إلزام النّاصب في إثبات الحجّة الغائب عجّل فرجه - ج ٢

الشيخ علي اليزدي الحائري

إلزام النّاصب في إثبات الحجّة الغائب عجّل فرجه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي اليزدي الحائري


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الغصن السادس

من ادّعى رؤيته (عج) في زمان غيبته الكبرى

الحكاية الأولى : في كشف الغمّة عن السيّد باقي بن عطوة العلوي الحسيني أن أباه عطوة كان به أدرة (١) وكان زيدي المذهب ، وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإمامية ويقول لا اصدقكم ولا أقول بمذهبكم حتّى يجيء صاحبكم ، يعني المهدي (عج) فيبرئني من هذا المرض. وتكرّر هذا القول منه فبينا نحن مجتمعون عند وقت العشاء الآخرة إذا أبونا يصيح ويستغيث بنا ، فأتيناه سراعا فقال : الحقوا صاحبكم فالساعة خرج من عندي فخرجنا فلم نر أحدا فعدنا إليه وسألناه فقال : إنّه دخل إليّ شخص وقال : يا عطوة ، فقلت : من أنت؟ فقال عليه‌السلام : أنا صاحب بنيك قد جئت لابرئك ممّا بك ، ثمّ مدّ يده فعصر قروتي (٢) ومشى ومددت يدي فلم أر لها أثرا. قال لي ولده : وبقي مثل الغزال ليس به قلبة ، واشتهرت هذه القصّة وسألت عنها غير ابنه فأقرّ بها (٣).

الحكاية الثانية : وفيه حكى لي شمس الدين إسماعيل بن حسن الهرقلي أنه حكى لي والدي أنه خرج في الهرقل وهو شاب على فخذه الأيسر توثة (٤) مقدار قبضة الإنسان ، وكانت في كلّ ربيع تشقّق ويخرج منها دم وقيح ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله ، وكان مقيما بهرقل فحضر الحلّة يوما ودخل إلى مجلس السعيد رضي الدين علي بن طاوس رحمه‌الله وشكا إليه ما يجده منها وقال : اريد أن اداويها ، فأحضر له أطبّاء الحلّة وأراهم الموضع ، فقالوا : هذه التوثة فوق العرق الأكحل وعلاجها خطر ومتى قطعت خيف أن ينقطع العرق

__________________

(١) الأدرة : الفتق في الخصيتين وقيل انتفاخهما (تاج العروس : ٣ / ١٠).

(٢) في لسان العرب : (١٠ / ٣٥٠) القروة : أن يعظم جلد البيضتين لريح فيه أو ماء والرجل قرواني.

(٣) كشف الغمّة : ٣ / ٣٠١ ط دار الأضواء بيروت.

(٤) الخرم في الوجه أو البدن.

٥

الأكحل فيموت. قال له السعيد رضي الدين رحمه‌الله : أنا متوجّه إلى بغداد وربّما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء فاصحبني ، فأصعد معه وأحضر الأطباء فقالوا كما قال اولئك ، فضاق صدره فقال له السعيد : إنّ الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب وعليك الاجتهاد في الاحتراس ولا تغرر بنفسك فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله. فقال له والدي : إذا كان الأمر على ذلك وقد وصلت إلى بغداد فأتوجه إلى زيارة المشهد الشريف بسر من رأى على مشرّفه السلام ، ثم أنحدر إلى أهلي ، فحسّن له ذلك فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجّه. قال : فلمّا دخلت المشهد وزرت الأئمّة عليهم‌السلام نزلت السرداب واستغثت بالله تعالى وبالإمام وقضيت بعض الليل في السرداب وبقيت في المشهد إلى الخميس ، ثمّ مضيت إلى دجلة واغتسلت ولبست ثوبا نظيفا وملأت إبريقا كان معي وصعدت اريد المشهد ، فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتهم منهم فالتقينا فرأيت شابّين واحدهما عبد مخطوط وكل واحد منهم متقلّد بسيف ، وشيخا منقبا بيده رمح والآخر متقلّد بسيف وعليه فرجية (١) ملوّنة فوق السيف وهو متحنّك بعذبته (٢) ، فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ووضع كعب الرمح في الأرض ، ووقف الشابان عن يسار الطريق وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي ، ثمّ سلّموا عليه فرد عليهم‌السلام فقال له صاحب الفرجية : أنت غدا تروح إلى أهلك. فقال : نعم. فقال له : تقدّم حتّى ابصر ما يوجعك ، قال : فكرهت ملامستهم وقلت في نفسي : أهل البادية ما يكادون يحترزون من النجاسة وأنا قد خرجت من الماء وقميصي مبلول ، ثمّ إنّي بعد ذلك تقدّمت إليه فلزمني بيده ومدّني إليه وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده التوثة فعصرها بيده فأوجعني ، ثمّ استوى في سرجه كما كان فقال لي الشيخ : أفلحت يا إسماعيل فعجبت من معرفته باسمي ، فقلت : أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله.

قال : فقال لي الشيخ : هذا هو الإمام عليه‌السلام. قال : فتقدّمت إليه فاحتضنته وقبّلت فخذه ، ثمّ إنّه ساق وأنا أمشي معه محتضنه ، فقال : ارجع. فقلت : لا افارقك أبدا. فقال: المصلحة

__________________

(١) الفرجية ثوب مفرج من الامام.

(٢) العذبة الذؤابة (الصحاح : ٤ / ١٤٣٥) وفي تاج العروس : (٦ / ٢٥٩) العقدة الفاسدة من اللحم.

