تاريخ ميورقة

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي

تاريخ ميورقة

المؤلف:

أبي المطرّف أحمد بن عميرة المخزومي


المحقق: الدكتور محمد بن معمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٨

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

التقديم

من المعروف أن المخطوطات الإسلامية ببلاد الغرب الإسلامي قد ابتليت خلال تاريخها الطويل بآفة الضياع ، وذلك بسبب المحن العديدة التي ألمت بها ، فقد أنتج أهل العلم بهذه البلاد عددا ضخما من التآليف المختلفة يصعب حصرها ، إلا أن أغلبها قد ضاع أو صار في حكم المفقود ، ولكن الأمل يبقى قائما في العثور على بعضها سيما في خزائن المخطوطات التي لم تفهرس بعد. ومن المخطوطات التي حفظتها لنا خزانة آل بلّعمش هذا الأثر النفيس والنص الهام الذي أقدّمه للمهتمين بتراث الغرب الإسلامي وهو تاريخ ميورقة لابن عميرة المخزومي.

أولا : مؤلف الكتاب

لم يكن مؤلف هذا الكتاب نكرة في عصره ، ولا رجلا مغمورا طاله النسيان ، بل كان فقيها ذائع الصيت ، أديبا طائر الذكر ، معروفا لدى القاصي والداني. فهو أبو المطرّف أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن عميرة المخزومي (١) ، الذي عاش بين سنتي ٥٨٢ ـ ٦٥٨ ه‍ / ١١٨٦ ـ ١٢٦٠ م ، أي ستة

__________________

(١) ليس الهدف من هذه النبذة بسط القول عن حياة أبي المطرّف ، ولكنني أقتصر على أهم ما لا بد منه ، حسبما جرى به العمل عند جمهور الباحثين والمحققين في التعريف بمؤلف المخطوط. وأحيل القارئ الكريم إلى الدراسة الوافية التي تناول فيها الدكتور محمد بن شريفة حياة ابن عميرة بالتفصيل والمصادر التي اعتمدها في بحثه ، وقد نشرها المركز الجامعي للبحث العلمي بالمغرب سنة ١٩٦٦ م.

٣

وسبعين سنة هجرية (أربعة وسبعين سنة ميلادية). ويعتبر العصر الذي عاش فيه ابن عميرة من أحفل العصور بالأحداث التاريخية في الغرب الإسلامي عامة والأندلس خاصة ، وهي أحداث احتك وتأثر بها وشارك في صنعها.

وقد أجمع مترجموه على تحليته بالنسب المخزومي ومنهم معاصره وابن بلده ابن الأبّار حيث يقول : "وكان بجزيرة شقر بنو عميرة المخزوميون بيت شيخنا القاضي الكاتب أبي المطرف أبقاه الله" (١). وكانت ولادته في شهر رمضان بجزيرة شقر القريبة من شاطبة ، بينها وبين بلنسية ثمانية عشر ميلا شرق الأندلس ، وهي الجزيرة التي تحدث عنها الجغرافيون والمؤرخون الأندلسيون وغيرهم بكل إعجاب لجمال موقعها وسحر طبيعتها.

وأتيحت لابن عميرة الفرصة في هذا العمر الطويل ليصيب من العلم أوفر نصيب سمح به زمانه ، ويمكن التمييز في حياته الدراسية بين ثلاث مراحل : الأولى تتميز بالإقبال على الثقافة الدينية بوجه عام ، والثانية تبرز فيها العناية بالثقافة العلمية العقلية ، والأخيرة يظهر فيها الجنوح نحو الثقافة الأدبية ، وهو ما أجمله ابن عبد الملك في النص التالي : "وكان في بداية طلبه للعلم شديد العناية بشأن الرواية فأكثر من سماع الحديث وأخذه عن مشايخ أهله ، ثم تفنن في العلوم ونظر في المعقولات وأصول الفقه ، ومال إلى الآداب وبرع فيها" (٢).

ومن شيوخه الأندلسيين الذين أخذ عنهم وتتلمذ لهم ، الشيخ أبو الرّبيع سليمان بن موسى الكلاعي (٥٦٥ ـ ٦٢٤ ه‍) ، وهو من أكبر أساتذته

__________________

(١) ابن الأبّار ، المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي ، القاهرة : دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، ١٩٦٧ ، ص ١٦٨.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي أبو عبد الله محمد ، الذيل والتكملة ، تحقيق إحسان عباس ، بيروت : دار الثقافة ، ١٩٧٣ ، ج ١ ، ص ١٥٢.

٤

وأبعدهم أثرا في حياته ، والشيخ أبو الخطاب أحمد بن محمد بن واجب القيسي (٥٣٧ ـ ٦١٤ ه‍) ، والأستاذ أبو عبد الله محمد بن أيوب السرقسطي (٥٣٠ ـ ٦٠٨ ه‍) ، والأستاذ ابن حوط الله الأنصاري (٥٥٢ ـ ٦٢١ ه‍) ، والشيخ أبو علي بن الشلوبين ، والشيخ ابن عات وغيرهم ، وأجازه من المشارقة أبو الفتوح الحصري.

