علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

١
٢

٣
٤

مقدّمة

تتألف البلاغة العربية من علوم ثلاثة هي : المعاني ، والبيان ، والبديع. وميدان البلاغة الذي تعمل فيه علومها الثلاثة متضافرة هو نظم الكلام وتأليفه على نحو يخلع عليه نعوت الجمال.

وإدراك سمات الكلام البليغ لا يتأتى إلا عن طريق الدرس والبحث والتأمل. ومن أجل هذا تبدو الحاجة إلى دراسة البلاغة. فهي تكشف للمتعلم عن العناصر البلاغية التي ترقى بالتعبير صعدا نحو الكمال الفني ، كما تضع بين يديه الأدوات التي يستطيع بالتمرس بها والتدرب عليها أن يأتي بالكلام البليغ. وهي في الوقت ذاته جزء مكمل لثقافة الناقد والأديب.

دراسة البلاغة إذن ليست ضرورية فقط لمن يريد أن يجعل اللغة وأدبها ميدان تخصصه ، وإنما هي ضرورية له وللناقد والأديب على حد سواء.

وبعد ... فهذه محاضرات ألقيتها على طلبة الصف الثاني بقسم

٥

اللغة العربية وآدابها بجامعة بيروت العربية في علم البديع ، أحد علوم البلاغة العربية.

والجانب الأول من هذه المحاضرات يعالج نشأة البديع ، وتطوره ، والمراحل التي مر بها حتى صار علما قائما بذاته ، هذا مع التعريف بكبار رجاله وكتبهم والطرق التي سلكوها في دراسته.

أما الجانب الآخر من المحاضرات فدراسة مفصلة تحليلية لأهم فنون البديع اللفظية والمعنوية ، وأثرها في الكلام.

ولعل القارىء يجد في هذه المحاضرات ما يغريه على التوسع في دراسة علم البديع أحد أصول البلاغة العربية.

والله ولي التوفيق.

المؤلف

٦

نشأة البديع وتطوره

البديع كما يقول الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن في كتابه «التلخيص» هو «علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة». ويعرفه ابن خلدون بأنه «هو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق : إما بسجع يفصله ، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه ، أو ترصيع يقطع أوزانه ، أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه ، لاشتراك اللفظ بينهما ، أو طباق بالتقابل بين الأضداد وأمثال ذلك» (١).

وقبل التعرض لمباحث هذا العلم بالشرح والاستيفاء يجدر بنا أن نؤرخ له فنتتبع نشأته وتطوره ، لأن ذلك من شأنه أن يعطي صورة واضحة عن أبعاد هذا العلم ، وأن يعين على تفهم مباحثه وتذوقها. ومهما اختلفت آراء الأدباء والنقاد في جدوى هذا العلم وقيمته فإن دراسته لازمة لطلاب البلاغة العربية ونقاد الأدب العربي طالما أن الظواهر البديعية تأتي عفوا أو تكلفا على ألسنة الشعراء والأدباء كعنصر من عناصر فن القول.

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ١٠٦٦.

٧

ومن النقاد من يهمل هذا الجانب البديعي عند تعرضه بالنقد لنص شعري أو نثري والحكم عليه ظنا منه أنه جانب لا يقدم ولا يؤخر كثيرا في الحكم على جودة التعبير وحسن أدائه للمعنى بكل ظلاله.

ولكن دراسة أصول هذا العلم والأناة في تفهمها وتذوقها جديرة بإقناع الدارس أيا كان بأن استبعاد الجانب البديعي عند الحكم على عمل أدبي هو إجحاف به وانتقاص في الحكم عليه.

