وان احدا من ابناء جنسه لم يصل الى مرتبته ٨ : ٢١٠.

(٦٦) وكانت بنفشا قد اشترت سنة ٥٧٠ دارا لاحد الوزراء واوقفتها على اصحاب احمد ابن حنبل ، وجعلتها مدرسة سلمتها الى ابن الجوزي ، وفوضت امرها اليه ، ووقفت عليها قرية. (سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٠٦ ، ٣٣١).

(٦٧) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٠٩.

٣٦

جده ، فكان كتابه خير مصدر لدرس حياة جده ومعرفة بعض آثاره العلمية ، وعنه أخذ أكثر المتأخرين.

وفي سنة ٥٧٤ أكمل ابن الجوزي أكبر مؤلفاته وأعظمها في نظر الكثيرين. وهو كتابه المعروف «بالمنتظم في اخبار الملوك والامم» (٦٨). وليس غريبا أن يكون قد تزوج هو نفسه في هذه الحقبة أو بعدها بقليل من امرأة ثانية لا نعرف من أخبارها سوى أن ابنها يوسف الذي ولد حوالي سنة ٥٧٥ ه‍. كان خير معين لوالده في محنته الكبرى التي سيجيء خبرها. وأصبح له بعد والده شأن كبير. وفي هذه السنة الأخيرة المذكورة مات الخليفة المستضيء وخلفه الناصر (٦٩).

استرجاع القدس من أيدي الصليبيين في عهده

وفي خلافة الناصر استرجع صلاح الدين الأيوبي القدس الشريف من أيدي الفرنجة سنة ٥٨٣ ه‍. وكانت قد أخذت في هذه الحقبة تلفت أنظار العالم الاسلامي بشكل خاص مرة أخرى ، وأخذ المؤلفون الغيارى يضعون الكتب في فضائلها ، إذ قبل استعادتها من أيدي الفرنجة كان ابن عساكر (ت ٥٧١ ه‍.) قد وضع كتابا في فضائل المدن المقدسة الثلاث. مكة والمدينة وبيت المقدس. وليس من شك في أن ابن الجوزي ألّف كتابه «فضائل القدس» بعد سنة ٥٨٣ ه‍. لأنه يذكر فيه النبأ الذي ورد إلى بغداد في أن صلاح الدين استرد القدس في تلك السنة. ولكن ليس في الكتاب

__________________

(٦٨) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٢٤.

(٦٩) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٢٥٠ وفيه قال ابن الجوزي في المنتظم : اظهر من العدل والكرم ما لم نره في اعمارنا ، وفرق ما لا عظيما في الهاشميين وفي المدارس ، وكان ليس للمال عنده وقع.

٣٧

إشارة تفيد بالضبط السنة التي تم فيها تأليف الكتاب ، فهو يكتفي بالقول أن أحد المقدسيين سأله أن يذكر له فضائل بيت المقدس ففعل. ومن يدري فلعل التاريخ قد دوّن في الأوراق الاخيرة الساقطة.

ولم ينقطع ابن الجوزي طيلة كل هذه السنين عن الوعظ والتعليم والتأليف في مواضيع مختلفة ، بحيث أصبح من أشهر الوعاظ ومن أعظم المؤلفين في الاسلام وأكثرهم تأليفا. وليس غريبا أن يكون في هذا العهد من عمره قد شرب حب البلاذر ، فسقطت لحيته وأصبحت قصيرة جدا. قالوا : فصار يخضبها بالسواد إلى أن مات (٧٠).

محنته في عهد الوزير ابن القصاب

ولم تصف له الأقدار في آخر حياته. فقد كان أن تسلّم الوزارة في بغداد سنة ٥٩٠ ه‍. وزير جديد يعرف بابن القصاب ، وكان يميل إلى الشيعة ، فقتل سلفه الوزير ابن يونس. واستغلّ بعض ابناء الشيعة هذه السانحة ، فادعوا على ابن الجوزي أنه كان من اعوان ابن يونس ، وانه ممن يبغضون الامام عليا ويبغضون شيعته. وكان قد ألف كتابا اسمه «درة الاكليل» ذيّل به «المنتظم» زعم سبطه أن منه ما سبّب الدعوى عليه (٧١). فأمر ابن القصاب بنفي ابن الجوزي إلى واسط. ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ أنه «نالته محنة في أواخر عمره ...» «جاءه من شتمه وأهانه وختم على داره وشتّت عياله. ثم أخذ في سفينة إلى واسط ، فحبس بها في بيت ،

__________________

(٧٠) ابن الفرات المجلد ٤ ج ٢ ص ٢١٠ وابن عماد الحنبلي ٤ : ٣٣٠.