بعد أن فرغ ابن عميرة من حياة الدّرس والتحصيل العلمي وانتهى من التنقل بين شقر وبلنسية وشاطبة ودانية ومرسية وغيرها بحثا عن الشيوخ ، رجع إلى بلنسية بقصد الاستقرار والحصول على وظيفة تناسب ثقافته وطموحه ، "ذلك أن ابن عميرة كان منذ البداية يسعى وراء خطة الكتابة لما كانت توفره لصاحبها من الثراء والنفوذ والجاه والسلطان ، وللمكانة الرفيعة التي كان يحظى بها الكاتب في المجتمع الأندلسي" (١).

استهل ابن عميرة حياته الإدارية بالكتابة عن والي بلنسية السيد أبي عبد الله محمد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن في سنة ٦٠٨ ه‍ ، وفي سنة ٦١٧ ه‍ انتقل إلى إشبيلية وكتب عن واليها الموحدي السيد أبي العلاء الكبير. وفي سنة ٦٢٠ ه‍ عاد إلى بلنسية وتولى خطة الكتابة عند الوالي السيد أبي زيد عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن ، وظل متوليا لها حتى سنة ٦٢٦ ه‍ وهي السنة التي ثار فيها الرئيس أبو جميل زيان ابن سعد بن مردنيش الجذامي على الوالي الموحدي وافتك منه بلنسية ، وقد احتفظ الأمير الجديد بابن عميرة كاتبا عنده حتى سنة ٦٢٨ ه‍ تاريخ انتقاله إلى جزيرة شقر حيث اشتغل مؤقتا بالكتابة عن واليها أبي عبد الله بن مردنيش. وفيما بين سنة ٦٣٠ وسنة ٦٣٣ ه‍ اشتغل بوظيفة القضاء في مدينة شاطبة ،

__________________

(١) ابن شريفة محمد ، أبو المطرف أحمد بن عميرة المخزومي حياته وآثاره ، الرباط : منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي ، ١٩٦٦ ، ص ٨٥.

٥

وفيما بين سنة ٦٣٣ وسنة ٦٣٦ ه‍ كاتبا في مرسية ، ومنها توجه إلى غرناطة آخر مرحلة في طريقه إلى العدوة المغربية حيث ينتهي الفصل الأول من حياة ابن عميرة الإدارية في الأندلس (١).

غادر ابن عميرة الأندلس وعبر البحر إلى المغرب يحدوه الأمل في الحصول على عمل في بلاط بني عبد المؤمن بمراكش بعد أن فقده في بلاده التي اضطربت أحوالها وسقط الكثير من قواعدها في يد النصارى. وكان حلوله بمدينة سبتة في أول سنة ٦٣٧ ه‍ حيث أقام زمنا يسيرا عند واليها صديقه الرئيس أبي علي الحسن بن خلاص البلنسي. وفي السنة نفسها ورد على الخليفة الموحدي الرشيد أبي محمد عبد الواحد بن أبي العلاء إدريس المأمون (٦٣٠ ـ ٦٤٠ ه‍) وصحبه حين قفوله من مدينة سلا إلى حضرة مراكش (٢).

واستكتبه الرشيد مدة يسيرة ، ثم صرفه عن الكتابة وقلّده قضاء مدينة هيلانة شرق مراكش ، وقد تأثر ابن عميرة بهذا العزل عن خطة الكتابة وشكا ذلك إلى أصدقائه في رسائله الإخوانية وقصائده الشعرية التي تفيض بالحزن والأسى وندب الحظ. ويبدو أنه عبّر عن تبرّمه بهذا الإقليم لدى بعض حاشية السلطان فتوسطوا لديه عنده حتى نقله سنة ٦٣٩ ه‍ إلى قضاء الرباط وسلا ، وأقام يتولّاه إلى أن توفي الرشيد وخلفه أخوه الخليفة الموحدي العاشر أبو الحسن السعيد (٦٤٠ ـ ٦٤٦ ه‍) فأقرّه عليه مدة ثم نقله إلى قضاء مدينة مكناسة الزيتون.

ولما بايع أهل مكناسة الأمير أبا زكرياء الحفصي ، كان القاضي أبو

__________________

(١) ابن شريفة محمد ، المرجع السابق ، ص ص : ٨٥ ـ ١١٥.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٦.

٦

المطرّف هو الذي كتب نص البيعة في ٢٠ ربيع الأول ٦٤٣ ه‍ ، وحين قام إليهم الخليفة السعيد بحنق عظيم بادروا بطلب العفو واعتذروا عما بدر منهم وبايعوه من جديد وكتب نص البيعة ابن عبدون في ذي الحجة من نفس السنة (١). وكان ما أقدم عليه ابن عميرة من أخطر المواقف في حياته وذلك بإسهامه في محاولة فصل مكناسة عن دولة الموحدين التي كانت في طريقها إلى الانهيار. ولما قتل الخليفة الموحدي السعيد في صفر سنة ٦٤٦ ه‍ ، اغتنم ابن عميرة تلك الظروف وغادر مكناسة قاصدا مدينة سبتة ، وفي طريقه إليها سلبت منه ثروته في فتنة بني مرين الذين بسطوا نفوذهم على المغرب الشرقي وكانت الدولة الموحدية في ذلك الوقت عرضة لهجماتهم. وقد كتب إلى الشيخ أبي الحسن الرعيني يعلمه بهذه الحادثة وأن ماله المنهوب قد بلغ أربعة آلاف دينار وكان ورقا وعينا وحليا (٢).

