نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

هشام جعيط

نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة : الكوفة

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٩

١
٢

٣
٤

الباب الأول

الفتح العربي للعراق وتأسيس

الكوفة

١٢ ـ ١٧ ه‍ / ٦٣٣ ـ ٦٣٨

٥

ـ ١ ـ

إشكالية الفتح

لا مراء في أن إنشاء الكوفة سنة ١٧ من الهجرة الموافق لسنة ٦٣٨ ميلادية ارتبط مباشرة بفتح العرب للعراق. فحالما فرغ العرب من السيطرة على العراق ، بعد طرد فلول القوات الساسانية إلى النجد الإيراني ، وبعد أن استولوا على جلولاء والمدائن ، مكتسحين السواد كله ، شعروا بالحاجة إلى إنشاء دار هجرة على تخوم البلاد المفتوحة ، تكون بمثابة المعسكر والمركز للهجرة في الوقت نفسه. وعلى ذلك ، تشكل الكوفة ثمرة مباشرة لعملية من عمليات الفتح الخاطف معللة إياها ومشكلة بدورها امتدادا لها ، ضامنة لها ، راسمة معالمها على التربة ، ذلك أن الكوفة تحتل موقع القلب من المنطقة ، تلك المنطقة التي كانت تدور فيها المعارك بين العرب والامبراطورية الساسانية ؛ منطقة معدة لكي يعمرها أول من يعمرها المشاركون في القتال ويستقر فيها أغلب المجاهدين العرب. وعلى هذا ، فستتأثر الكوفة كثيرا ، وبدرجة أعظم مما حصل في البصرة ، بالحدث التاريخي المتمثل في الفتح ، كما سيؤثر فيها العيش على ذكراه ، وسيظهر ذلك التأثير في عناصرها البشرية التي جسمت كيانها ، وفي بنيتها الاجتماعية ، وفي الحركات السياسية الدينية التي ستهزها. وفضلا عن ذلك ، يتجاوز الفتح العربي للعراق مصير الكوفة بصفته قضية تاريخية ، ذلك أن الكوفة تندرج ضمن ظاهرة كونية هي ظاهرة الفتح العربي الذي اكتسح العالم. ولا يبدو لنا مفيدا أو ضروريا التعمق في بحث القضية في جملتها ، بل نرى أنّ من الأهم البحث في اندراج الفتح العربي ضمن فضاء معين ، بمواقيت خاصة به وبعناصره البشرية. ولكن ، بقدر ما يكون الارتباط مباشرا لا محالة بين الظروف التاريخية المحيطة بإنشاء الكوفة وظاهرة الفتح بصفة عامة ، فمن المفيد أن نلمح دون إطالة إلى قضية نشأة الفتح العربي ودلالته.

يستحسن التذكير بأن المؤلفين المحدثين ومنهم كايتاني Caetani وشعبان Shaban الذي تلاه بعد ثلاثة أرباع القرن ، قد طرحوا مسألة النظر في أسباب الفتح العربي ومعناه ،

٦

ارتباطا بالغارات الأولى التي شنت على أرض الرافدين (١). نعني غارات سنة ١٢ ه‍ / ٦٣٣ م ، التي كانت منطلقا لظهور القدرة الحربية العربية بعد وفاة الرسول ، وبذلك يمكن أن يتجه التفكير إلى إمكان بلوغ العناصر التي كانت أصلا للفتح العربي في جملته ، لو أمكن تسليط الضوء على الظروف التي أحاطت بهذا الدفع الأول. نميل فعلا ومن أول وهلة إلى تأريخ انطلاق الأحداث في محرم سنة ١٢ ه‍ / مارس ٦٣٣ م ردا على الرؤية التقليدية ، ونسبة الغارات التي جدت في السواد إلى مبادرة من بكر بن وائل تجاوب معها إقدام خالد بن الوليد وقد خرج منتصرا من حرب الردة قبل مدة قصيرة. ولعلها كانت بداية لمغامرة كبرى في التاريخ العالمي ، إنما تجذرت في الغموض والتهميش. ومن أول وهلة يبدو أن الفتح تقرر مصيره في الجنوب الشرقي من بلاد العرب ، بعيدا عن قرار الحكم المركزي. واستنادا إلى الأسبقية الزمنية للغارات على السواد بالمقارنة مع المعارك التي دارت في الشام وفلسطين ، يطرح كايتاني بهذا الصدد قضية كبرى هي قضية الفتح العربي برمته ، وكأنه صار مسلما بأن حركة الفتح انطلقت من هذه الغارات العراقية.

الواقع أن شيئا من ذلك لم يكن. لا شك أن الأيام التي جدت سنة ١٢ ه‍ ، قد أثرت على قرار عمر الذي اتخذه في السنة التالية ، والخاص بالشروع في فتح السواد. على أن هذا القرار يكون غير معقول بدون الانتصارات على البيزنطيين. وينزع السياق التاريخي برمته ، كما المطالعة المتيقظة للمصادر ، إلى الدلالة على أن مواجهة الشام كانت تعتبر الجبهة الرئيسية والجبهة التي كانت فكرة الفتح عامة توضع فيها على محك الاختبار.

هذا وينبغي الإنطلاق من الأحداث الملموسة في ميدان يتصف بمثل هذه الضبابية. اتجه الرسول بنظره إلى الشمال قبل أن يتوفى ، فشكل في محرم من سنة ١١ ه‍ / ٦٣٢ جيشا للشام بقيادة أسامة بن زيد ، وأمره ب «أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين» كما روى الطبري (٢) نقلا عن إبن إسحاق. ولا يكفي أن يكون التقليد الإسلامي أفاض في القول كما شاء في الغايات التي رسمها الرسول للغزو الخارجي لكي ننكر أو نخفّف من وجود نيّة توسّعية في حياة الرسول نفسه. وإلا فلا يمكن فهم الإلحاح الذي أحاطت به الروايات جيش أسامة ، مباشرة بعد مبايعة أبي بكر ، في حين بدأت تطرح مسألة الردة الخطيرة ، ولا نفهم بالخصوص إلا بعسر أنه بعد إنهاء حروب الردة (في أواخر سنة ١١ ه‍) ، وبعد أن تكلل بالنصر تسلل خالد إلى السواد فعلا ، قامت الدولة في المدينة بقيادة الفتح

__________________

(١) Caetani, Annali dell\'Islam, Milano, ٧٠٩١, Vol. II, t. II; Wellhausen, Prolegomena Sur a ? ltesten geschischte des Islams, Skizzen und Vorarbeiten, VI, Berlin, ٩٨٨١, pp. ٧٣ ff; Shaban, Islamic History, a new interpretation, I, Cambridge, pp. ٥٢ ff.