حقا لقد أسرف الشعراء والأدباء في العصور المتأخرة غاية الإسراف في استعمال المحسنات البديعية ، إما إعجابا بها وإما إخفاء لفقرهم في المعاني ، وبهذا انحط إنتاجهم الأدبي. ذلك في نظري هو سبب العزوف عن هذا العلم من جانب بعض الدارسين والنقاد المعاصرين. ولو عرفوا أن العيب ليس في البديع ذاته وإنما هو في سوء فهمه واستخدامه لقللوا من عزوفهم عنه ولأعطوه حقه من العناية والدراسة ، ولردوا إليه اعتباره كعنصر بلاغي هام عند تقييم الأعمال الأدبية والحكم عليها.

وكما يقول أبو هلال العسكري : «إن هذا النوع من الكلام إذا سلم من التكلف وبرىء من العيوب كان في غاية الحسن ونهاية الجودة» (١).

وبعد ، فقد عرف العرب في شعرهم كل الخصائص الفنية والأساليب البيانية التي تخلع عليه صفة الجمال والإبداع. وكان الشاعر منهم بحسه الفطري وعلى غير دراية منه بأنواع هذه الأساليب البيانية ومصطلحاتها البلاغية يستخدمها تلقائيا كلما جاش بنفسه خاطر وأراد أن يعبر عنه تعبيرا بليغا.

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٢٦٧.

٨

وقد اهتدى بعض الجاهليين إلى قيمة بعض هذه الأساليب وأثرها في تقدير الشعر وحظه من البلاغة ، ومن هذه الأساليب ما يمت بصلة إلى هذا أو ذاك بما عرف بعد بعلوم البلاغة العربية الثلاثة ، أعني علم المعاني ، وعلم البيان ، وعلم البديع.

ولعلنا نذكر ما كان يدور في أسواق العرب وأنديتهم من حوار أدبي ، كما نذكر كيف كان الشعراء يفدون على زهير بن أبي سلمى في سوق عكاظ وينشدون أمامه أشعارهم ليحكم بينهم متفاخرين بما في شعرهم من أساليب التشبيه والمجاز بأنواعه ، وكيف كان زهير يقضي لهذا أو ذاك على غيره من الشعراء لأنه أجاد التشبيه أو الاستعارة أو الكناية.

الجاهليون إذن كانوا بطبيعتهم الشعرية الأصيلة يستحسنون بعض الأساليب البلاغية ويستخدمونها في أشعارهم دون علم بمصطلحاتها ، تماما كما كانوا عن سليقة يستخدمون في كلامهم الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا قبل أن يظهر النحاة ويضعوا قواعد الفاعل والمفعول.

وقد أخذ علماء العربية بعد الإسلام يهتمون غاية الاهتمام بعلم البلاغة ليستعينوا به في المحل الأول على معرفة أسرار الإعجاز في القرآن الكريم كتاب الله.

وفي ذلك يقول أبو هلال العسكري (١) : «اعلم ـ علمك الله الخير ودلك عليه وقيضه لك وجعلك من أهله ـ أن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ ـ بعد المعرفة بالله جل ثناؤه ـ علم البلاغة ، ومعرفة الفصاحة الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى ، الناطق بالحق ، الهادي إلى سبيل الرشد ، المدلول به على صدق الرسالة وصحة النبوة ، التي رفعت أعلام

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ١ ـ ٣.

٩

الحق ، وأقامت منار الدين ، وأزالت شبه الكفر ببراهينها ، وهتكت حجب الشك بيقينها.

وقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة ، وأخل بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف ، وبراعة التركيب ، وما شحنه به من الإيجاز البديع ، والاختصار اللطيف ، وضمنه من حلاوة ، وجلله من رونق الطلاوة ، مع سهولة كلمه وجزالتها ، وعذوبتها وسلاستها ، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها ، وتحيرت عقولهم فيها.

وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه ، وقصورهم عن بلوغ غايته في حسنه وبراعته ، وسلاسته ونصاعته ، وكمال معانيه ، وصفاء ألفاظه .....

ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة ، ومناقب معروفة ، منها أن صاحب العربية إذا أخل بطلبه ، وفرط في التماسه ، ففاتته فضيلته ، وعلقت به رذيلة فوقه ، عفّى على جميع محاسنه ، ..... لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد وآخر رديء ، ولفظ حسن وآخر قبيح ، وشعر نادر وآخر بارد ، بان جهله ، وظهر نقصه.