كان ابن عميرة كثير التطلع إلى إفريقية معمور القلب بسكناها مذ فارق جزيرة الأندلس ، لذلك وبعد أن أقام فترة قصيرة في سبتة عند واليها الرئيس الأندلسي ابن خلاص الذي اشتغل بالكتابة عنه فيما يبدو ، ركب البحر متوجها إلى إفريقية حيث ينتهي الفصل الثاني من حياته الإدارية في المغرب. ووصل مدينة بجاية في شهر جمادى سنة ٦٤٦ ه‍ ودخل على صاحبها الأمير أبي يحيى ابن الأمير أبي زكرياء الحفصي وكان صاحبها لأبيه. وأقام ابن عميرة في بجاية حوالي سنتين يعلّم ويدرّس ، وكان الطلبة أثناء ذلك يقرأون عليه تنقيحات السهروردي في أصول الفقه التي لم يكن يتعرض لإقرائها إلا

__________________

(١) ابن عذاري المراكشي ، البيان المغرب (قسم الموحدين) ، تحقيق ابراهيم الكتاني وآخرون ، الدار البيضاء : دار الثقافة ، ١٩٨٥ ، ص ٣٧٣.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٩.

٧

من له ذهن ثاقب (١).

وقد أجاز ابن عميرة خلال إقامته ببجاية بعض طلبتها ، كما استجاز لنفسه وولديه على سبيل التبرك بعض علمائها ، وشارك في المجالس العلمية التي كانت تنعقد بمنزل صديقه ابن محرز البلنسي شيخ الجماعة الأندلسية يومئذ ، وكان يحضرها أقطاب الأندلسيين وفي مقدمتهم ابن الأبار وابن الجنان وابن سيد الناس وغيرهم. ولم يتوقف ابن عميرة عن نشاطه الأدبي في هذه المدينة حيث كاتب العديد من أصدقائه (٢).

انتقل ابن عميرة من بجاية إلى مدينة تونس حيث مال إلى صحبة الصالحين بها والزهاد أهل الخير برهة من الزمان ، ثم نزع عن ذلك (٣). وقد تغلبت عليه رغبته في خدمة الملوك فقنع بوظيفة القضاء في الأقاليم ، فتقلده في الأربس وفي قسنطينة ثم في قابس حيث طالت مدته. واستدعاه الأمير الحفصي المستنصر بالله محمد بن أبي زكرياء (٦٤٧ ـ ٦٧٥ ه‍) وصار من خواص الحاضرين بمجلس حضرته ومن فقهاء دولته. واستطاع ابن عميرة أن ينعم في هذه الفترة الأخيرة من عمره بالحياة السعيدة التي كان ينشدها في ظل الأمير الحفصي ، سيما وأن تونس كانت تعيش يومئذ عصرها الذهبي من مختلف الوجوه. وظل ابن عميرة بالمنزلة الرفيعة من الدولة الحفصية والمكانة العالية عند أهل العلم والأدب إلى حين وفاته بتونس في ٢٠ من شهر ذي الحجة سنة ٦٥٨ ه‍ (٤).

__________________

(١) الغبريني أبو العباس ، عنوان الدراية ، تحقيق رابح بونار ، الجزائر : الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، ١٩٨١ ، ص ٢٥٣.

(٢) ابن شريفة محمد ، المرجع السابق ، ص ١٤٩.

(٣) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٩.

(٤) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٨٠.

٨

وفي ختام هذا التقديم الموجز لحياة ابن عميرة يجدر بنا أن نورد بعض الشهادات في حقه ، فهذا معاصره وابن بلده ابن الأبار قد حلّاه بالعبارات التالية : "فائدة هذه المائة والواحد يفي بالفئة ، الذي اعترف بإجادته الجميع ، واتصف بالإبداع فماذا يتصف به البديع ، ومعاذ الله أن أحابيه بالتقديم ، لما له من حق التعليم ، كيف وسبقه الأشهر ، ونطقه الياقوت والجوهر ، تحلت به الصحائف والمهارق ، وما تخلت عنه المغارب والمشارق ، فحسبي أن أجهد في أوصافه ، ثم أشهد بعدم إنصافه ، هذا على تناول الخصوص والعموم لذكره ، وتناول المنثور والمنظوم على شكره" (١).

وهو عند ابن عبد الملك : "علم الكتابة المشهور ، وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدّهور ، ولا سيما في مخاطبة الإخوان ، هنالك استولى على أمد الإحسان ، وله المطولات المنتخبة والقصار المقتضبة ، وكان يملح كلامه نظما ونثرا بالإشارة إلى التاريخ ويودعه إلماعات بالمسائل العلمية منوعة المقصد ... وكان حسن الخلق والخلق ، جميل السعي للناس في أغراضهم ، حسن المشاركة لهم في حوائجهم ، متسرعا إلى بذل مجهوده فيما أمكن من قضائها بنفسه وجاهه" (٢).

أما صاحب الإحاطة فقد قال في حقّه : " وعلى الجملة فذات أبي المطرف فيما ينزع إليه ، ليست من ذوات الأمثال ، فقد كان نسيج وحده إدراكا وتفننا ، بصيرا بالعلوم ، محدثا مكثرا ، راوية ثبتا ، سجرا في التاريخ والأخبار ، ديّانا مضطلعا بالأصلين ، قائما على العربية واللغة ، كلامه كثير الحلاوة والطلاوة ، جمّ العيون غزير المعاني والمحاسن ، وافد أرواح المعاني ، شفاف

__________________

(١) المقري أبو العباس أحمد ، نفح الطيب ، تحقيق إحسان عباس. بيروت : دار صادر ، ١٩٦٨ ، ج ١ ، ص ٣١٥.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٢ وص ١٧٩.