٦

رجوعك. فأعدت عليه مثل القول ، فقال الشيخ : يا إسماعيل! ما تستحي ، يقول لك الإمام مرّتين ارجع وتخالفه ، فجبهني بهذا القول فوقفت فتقدّم خطوات والتفت إليّ وقال : إذا وصلت بغداد فلا بدّ أن يطلبك أبو جعفر ـ يعني الخليفة المستنصر ـ فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئا فلا تأخذه ، وقل لولدنا الرضيّ ليكتب لك إلى علي بن عوض فإنّني أوصيه يعطيك الذي تريد ، ثمّ سار وأصحابه معه فلم أزل قائما ابصرهم إلى أن غابوا عنّي وحصل عندي أسف لمفارقته ، فقعدت إلى الأرض ساعة ثمّ مشيت إلى المشهد فاجتمع القوّام حولي وقالوا : نرى وجهك متغيّرا أأوجعك شيء؟

قلت : لا. قالوا : أخاصمك أحد؟ قلت : لا ، ليس عندي ممّا تقولون خبر ، لكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم؟ فقالوا : هم من الشرفاء أرباب الغنم. فقلت : لا ، بل هو الإمام. فقال : الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية؟ فقلت : هو صاحب الفرجية. فقالوا : أريته المرض الذي فيك؟ فقلت : هو قبضه بيده وأوجعني ، ثمّ كشفت برجلي فلم أر لذلك المرض أثرا ، فتداخلني الشكّ من الدهش فأخرجت رجلي الاخرى فلم أر شيئا ، فانطبق الناس عليّ ومزّقوا قميصي وأدخلني القوّام خزانة ومنعوا الناس عنّي ، وكان ناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجّة وسأل عن الخبر فرفعوه فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي وسألني منذ كم خرجت من بغداد ، فعرّفته أنّي خرجت في أوّل الاسبوع فمشى عنّي وبتّ في المشهد وصلّيت الصبح وخرجت وخرج الناس معي إلى أن بعدت من المشهد ورجعوا عنّي ، ووصلت إلى أوانا فبت بها ، وبكّرت منها أريد بغداد فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون من ورد عليهم عن اسمه ونسبه وأين كان ، فسألوني عن اسمي ومن أين جئت فعرّفتهم فاجتمعوا عليّ ومزّقوا ثيابي ولم يبق لي في روحي حكم ، وكان ناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرّفهم الحال ، ثمّ حملوني إلى بغداد وازدحم الناس عليّ وكادوا يقتلونني من كثرة الازدحام ، وكان الوزير القمّي رحمه‌الله قد طلب السعيد رضي الدين رحمه‌الله وتقدّم أن يعرّفه صحّة هذا الخبر. قال : فخرج رضي الدين ومعه جماعة فوافانا بباب النوبي فردّ أصحابه الناس عنّي فلمّا قال : أعنك يقولون؟ قلت : نعم ، فنزل عن دابته وكشف عن فخذي فلم ير شيئا فغشي عليه ساعة وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو يبكي ويقول : يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي ، فسألني الوزير عن القصة فحكيت فأحضر

٧

الأطبّاء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها فقالوا : ما دواؤها إلّا القطع بالحديد ومتى قطعها مات.

فقال لهم الوزير : فبتقدير أن تقطع ولا يموت في كم تبرأ؟ فقالوا : في شهرين وتبقى مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر ، فسألهم الوزير متى رأيتموه؟ قالوا : منذ عشرة أيام ، فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم وهي مثل اختها ليس فيها أثر أصلا ، فصاح أحد الحكماء : هذا عمل المسيح ، فقال الوزير : حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف عاملها ، ثمّ إنّه أحضر عند الخليفة المستنصر فسأله عن القصّة وعرّفه بها كما جرى فتقدّم له بألف دينار فلمّا حضرت قال : خذ هذه فأنفقها. قال : ما أجسر أن آخذ منه حبّة واحدة. فقال الخليفة : ممّن تخاف؟ فقال : من الذي فعل معي هذا ، قال عليه‌السلام : لا تأخذ من أبي جعفر شيئا ، فبكى الخليفة وتكدّر ، وخرج من. عنده ولم يأخذ شيئا. قال علي بن عيسى رحمه‌الله صاحب كتاب كشف الغمّة : كنت في بعض الأيام أحكي هذه القصة لجماعة عندي وكان هذا شمس الدين محمد ولده عندي وأنا لا أعرفه فلمّا انقضت الحكاية قال : أنا ولده لصلبه ، فعجبت من هذا الاتفاق وقلت : هل رأيت فخذه وهي مريضة؟

فقال : لا ، لأنّي أصبو عن ذلك ولكنّي رأيتها بعد ما صلحت ولا أثر فيها وقد نبت في موضعها شعر ، وسألت السيد صفيّ الدين محمد بن محمد بن بشر العلوي الموسوي ونجم الدين حيدر بن الأيسر ، وكانا من أعيان الناس وسراتهم وذوي الهيئات منهم ، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي ؛ فأخبراني بصحّة هذه القصّة وأنهما رأياها في حال مرضها وحال صحّتها.

وحكى لي ولده هذا أنه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه عليه‌السلام حتّى أنه جاء إلى بغداد وأقام بها في فصل الشتاء وكان كلّ يوم يزور سامراء ويعود إلى بغداد ، فزارها في تلك السنة أربعين مرّة طمعا أن يعود به الوقت الذي مضى ، أو يقضي له الحظّ ممّا قضى ومن الذي أعطاه دهره الرضا أو ساعده بمطالبه صرف القضاء ، فمات بحسرته وانتقل إلى الآخرة بغصّته والله يتولّاه وإيّانا برحمته بمنّه وكرمه (١).

الحكاية الثالثة : في البحار عن السيّد علي بن عبد الحميد صاحب كتاب الأنوار

__________________

(١) كشف الغمّة : ٣ / ٣٠٠ ط. دار الأضواء بيروت.