(٢) تاريخ الرسل والملوك ، نشرة القاهرة ، ١٩٦٠ ـ ١٩٦٩ ، ج ٣ ، ص ١٨٤.

٧

الرسمي العلني نحو الشام وفلسطين ، فجهزت ثلاثة جيوش مهمّة (في بداية سنة ١٣ ه‍ / ٦٣٤). وهكذا فإن وجدت استمرارية في النوايا منذ عهد الرسول وروح عزم وقرارات باتّة من لدن دولة المدينة فإن ذلك كان موجها نحو الشمال ، فضلا عن احتمال وجود أسباب أخرى موضوعية أملتها الأوضاع القائمة في الخارج. ويبدو لنا أن شعبان قدّم عن دراية افتراضا مفاده أن البيزنطيين كانوا يتأهبون للقيام بتدخل وشيك ، درءا للحملات العربية على حدودهم. لقد كانوا أكثر اطلاعا من الفرس على ما كان يجري في بلاد العرب ، وكانوا راغبين أيضا في إعادة الخطوط التجارية التقليدية التي انقطعت بسبب تقدم الإسلام (١).

والمقصود من كل هذا النقاش أنه إذا وجب طرح قضية الفتح عامة ، فمن حصافة الرأي أن يكون هذا الطرح بخصوص الشام لا بخصوص العراق. على أن مشروع الفتح امتد سريعا جدا إلى العراق في أثناء خلافة عمر ، إذ أعاد عمر النظر في العمليات الأولى التي قادها المثنّى وخالد ، فوسع فيها وعقلنها بداية من سنة ١٣ ه‍ / ٦٣٤. وبذلك يتبين أن تطور الفتح في العراق يوضح توضيحا ممتازا كل ما يتعلق بأسباب التوسع. تتجلّى هذه الأسباب بتطور الظاهرة ذاتها في تنوعها الملموس. ذلك أن الفتح العربي الخاضع منذ البداية إلى دفع مركزي ، حالفه التنوع المرتبط بتنوع الأقاليم المفتوحة ، وتضمن هذا التنوع البذرة التي نبتت فيها القضايا المقبلة التي ستواجه المجتمع العربي المهاجر. كان الفتح فعلا «هجرة مسلحة» ، كما جاء في تعبير كايتاني الجيد (٢) ، وهي عبارة تنطبق على العراق أكثر مما تنطبق على أية جهة أخرى. أما أن يعتبر كرجوع لا شعوري إلى حركة بعيدة في الزمن ، كما فعل المستشرق الإيطالي ، وبمثابة ظاهرة تدفع بانتظام موجات الساميين بعيدا عن موطنهم الأول في بلاد العرب ، فذلك يعني تأويلا للتاريخ عرقيا مشطا. ذلك أن كلمة ساميين تشمل بشرا متنوعّي الأصناف وحّدهم التبحر العلمي الأوروبي في القرن التاسع عشر بأن جدد بناء لغاتهم فربط بينهم ربطا خياليا (٣). وعوض أن نرجع إلى العصور الغابرة من الأجدر بنا أن نبذل الجهد للاحتفاظ فقط من تاريخ العراق الذي سبق الإسلام مباشرة بما من شأنه أن يوضح

__________________

(١).Islamic History ,I.p.٥٢ من المهم أن نلاحظ أن المسلمين كان يحدوهم في حياة الرسول ، شعور بالخطر البيزنطي المسلط عليهم. وقد راجت إشاعات سنة ٨ ه‍ / ٦٢٩ ، مفادها أن هناك قبائل عربية مناصرة تجمعت حول البيزنطيين ، هي لخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة : راجع ابن عساكر ، تاريخ دمشق ، ج ١ ، ص ١٠٤. ومن المعلوم أن وقعة مؤتة كادت أن تكون كارثة.

(٢) Annali dell\'Islam ,Vol.II ,t.II ,p.١٦٨

(٣) من العبث القول إن الفتح العربي في بلاد الرافدين كان «آخر محاولة لإقامة الهيمنة السامية من جديد في آسيا» : Caetani, Annali, Vol. II, t. II, p. ١٦٨ ، كأن الأمر يتعلق بوجود وعي سامي وباستمراره عبر التاريخ.

٨

الاستقرار العربي.

وضعية العراق قبل الفتح العربي

ساد الفرس على هذا البلد منذ ما يزيد على ألف سنة ، وكان قطرا معروفا بغرينه الثري ، واقتصاده المائي ، فكان حقا هبة دجلة والفرات. ورث الفرس نسق بابل للري في أساسه وقد ذكر الخطيب البغدادي أنهم لم يقوموا سوى بتحسينه فحفروا قنوات ثانوية ، لأن القنوات الرئيسية كانت سابقة لهم (١). لكنهم طبعوا البلاد بطابعهم فكانت التقسيمات الإدارية وتقسيم الأراضي تحمل أسماء فارسية وكانت تنسب إلى ملوك الفرس ، ولا سيما الساسانيين منهم (٢). ولقد أقام الملك عاصمة ملكه كله في المدائن (أو طيسفون). وكان عليه أن يعود صيفا إلى اصطخر المدينة المقدسة. والعراق بفضل ثرائه وموقعه الجغرافي ، وموارده البشرية وماضيه ، صار مركز الامبراطورية الفارسية في العهد الساساني. ومع ذلك ، فقد ظل متميزا عن الموطن الإثني الأصلي ـ أي فارس ذاتها ـ حيث كان للشعب المهيمن جذوره العميقة. وبالفعل فبعد تجاوز الحد الشرقي من حلوان ، كان النجد الإيراني يشرف بكامل ارتفاعه على الأراضي السفلية لبلاد الرافدين. وقد لجأت فلول جيش يزدجرد إلى هذا المكان ، بعد أن طردها العرب من العراق. وكان الخط الفاصل بشريا بين الشعوب السامية (٣) الناطقة بالآرامية ، من الأهالي الخاضعين أو النبط ، والشعوب الإيرانية وهي قوام السيطرة الساسانية ، كان هذا الخطّ يقع أسفل سفوح جبل زاغروس. ولكن على الرغم من أن العراق كان قطرا مفتوحا خاضعا مستغلا ، ولم يكن قطرا «قوميا» ، فهو مرتبط بالامبراطورية إلى درجة أنه لوضاع العراق لضاع كل شيء ، كما دلت عليه الأحداث فيما بعد ، خلافا لما وقع في الشام وفي الامبراطورية البيزنطية. لقد ميز العرب قطعا بين العراق ـ

__________________

(١) تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٥٧. اقتبس المؤلف أخبارا عن الهيثم بن عدي بخصوص دور الأنباط في التشييد ولعلهم بنوا القنوات الكبرى لصراة ، وسورا ، ونهر الملك في حين أن الفرس لم يحفروا سوى كوثى ، والصراة الصغرى ، والنهروان.