وهو أيضا إذا أراد أن يصنع قصيدة ، أو ينشىء رسالة ـ وقد فاته هذا العلم ـ مزج الصفو بالكدر ، وخلط الغرر بالعرر (١) ، واستعمل الوحشي العكر ، فجعل نفسه مهزأة للجاهل وعبرة للعاقل.

وإذا أراد أيضا تصنيف كلام منثور ، أو تأليف شعر منظوم ، وتخطي هذا العلم ساء اختياره له ، وقبحت آثاره فيه ، فأخذ الرديء المرذول ،

__________________

(١) الغرر : جمع غرة ، وهي النفيس من كل شيء. والعرر : جمع عرة ، وهي القذر.

١٠

وترك الجيد المقبول ، فدل على قصور فهمه ، وتأخر معرفته وعلمه. وقد قيل : اختيار الرجل قطعة من عقله ، كما أن شعره قطعة من معرفته وعلمه».

وحسبنا هذا القدر من كلام أبي هلال العسكري للدلالة على أهمية علم البلاغة وأحقيته بالتعلم.

أوليات البديع :

وإذا انتقلنا من هذا التمهيد إلى علم البديع أحد علوم البلاغة العربية فإننا نلتمس أوليات هذا العلم في محاولة قام بها شاعر عباسي من أبناء الأنصار أولع بالبديع في شعره واشتهر بإجادة المدح من مثل قوله في مدح يزيد بن مزيد :

تلقى المنية في أمثال عدتها

كالسيف يقذف جلمودا بجلمود

تجود بالنفس إن ضن الجواد بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وقوله أيضا :

موف على مهج في يوم ذي رهج

كأنه أجل يسعى إلى أمل

ينال بالرفق ما تعيا الرجال به

كالموت مستعجلا يأتي على مهل

هذا الشاعر هو صريع الغواني مسلم بن الوليد الأنصاري المتوفى سنة ٢٠٨ هجرية ، فقد وضع مصطلحات لبعض الصور البيانية والمحسنات اللفظية والمعنوية من مثل الجناس والطباق.

ثم نلتقي من بعده بأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» والمتوفى سنة ٢٥٥ ه‍ ، فهذا الكتاب وإن اشتمل على كثير من الفوائد والخطب الرائعة والأخبار البارعة ، وأسماء الخطباء والبلغاء ، مع بيان أقدارهم في البلاغة والخطابة ، إلا أن الإبانة عن حدود

١١

البلاغة وأقسام البيان والفصاحة تأتي مبثوثة في تضاعيفه ، منتشرة في أثنائه ، فهي ضالة بين الأمثلة ، لا توجد إلا بالتأمل الطويل والتصفح الكثير.

وقد أشار الجاحظ إلى البديع بقوله : «والبديع مقصور على العرب ، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة ، وأربت على كل لسان ، والشاعر الراعي كثير البديع في شعره ، وبشار حسن البديع ، والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار» (١).

وكلمة البديع عنده تعني الصور والمحسنات اللفظية والمعنوية وإن كان لم يوضحها توضيحا دقيقا ، ومع تعرضه لبعض أنواع البديع فإنه لم يحاول وضع تعريفات ومصطلحات لها ، لأن اهتمامه عند الكلام عنها كان بتقديم الأمثلة والنماذج ، لا بوضع القواعد.

ابن المعتز :

ولعل أول محاولة علمية جادة في ميدان علم البديع هي تلك المحاولة التي قام بها خليفة عباسي ولي الخلافة يوما وليلة ثم مات مقتولا وقيل مخنوقا سنة ٢٩٦ هجرية.