٨

المضيئة في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان عند ذكر من رأى القائم عليه‌السلام قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهده بالعيان أبناء الزمان وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلّة ، وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق والأفاضل منهم الشيخ الزاهد شمس الدين محمد بن قارون قال : كان الحاكم بالحلّة شخصا يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أن أبا راجح الحمامي بالحلّة يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضربا شديدا مهلكا على جميع بدنه ، حتّى أنه ضرب على وجهه ، فسقطت ثناياه وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق أنفه وجعل فيه شركة من الشعر ، وشدّ فيها حبلا وسلّمه إلى جماعة من أصحابه وأمرهم أن يدوروا به في أزقّة الحلّة ، والضرب يأخذ من جميع جوانبه حتّى سقط إلى الأرض وعاين الهلاك. فاخبر الحاكم بذلك فأمر بقتله. فقال الحاضرون : إنّه شيخ كبير وقد حصل له ما يكفيه وهو ميّت لما به فاتركه وهو يموت حتف أنفه ولا تتقلّد بدمه وبالغوا حتّى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في هذه الحالة ولم يشكّ أحد أنّه يموت من ليلته ، فلمّا كان من الغد غدا عليه الناس فإذا هو قائم يصلّي على أتمّ حالة وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت واندملت جراحاته ولم يبق لها أثر والشجة قد زالت من وجهه ، فعجب الناس من حاله وسألوه عن أمره فقال : إنّي لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان أسأل الله تعالى به فكنت أسأله بقلبي واستغثت إلى سيّدي ومولاي صاحب الزمان ، فلمّا جنّ عليّ الليل فإذا بالدار قد امتلأت نورا وإذا بمولاي صاحب الزمان قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال عليه‌السلام : اخرج وكدّ على عيالك فقد عافاك الله تعالى ، فأصبحت كما ترون. وحكى شمس الدين المذكور وأقسم بالله إن هذا أبا راجح كان ضعيفا جدّا ، ضعيف التركيب ، أصفر اللون شين الوجه مقرض اللحية ، وكنت دائما أدخل الحمّام الذي هو فيه وكنت دائما أراه على هذه الحالة ، وهذا الشكل ، فلمّا أصبحت كنت ممّن دخل عليه فرأيته وقد اشتدّت قوّته وانتصبت قامته فطالت لحيته واحمرّ وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتّى أدركته الوفاة ، ولما شاع هذا الخبر وذاع طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة وهو الآن على ضدّها كما وصفناه ولم ير لجراحاته أثرا وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب شديد وكان يجلس في مقام الإمام عليه‌السلام في الحلّة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس

٩

ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلّة ويتجاوز عن مسيئهم ويحسن إلى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك ، بل لم يلبث في ذلك إلّا قليلا حتّى مات (١).

الحكاية الرابعة : وفيه عن شمس الدين محمد المذكور ، كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمّى مذور يضمن القرية المعروفة ببرس ووقف العلويين وكان له نائب يقال له ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والإيمان بالضدّ من عثمان وكانا دائما يتجادلان ، فاتّفق أنهما حضرا في مقام إبراهيم الخليل بمحضر جماعة من الرعية والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الآن اتّضح الحقّ واستبان ، أنا أكتب على يدي من أتولّاه وهم عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام واكتب أنت من تتولّاه [وهم] أبو بكر وعمر وعثمان ثمّ تشدّ يدي ويدك فأيّنا احترقت يده بالنار كان على الباطل ومن سلمت يده كان على الحقّ ، فنكل عثمان وأبى أن يفعل فأخذ الحاضرون من الرعية والعوام بالعياط عليه. هذا وكانت أمّ عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين يعيطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال ، فلمّا أحسّت بذلك نادت إلى رفيقاتها فصعدن إليها فإذا هي صحيحة العينين لكن لا ترى شيئا ، فقادوها فأنزلوها ومضوا بها إلى الحلّة ، وشاع خبرها بين أصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الأطباء من بغداد والحلّة فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : إنّ الذي أعماك هو القائم فإن تشيّعت وتولّيت وتبرّأت ضمنّا لك العافية على الله تعالى وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت بذلك ورضيت به فلمّا كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبّة الشريفة في مقام صاحب الزمان عليه‌السلام وبتن بأجمعهنّ في باب القبّة ، فلمّا كان ربع الليل فإذا هي قد خرجت عليهن وقد ذهب العمى عنها وهي تعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليهنّ ، فسررن بذلك وحمدن الله تعالى على حسن العاقبة وقلن لها : كيف كان ذلك؟ فقالت : لمّا جعلتني في القبّة وخرجتنّ عنّي أحسست بيد قد وضعت على يدي وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى ، فانكشف العمى عنّي ورأيت القبّة قد امتلأت نورا ورأيت الرجل فقلت له : من أنت يا سيّدي؟ فقال عليه‌السلام : محمد بن الحسن ، ثمّ غاب عنّي فقمن وخرجن إلى بيوتهنّ ، وتشيّع

__________________

(١) بحار الأنوار : ٥٢ / ٧١ ـ ٧٢ ح ٥٥ باب ١٨.

١٠

ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمّه المذكورة ، واشتهرت القصّة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقدوا وجود الإمام عليه‌السلام وكان ذلك في سنة أربع وأربعين وسبعمائة (١).

الحكاية الخامسة : فيه عن العالم الفاضل عبد الرحمن العماني : إنّي كنت أسمع في الحلّة السيفية حماها الله تعالى أن المولى الكبير المعظّم جمال الدين ابن الشيخ الأجل الأوحد الفقيه القاري نجم الدين جعفر بن الزهدري كان به فالج فعالجته جدّته بعد موت أبيه بكل علاج للفالج ، فلم يبرأ فأشار إليها بعض الأطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زمانا طويلا فلم يبرأ ، وقيل لها : ألا تبيتينه تحت القبّة الشريفة بالحلّة المعروفة بمقام صاحب الزمان عليه‌السلام لعلّ الله تعالى يعافيه ويبرؤه ، ففعلت وبيّتته تحتها وإنّ صاحب الزمان أقامه وأزال عنه الفالج ، ثمّ بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتّى كنّا لم نكد نفترق وان له دار المعشرة يجتمع فيها وجوه أهل الحلّة وشبابهم وأولاد الأماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية فقال لي : إنّي كنت مفلوجا وعجز الأطبّاء عنّي ، وحكى لي ما كنت أسمعه مستفاضا في الحلّة من قضيّته وأن الحجّة صاحب الزمان عليه‌السلام قال لي وقد أباتتني جدّتي تحت القبّة : قم. فقلت : يا سيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي. فقال عليه‌السلام : قم بإذن الله تعالى ، وأعانني على القيام فقمت فزال عنّي الفالج وانطبق عليّ الناس حتّى كادوا يقتلونني وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعا وتنتيفا يتبرّكون فيها وكساني الناس من ثيابهم ورحت إلى البيت وليس بي أثر الفالج وبعثت إلى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مرارا حتى ماترحمه‌الله(٢).