(٧١) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٢٤ و ٢٨٩ يزعم الذهبي (تذكرة) ٤ : ١٣٥ ان السبب كان عداء بين ابن الجوزي وشيخ اسمه الركن ابن عبد الوهاب وهو الذي حرض ابن القصاب عليه.

٣٨

وبقي يغسل ثوبه ويطبخ ، ودام على ذلك خمس سنين وما دخل حماما (٧٢). وظل ابن الجوزي في محنته ومنفاه طيلة هذه السنين وقد احتملها بصبر وأناة ـ تلك كانت محنته الكبرى وقال عنها سبطه : «زاحم بها الانبياء والعلماء والفضلاء والاولياء وبلغ ذلك بالصبر والحمد والشكر» (٧٣).

وفي أثناء هذه السنين استطاع ابنه علي (أبو القاسم) ت ٦٣٠ ه‍. كبير ولديه الباقيين أن يدخل إلى بيت أبيه ، وأخذ يتردد اليه ، ويسرق كثيرا من كتبه ويبيعها بالرخص هنا وهناك. قال سبط ابن الجوزي عن خاله أبي القاسم هذا وعن الكتب التي سرقها : «فقد تحيّل عليها بالليل والنهار حتى أخذ منها ما أراد ، وباعها ولا بثمن المداد» (٧٤). وقال في موضع آخر : «باعها بيع العبيد» (٧٥). وهذه كانت النكبة الثانية التي حلت بكتبه التي ألفها.

عودته من المنفى ووفاته

وفي السنة الاخيرة من سني منفاه ، كان ابنه الاصغر يوسف (أبو محمد ت ٦٤٠ ه‍.) قد بلغ الخامسة عشرة من عمره (٧٦). فحاول انقاذ ابيه من المنفى ، وقصد أم الخليفة الناصر والخليفة الناصر نفسه ، واسترحمهما (٧٧) وكان الوزير في تلك السنة برز القمي ، فلبيّا طلبه ، وامرا بالافراج عن

__________________

(٧٢) الذهبي (تذكرة) ٤ : ١٣٥ وانظر مصطفى عبد الواحد ، مقدمة ذم الهوى لابن الجوزي ١٠ ـ ١١.

(٧٣) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٨١ و ٣١١.

(٧٤) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣٢٥.

(٧٥) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣٢٥.

(٧٦) سبط ابن الجوزي ٨ : حيث يذكر انه ولد سنة ٥٨٠.

(٧٧) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٩٥.

٣٩

أبيه. فعاد ابن الجوزي من منفاه شيخا في الخامسة والثمانين ، مكسور القلب يائسا ، ولم يلبث سوى سنتين حتى وافته المنية. وكان ذلك ليلة الجمعة في ١٢ رمضان سنة ٥٩٧ ه‍. وكان له مأتم عظيم ، حملت فيه جنازته على رؤوس الناس إلى مقبرة الامام أحمد ابن حنبل. وذكر حفيده أن بغداد لم تشهد مأتما أكثر حفلا منه منذ وفاة أحمد ابن حنبل (٧٨). وقال ابن الفرات : وكان يوما مشهودا بكثرة الخلائق وشدة الزحام ، حتى أنه أفطر جماعة من شدة الحر (٧٩). وقال أبو شامة نقلا عن سبط ابن الجوزي إن خلقا كثيرا ممن صحبه ما استطاعوا الوصول إلى حفرته من كثرة الزحام.

وأن الناس باتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات بالقناديل والشموع (٨٠). وقال ابن كثير : ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الامام أحمد وأوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات :

يا كثير العفو من كثرت ذنبي لديه

جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم يديه

أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه (٨١)

ومن الخير أن نشير هنا إلى أن ابنه يوسف هذا وعظ بعد وفاة أبيه تحت تربة والده. وانه أذن له بالجلوس على قاعدة والده ، وخلع عليه الخليفة القميص والعمامة وجعل على رأسه طرحة وكان له أولاد ثلاثة هم تاج الدين عبد الكريم ، وجمال الدين المحب ، وشرف الدين عبد الله ، وانه هو

__________________

(٧٨) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٨١.

(٧٩) ابن الفرات المجلد ٤ ج ٢ ص ٢١٩ يذكر ابن الساعي ان وفاته كانت بداره بقطفتا ج ٩ ص ٦٧.

(٨٠) ابو شامة ٢٥.

(٨١) ابن كثير ٢٩ و ٣٠.

٤٠