هذا الخليفة هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد ، والمولود سنة ٢٤٧ هجرية. لقد كان شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر ، سهل اللفظ ، جيد القريحة ، حسن الإبداع للمعاني ، مغرما بالبديع في شعره ، وبالإضافة إلى ذلك كان أديبا بليغا مخالطا للعلماء ، والأدباء معدودا من جملتهم ، وله بضعة عشر مؤلفا في فنون شتى وصل إلينا منها : ديوانه ، وطبقات الشعراء ، وكتاب البديع.

__________________

(١) البيان والتبيين ج ٤ ص ٥٥.

١٢

وإذا كان عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ للهجرة وصاحب كتابي : «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» هو واضع نظرية علم البيان وعلم المعاني فإن عبد الله بن المعتز هو واضع علم البديع ، كما يفهم ذلك من كتابه المسمى «كتاب البديع» الذي ألفه سنة ٢٧٤ للهجرة. ويبدو أنه ألف هذا الكتاب ردا على من زعم من معاصريه أن بشار بن برد ومسلم بن الوليد الأنصاري وأبا نواس هم السابقون إلى استعمال البديع في شعرهم.

وعن ذلك يقول في مقدمة كتابه (١) : «قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس من تقيّلهم (٢) وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه».

«ثم إن حبيب بن أوس الطائي «أبا تمام» من بعدهم شغف به حتى غلب عليها وتفرع فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض ، وتلك عقبي الإفراط وثمرة الإسراف. وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة ، وربما قرئت من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت بديع ، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرا ، ويزداد حظوة بين الكلام المرسل».

«وقد كان بعض العلماء يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد

__________________

(١) كتاب البديع لابن المعتز ص ١.

(٢) تقيلهم : حاول التشبه بهم.

١٣

القدوس (١) في الأمثال ، ويقول لو أن صالحا نثر أمثاله في شعره وجعل بينها فصولا من كلامه لسبق أهل زمانه ، وغلب على مد ميدانه. وهذا أعدل كلام سمعته في هذا المعنى».

وفي موضع آخر يشير إلى غرضه من تأليف كتاب البديع فيقول :

«وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع» (٢). وفي موضع ثالث يشير إلى أنه أول من نظم وجمع فنون هذا العلم فيقول : «وما جمع فنون البديع ولا سبقني إليه أحد ، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين» (٣).

والمتصفح لكتاب البديع يجد أنه يشتمل أولا على خمسة أبواب يتحدث فيها ابن المعتز عن أصول البديع الكبرى من وجهة نظره وهي :

الاستعارة ، والجناس ، والمطابقة ، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها ، أما الباب الخامس من البديع فهو ـ كما يقول ـ «مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي. وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا ، وهو ينسب إلى التكلّف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (٤). وليس عدم علمه مانعا علم غيره ، ولم يستشهد عليه بأعظم من شواهد القرآن.

وينبه ابن المعتز في كتابه على أنه اقتصر بالبديع على الفنون الخمسة السابقة اختبارا من غير جهل بمحاسن الكلام ولا ضيق في المعرفة ، ولهذا فمن أحب أن يقتدي به ويقتصر بالبديع على تلك الخمسة فليفعل.

__________________

(١) شاعر عباسي ، من حكماء الشعراء ، أمر المهدي بقتله وصلبه على جسر بغداد سنة ١٦٧ ه‍. لزندقته.

(٢) كتاب البديع ص ٣.

(٣) نفس المرجع ص ٥٨.

(٤) كتاب البديع ص ٥٣.

١٤

ورغبة منه في أن تكثر فوائد كتابه للمتأدبين أتبع هذه الفنون الخمسة التي اعتمدها أصولا لعلم البديع ، بذكر ثلاثة عشر فنا بديعيا هي : ١ ـ الالتفات ، ٢ ـ اعتراض كلام في كلام لم يتمم الشاعر معناه ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد ، ٣ ـ الرجوع ، ٤ ـ حسن الخروج من معنى إلى معنى ، ٥ ـ تأكيد المدح بما يشبه الذم ، ٦ ـ تجاهل العارف ، ٧ ـ هزل يراد به الجد ، ٨ ـ حسن التضمين ، ٩ ـ التعريض والكناية ، ١٠ ـ الإفراط في الصفة «المبالغة» ، ١١ ـ حسن التشبيه ، ١٢ ـ إعنات الشاعر نفسه في القوافي وتكلفه من ذلك ما ليس له ، وهو ما عرفه البلاغيون المتأخرون بلزوم ما لا يلزم من القوافي ، ١٣ ـ حسن الابتداءات.