(٢) قسم العراق في العهد الساساني إلى اثنتي عشرة ولاية ماليا وإداريا ، سميت أستان ، كانت ست ولايات منها تقع شرقي دجلة وتقع ست ولايات أخرى شرقي الفرات ومن أسمائها : شاد فيروز ، باجيزان خسرو ، شادبهمان ، أردشير بابغان ، بيهقباذ e Strange, The Lands of Eastern Caliphate, pp. ٩٧ ـ ١٨. ؛ وصالح أحمد العلي ، «منطقة الكوفة» ، سومر ، ١٩٦٥ ، المجلد ٢١ ، ج ١ و ٢ ، ص ٢٢٩ ـ ٢٥٣. Spuler, Handbuch der. Orientalistik, Brill, Leyden, ٩٥٩١, tII, ٢, p. ٣٢ ff

(٣) راجع حول آثار اللغة الأكادية في المصطلحات التقنية للري العربي [مسنّيتو الأكادية ـ مسناة العربية] ما كتبه Armas Salonen في : Orientalia, XXXII) ٣٦٩١ (, pp. ٩٤٤ ـ ١٥; Bosworth, JESHO, XII / ٢) ٩٦٩١ (, p. ٤٥١.

٩

الذي اشتمل على الأهواز ، وخوزستان في الجنوب الشرقي ـ وبين فارس والجبال ، وأصر عمر على رفضه مهاجمة الفرس في بلدهم الأصلي ودام رفضه بضع سنوات. لكن الأمر الدال هو أن أهم ما في الجهاز الدفاعي الإيراني استقر بالعراق. ثم أن خط الدفاع ضد «البرابرة» القادمين من الغرب ، لم يكن موجودا في أسفل جبل زاغروس ، بل على مرتفعات الطّف ، وراء الفرات ، ومواجها للبادية العربية (١).

لا شك أن العرب ما انفكوا يتسللون في كل العصور ، من بلاد العرب إلى بلاد الرافدين. ولو اقتصرنا على المؤرخين العرب كالطبري والمسعودي ، لكان شعورنا أن محاولات الاستقرار التي قامت بها الجموع العربية تعود إلى عهد سحيق مع ملاحظة أن أولئك المؤرخين كانوا يخلطون بين القديم والحديث ، وما كان قابلا للتصديق وما لم يكن كذلك. روى الطبري (٢) أنه وجد تجار عرب في بلاد الرافدين زمن نبختنصر الذي عاش في عصر معدّ بن عدنان (كانت هذه المعاصرة أسطورية لكنها كثيرة الأهمية كعلامة ذهنية). وقد تلقى الملك من الرب أمرا بالقضاء عليهم ، لكنه بنى لهم حيرا (معسكرا) ثم تخلى عن هذه الفكرة ، فاستقروا عند ذلك في الأنبار (٣). وروى الطبري كذلك في موضع آخر ، أن العرب أقاموا بالحيرة والأنبار في عهد ملوك الطوائف أي زمن دولة الأرصسيديين. Arsacides

وقد استفاد عناصر من تغلب وقيس وغطفان واياد ، كانوا تجمعوا في البحرين تحت إسم تنوخ الجامع لرايتهم ، ولعل عناصر من لخم والأزد انضموا إليهم ، استفادوا من انقسام الفرس ، فأقاموا غرب الفرات حسب خط متواصل يمتد من الأنبار إلى الحيرة (٤). وتقول المصادر أنهم حافظوا على شخصيتهم ، حيث كانت لهم شخصية مستقلة ثابتة بصفة خاصة.

كانوا لا يسكنون إلا الخيام ، ولم يختلطوا بالأهالي ، وقد سمّي أولئك العرب المقيمون بالطّف بعرب الضاحية أي عرب الأطراف. على أن جميع العرب الذين أقاموا خارج شبه الجزيرة ، من الأبلّه إلى الشام مرورا بالجزيرة ، عاشوا عيشة مهمشة واتصفوا بصفات مشتركة وربطوا علائق قرابة وثيقة بينهم ، حيث كانوا محاصرين بين العالم العربي الداخلي والهياكل الامبراطورية الخارجية. وما يدل على ذلك أن جمهرة ابن حزم (٥) ، صنفت تنوخ ، وغسان ،

__________________

(١) لا سيما خندق سابور والحاميات الفارسية الموجودة بمنابع نهر الطفّ ، وفي عين الصيد وقطقطانة ، ورهيمة ، وعين جمل : البلاذري ، فتوح البلدان ، القاهرة ، ١٩٣٣ ، ص ٢٩٦.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ١ ، ص ٥٥٨.

(٣) لكن من المعلوم أن الأنبار أنشئت بعد ذلك بكثير من طرف سابور ذي الأكتاف : الدينوري ، الأخبار الطوال ، طبعة بيروت ، ص ٤٨ ـ ٤٩.

(٤) الطبري ، ج ١ ، ص ٦٠٩.

(٥) الجمهرة ، طبعة القاهرة ، ص ٤٦١.

١٠

خارج تسلسل الشجرة المشتركة وظهرت أياد والنمر لا محالة بمظهر هامشي بارز. ثم إن الأمر يختلط على نسابينا ومؤرخينا ، فخلطوا بين هجرة قضاعة واستقرار عرب الضاحية واستقرار تغلب والنمر وأياد في الجزيرة (١). لكن هذا الشتات العربي كان يربط الصلات حيثما كان.

فهل هذا أصل مشترك؟ أو تضامن أملاه ما كانت عليه ظروف العيش من تشابه ، أم كانت سهولة في التحرك مردها استمرار الترحال؟ يرى المسعودي أن الاستقرار الأول في الحيرة ، تم بواسطة انفصال جموع من المهاجرين في الشام ، فوصف جذيمة الأول بأنه تنوخي (٢). هذا وأن تسمية تنوخ الغامضة تستند إلى الماضي البعيد. الواقع أن هذه النسبة كانت نادرة في المصادر كلما اقتربنا من الفتح. لكن إذا وجب التمييز بين خط الاتصال العربي ـ الفارسي بالطّف والخاضع للحيرة ، وبين منطقة الجزيرة ، وبين المنطقة العربية الداخلية القريبة من العراق والمستقلة ، فلا مناص من القول إن العناصر القبلية لهذه المناطق الثلاث كانت متشابكة.