٩

اللّفظ حرّ المعنى ، ثاني بديع الزمان في شكوى الحرفة وسوء الحظ ورونق الكلام ولطف المأخذ ، وتبريز النثر على النظم والقصور في السلطانيات" (١).

وجاء عنه في عنوان الدراية أنه : " الشيخ الفقيه ، المجيد المجتهد ، العالم الجليل الفاضل ، المتقن المتفنن ، أعلم العلماء ، وتاج الأدباء ، له أدب هو فيه فريد دهره ، وسابق أهل عصره ، وفاق الناس بلاغة ، وأربى على من قبله" (٢).

وقال فيه بعض علماء المغرب : " هو قدوة البلغاء ، وعمدة العلماء ، وصدر الجلة الفضلاء ، ونكتة البلاغة التي قد أحرزها وأودعها ، وشمسها التي أخفت ثواقب كواكبها حين أبدعها مبدع البدائع والتي لم يخض بها قبله إنسان ، ولا ينطق عن تلاوتها لسان ، إذ كان ينطق عن قريحة صحيحة ، وروية بدرر العلم الفصيحة ، ذللت له صعب الكلام ، وصدقت رؤياه حين وضع سيد المرسلين في يديه الأقلام" (٣).

تلك هي أبرز معالم سيرة أبي المطرف المخزومي الذي عاش حياة إدارية وعلمية حافلة بالأعمال وزاخرة بالأحداث ، حيث تقلّد مناصب سامية في دول مختلفة ، وتنقل خلالها في كثير من بلدان الأندلس والمغرب وإفريقية ، وعاصر أحداثا سياسية كبرى. ولكنها كانت حياة مضطربة متقلبة وهي ظاهرة عامة اتسمت بها حياته في كل أطوارها ، شأنه في ذلك شأن الكثيرين من أبناء عصره ووطنه. ويبقى ذلك الأديب الطائر الذكر ، المولع بالتاريخ والأدب معروفا لدى القاصي والداني بأناقة أسلوبه المزخرف وغزارة لغته.

__________________

(١) ابن الخطيب لسان الدين ، الإحاطة في أخبار غرناطة. تقديم يوسف علي طويل. بيروت : دار الكتب العلمية ، ٢٠٠٢ ، ج ١ ، ص ٦٣.

(٢) الغبريني ، المصدر السابق ، ص ٢٥٠.

(٣) المقري ، نفح الطيب ، ج ١ ، ص ٣١٣.

١٠

ثانيا : مؤلفات ابن عميرة

اشتهر ابن عميرة بثقافته الواسعة والمتنوعة ، فقد كان كما وصفه صاحب تاريخ آداب العرب ، خزانة من خزائن العلوم (١) ، وقد رأينا فيما سبق بعض الشهادات في حقه التي تثبت هذا الرأي. وكان متفننا في منقول ومعقول تلك العلوم ، مدققا في أصولها وفروعها محدثا مكثرا ، راوية ثبتا ، متبحرا في التاريخ والأخبار ، مضطلعا بالأصلين ، قائما على العربية واللغة ، بارعا في الأدب وفنونه ، مولعا بعلوم الفلسفة والمنطق والفلك والطب. وكانت هذه الثقافة الدينية والعلمية العقلية والأدبية الواسعة نتيجة حياة طلب وتحصيل طويلة ، ناهيك عن تقلده المناصب السامية التي مكنته من استنساخ النوادر ودراستها ، واهتمامه بقراءة الجديد من إنتاج معاصريه المشارقة والمغاربة ، فجاء إنتاجه العلمي ثمرة لتلك الثقافة التي ألّف في حقولها المعرفية مجموعة من التآليف وهي :

١ ـ الرسائل : انتهت إلى ابن عميرة رئاسة صناعة الكتابة والترسّل في عصره ، وشهد له بالإمامة فيها فحول الكتّاب والمترسلين من معاصريه ومن جاء بعدهم ، فقد وصفه ابن سعيد بقوله : " هو الآن عظيم الأندلس في الكتابة وفي فنون من العلوم" (٢). وقد أنتج عددا هائلا من الرسائل الديوانية والإخوانية ، ساعدته في ذلك موهبته البلاغية ومقدرته الكتابية ، إلى جانب اتخاذ الترسل حرفة ، وشغله خطة الكتابة أكثر أوقات حياته لدى الكثير من الأمراء والخلفاء. وكانت ظروف عمله من أكثرها استدعاء للمكاتبات

__________________

(١) مصطفى صادق الرافعي ، تاريخ آداب العرب. بيروت : دار الكتاب العربي ، ١٩٧٤ ، ج ٣ ، ص ٣٢٢.

(٢) ابن سعيد المغربي ، المغرب في حلى المغرب ، تحقيق شوقي ضيف ، القاهرة : دار المعارف ، ١٩٦٤ ، ج ٢ ، ص ٣٦٣.

١١

والمراسلات بحكم ما ساد ذلك العصر من فتن واضطرابات (١).