الحكاية السادسة : فيه عن شمس الدين محمد بن قارون : إنّ رجلا يقال له النجم ويلقّب بالأسود في القرية المعروفة بدقوسا على الفرات العظمى وكان من أهل الخير والصلاح ، وكانت له زوجة تدعى بفاطمة خيّرة صالحة ولها ولدان : ابن يدعى عليا وابنة تدعى زينب ، فأصاب الرجل وزوجته العمى وبقيا على حالة ضعيفة وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وبقيا على ذلك مدّة مديدة ، فلمّا كان في بعض الليل أحسّت المرأة بيد تمرّ على

__________________

(١) البحار : ٥٢ / ٧٢ ح ٥٥ باب ١٨.

(٢) البحار : ٥٢ / ٧٣ ح ٥٥.

١١

وجهها وقائل يقول : قد أذهب الله عنك العمى فقومي إلى زوجك أبي علي فلا تقصّري في خدمته. ففتحت عينيها فإذا الدار قد امتلأت نورا وعلمت أنه القائم عليه‌السلام (١).

الحكاية السابعة : فيه عن محيي الدين الأربلي : أنه حضر عند أبيه ومعه رجل فنعس فوقعت عمامته عن رأسه فبدت في رأسه ضربة هائلة فسأله عنها فقال له : هي من صفّين ، فقيل له : وكيف ذلك ووقعة صفّين قديمة؟ قال : كنت مسافرا فصاحبني إنسان من عنزة ، فلمّا كنّا في بعض الطريق تذاكرنا وقعة صفّين فقال لي الرجل : لو كنت في أيّام صفّين لرويت سيفي من علي وأصحابه. فقلت : لو كنت في أيّام صفّين لرويت سيفي من معاوية وأصحابه. وها أنا وأنت من أصحاب علي عليه‌السلام ومعاوية فاعتركنا عركة عظيمة واضطربنا فما أحسست بنفسي إلّا مرميّا لما بي ، فبينما أنا [كذلك] وإذا بإنسان يوقظني بطرف رمحه ففتحت عيني فنزل إليّ ومسح الضربة فتلاءمت. فقال : البث هنا ، ثمّ غاب قليلا وعاد معه رأس مخاصمي مقطوعا والدواب معه فقال عليه‌السلام : هذا رأس عدوّك وأنت نصرتنا فنصرناك (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (٢) فقلت : من أنت؟ قال عليه‌السلام : فلان بن فلان يعني صاحب الأمر عليه‌السلام ثمّ قال لي : وإذا سئلت عن هذه الضربة فقل : ضربتها في صفّين (٣).

الحكاية الثامنة : فيه عن حسن بن محمد بن قاسم : كنت أنا وشخص من ناحية الكوفة يقال له : عمّار مرّة على الطريق الحالية من سواد الكوفة فتذاكرنا أمر القائم من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي : يا حسن احدّثك بحديث عجيب؟ فقلت له : هات ما عندك. قال : جاءت قافلة من طي يكتالون من عندنا من الكوفة وكان فيهم رجل وسيم وهو زعيم القافلة فقلت لمن حضر : هات الميزان من دار العلوي ، فقال البدوي : وعندكم هنا علوي؟ فقلت : يا سبحان الله معظم الكوفة علويّون. فقال البدوي : العلوي والله تركته ورائي في البرية في بعض البلدان. فقلت : وكيف خبره؟ فقال : فررنا في نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فبقينا ثلاثة أيام بلا زاد واشتدّ بنا الجوع فقال بعضنا لبعض : دعونا نرمي السهم على بعض الخيل نأكلها فاجتمع رأينا على ذلك ورمينا بسهم فوقع على فرسي فغلطتهم وقلت : ما أقنع فعدنا بسهم آخر فوقع عليها أيضا ، فلم أقبل وقلت : نرمي بثالث فرمينا فوقع عليها أيضا ، وكانت عندي

__________________

(١) البحار : ٥٢ / ٧٤ ح ٥٥.

(٢) سورة الحج : ٤٠.

(٣) البحار : ٥٢ / ٧٥ ح ٥٥.

١٢

تساوي ألف دينار وهي أحبّ إليّ من ولدي فقلت : دعوني أتزوّد من فرسي بمشوار فإلى اليوم ما أجد بها غاية ، فركضتها إلى رابية بعيدة منّا قدر فرسخ فمررت بجارية تحطب تحت الرابية فقلت : يا جارية من أنت ومن أهلك؟ فقالت : أنا لرجل علوي في هذا الوادي ومضت من عندي فرفعت مئزري على رمحي وأقبلت إلى أصحابي فقلت لهم : أبشروا بالخير ، الناس منكم قريب في هذا الوادي ، فمضينا فإذا بخيمة في وسط الوادي فطلع إلينا منها رجل صبيح الوجه أحسن من يكون من الرجال ، ذؤابته إلى سرّته وهو يضحك ويجيئنا بالتحية فقلت : يا وجه العرب العطش ، فنادى : يا جارية هاتي من عندك الماء ، فجاءت الجارية ومعها قد حان فيهما ماء فتناول منهما قدحا ووضع يده فيه وناولنا إيّاه ، وكذلك فعل بالآخر فشربنا عن أقصانا من القدحين وأرجعناهما عليه وما نقص القدحان ، فلمّا روينا قلنا له : الجوع يا وجه العرب ، فرجع بنفسه ودخل الخيمة وأخرج بيده منسفة فيها زاد وقد وضع يده وقال : يجيء منكم عشرة عشرة فأكلنا جميعا من تلك المنسفة والله يا فلان ما تغيّرت ولا نقصت. فقلنا : نريد الطريق الفلاني؟ فقال : هذاك دربكم ، وأومى لنا إلى معلم ، ومضينا فلمّا بعدنا عنه قال بعضنا لبعض : أنتم خرجتم من أهلكم لكسب والمكسب قد حصل لكم فنهى بعضنا بعضا وأمر بعضنا به ثمّ اجتمع رأينا على أخذهم فرجعنا فلما رآنا راجعين شدّ وسطه بمنطقة وأخذ سيفا فتقلّد به وأخذ رمحه وركب فرسا أشهب والتقانا وقال : لا تكن أنفسكم القبيحة دبّرت لكم القبيح. فقلنا : هو كما ظننت ورددنا عليه ردّا قبيحا فزعق بزعقات فما رأينا إلّا من داخل قلبه الرعب وولّينا من بين يديه منهزمين فخط خطة بيننا وبينه وقال : وحقّ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعبرنّها أحد منكم إلّا ضربت عنقه فرجعنا والله عنه بالرغم منّا. هذاك العلوي حقّا لا من هو مثل هؤلاء (١).