أ) تقيم أياد وتغلب والنمر على أرض الجزيرة بصورة رئيسية ، وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بمصير الحيرة ، وتوجد في قلب السواد أيضا ، تقوم على خفارة تجار سوق قرية بغداد (٣) ، أو بعين التمر حيث كانت تدافع عن الحصن برفقة الفرس ، وقد قام خالد بتقتيلها (٤). وقد تأكد من جهة أخرى أن ملك الحيرة كان يعتمد عليهم ويستخدمهم ضمن فرق شرطته (٥). ويمكن الافتراض أنهم أكثروا من التنقل حين انهارت مملكة الحيرة ، مع العلم بأنهم كانوا يتنقلون دائما ، وأن مقرهم الرئيسي كان بأرض الجزيرة الفراتية ، ويبدو أن الفرس استخدموهم في الدفاع عن حدودهم العربية.

ب) أقام عرب داخل بلاد العرب علائق مع العالم الإيراني ، وكان بصرهم مركزا على العراق ، ولا سيما قبيلتان كبيرتان من ربيعة هما عبد القيس وبكر. وقد بيّن ماسينيون Massignon أن عبد القيس تأثرت بالحياة الإيرانية إلى حد ما قبل ظهور الإسلام بمدة (٦).

__________________

(١) Caetani ,Annali dell\'Islam ,II ,٢ ,p.٣٥٢.

(٢) مروج الذهب ، تحقيق پيلاPellat ، بيروت ، ١٩٦٦ ، ج ٢ ، ص ٢١٤.

(٣) تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٤٧٤ ، يتحدث الطبري عن «خفراء من ربيعة وقضاعة». وكانت أياد أنشط القبائل الثلاث.

(٤) المرجع نفسه ، ج ٣ ، ص ٣٧٦.

(٥). Kister,» al ـ Hira. Some notes on its relations withArabia «, Arabica, xv, ١, ٨٦٩١, p. ٩٥١ يشير إلى قبيلة النمر لكن ليس صحيحا القول إن خالدا أبادهم خلال حروب الردة ، إلّا إذا اعتبرنا أيام سنة ١٢ ه‍ مدرجة في الردة.

(٦) Massignon,» Explication du plan de Kufa «, Opera minora, tIII, p. ١٤.

١١

ومن الثابت أن بعض عناصر هذه القبيلة التي ستقوم بدور رئيس في العشرين سنة التالية ، قد تسربوا إلى منطقة الأبله وتقدموا إلى خوزستان (١). أما قبيلة بكر التي ارتبطت بها عجل وثيق الارتباط ، فقد كانت تترحل في البوادي خارج الطّف. وقد أنيطت مسؤوليات بعهدة بعض شيوخها ، كلفهم بها الفرس ، كما جرى الأمر مع شيخ من بكر ولي على الأبله (٢). لكن الملاحظ أنه ظهرت داخل هذه القبيلة استعدادات عدائية تجاه الامبراطورية الساسانية. كانت هذه القبيلة قبيلة اتصال ومثلث أيضا رأس الرمح للعروبة تجاه العجم. ظهر ذلك خلال معركة ذي قار (٣) ، ثم أثناء مقدمات الفتح الذي انطلق مع بكر فعلا بقيادة شيخهم المثنّى بن حارثة الشيباني. كانت معركة ذي قار تشكل أول مواجهة بين الفرس والعرب على أرض مكشوفة وتستند أسباب نشوبها إلى تاريخ العلاقات بين الامبراطورية ومملكة الحيرة ، وهي العلاقات التي بلغت مرحلتها الأخيرة من التدهور. ذلك أنه لكي يقوم بنو شيبان بنجدة آخر المناذرة الذي طارده كسرى ابرويز ، ولكونهم رفضوا تسليم الدروع التي أودعها النعمان عندهم ، فإنهم وافقوا على خوض نزاع كان يبدو غير متكافىء (٤). وقد شدت عجل أزرهم بقوة ، وجسّم حنظلة شيخهم روح النضال والتحدي ، أكثر من هانىء بن قبيصة سيد بكر. وما هو ذو دلالة أيضا أن قبيلة أياد التي حاربت مع الفرس ، اقترحت ، حسب المصادر ، خذلان أسيادها لفائدة أبناء جلدتها ـ وقد تجدد هذا النوع من السلوك في بعض مراحل الفتح العربي.

ولقد أشادت أشعار كثيرة بهذا الحدث (٥) الذي كانت مراحله متعددة. وقد وصفها العرب ـ ذهل بن شيبان وعجل ـ كما وصفوا أيامهم المعهودة ، فظهرت أيام قراقر وحنو ، وجبابات ، وذو أجرم ، وغدوان ، وأخيرا المواجهة الحاسمة في بطحاء ذي قار. والأمر المهم الواجب لحظه أن رؤساء الحاميات العربية بقيادة أياس بن قبيصة الطائي (٦) رافقوا الفرس ومن بينهم شخص بارقي (من الأزد) وآخر شيباني من بيت ذي الجدين عهد إليه بقيادة حامية صفوان في الطفّ. ما هي حصيلة هذه الوقعة؟ هل كانت تبشر في واقع الأمر

__________________

(١) نجد عناصر من ربيعة متنصرة في منطقة فارس وأسياف البحر إلى حد زمن علي لكن الأرجح أنهم قاموا بهجرة وحشية : الطبري ، ج ٥ ، ص ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) كان من بيت ذي الجدين الشريف الذي أقطع الأبله طعمة : الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٣) راجع ما ذكره عنها ، غولدزيهر.Goldziher ,Muhammadanishe ,I ,p ,٤٠١.

(٤) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٠٦. هذا الاستبقاء لكمية ضخمة من الدروع والأسلحة يفسر قوة بكر العسكرية في أول الفتح : ياقوت ، معجم البلدان ، ط. بيروت ، ١٩٥٧ ، ج ٤ ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٥) المرجع نفسه ، ج ٢ ، ص ٢١٢.

(٦) خليفة النعمان على رأس الحيرة.

١٢

بانقلاب الوضع لفائدة العرب ، وتغيير علائق القوة؟ الحقيقة أن الموضوع مرتبط بحدث صغير في حد ذاته ، كان عبارة عن معركة صغيرة دارت بين بعض الجماعات العربية وبعض حاميات خط الدفاع الفارسي. على أن هذا الحدث يندرج في سلسلة من الظواهر التي تكتسب دلالة معينة حين يقع ربطها ببعضها بعضا : منها العدوانية المقدامة التي أبدتها قبيلتا شيبان وعجل ، الملتحمتان والداخلتان في فلك الساسانيين دخولا متفاوت الأهمية ، وقد بقي بعض من عناصر هما على تلك الحال ، ثم انهيار مملكة الحيرة في شكلها التقليدي ، وتغييرات طرأت على استراتيجية الدفاع الفارسي ضد العرب ، وعدم استقرار هذه الاستراتيجية ، وهناك أمور أخرى لم يرد ذكرها في المصادر إلا تلميحا ، وهي ترجعنا إلى بنية من العلاقات التي نخمنها : مثلا ، أن يكون الفرس قد اعتبروا الغارات العربية الأولى ، حتى وقعة القادسية ، بمثابة دفعة حمى تسببت بها المجاعة وكأن الأمر يعني حركة معهودة من الاضطرابات.