ويبدو أن ابن عميرة لم يكن يهتم بجمع رسائله وتدوينها ، رغم كثرة المعجبين بها والراغبين فيها من أبناء عصره ، ولعل ذلك كان بسبب نظرته المتواضعة إلى هذه الرسائل التي لم تكن تستحق التدوين والطلب كما عبّر عن ذلك في بعضها ، وإنما جمعها غيره من تلاميذه ومن أتى بعدهم. ومن هؤلاء صديقه الأديب البلنسي أبو جعفر العقيلي (ت ٦٦٤ ه‍) الذي لازم ابن عميرة في إفريقية وجمع مجموعة من تلك الرسائل التي آلت إلى ابن عبد الملك المراكشي ، وهي التي نجدها متفرقة في كتابه الذيل والتكملة في تراجم مختلفة.

كما وردت مجموعة من هذه الرسائل في الجزء الثالث من مجموع زواهر الفكر وجواهر الفقر لابن المرابط الذي خصّصه لمعاصريه من كتاب وشعراء الاندلس في القرن السابع الهجري. كما نجد طائفة أخرى من رسائل ابن عميرة في عنوان الدراية للغبريني ، وفي رحلة التجاني ، وبيان ابن عذاري ، والروض المعطار للحميري ، وصبح الأعشى للقلقشندي وغير ذلك من المصادر. أما المحاولة الجادة لجمع هذه الرسائل فتلك التي قام بها أبو عبد الله محمد بن هانئ السبتي (ت ٧٣٣ ه‍) الذي دوّنها ورتبها في كتاب من سفرين وسمّاه : " بغية المستطرف وغنية المتطرف من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرّف" (٢). وتوجد منه نسختان مخطوطتان في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم ٢٣٢ ك ورقم ٢٣٣ ك ، ولدينا نسخة مصورة عن النسخة الأصلية الموجودة بزاوية تندوف.

__________________

(١) ابن شريفة محمد ، المرجع السابق ، ص ٢٥٤.

(٢) ابن الخطيب ، الإحاطة في أخبار غرناطة ، ج ١ ، ص ٦٥.

١٢

٢ ـ كتاب التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات : وهو كتاب ألّفه في الردّ على" كتاب التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن" من تأليف أحد معاصريه المشارقة وهو أبو محمد عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني من أعلام البلاغة في القرن السابع الهجري وصاحب علم المعاني والبيان ، وقد انتهى من تأليفه في شهر رمضان سنة ٦٣٧ ه‍ ، ويعتبر كتاب التبيان من المصادر المعروفة في علم البلاغة إذ وجد طريقه إلى الغرب الإسلامي بزمن يسير بعد تأليفه ، فانبرى ابن عميرة للردّ عليه.

وكتاب التنبيهات مخطوط يقع في ٦٩ ورقة وهو مكتوب بخط مغربي وتوجد نسخة منه بمكتبة الأسكوريال تحت رقم ٩٦٧ ، ويبدو أنه كان بخزانة السعديين التي آل كثير من مجلداتها إلى خزانة الأسكوريال بعد حادثة القرصنة المعروفة. كما توجد نسخة أخرى منه بالخزانة العامة بالرباط وعليهما اعتمد الدكتور محمد بن شريفة في تحقيق هذا الكتاب والتقديم له ، وتم طبعه بمطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء سنة ١٩٩١. وقد ألّفه ابن عميرة أثناء إقامته بتونس ، وسلك فيه طريقة عرض كلام صاحب التبيان ملخصا ثم يردفه بالتعقيب والمناقشة التي انصبت على الجزئيات ، والكتاب لا يخلو من آرائه البلاغية مما يؤكد تنوع ثقافته وسعة اطلاعه.

٣ ـ تعقيب على كتاب المعالم للفخر الرّازي : وهو من مؤلفات ابن عميرة المفقودة اليوم ، وقد ورد العنوان عند بعض الذين ترجموا له بصيغ مختلفة ولكنها ألفاظ متقاربة. فابن عبد الملك وابن الخطيب يستعملان كلمة" تعقيب" ، بينما يصفه ابن فرحون (١) بأنه" ردّ" ، أما الغبريني الذي جعله" تعليقا" فقد اطلع عليه وقال عنه : " وقد رأيت له تعليقا على كتاب المعالم في أصول

__________________

(١) ابن فرحون المالكي ، الديباج المذهب ، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور ، القاهرة : دار التراث ، ١٩٧٢ ، ج ١ ، ص ٢٠٧.

١٣

الفقه لا بأس به ، وهو جواب لسؤال سائل ، وهو مكمّل لعشرة أبواب حسبما سأل السائل" (١). ويدل هذا الكتاب على ولع ابن عميرة بالردّ على أعلام المشارقة من معاصريه ، كما يؤكد إلمامه بالعلوم العقلية والجدلية وتضلّعه فيها.

وكتاب المعالم الذي عقّب عليه ابن عميرة هو من تأليف الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرّازي (ت ٦٠٦ ه‍) صاحب التآليف العديدة في علم الكلام والأصول وغيرهما ، وكان إمام الدنيا في عصره كما يقول ابن الأثير (٢). وتمثل مؤلفاته مدرسة جديدة في الكلام والأصول اتسمت بطرقها المقفلة وقوانينها المغلقة وتقسيماتها الكثيرة ، وهي تختلف عن طريقة الأقدمين في الأصلين طريقة الغزالي والجويني التي كان ينتمي إليها ابن عميرة فيما يبدو ، سيما وأنه كان كثير العناية بكتاب المستصفى للغزالي.