الحكاية التاسعة : في العوالم عن سيّد علي بن عبد الحميد في كتاب السلطان المفرج عن أهل الإيمان ما أخبرني من أثق به وهو خبر مشهور عند أكثر أهل المشهد الغروي : أن الدار التي هي الآن سنة سبعمائة وتسع وثمانين أنا ساكنها كانت لرجل من أهل الخير والصلاح يدعى الحسين المدلّل ملاصقة بجدران الحضرة الشريفة وهو مشهور بالمشهد الشريف الغروي وكان الرجل له عيال وأطفال فأصابه فلج ومكث مدّة لا يقدر على القيام

__________________

(١) البحار : ٥٢ / ٧٦ ح ٥٥.

١٣

وإنّما يرفعه عياله عند حاجته وضروراته ومكث على ذلك مدّة مديدة ، فدخل على عياله وأهله بذلك شدّة شديدة واحتاجوا إلى الناس واشتد عليهم الناس ، فلمّا كان سنة عشرين وسبعمائة هجرية في ليلة من لياليها بعد ربع الليل نبّه عياله فانتبهوا في الدار فإذا الدار والسطح قد امتلئا نورا يأخذ بالأبصار فقالوا : ما الخبر؟ فقال : إنّ الإمام جاءني وقال : قم يا حسين ، فقلت : يا سيدي أتراني أقدر على القيام؟ فأخذ بيدي وأقامني فذهب ما بي وها أنا صحيح على أتمّ ما ينبغي. وقال لي : هذا الساباط دربي إلى زيارة جدّي فأغلقه في كلّ ليلة ، فقلت : سمعا وطاعة لله ولك يا مولاي ، فقام الرجل وخرج إلى الحضرة الشريفة الغروية وزار الإمام وحمد الله تعالى على ما حصل له من الإنعام وصار هذا الساباط المذكور إلى الآن ينذر له عند الضرورات فلا يكاد يخيب ناذره من المبرّات ببركات الإمام القائمعليه‌السلام(١).

الحكاية العاشرة : في جنّة المأوى للمحدّث النوري طاب ثراه عن السيّد المعظم المبجّل بهاء الدين علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي عن الشهيد الأوّل في كتاب الغيبة عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ المحمود الحاج المعتمر شمس الحق والدين محمد بن قارون قال : دعيت إلى امرأة فأتيتها وأنا أعلم أنّها مؤمنة من أهل الخير والصلاح فزوّجها أهلها من محمود الفارس المعروف بأخي بكر ويقال له ولأقاربه بنو بكر ، وأهل فارس مشهورون بشدّة التسنّن والنصب والعداوة لأهل الايمان ، وكان محمود هذا أشدّهم في الباب وقد وفّقه الله تعالى للتشيّع دون أصحابه فقلت : وا عجباه كيف سمح أبوك لك وجعلك مع هؤلاء النصّاب وكيف اتّفق لزوجك مخالفة أهله حتّى رفضهم؟ فقالت : يا أيّها المقرئ إنّ له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الأدب حكموا أنها من العجب.

قلت : وما هي؟ قالت : سله عنها سيخبرك. قال الشيخ : فلمّا حضرنا عنده قلت له : يا محمود ما الذي أخرجك عن ملّة أهلك وأدخلك مع الشيعة؟ فقال : يا شيخ لما اتضح لي الحقّ تبعته ، اعلم أنه قد جرت عادة أهل الفرس أنهم إذا سمعوا بورود القوافل يتلقونهم فاتّفق أنّا سمعنا بورود قافلة كبيرة فخرجت ومعي صبيان كثيرون وأنا إذ ذاك صبي مراهق ، فاجتهدنا في طلب القافلة بجهلنا ولم نفكّر في عاقبة الأمر وصرنا كلّما انقطع منّا صبي من التعب يرمونه إلى الضعف فضللنا عن الطريق ووقعنا في واد لم نكن نعرفه وفيه شوك وشجر

__________________

(١) إثبات الهداة : ٣ / ٧٠٥ باب ٣ ح ١٥٥ والبحار : ٥٢ / ٧٤.

١٤

ودغل لم نر مثله قط ، فأخذنا في السير حتّى عجزنا وتدلّت ألسنتنا على صدورنا من العطش فأيقنّا بالموت وسقطنا لوجوهنا ، فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض قد نزل قريبا منّا وطرح مفرشا لطيفا لم نر مثله تفوح منه رائحة طيبة ، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض وعلى رأسه عمامة له ذؤابتان ، فنزل على ذلك المفرش ثمّ قام فصلّى بصاحبه ثمّ جلس للتعقيب فالتفت إليّ وقال عليه‌السلام : يا محمود. فقلت بصوت ضعيف:لبّيك يا سيدي. قال : ادن منّي. فقلت : لا أستطيع لما بي من العطش والتعب. قال عليه‌السلام : لا بأس عليك. فلمّا قالها حسبت كأن قد حدثت في نفسي روح متجدّدة فسعيت إليه حبوا فأمرّ يده على وجهي وصدري ورفعها إلى حنكي فرده حتى لصق بالحنك الأعلى ودخل لساني في فمي وذهب ما بي وعدت بما كنت أولا. فقال عليه‌السلام : قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل. وكان في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة ، فقسمها نصفين وناولنيها وقال عليه‌السلام : كل منها فأخذتها منه ولم أقدر على مخالفته وعندها أمرني أن آكل الصبر لما عهد من مرارة الحنظل ، فلمّا ذقتها فإذا هي أحلى من العسل وأبرد من الثلج شبعت ورويت ، ثمّ قال لي : ادع صاحبك فدعوته فقال بلسان مكسور ضعيف : لا أقدر على الحركة. فقال عليه‌السلام : قم لا بأس عليك ، فأقبل حبوا وفعل معه كما فعل معي ثمّ نهض ليركب ، فقلنا : بالله عليك يا سيدنا إلّا ما أتممت علينا نعمتك فأوصلنا إلى أهلنا. فقال : لا تعجلوا وخط حولنا برمحه خطّة وذهب هو وصاحبه.