وأخيرا ، لن ننفك دائما نلح على الدور الجديد الذي قامت به بكر بن وائل. فقد كانوا الأولين الذين بدأوا الإغارة على السواد ، وإليهم يرجع فضل المبادرة في فتح العراق ، بمساندة الحكومة القائمة في المدينة طبعا وبإذن منها.

ويتضح إذن أنه لا يمكن تعليل هذه المبادرة دون الرجوع إلى ذلك الماضي القريب ، ماضي النزاعات والاطماع والتحدي الموجه إلى أعظم امبراطورية في العالم والصادر عن قبيلة كانت ذهنيتها ترتبط أعمق ارتباط بشبه الجزيرة ، لكنها كانت تعيش لا محالة على رباط وثيق بالعالم الخارجي وكانت مطلعة على نقاط الضعف فيه.

ج) كتب الكثير عن مملكة الحيرة (١). كانت الحيرة موجودة قبل الساسانيين ، فهيؤوها لتكون مملكة تابعة أنيطت بها مراقبة الحدود بالخصوص ، وأصبحت مملكة ذات شأن في القرن الرابع الميلادي ، على الأقل بفضل ما حصل عليه النعمان الأول من حظوة عند يزدجرد ، وقد أشرف النعمان على بناء قصر الخورنق الذي استقر فيه ابن الملك الساساني. تضاف إلى ذلك الأسباب العسكرية والسياسية التي تفسر كيف أعطى الملك الفارسي النعمان كتيبتين للقتال ، كانت الأولى متكوّنة من العرب ، من ربيعة بالخصوص ، وتكوّنت الثانية من

__________________

(١) فضلا عن أبحاث كايتاني ومقال نشر في دائرة المعارف الإسلامية (الطبعة الثانية) ، يمكن الرجوع إلى : Labourt, le ehristianisme dans l\'empire perse; Aigrain,» art Arabie «in Dictionnaire d\'His ـ toire et de Ge ? ographie eccle ? siastiques, t. III, Paris ٤٢٩١; Christensen, l\'Iran sous les Sassa ـ nides, Copenhague ٦٣٩١; Talbot Rice,» Hira «in Journal of the Royal Central Asian Society, vol, XIX, ٢٣٩١, pp. ٤٥٢ ـ ٨٦٢; وكذلك إلى أعمال كيسترKister وبالأخص في : Arabica ,XV ,١ ,٨٦٩١ ,.p.٣٤١ ff.

١٣

الفرس (١). ونمت القدرة العسكرية لهذه المملكة في القرن الخامس والقرن السادس الميلادي ، كما اتسع مجال عملها. ولكن لا يعني ذلك أننا نجاري كيسترKister في رأيه القائل إن نسيج العنكبوت الذي حبكه ملوك الحيرة قد امتد إلى بلاد العرب كافة ، وكأنهم أصبحوا المحور والمرجع للوجود السياسي كله في بلاد العرب ، إنما دخلت الحاشية الشرقية لشبه الجزيرة بصفة متفاوتة في جهازهم. فكان بنو بكر صنائع لهم (من المرتزقة أو بالأحرى كانوا أعوانا مأجورين) ، والنمر أيضا ، وارتبطت تميم بهم بفضل رباط الردافة ، وعقد عهد بينهم وبين سليم وهوازن ، ويمكن اعتبار غطفان وأسد قبيلتين حليفتين لهم.

كانت الحيرة إمارة مهمة ، بل كانت تصنف ضمن الممالك الأربع التابعة التي كانت تحويها كل الامبراطورية. وكان ملكها يلقب بلقب شهداران (٢). أما دورها الثقافي والحضاري فيبدو عظيما إذ نصّبت نفسها مركزا للشعر العربي الأصيل وملتقى لتأثيرات مختلفة كذلك. أما على الصعيد الديني فقد تعايشت فيها الوثنية العربية والمانوية والمزدكيّة والنسطورية والمذهب التوحيدي لطبيعة المسيح. ويبدو أن المسيحيين المشار إليهم من طرف المصادر بكلمة العباد كانوا يشكلون الأغلبية ، وعلى رأسهم أسقف من القرن الخامس. فمثلا نجد أوزي Osee أسقفا في سنة ٤١٠ م ، على «هرته» ، وكان حاضرا بمجمع سلوقيه حيث نظمت كنيسة فارس (٣) في سنة ٥١٠ م ، وصوت نرسس Narses الأسقف النسطوري ، لصالح انتخاب جاثليق جديد (٤). وكان الجوجو تسامح ، فكان هذا الملك يبدي تشككه تجاه المسيحية ويذهب الأمر بغيره من الملوك ـ كالنعمان بن المنذر القديم ـ إلى حد اعتناق الحياة التنسكيّة ، بانيا أديرة وصوامع (٥). ستقتبس الكوفة كثيرا من هذه الخاصيات الحضارية والثقافية ، ولا سيما العناصر الهندسية المعمارية ، والكتابة ، وعناصر الشعور الديني وبذلك تبقى قضية تأثير الحيرة على ثقافة الكوفة كقضية أساسية.

كانت مملكة الحيرة تقوم بدور فعال ، دور الحاجز بين العرب والفرس ، وطرأت عليها تغييرات ابتداء من القرن السابع. فقد أقصى كسرى أبرويز ، في ٦٠٢ ، الأسرة اللخمية

__________________

(١) الأغاني ، طبعة القاهرة ، ١٩٢٨ ، ج ٢ ، ص ١٤٦ ؛ الألوسي ، بلوغ الأرب ، بغداد ، ١٣١٤ ه‍ ، ج ٢ ، ص ١٩١. كانت الكتيبة الأولى تسمى دوسر ، وكانت شديدة المراس في القتال ، وتسمت الثانية الشهباء ، وعرفت الكتيبتان أيضا باسم «القبيلتين».

(٢) Christensen ,Iran ـ ـ ـ ,p.٦٩.

(٣) انظر مادة» Arabie «في : Dictionnaire d\'Histoire et de Ge ? ographie eccle ? siastiques.

(٤).Talbot ـ Rice ,art.cit ,p.٤٥٢. لقد ازداد عدد النسطوريين.