وقد ذكر أن هذه الأنواع الثلاثة عشر هي بعض محاسن الكلام. والشعر «ومحاسنها كثيرة لا ينبغي للعالم أن يدعي الإحاطة بها حتى يتبرأ من شذوذ بعضها عن عمله وذكره» (١). فإذا أضفنا إلى ذلك أصول البديع الخمسة كان معنى ذلك أن ابن المعتز ، قد اخترع ثمانية عشر نوعا من أنواع البديع.

هذا وليس في كتاب ابن المعتز ذكر لباحث قبله في قضايا البديع سوى الأصمعي الذي قال إن له بحثا في الجناس ، وسوى الجاحظ الذي قال إنه أول من سمى «المذهب الكلامي» (٢) باسمه.

__________________

(١) كتاب البديع ص ٥٨.

(٢) المذهب الكلامي : أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام لأن علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة. مثل (لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا) ـ فهذا دليل قاطع على وحدانية الله ، وتمام الدليل أن تقول : لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله.

١٥

وكأني به وقد بدأ المحاولة الأولى في وضع علم البديع أدرك أن هناك من قد يقلل من شأن هذه المحاولة أو يغير في بعض المصطلحات التي اختارها ، أو يزيد في بعض الأبواب ، أو يأخذ عليه تقصيرا في تفسير بعض الشواهد الشعرية التي استدل بها. ومن أجل هذا يقول : «ولعل بعض من قصر عن السبق إلى تأليف هذا الكتاب ستحدثه نفسه وتمنيه مشاركتنا في فضيلته فيسمى فنا من فنون البديع بغير ما سميناه به ، أو يزيد في الباب من أبوابه كلاما منثورا ، أو يفسر شعرا لم تفسره ، أو يذكر شعرا قد تركناه ولم يذكره ، إما لأن بعض ذلك لم يبلغ في الباب مبلغ غيره فألقيناه ، أو لأن فيما ذكرناه كافيا ومغنيا. وليس من كتاب إلا وهذا ممكن فيه لمن أراده ، وإنما غرضنا في هذا الكتاب تعريف الناس أن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شيء من أبواب البديع ، وفي دون ما ذكرنا مبلغ الغاية التي قصدناها» (١).

والخلاصة أن ابن المعتز بوضعه كتاب البديع قد قام بالمحاولة الأولى في سبيل استقلال هذا العلم البلاغي وتحديد مباحثه التي كانت من قبل مختلطة بمباحث علم المعاني وعلم البيان ، كما لفت أنظار الناس إلى أن البديع كان موجودا في أشعار الجاهلية وصدر الإسلام ، ولكنه كان مفرقا يأتي عفوا ، ثم جاء الشعراء المحدثون من أمثال بشار ومسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي تمام فأكثروا منه في أشعارهم وقصدوا إليه.

وكان مما استحدثه ابن المعتز في كتابه أيضا وضع مصطلحات لأنواع البديع في زمنه ، ونقد ما أتي معيبا من كل نوع.

وتلك بلا شك محاولة علمية جادة تلقفها البلاغيون والنقاد من بعده

__________________

(١) كتاب البديع ص ٢ ـ ٣.

١٦

وأضافوا إليها ما استكملوا به مباحث هذا العلم وقضاياه ، كما سنرى فيما بعد.