فقلت لصاحبي : قم بنا حتّى نقف بإزاء الجبل ونقع على الطريق فقمنا وسرنا وإذا بحائط في وجوهنا فأخذنا في غير تلك الجهة فإذا بحائط آخر وهكذا من أربع جوانبنا فجلسنا وجعلنا نبكي على أنفسنا ثمّ قلت لصاحبي : ائتني من هذا الحنظل لنأكله فأتى به فإذا هو أمرّ من كلّ شيء وأقبح فرمينا به. ثمّ لبثنا هنيئة وإذا قد استدار بنا الوحش ما لم يعلم إلّا الله عدده وكلّما أرادوا القرب منّا منعهم ذلك الحائط فإذا ذهبوا زال الحائط وإذا عادوا عاد قال : فبتنا تلك الليلة آمنين حتّى أصبحنا وطلعت الشمس واشتدّ الحرّ وأخذنا العطش فجزعنا أشدّ الجزع وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس ، فلمّا أراد مفارقتنا قلنا له : بالله عليك إلّا أوصلتنا إلى أهلنا فقال : أبشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما ، ثمّ غابا فلمّا كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا ومعه ثلاث أحمرة قد أقبل ليحتطب فلمّا رآنا ارتاع منّا وانهزم

١٥

وترك حميره فصحنا إليه باسمه وتسمّينا له ، فرجع وقال : يا ويلكما إنّ أهاليكما أقاموا عزاءكما ، قوما لا حاجة لي في الحطب ، فقمنا وركبنا تلك الأحمرة فلمّا قربنا من البلد دخل أمامنا وخبّر أهلنا ، وفرحوا فرحا شديدا وأكرموه وأخلعوا عليه ، فلمّا دخلنا إلى أهلينا سألونا عن حالنا فحكينا لهم بما شاهدناه فكذّبونا وقالوا هو تخييل لكم من العطش.

قال محمود : ثمّ أنساني الدهر حتّى كأن لم يكن ولم يبق على خاطري شيء منه حتى بلغت عشرين سنة وتزوّجت وصرت أخرج في المكاراة ولم يكن في أهلي أشدّ منّي نصبا لأهل الايمان سيّما زوّار الأئمّة بسرّ من رأى ، فكنت أكريهم الدواب بالقصد لأذيّتهم بكلّ ما أقدر عليه من السرقة وغيرها ، وأعتقد أنّ ذلك ممّا يقرّبني إلى الله تعالى ، فاتّفق أن أكريت دوابي مرّة لقوم من أهل الحلّة وكانوا قادمين إلى الزيارة ومنهم ابن السهيلي وابن عرفة وابن جارب وابن الزهدري وغيرهم من أهل الصلاح ومضيت إلى بغداد وهم يعرفون ما أنا عليه من العناد ، فلمّا خلوا بي من الطريق وقد امتلئوا عليّ غيظا وحنقا لم يتركوا شيئا من القبيح إلّا فعلوه بي وأنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم ، فلمّا وصلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك وقد امتلأ فؤادي حنقا فلمّا جاء أصحابي قمت إليهم ولطمت على وجهي وبكيت. فقالوا : ما لك وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى من اولئك القوم فأخذوا في سبّهم ولعنهم ، وقالوا : طب نفسا فإنّا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا ونصنع بهم أعظم ممّا صنعوا ، فلمّا جنّ الليل أدركتني السعادة فقلت في نفسي إنّ هؤلاء الرفضة لا يرجعون عن دينهم بل غيرهم إذا زهد يرجع إليهم فما ذلك إلّا لأنّ الحقّ معهم ، فبقيت متفكّرا في ذلك وسألت ربّي بنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريني في ليلة علامة أستدلّ بها على الحقّ الذي فرضه الله تعالى على عباده ، فأخذني النوم فإذا أنا بالجنّة قد زخرفت وإذا فيها أشجار عظيمة مختلفة الألوان والثمار ليست مثل أشجار الدنيا ، لأن أغصانها مدلاة وعروقها إلى فوق ورأيت أربعة أنهار من خمر ولبن وعسل وماء وهي تجري وليس لها زاجر بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت ، ورأيت نساء حسنة الأشكال ورأيت قوما يأكلون من تلك الثمار ويشربون من تلك الأنهار وأنا لا أقدر على ذلك ، فكلّما أردت أن أتناول من الثمار تصعد إلى فوق وكلّما هممت أن أشرب من تلك الأنهار تغور إلى تحت ، فقلت للقوم : ما بالكم تأكلون وتشربون وأنا لا أطيق ذلك؟

١٦

فقالوا : إنّك لم تأت إلينا بعد ، فبينا أنا كذلك وإذا بفوج عظيم فقلت : ما الخبر؟ فقالوا : سيّدتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام قد أقبلت ، فنظرت فإذا بأفواج من الملائكة على أحسن هيئة ينزلون من الهواء إلى الأرض وهم حافّون بها ، فلمّا دنت فإذا بالفارس الذي خلّصنا من العطش بإطعامه لنا الحنظل قائم بين يدي فاطمة ، فلمّا رأيته عرفته وذكرت تلك الحكاية وسمعت القوم يقولون : هذا م ح م د بن الحسن القائم عليه‌السلام المنتظر ، فقام الناس وسلّموا على فاطمة عليها‌السلام فقمت أنا وقلت : السلام عليك يا بنت رسول الله. فقالت : وعليك السلام يا محمود ، أنت الذي خلّصك ولدي هذا من العطش؟ فقلت : نعم يا سيدتي. فقالت : إن دخلت مع شيعتنا أفلحت. فقلت : أنا داخل في دينك ودين شيعتك مقرّ بإمامة من مضى من بنيك ومن بقي منهم. فقالت : أبشر فقد فزت. قال محمود : فانتبهت وأنا أبكي وقد ذهل عقلي ممّا رأيت فانزعج أصحابي لبكائي وظنّوا أنّه ممّا حكيت لهم. فقالوا : طب نفسا فو الله لننتقمن من الرفضة فسكتّ عنهم حتّى سكتوا وسمعت المؤذّن يعلن بالأذان فقمت إلى الجانب الغربي ودخلت منزل أولئك الزوّار فسلّمت عليهم ، فقالوا : لا أهلا ولا سهلا ، اخرج عنّا لا بارك الله فيك.