(٥) الأغاني ، ج ٢ ، ص ١٣٥ : يروى أن هندا ابنته هي التي أمرت ببناء دير هند الشهير الذي كان محاذيا لمدينة الكوفة المقبلة.

١٤

المالكة وكانت من المناذرة ، لأسباب تبقى مجهولة لدينا إلا أن المؤرخين القدامى ربطوا هذا القرار بالدور الذي قام به عدي بن زيد الشاعر (١). كان عدي ذا حظوة في بلاط الساسانيين ، ويعتقد أنه أنقذ السلالة اللخمية لما أجلس على العرش النعمان الذي كان في حمايته. وقد أثارت حظوته الخاطفة في الحيرة الحفائظ والدسائس. فاغتيل ، وقرر الإبن الأخذ بثأر أبيه فأثار كسرى على النعمان الثالث. وأظهر النعمان العصيان وطورد من أجل ذلك إلى قبيلة طيّ التي رفضت مساعدته ، ثم دخل في ذمة هانىء بن قبيصة من ذهل بن شيبان من بكر ، فكانت حمايته له ناجعة ، مما أدى إلى نشوب المواجهة في ذي قار ، التي صمد فيها العرب حتى النصر. لكن هذا لم يحل دون طرد المناذرة عن الحكم ، وألحقت مملكة الحيرة إلحاقا كان مقنّعا ثم صار مباشرا. وبالفعل ولّي عربي هو أياس بن قبيصة الطائي على ثغر العرب ، ومن المحتمل أن الأمر تم له بعنوان الولاية لا بصفته ملكا. وخلفه أزاذابه بن ماهان الفارسي طيلة سبعة عشر عاما ، منها أربعة عشر عاما وثمانية أشهر في حكم كسرى أبرويز (٢). وبذلك نصل إلى سنة ٦٣٠ م / ٨ ه‍. وصارت الوضعية عندئذ غامضة. فظهر أحد أحفاد الأسرة المالكة سابقا وهو أحد المناذرة الذي اشتهر باسم الغرور عند العرب ، وانتهى أمره مقتولا في البحرين (٣).

وها أن الحيرة تبرز في ضوء التاريخ الإسلامي ، بمثابة الجزء المركزي من الأيام التي حدثت سنة ١٢ ه‍. وأنشئت إلى جانبها الكوفة بعد خمس سنوات ، رمزا وموطنا للعروبة الجديدة التي برزت مع الإسلام ، وكانت عروبة مغايرة كل المغايرة لتلك التي جسمتها الحيرة طيلة ثلاثة قرون.

الواقع أن انهيار حكم المناذرة لا يكشف عن تناقض سياسة كسرى الثاني فقط ، حتى ولو دلّ على مدى الخفة الذي بلغه عسف هذا الملك. إذ إن حالة الحيرة التي صار الولاة يتقاذفونها في آخر طورها ، تعكس تفكك السلطة الساسانية ذاتها. ولا فائدة من التعرض للأسباب العميقة للأزمة التي مرت بها الامبراطورية الفارسية. على أننا نلاحظ ما هو ماثل للعيان وهو ما لاحظه المؤرخون العرب أنفسهم. كان العهد الطويل الذي قضاه في الحكم كسرى أبرويز (٥٩٠ ـ ٦٢٨) ، بمثابة الكارثة من وجوه عدة : اكتناز المال بصورة لا تصدق ، وشطط جبائي وتجاوزات من كل قبيل ، وحروب مرهقة مع بيزنطة (٤). فضلا عن أن الهوس

__________________

(١) الطبري ، التاريخ ، ج ٢ ، ص ١٨٨ ، وما بعدها ؛ الأغاني ، ج ٢ ، ص ١٠٠ وما بعدها ؛ المسعودي ، مروج الذهب ، ج ٢ ، ص ٢٢٣ وما بعدها.

(٢) الطبري ، التاريخ ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٣) المرجع نفسه ، ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٤) الطبري ، التاريخ ، ج ٢ ، ص ٢١٦.

١٥

التنجيمي لهذا الملك دفعه إلى القضاء عن ذريته ذاتها. فطرأت أزمة على خلافة الملك ، لكون الذرية مفقودة. لم يكن البيت الساساني مهددا بالزوال فقط ، بل إن الضربة القاضية لحقت بهيبته ، دون أن تتأكد في الاثناء شرعية سياسية أخرى. فتواتر على العرش خلال بضعة أعوام الملوك والمدعون بأحقيتهم في الملك ، إضافة إلى الدسائس والانقلابات والاغتيارات والمقاتل. ولم يبق شيرويه في الحكم خلفا لكسرى سوى ستة أشهر تقريبا ، وخلفه ابنه أردشير وبقي سبع سنوات في الحكم. ثم ساد الغموض بعد ذلك. وما يمكن ذكره من أسماء في هذا الصدد ، اسما : بوران ورستم ، وآخرها يزدجرد الذي توج باصطخر حينما كان الفتح العربي على أشده (١).

ولذا أدى الاضطراب السياسي إلى نشوب أزمة خلافة لا مخرج منها. ومما زاد الطين بلة أن الكوارث الطبيعية نزلت على العراق ، ففاض الفرات ودجلة في سنة ٧ من الهجرة ، واستحال سد الثغرات ونشأت البطائح وكانت مساحات واسعة من الماء الراكد تقع بجنوب موقع الكوفة العتيدة إلى حدود الأبله. وبذلك نزعت مساحة كبيرة كانت صالحة للزراعة وخسرها النشاط الزراعي خسارة دائمة (٢) وعجز كسرى أبرويز عن إيقاف هذه الظاهرة التي استمرت وتفاقمت مع الغزوات العربية.

__________________

(١) الطبري ، ج ٢ ، ص ٢٢٩ ـ ٢٣٤ ؛ الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١١٠ ـ ١١١.

(٢) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٩٠ ؛ Le Strange, The Lands of Eastern Caliphate, p. ٦٢ ـ ٧٢

١٦

ـ ٢ ـ

من الأيام إلى القادسية

انطلق الفتح العربي في مثل هذه الظروف غير الملائمة للفرس إطلاقا. وقد ارتكب الساسانيون خطأ كبيرا. ذلك أنهم لم يتفطنوا إلى تقييم ما كان يجدّ في بلاد العرب ، كما أنهم لم يتغلبوا على الشعور بالمناعة الذي قضى عليهم في النهاية.