٤ ـ اقتضاب من تاريخ المريدين : وهو ثاني كتاب في التاريخ ألّفه ابن عميرة بالإضافة إلى تاريخ ميورقة ، ويعتبر من المؤلفات المفقودة اليوم. وقد ورد هذا العنوان عند ابن عبد الملك في الذيل (٣) وعند ابن الخطيب في الإحاطة (٤) ، أما المقري فقد ذكره في النفح قائلا : " وله اختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة" (٥). ولسنا نعلم هل اطّلع المقري على هذا الكتاب كما اطلع على تاريخ ميورقة ونقل عنه أم لا ، كما أننا نجهل الدافع الذي جعل ابن عميرة يقدم على اختصار تاريخ المريدين.

__________________

(١) الغبريني ، المصدر السابق ، ص ٢٥٣.

(٢) ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، بيروت : دار الكتاب العربي ، ١٩٨٣ ، ج ٩ ، ص ٣٠٢.

(٣) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٧.

(٤) ابن الخطيب ، الإحاطة ، ج ١ ، ص ٦٥.

(٥) المقري ، نفح الطيب ، ج ١ ، ص ٣١٤.

١٤

أما الأصل المختصر فهو من تأليف أبي مروان عبد الملك بن محمد ابن أحمد الباجي المشهور بابن صاحب الصلاة (ت ٥٧٧ ه‍) الذي ألّف كتابين في التاريخ : أولهما كتاب ثورة المريدين الذي اختصره ابن عميرة ، والثاني كتاب تاريخ المن بالإمامة الذي حقق السفر الثاني منه عبد الهادي التازي ونشرته دار الغرب الإسلامي ، وهو الجزء الباقي من الكتاب. وقد أشار ابن صاحب الصلاة في هذا الجزء من المن إلى كتابه تاريخ المريدين في سبعة مواطن ، في ستة منها أورده بعنوان تاريخ المريدين ، وفي الموطن السابع والأخير ذكره بعنوان ثورة المريدين (١). وبهذه التسمية الأخيرة أشار إليه ابن الأبار ونقل عنه في الحلة السيراء (٢). وسمّاه ابن سعيد" تأريخ الدولة اللمتونية" في تذييله على رسالة ابن حزم (٣).

يتناول كتاب ثورة المريدين تاريخ المرابطين وقيام المريدين عليهم في غرب الأندلس سنة ٥٣٩ ه‍. وكلمة المريدين هي الاسم الذي عرفت به الطائفة الدينية التي تزعمها أبو القاسم أحمد بن الحسين بن قسي الذي ادعى المهدوية ، وكان أول الثائرين على المرابطين بالأندلس في وقت رسمه لأتباعه من هذه السّنة القارضة ملك اللمتونيين كما يقول ابن الأبار (٤) ، وكان شعار المريدين التهليل والتكبير. فهذه المرحلة القلقة المضطربة من تاريخ الأندلس هي التي عالجها ابن صاحب الصلاة في هذا الكتاب ، ويبدو أنه كان ينوي الاقتصار على ثورة المريدين ثم وسع آفاقه إلى تدوين تاريخ شامل للدولة الموحدية فكتب عنها تاريخ المن بالإمامة.

__________________

(١) ابن صاحب الصلاة ، المن بالإمامة ، تحقيق عبد الهادي التازي ، بيروت : دار الغرب الإسلامي ، ط ٣ ، ١٩٨٧ ، الصفحات : ٦٨ ـ ٩١ ـ ٩٢ ـ ١٢٩ ـ ٢٨٤ ـ ٣٠٣ ـ ٣٢١.

(٢) ابن الأبار ، الحلة السّيراء ، تحقيق حسين مؤنس ، القاهرة : دار المعارف ، ١٩٨٥ ، ج ٢ ، ص ٢٠٨.

(٣) المقري ، نفح الطيب ، ج ٣ ، ص ١٨١.

(٤) ابن الأبار ، الحلة السيراء ، ج ٢ ، ص ١٩٨.

١٥

٥ ـ تاريخ ميورقة : موضوع هذه الدراسة ولنا إليه رجعة.

٦ ـ المواعظ : لقد ألحّ الأندلسيون خلال عصر المؤلف في معارضة الكتابة في الزهديات والمواعظ المشرقية والسّير على منوالها ، ومنها رسالة ملقى السبيل لأبي العلاء المعرّي التي عارضها أبو القاسم السهيلي وسمى معارضته : " حلية النبيل في معارضة ملقى السبيل" ، وأبو العباس الغمّاز وسمى كتابه : " مفاوضة القلب العليل على طريقة أبي العلاء المعري في ملقى السبيل" (١). وأبو القاسم القرطبي وأبو الربيع الكلاعي وغيرهم.