قدامة بن جعفر :

ومن النقاد الذين تلقفوا محاولة ابن المعتز العلمية في علم البديع وأضافوا إليها معاصره قدامة (١) بن جعفر في كتابه «نقد الشعر». وقدامة هذا كان نصرانيا ثم اعتنق الإسلام في أواخر القرن الثالث الهجري ، وتوفي سنة ٣٣٧ للهجرة في أيام الخليفة العباسي المطيع لله. وقد درس فيما درس الفلسفة والمنطق وتأثر بهما تفكيرا ومنهجا في كل مؤلفاته التي بلغت أربعة عشر كتابا في موضوعات شتى من الأدب وغيره.

وإذا كان ابن المعتز قد قصر كتابه على علم البديع ، فإن كتاب قدامة كان في نقد الشعر بصفة عامة ، وجاء تعرضه فيه للمحسنات البديعية كعنصر من العناصر التي منها تألف منهاجه في نقد الشعر.

والمحسنات البديعية التي أوردها قدامة في تضاعيف كتابه «نقد الشعر» بلغت أربعة عشر نوعا. وهذه على حسب ترتيب ورودها في الكتاب : الترصيع ، الغلو ، صحة التقسيم ، صحة المقابلات ، صحة التفسير ، التتميم ، المبالغة ، الإشارة ، الإرداف ، التمثيل. التكافؤ ، التوشيح ، الإيغال ، الالتفات ..

ومن هذه المحسنات ما التقى فيها مع ابن المعتز مع اختلاف في التسمية الاصطلاحية فقط. فالتتميم ، والتكافؤ ، والتوشيح عنده هي عند ابن المعتز على التوالي : الاعتراض ، والطباق ، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها. وهناك محسنان يلتقيان فيهما ويتفقان على تسميتهما وهما :

__________________

(١) انظر ترجمة حياته في معجم الأدباء لياقوت ج ١٧ ص ١٢.

١٧

المبالغة ، والالتفات ، وإن كان قدامة قد خص الأخير بشق واحد من شقي «الالتفات» عند ابن المعتز.

وإذا كان الاثنان قد التقيا في خمس محسنات بديعية ، مع اختلاف في تسمية بعضها واتفاق في تسمية البعض الآخر ، فإن قدامة يكون في الواقع قد اهتدى إلى تسعة أنواع جديدة من أنواع البديع ، هي : الترصيع ، والغلو ، وصحة التقسيم ، وصحة المقابلات ، وصحة التفسير ، والإشارة ، والإرداف ، والتمثيل ، والإيغال.

وبعد فقد سمى قدامة كتابه «نقد الشعر» فهل نستطيع حقا أن نعتبره هو وكتاب «البديع» لا بن المعتز من كتب النقد؟.

وإجابة على السؤال نقول : على الرغم من التسمية فإن الكتابين بعيدان عن النقد الذي هو فن دراسة الأساليب ، وأقرب إلى أن يكون كلاهما كتابا علميا يرمي إلى إيضاح مبادىء ، واستنباط أنواع من البديع ، ووضع تقسيمات. وكل ما يمكن قوله إنهما يمدان الناقد بعنصر من العناصر التي تعينه في عملية نقد العمل الأدبي وإصدار الحكم عليه.

أبو هلال العسكري :

ثم ظهر في القرن الرابع مع قدامة وعاش بعده أكثر من نصف قرن عالم آخر ، هو أبو هلال العسكري ، الذي حاول في واحد من أهم مؤلفاته ، وأعني به كتاب «الصناعتين ـ الكتابة والشعر» أن يحقق هدفين.

أحدهما أن يتم في توسع ما بدأه قدامة من بحث صناعة الشعر ونقده ، سالكا في ذلك ـ كما يقول ـ مذهب صناع الكلام من الشعراء والكتاب لا مذهب المتكلمين والمتفلسفة كما فعل قدامة.

أما ثاني الهدفين ، فهو ألا يقف بالبحث الأدبي عند حد الشعر ، وإنما

١٨

يتعداه ـ غير مسبوق في هذا الباب ـ إلى بحث صناعة الكتابة أو النثر بصفة عامة ، فليس الأدب شعرا فحسب ، وإنما هو شعر ونثر معا.