الأيام

بينما كانت تدور حروب الردة ـ وقد كانت مدرسة تعلم فيها العرب الحرب تعلما ممتازا (١) ـ بلغ إلى علم بني شيبان أن مملكة فارس كانت في أزمة خلافة ، فخططوا للقيام بغارات كبيرة على السواد (٢). وأراد المثنّى ، سيّدهم ، ربط هذه العملية بالإسلام : كان الجزء الذي يتبعه من بكر في طريق الأسلمة ولا سيما أنه بقي وفيا للدين خلال حروب الردة. وعمل المثنى من أجل إكساب وضعه صبغة شرعية ، فطلب الإذن من أبي بكر ، لكن بعد انطلاق العملية. وتدخل خالد بن الوليد في هذا الظرف إذ كان قريب العهد بالانتصار على حنيفة في معركة عقرباء. فلا مفر من تفسير ذلك بأن السلطة في المدينة أرادت استرجاع المبادرة التي قامت بها قبيلة بكر ، وحصرها ، وحتى تسييرها. وأذن أبو بكر للمثنى بالتحرك ، لكنه عمل على إعلام خالد بالأمر ، وأمره بالانضمام إلى المثنى وقيادة العملية كلها. فنشأت عن هذا الإتصال «أيام» سنة ١٢ ه‍ ، التي كانت منطلقا لسيطرة العرب على العراق ، ثم على الممتلكات الساسانية كلها في فترة لاحقة.

هل اغتاظ المثنى من قدوم خالد؟ «وكره المثنى ورود خالد عليه وكان ظن أن أبا بكر

__________________

(١) ذلك ما لا حظه نابليون : راجع : Norman Daniel ;Islam ,Europe and Empire ,p.٩٢.

(٢) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٣٤٤ ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ٢٤٢ ؛ الدينوري ، الأخبار الطوال ، ص ١١١.

١٧

سيولّيه الأمر» كما قال الدينوري (١). ليس يهم إلا قليلا الاطلاع على مشاعر المثنى. لكن ، وخلافا لذلك ، لا منازع أن مساعدته كانت فعالة وثمينة وأنه جسّم عنصر الاستمرار والدوام في مشروع الفتح الذي تعطل عدة مرات. كان البلاذري والدينوري محقين في منحه مكانا مركزيا في انطلاق المغامرة العراقية (٢) ، في حين أن الطبري نزع إلى إغفال دوره ، فيما نقله لنا من روايات باستثناء تلك التي يعتمد فيها أبا مخنف (٣). وعلى كل ، فخلافا لما اتصف به كتاب الدينوري من إيجاز ووضوح وتبويب ، إذ ربط أحداث الأيام بعرض حول تدهور الأحوال في الامبراطورية الساسانية ، وقصرها على الاستيلاء على الحيرة وحصونها الثلاثة ، وكذلك على وقعة عين التمر ، وخلافا أيضا لما يبدو عليه نص البلاذري من الوجازة ، فإن النصوص التي أوردها الطبري تستهدف الشمولية ، فجاءت كثيفة ، مفرطة التفاصيل ، مترامية الأطراف. وردت روايات مطولة لأحداث الأيام ، وتجاوزت كثيرا ما كان يترقب منها من أهمية عسكرية حقة. وتجلى هذا الأمر في كتب الفقه (٤) ، والمغازي والتاريخ (٥). أما حقيقة الأمر ، فإن المناوشات الأولى على حدود العراق تبدو في نظر المؤرخ الحديث المتتبع لسياق الأحداث ، بمثابة الأحداث الصغرى بالنظر للمعارك الحاسمة ـ ومنها معركة القادسية ـ التي هزت الأمبراطورية الفارسية في قوتها ثم في وجودها هزا لا رجعة فيه. فضلا عن أن نتائجها الإيجابية كخضوع الحيرة وخضوع بعض قرى السواد منها أليس وبانقيا كانت غير ثابتة ، لأن عودة الفرس إلى الهجوم جعلتها لاغية ، وهكذا انطلق العرب من الصفر في القادسية ، كأنه لم يقع شيء. فلم هذا التضخيم لحدث الأيام في الروايات؟ يمكن تعليل اهتمام الفقهاء بالتطورات الأولى للفتح بمحاولتهم العثور على قاعدة فقهية عامة مستمدة من صور خاصة ، هي قاعدة الصلح المتميزة عن وضعية العنوة. ومن الممكن أيضا أن سكان الحيرة أرادوا التملص من النظام المشترك للسواد ، مستظهرين بمعاهدة أبرمت مع خالد. وبذلك يمكن للمشاغل النوعية الخاصة بالقرن الثاني (إمكانية التصرف بالبيع في أرض السواد أم لا ، نظام خاص أو غير خاص للمجموعات التي طالبت به باسم الحقوق التاريخية) أن تفسر اهتمام الفقهاء بأحداث تبدو ثانوية من الوجهة التاريخية (٦).

__________________

(١) الأخبار الطوال ، ص ١١٢.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٢٤٣ ؛ الأخبار الطوال ، ص ١١٢ ؛ لا نجد في تاريخ خليفة بن خياط أي خبر مهم : انظر ج ١ ، ص ٨٥ ـ ٨٦.

(٣) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٣٤٣.

(٤) أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ١٤٢ ـ ١٤٩.

(٥) ابن الأثير ، الكامل ، ص ٣٨٤ ـ ٤٦١.

(٦) يعتمد البلاذري في رواية الأحداث ، قواعد فقهية من هذا القبيل : «ليس لأهل السواد عهد إلّا الحيرة وأليس وبانقيا» أو من ذلك : «لا يصلح بيع أرض دون الجبل إلّا أرض بني صلوبا وأرض الحيرة» ، فتوح البلدان

١٨

هناك تعليل آخر صبغته اجتماعية تاريخية. لقد تحقق الفتح على مراحل متوالية ، وكان التمييز بين المحاربين على أساس الأقدمية في الخدمة («السابقة»). فجسم هذا الأمر إسقاطا على الأحداث التي تلت وجود الرسول ، لزمنية نبوية وإسلامية محضة. وعندما جدّت نزاعات اجتماعية دينية في خلافة عثمان وعلي ومعاوية ، وفي الكوفة بالذات ، كانت جميعها أو كادت تدور حول اختيار سلم الرتب ، وكان التيار الإسلامي ينزع طبعا إلى تمييز السابقة الزمنية في القتال. وقد آل الأمر إلى أن يكوّن أبطال الأيام مجموعة متماسكة كانت لها مطامح سياسية واجتماعية في البداية ، ثم تحولت إلى مجرد مطامح تاريخية وأدبية. «كان أهل الأيام من أهل الكوفة يتوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم ، ويقولون : ما شاء معاوية ، نحن أصحاب ذات السلاسل ، ويسمون ما بينها وبين الفراض ما يذكرون ما كان بعد احتقار لما كان بعد فيما كان قبل» (١).