فقلت : إنّي قد عدت معكم ودخلت عليكم لتعلّموني معالم الدين فبهتوا من كلامي وقال بعضهم : كذب وقال آخرون : جاز أن يصدق ، فسألوني عن سبب ذلك فحكيت لهم ما رأيت فقالوا : إن صدقت فإنّا ذاهبون إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام فامض معنا حتّى نشيّعك هناك ، فقلت : سمعا وطاعة وجعلت أقبّل أيديهم وأقدامهم وحملت إخراجهم وأنا أدعو لهم حتّى وصلنا إلى الحضرة الشريفة فاستقبلنا الخدّام ومعهم رجل علوي كان أكبرهم فسلّموا على الزوّار فقالوا له : افتح لنا الباب حتّى نزور سيّدنا ومولانا فقال : حبّا وكرامة ولكن معكم شخص يريد أن يتشيّع ورأيته في منامي واقفا بين يدي سيّدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ، فقالت لي : يأتيك غدا رجل يريد أن يتشيّع فافتح له الباب قبل كلّ أحد ، ولو رأيته الآن لعرفته فنظر القوم بعضهم إلى بعض متعجّبين.

قالوا : فشرع ينظر إلى واحد واحد فقال : الله أكبر هذا والله هو الرجل الذي رأيته ، ثمّ أخذ بيدي فقال القوم : صدقت يا سيّد وبررت ، وصدق هذا الرجل بما حكاه واستبشروا بأجمعهم وحمدوا الله تعالى ، ثمّ إنّه أدخلني الحضرة الشريفة وشيّعني وتولّيت وتبرّيت

١٧

فلمّا تمّ أمري قال العلوي : وسيّدتك فاطمة عليها‌السلام تقول لك سيلحقك بعض حطام الدنيا فلا تحفل به وسيخلفه الله عليك وستحصل في مضائق فاستغث بنا تنج ، فقلت : السمع والطاعة وكان لي فرس قيمتها مائتا دينار فماتت وخلف الله عليّ مثلها وأضعافها وأصابني مضائق فندبتهم ونجوت ، وفرّج الله عنّي بهم وأنا اليوم أوالي من والاهم وأعادي من عاداهم وأرجو بهم حسن العاقبة ، ثمّ إنّي سعيت إلى رجل من الشيعة فزوّجني هذه المرأة وتركت أهلي فما قبلت التزويج منهم. وهذا ما حكى لي في تاريخ شهر رجب سنة ثمان وثمانين وسبعمائة من الهجرة والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على محمّد وآله (١).

الحكاية الحادية عشرة : فيه بحذف الأسانيد عن كمال الدين أحمد بن محمد بن يحيى الأنباري بمدينة السلام ليلة عاشر شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة قال : كنّا عند الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة في رمضان بالسنة المقدم ذكرها ونحن على طبقة وعنده جماعة فلمّا أفطر من كان حاضرا ـ ويعوض أكثر من حضر حاضرا ـ أردنا الانصراف فأمرنا بالتمسّي عنده فكان في مجلسه في تلك الليلة شخص لا أعرفه ولم أكن رأيته من قبل ، ورأيت الوزير يكثر إكرامه ويقرّب مجلسه ويصغي إليه ويسمع قوله دون الحاضرين ، فتجارينا الحديث والمذاكرة حتّى أمسينا وأردنا الانصراف فعرّفنا بعض أصحاب الوزير أن الغيث ينزل وأنه يمنع من يريد الخروج ، فأشار الوزير أن نمسي عنده فأخذنا نتحادث فأفضى الحديث حتّى تحادثنا في الأديان والمذاهب ورجعنا إلى دين الإسلام وتفرّق المذاهب فيه ، فقال الوزير : أقل طائفة مذهب الشيعة وما يمكن أكثر منهم في خطتنا هذه وهم الأقلّ من أهلها وأخذ يذمّ أحوالهم ويحمد الله على قتلهم في أقاصي الأرض ، فالتفت الشخص الذي كان الوزير مقبلا عليه مصغيا إليه فقال له : أدام الله أيّامك أحدّث بما عندي فيما قد تفاوضتم فيه أو أعزب عنه فصمت الوزير ثمّ قال : قل ما عندك ، فقال : خرجت مع والدي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة من مدينتنا وهي المعروفة بالباهية ولها الرستاق (٢) التي يعرفها التجّار وعدّة ضياعها ألف ومائتا ضيعة في كلّ ضيعة من الخلق ما لا يحصي

__________________

(١) جنّة المأوى : ٢٠٢ ـ ٢٠٨ المطبوع بذيل بحار الأنوار ج ٥٣.

(٢) الرستاق فارسي معرّب وهي السواد (الصحاح : ٤ / ١٤٨١) وفي مجمع البحرين : (٢ / ١٧٤) يستعمل في الناحية : طرف الاقليم.