وأبو هلال هذا هو الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري ، نسبة إلى مدينة «عسكر مكرم» من كور الأهواز بين البصرة وفارس. وكان من أبنائها علماء أعلام خدموا الثقافة العربية وأضافوا إليها ما لديهم من معرفة.

ومن هؤلاء العلماء أبو أحمد العسكري (١) المحدث (٢٩٣ ـ ٣٨٢ ه‍) وأبو هلال العسكري الأديب ، صاحب كتاب «الصناعتين» ، والأول خال الثاني وأستاذه.

وقد غلب الأدب والشعر على أبي هلال العسكري إنتاجا وتأليفا ، وكتبه المنشورة بين الناس تدل على تمكنه من علوم العربية أو علوم الأدب الثمانية ، وأعني بها : اللغة ، والنحو ، والصرف ، والعروض ، والقوافي ، وصنعة الشعر ، وأخبار العرب ، وأنسابهم.

وهذه العلوم عند الأقدمين لم تكن تعني «الأدب» وإنما تعني أنها لازمة لثقافة الأديب ، ولحاجة الأديب إليها في تكوينه عدوها من الأدب ..

ولا ريب في أنه بمقدار جهل الأديب بأي من هذه العلوم يكون نقصه في الأدوات التي تؤهله بتمكن لممارسة الأدب في أية صورة من صوره.

ومؤلفات أبي هلال العسكري لا تدل على تبحره في علوم العربية ، فحسب ، وإنما تدل أيضا على غزارة إنتاجه وتنوعه ، فقد خلف لنا عشرين

__________________

(١) انظر ترجمة أبي أحمد وأبي هلال في معجم الأدباء لياقوت ج ٨ ص ٢٢٣ ـ ٢٦٧.

١٩

كتابا عالج فيها ، كما يفهم من أسمائها ، موضوعات شتى في اللغة والأدب والبلاغة والنقد والتفسير ، وكلها تنم عن نوع ثقافته وثقافة العصر الذي عاش فيه.

على أن ما انتهى إلينا من إنتاجه لم يزد حتى الآن على ثلاثة كتب هي : «كتاب الصناعتين ـ الكتابة والشعر» ، وكتاب «ديوان المعاني» من جزأين ، وكتاب لغوي اسمه «المعجم في بقية الأشياء» ، أما بقية كتبه فلا يزال الموجود منها مخطوطات في مكتبات العالم ، تنتظر من يتوفر على تحقيقها ونشرها.

أبو هلال العسكري إذن كان في عصره إماما في العلم والأدب ، إماما وعى كثيرا من معارف سابقيه وأضاف إليها ، وأثر بها فيمن جاء بعده. ولئن كانت أجيال كثيرة تتلمذت عليه في حياته ، فإن أجيالا أكثر وأكثر ظلت على توالي العصور وإلى اليوم تتلمذ من بعده على آثاره العلمية التي تميزت بالأصالة.

ولكن لعل من العجيب المؤلم حقا أن مثله لم يكن بليغا في حياته الخاصة بمقدار ما كان بليغا في حياته العلمية. فهو على ما كان له من قدم راسخة في العلم وولاء له ، واشتغال دائم به ، قد قضى حياته مغمورا خامل الذكر مضيقا عليه في الرزق ، يلتمسه من احتراف البزازة وبيع الثياب في الأسواق!.

مفارقة عجيبة إذن بين ما كان عليه من غنى علمي وفقر مادي ، وقد دفعه تناقض الأحوال هذا إلى السخط ، السخط على نفسه ، وعلى الدنيا التي تختل فيها موازين العدل بين الناس. ومن ثم لا يجد أمامه ما يفزع إليه غير الشعر يبث إليه ذات نفسه ، ويفضي إليه بهمومه ، ويعبر فيه عن سخطه ، فيقول :

٢٠