لعل هذه المجموعة النشيطة في خلافة عثمان ، التي خلت إلى ذكرياتها في عهد معاوية ، هي التي غذت رواية الأساطير حول الأيام سنة ١٢ ، فتقصت الأحداث الصغرى والأشعار المنظومة على نموذج مستمد من العصر الجاهلي بصورة غريبة. فنجم عن ذلك مصدر جديد للأثر التاريخي قائم على الأخبار لا على الفقه وقد استوحى صبغة ذات خصوصية ـ استهدفت المصلحة الأدبية لمجموعة معينة ـ وصبغة إسلامية في الآن نفسه قامت على مفهوم إسلامي للعزة ، وصبغة عربية جاهلية المظهر أخيرا. فمن جهة هناك شعور بعزة شبه أسطورية ناشئة عن أن أهل الأيام كانوا أول من انطلق في مغامرة هشة في بدايتها ، لكنها عظيمة في نتائجها آخر الأمر ، إذ إن الأشياء لا تقاس بأهميتها الظاهرة بل بصوفية الانطلاقة ، وبالحركة الأولى التي تلهب التاريخ والتي ترجع إلى زمن النبي. ومن جهة أخرى يعود لفظ الأيام ، من حيث وقعه ، إلى الجاهلية الأولى : حوادث صغيرة ، لا تكاد تدخل في التاريخ ، ولكنها تطبع الوعي الجماعي بقوّة. ولربما كان المقصود في نطاق أيامنا العراقية تكييف تكتيك الحرب القبلية إلى تكتيك الحرب الشاملة بين شعب وشعب.

الحقيقة أن هذا التدرب تحقق بعد وقت قصير زمن أبي عبيد وجرير بن عبد الله البجلي ،

__________________

ص ٢٤٦. وقد تعددت المناقشات أيضا حول تسويغ البيع والشراء أو عدمه في أراضي بغداد ، التي اعتبرت جزءا لا يتجزأ من السواد : راجع الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٤ ـ ٢٠. وقد اعتمدDennett في : Conversion and the Poll ـ tax : ، هذه التصورات الفقهية ، فأعطى مكانا أعظم مما ينبغي لقرى مثل أليس وبانقيا ، الخ ... (١) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٣٨٥. حسب هذا النص ، يمكن تحديد أهل الأيام بوصفهم العناصر الذين اشتركوا في آخر الغزوات النبوية ، ثم في القضاء على الردّة ، بقيادة خالد ، وأخيرا في الغارات الأولى على العراق التي بدت لهم كأنها تتويج لعملهم دفاعا عن حياض الإسلام وتوسعه في الجزيرة العربية وعلى هوامشها.

١٩

خلال المرحلة الثانية من الفتح. أما في مرحلة الأيام ، فالأمر بقي مرتبطا بأحداث كانت تدور بين العرب أنفسهم : في الحيرة مثلا أو في عين التمر ، حيث المهزومون الرئيسيون كانوا من عرب الحدود أكثر مما كانوا من الفرس ، وكأنّ ذلك ، بشكل من الأشكال ، امتداد لحرب القضاء على الردة.

إن تاريخ الطبري هو أضمن المصادر بهذا الصدد رغم مظهره المتشعب. أما البلاذري فيخلط بين التواريخ وتشتبه لديه الأحداث ويدخل فيها جانبا لا يستهان به من غريب الرواية والوعظ. أما كتاب أبي يوسف فهو جيد لكن يعوزه التحديد.

يروي الطبري عدة روايات منكرا صحتها (١) ، وقد ورد فيها أن خالدا مرّ بالأبله واتجه شمالا حتى الحيرة. الواقع أن الساحة الرئيسة للعمليات كانت تقع في موقع الكوفة العتيدة حيث جرى الاستيلاء على الحاميات وفي الإمكان أن يكون العرب قد تقدموا في مرحلة ثانية إلى السواد حتى دجلة ، محتلين إياه في واقع الأمر ، بحيث أن دجلة لا الفرات هي التي قامت مقام الحاجز بين العرب والعجم في مطلع عام ١٣ (٢). ودعي خالد ، في المرحلة الأخيرة ، لنجدة الجيوش في الشام فسار إلى أعلى الفرات ودخل الجزيرة فقمع بشدة القبائل العربية على حدود الشام ، ثم عبر الصحراء فتفرع جيش الأيام فرعين : فرع رافق خالدا تحت اسم أهل العراق وعاد فورا لا محالة بعد وقعة القادسية ، وبقي قسم آخر مع المثنى في الحيرة ، وهم في اعتقادنا أنصار المثنى بالذات ، وسيكون نصيبهم المشاركة في كل مراحل المغامرة العراقية.

إن الحصون التي استولى عليها خالد والمثنى هي أليس والحيرة وبسما وبانقيا وأمغيشيا. توجد أليس على الفرات (٣) وكانت في حماية قائد عسكري فارسي يسمى جابان وقد لعب دورا ما في حروب الفتح حتى وقعة القادسية. كان جابان يعتمد على أعوان عرب

__________________

(١) وجاراه فلهوزن في هذا الرأي :.Prolegomena.

(٢) الطبري ، التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤١٤.

(٣) هذا ما ورد في أغلب المصادر ، لكن لا يشكل ذلك خبرا كافيا ، إذ لو كانت حامية فارسية تدافع عن خط المواجهة مع العرب ، لوقعت منطقيا على ضفة الفرات اليمنى ، لكن السياق كله الذي توحي به مطالعة كتاب الطبري خاصة ، يدل على وجود هذه القرية والقرى الأخرى داخل السواد ، أي على ضفة الفرات اليسرى وبالأحرى في منطقة الحيرة والكوفة وهو الموقع الذي حدده لها صالح أحمد العلي في الخارطة المدرجة بدراسته : «منطقة الكوفة ، دراسة طبوغرافية» ، سومر ، ١٩٦١ ، المجلد ٢١ ، ج ١ و ٢ ، ص ٢٢٩ ـ ٢٥٣. وقد أشار الدينوري صراحة ، ص ٢٩٨ ، إلى وجود بانقيا في المنطقة ذاتها. هذا ولا يعتمد على المعاجم الجغرافية المتأخرة في موضوع التعرف على المواقع القديمة ، إذ أوردت ما نقلته عن الكتب السابقة وهي بذاتها قليلة الوضوح : ياقوت ، معجم البلدان ، ج ١ ، ص ٣٣١ و ٣٢٠. وقد أكد الطبري في مكان آخر أن أليس تقع بمنطقة الأنبار ، وتتوغل في الشمال : التاريخ ، ج ٣ ، ص ٤٧٣.

٢٠