وكان صاحبنا ابن عميرة من المساهمين في هذا الفن ، وقد أشار إلى مواعظه ابن عبد الملك في موضعين من ترجمته ، جاء في الأول : " وله فصول وعظية على طريقة الإمام أبي الفرج بن الجوزي" (٢) ، وقال في الثاني : " وله مجالس وعظية كان يصنعها للواعظ الفاضل الصالح أبي محمد بن علي بن أبي خرص رحمه الله" (٣). وقد ساق ابن عبد الملك في الذيل أمثلة من تلك الفصول والمجالس ، كما توجد أمثلة منها أيضا في رسائله ، ولا يعلم إذا كانت تلك المواعظ قد جمعت ودونت في كتاب على غرار ما فعل ابن هانئ في الرسائل.

٧ ـ مؤلفات أخرى : يستفاد من المصادر التي ترجمت للمؤلف وفي مقدمتها ابن عبد الملك وابن الخطيب ، أنه ترك آثارا ومؤلفات أخرى ولكنها لم تذكر عناوينها. فقد جاء في الذيل في معرض الكلام عن مؤلفات ابن عميرة عبارة" إلى غير ذلك من التعاليق" (٤) ، وفي الإحاطة" إلى غير ذلك من

__________________

(١) العبدري أبو عبد الله ، رحلة العبدري ، تحقيق محمد الفاسي ، الرباط ، ١٩٦٨ ، ص ٢٤١.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، الذيل والتكملة ، ج ١ ، ص ١٦٩.

(٣) المصدر نفسه ، ج ١ ، ص ١٧٠.

(٤) ابن عبد الملك المراكشي ، الذيل والتكملة ، ج ١ ، ص ١٧٧.

١٦

التعاليق والمقالات" (١). وهي من مؤلفاته المفقودة اليوم.

ثالثا : عنوان الكتاب

وردت الإشارة إلى هذا الكتاب عند ابن عبد الملك في الذيل على النحو التالي : " وله تأليف في كائنة ميورقة وتغلّب الروم عليها" (٢) ، والعبارة نفسها ذكرها ابن القاضي في جذوة الاقتباس (٣) ، وسمّاه ابن فرحون في الديباج بالتسمية نفسها (٤). أما طبعة دار المعارف القاهرية القديمة لإحاطة ابن الخطيب فقد ورد فيها على أنه تأليف في كائنة المرية ، وهي طبعة تم الاعتماد في نشرها على المخطوط المحفوظ في جامع الزيتونة بتونس الذي ذكرت فيه العبارة سهوا أو خطأ من الناسخ (٥). ولكن بقية نسخ الإحاطة المخطوطة والطبعات الجديدة تتفق في تسمية الكتاب مع ما ذهبت إليه المصادر السابقة من أنه تأليف في كائنة ميورقة وتغلب الروم عليها (٦).

والظاهر أن بعض المتأخرين الذين اعتمدوا طبعة القاهرة للإحاطة في ترجماتهم لابن عميرة ، قد وقعوا في الخطأ نفسه حين أشاروا إلى الكتاب على أنه تأليف في كائنة المرية ، ومن هؤلاء المؤرخ ابن زيدان في الإتحاف (٧) ، والزركلي في الأعلام (٨) ، وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين

__________________

(١) ابن الخطيب ، الإحاطة ، ج ١ ، ص ٦٥.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٦.

(٣) ابن القاضي ، جذوة الاقتباس. الرباط : دار المنصور للطباعة والوراقة ، ١٩٧٣ ، ج ١ ، ص ١٤٦.

(٤) ابن فرحون ، الديباج ، ج ١ ، ص ٢٠٧.

(٥) ابن شريفة محمد ، المرجع السابق ، ص ٢٨٧.

(٦) ابن الخطيب ، الإحاطة ، ج ١ ، ص ٦٥.

(٧) ابن زيدان عبد الرحمن ، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس. الدار البيضاء ، ط ٢ ، ١٩٩٠ ، ج ١ ، ص ٣٠١.

(٨) الزركلي خير الدين ، الأعلام. بيروت : دار العلم للملايين ، ١٩٩٥ ، ج ١ ، ص ١٥٩.

١٧

وغيرهم. أما المستشرق الإسباني جنثالث بالنثيا الذي جعله كتابا في فضائل ميورقة وتاريخها ، فقد عاد في الصفحة ذاتها ليؤكد التسمية نفسها الواردة عند ابن عبد الملك وغيره (١).

أما المقري فقد أشار إلى الكتاب في موضعين من موسوعته نفح الطيب ، حيث يتفق مع المصادر السابقة في التسمية نفسها ، ولكنه ينفرد في الموضع الثاني عن هذه المصادر حين يشير إليه على أنه" تاريخ ميورقة" وينقل عنه (٢) ، وهذه التسمية هي الموجودة في النسخة المعتمدة في التحقيق. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل فيما إذا كانت هذه التسمية أو التي سبقتها هي العنوان الحقيقي للكتاب ، وأيّهما كانت من وضع المؤلف. يبدو أن عبارة" تأليف في كائنة ميورقة وتغلب الروم عليها" التي ذكرها ابن عبد الملك ونقلها من جاء بعده هي تعبير ووصف للعنوان أكثر مما هي عنوان ، وإن كانت تعبّر عن المحتوى الحقيقي للكتاب الذي يتناول كائنة (حادثة) سقوط جزيرة ميورقة وليس تاريخها بالمفهوم الشامل حسبما يوحي به العنوان الثاني وهو" تاريخ ميورقة" المثبت في النسخة المخطوطة والمشار إليه في نفح الطيب.