١٨

عددهم إلّا الله وهم قوم نصارى ، وجميع الجزائر التي كانت حولهم على دينهم ومذهبهم ، ومسير بلادهم وجزائرهم مدّة شهرين وبينهم وبين البرّ مسيرة عشرين يوما وكلّ من في البر من الأعراب وغيرهم نصارى وتتصل بالحبشة والنوبة وكلّهم نصارى وتتصل بالبربر وهم على دينهم ، فإن حدّ هذا كان بقدر كلّ من في الأرض ولم نضف إليهم الافرنج والروم ، وغير خفي عنكم من بالشام والعراق والحجاز من النصارى ، واتفق أننا سرنا في البحر وأوغلنا وتعدينا الجهات التي كنّا نصل إليها ورغبنا في المكاسب ، ولم نزل على ذلك حتّى صرنا إلى جزائر عظيمة كثيرة الأشجار مليحة الجدران فيها المدن المدوّرة والرساتيق ، وأوّل مدينة وصلنا إليها وارسيت المراكب بها وقد سألنا الناخدا (١) : أيّ شيء هذه الجزيرة؟

قال : والله إنّ هذه جزيرة لم أصل إليها ولم أعرفها وأنا وأنتم في معرفتها سواء ، فلمّا أرسينا بها وصعد التجّار إلى مشرعة تلك المدينة وسألنا ما اسمها فقيل : هي المباركة ، فسألنا عن سلطانهم وما اسمه ، الطاهر ، فقلنا : وأين سرير ملكه؟ فقيل : بالزاهرة. فقلنا : وأين الزاهرة؟ فقالوا : بينكم وبينها مسيرة عشر ليال في البحر وخمس وعشرين ليلة في البر ، وهم قوم مسلمون. فقلنا : من يقبض زكاة ما في المركب لنشرع في البيع والابتياع؟ فقال : تحضرون عند نائب السلطان. فقلنا : وأين أعوانه؟ فقالوا : لا أعوان له بل هو في داره وكلّ من عليه حقّ يحضر عنده فيسلّمه إليه ، فتعجّبنا من ذلك وقلنا : ألا تدلّونا عليه؟ فقالوا : بلى ، وجاء معنا من أدخلنا داره ، فرأيناه رجلا صالحا عليه عباءة وهو مفرشها وبين يديه دواة يكتب منها من كتاب ينظر إليه ، فسلّمنا عليه فردّ علينا السلام وحيّانا وقال : من أين أقبلتم؟ فقلنا : من أرض كذا وكذا ، فقال : كلّكم مسلمون؟

فقلنا : لا ، بل فينا المسلم واليهود والنصارى فقال : يزن اليهودي جزيته والنصراني جزيته ويناظر المسلم عن مذهبه ، فوزن والدي عن خمس نفر نصارى وعنه وعنّي وعن ثلاثة نفر كانوا معنا ثمّ وزن تسعة نفر كانوا يهودا وقالوا للباقين هاتوا مذاهبكم فشرعوا معه في مذاهبهم فقال : لستم مسلمين ، وإنّما أنتم خوارج وأموالكم محلّلة للمسلم المؤمن ، وليس بمسلم من لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر وبالوصي والأوصياء من ذريّته حتّى مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليهم ، فضاقت بهم الأرض ولم يبق إلّا أخذ أموالهم ، ثمّ قال لنا :

__________________

(١) كلمة فارسية الأصل معناها ربّان السفينة.

١٩

يا أهل الكتاب لا معارضة لكم فيما معكم حيث أخذت الجزية منكم ، فلمّا عرف أولئك أن أموالهم معرّضة للنهب سألوه أن يحتملهم إلى سلطانهم فأجاب سؤالهم وتلا (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١) فقلنا للناخدا والربان وهو الدليل : هؤلاء قوم قد عاشرناهم وصاروا لنا رفقة وما يحسن لنا أن نتخلّف عنهم ، أينما يكونوا نكن معهم حتّى نعلم ما يستقر حالهم عليه. فقال الربان : ما أعلم هذا البحر أين المسير فيه واستأجرنا ربانا ورجالا وقلعنا القلع وسرنا ثلاثة عشر يوما بلياليها حتّى كان قبل طلوع الفجر فكبّر الربان فقال : هذه والله أعلام الزاهرة ومنائرها وجدرانها ، إنّها قد بانت ، فسرنا حتّى تضاحى النهار فقدمنا إلى مدينة لم تر العيون أحسن منها ولا أخف على القلب ولا أرق من نسيمها ولا أطيب من هوائها ولا أعذب من مائها وهي راكبة البحر على جبل من صخر أبيض كأنه لون الفضة ، وعليها سور إلى ما يلي البحر ، والبحر يحيط الذي يليه منها والأنهار منحرفة في وسطها يشرب منها أهل الدور والأسواق وتأخذ منها الحمامات وفواضل الأنهار ، ترى في البحر ومدّ الأنهار فرسخ ونصف ، وفي تحت ذلك الجبل بساتين المدينة وأشجارها ومزارعها عند العيون ، وأثمار تلك الأشجار لا يرى أطيب منها ولا أعذب منها ، ويرعى الذئب والنعجة عيانا ولو قصد قاصد لتخلية دابة في زرع غيره لأرعته ولأقطعته قطعة حمله ، ولقد شاهدت السباع والهوام رابضة في غيض تلك المدينة وبنو آدم يمرّون عليها فلا تؤذيهم ، فلمّا قدمنا المدينة ، وأرسى المركب فيها وما كان صحبنا من الشّوالي (٢) والذوابيح من المباركة بشريعة الزاهرة ، صعدنا فرأينا مدينة عظيمة عيناء كثيرة الخلق وسيعة الربقة وفيها الأسواق الكثيرة والمعاش العظيم ، وترد إليها الخلق من البر والبحر وأهلها على أحسن قاعدة ، لا يكون على وجه الأرض من الامم والأديان مثلهم وأمانتهم ، حتّى أنّ المتعيش بسوق يرد إليه من يبتاع منه حاجة إما بالوزن أو بالذراع فيبايعه عليها ، ثمّ يقول : يا هذا زن لنفسك واذرع لنفسك ، فهذه صورة مبايعتهم ، ولا يسمع بينهم لغو المقال ولا السفه ولا النميمة ولا يسبّ بعضهم بعضا ، وإذا نادى المؤذن : الأذان ، لا يتخلّف منهم متخلّف ذكرا كان أو انثى إلّا ويسعى إلى الصلاة ، حتّى إذا قضيت الصلاة للوقت المفروض رجع كلّ منهم إلى بيته حتّى يكون وقت الصلاة الاخرى فتكون الحال كما كانت ، فلمّا وصلنا

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤٢.

(٢) قرية بمرو.

٢٠