أما عن علاقة المؤلف بالعنوان فإنني أشك أن يكون ابن عميرة قد وضع اسما للكتاب آية ذلك العبارة الواردة في مقدمة الكتاب التي تقول : " هذا ذكر من خبر ميورقة وتغلّب الروم عليها ، من حين أدارت الروم أمرها ، وأرادت أسرها ، إلى أن محقت حقها ، وملكت رقها ، وأخرجت الإيمان من قلبها ، وزجرت أغربتها لفل غربها" ، وهي فقرة طويلة لا تصلح أن تكون

__________________

(١) آنخل جنثالث بالنثيا ، تاريخ الفكر الأندلسي ، ترجمة حسين مؤنس ، القاهرة : مكتبة الثقافة الدينية ، ١٩٥٥ ، ص ٣٠٥.

(٢) المقري ، نفح الطيب ، ج ١ ، ص ٣١٤ ، وج ٤ ، ص ٤٦٩.

١٨

عنوانا للكتاب ، وأن سياق الكلام فيها يوحي بأن المؤلف لم يكن يقصد بها تسمية الكتاب ، سيما وأن مؤلّفي تلك العصور غالبا ما كانوا يضعون عناوين مسجوعة لمؤلفاتهم ويشيرون إلى ذلك في المقدمة.

وعليه فإنه من الأرجح أن يكون عنوان" تاريخ ميورقة" الوارد في النسخة المخطوطة من وضع الناسخ ، وأن هذا العنوان هو الذي عرف به الكتاب وتداوله الناس ، في عصر المقري (أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر الميلاديين) ، وقد أبقيت على العنوان نفسه وبه أقدّم الكتاب للقارئ الكريم وإلى كل مهتم بتراث الفردوس المفقود.

رابعا : الباعث على تأليف الكتاب

ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب أن الباعث على تأليفه كان بطلب من أحد إخوانه من أهل جزيرة ميورقة. وكان هذا الرجل الذي لم يذكر ابن عميرة اسمه من أثرياء الجزيرة وأغنيائها وأصحاب الجاه فيها أي كان متربا كما قال المؤلف ، ثم عاد تربا أي فقيرا قليل المال في ديار الغربة بعد سقوط ميورقة في يد النصارى. وكما أهمل المؤلف ذكر اسم هذا المترب ، بخل علينا أيضا بتحديد المدينة أو البلد الذي لجأ إليه وصار فيه تربا.

بعد أن سقطت ميورقة وقواعد وحصون شرق الأندلس الأخرى على يد مملكة أراجون ، هاجر الكثير من أبناء هذه الجهات ممن رفضوا العيش تحت حكم النصارى إلى مدن وحواضر بلاد المغرب وإفريقية. فاستقرت تلك الجماعات الأندلسية اللاجئة في سبتة ورباط الفتح وبجاية وتونس وغيرها من المدن التي زارها ابن عميرة واشتغل في بعضها فسنحت له الفرصة أن يختلط بتلك الجماعات ويخدمها بقلمه وجاهه. لأنّ النكبة التي حلّت بهؤلاء قد أفقدتهم دورهم وأملاكهم وحملتهم على ترك أوطانهم ، مما

١٩

دفع ابن عميرة إلى بذل مجهود دائم من أجل إيوائهم وتوطينهم في مهاجرهم ومساعدة بعضهم في الحصول على مناصب عمل. ومن الخدمات الجليلة التي أدّاها إلى مواطنيه من أهل شرق الأندلس استصداره ظهيرا من الخليفة الموحدي الرشيد يقضي بإسكان هؤلاء في مدينة رباط الفتح ، وقد تولى بنفسه كتابة هذا الظهير في شهر شعبان سنة ٦٣٧ ه‍ أثناء توليه الكتابة عن الخليفة المذكور (١). ويجمل ابن عبد الملك هذه الخصلة البارزة من شيمه قائلا : " وكان حسن الخلق والخلق ، جميل السعي للناس في أغراضهم حسن المشاركة لهم في حوائجهم ، متسرعا إلى بذل مجهوده فيما أمكن من قضائها بنفسه وجاهه" (٢).

يتبين مما سبق أن استقرار العناصر المهاجرة واللاجئة من شرق الأندلس لم يكن مقتصرا على مكان أو مدينة واحدة من بلاد العدوة ، ولكنها توزعت على مجموعة من تلك المدن ، وأن خدمة ابن عميرة بقلمه وجاهه لم تقتصر على جماعة دون أخرى من هؤلاء. فقد كان كثير التوصيات والشفاعات في حقهم ، فتجده يستوصي إما بعالم شريف ، أو بشاعر مدين ، أو بعزيز قوم ذل ، أو برجل فقد ثروته وماله ، أو بمن نبا به الوطن وأنحى عليه الزمن. وكان ممن خدمهم المؤلف هذا الرجل الميورقي الذي استجاب لرغبته في تدوين خبر سقوط جزيرة ميورقة. ففي أي بلد من بلدان المغرب وإفريقية كانت الاستجابة لهذه الرغبة؟ هذا ما سنعود إليه في العنصر الموالي.

خامسا : تاريخ تأليف الكتاب

لم يقتصر المؤلف على إهمال ذكر المكان الذي استجاب فيه لتأليف

__________________

(١) ابن شريفة محمد ، المرجع السابق ، ص ١٢٢.

(٢) ابن عبد الملك المراكشي ، المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٩.

٢٠