تأسيس الغرب الإسلامي

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

١
٢

٣
٤

تقديم

هذا الكتاب مجموعة مقالات نشرت منذ مدّة طويلة في مجلّات استشراقية أو تاريخية من مثل Studia Islamica وAnnales ، وكذلك كراريس تونس باللّغة الفرنسيةCahiers de Tunisie. وقد أعان على ترجمتها إلى العربية تلميذاي الدكتور عبد الحميد الفهري والدكتورة حياة عمامو ، إلّا أنّي راجعت الترجمة أو أعدتها ، وفي بعض الفصول أعدت كتابتها مباشرة وأضفت إضافات عديدة. وهي دراسات قمت بها في فترة الشباب واعتمدت فيها منهاجا صارما بعد إطلاع دقيق على المصادر وعلى كلّ ما كتب في الموضوع.

وإنّي أعجب الآن من هذه السعة في الإطلاع التي لعلّني لم أعد قادرا عليها. وأعجب أكثر من أنّ هذه الدّراسات الستّ الغزيرة المكثفة لم تجلب آنذاك وبعد ذاك أيّ اهتمام سوى اهتمام بعض كبار المؤرّخين من مثل روبير برانشفيك Robert Brunschvig ، وحسن حسني عبد الوهّاب وجورج دوبي Gorges Duby ، وقد اطّلعت على بعضها باتريشيا كرونه Patricia Crone وذكرتها كمرجع في إحدى كتبها. أما في المغرب والمشرق العربيين فلم تجد أيّ صدى.

وهذا في الحقيقة أمر مستغرب يشدّ الإنتباه ، لأنّ الفترة المدروسة هنا فترة مفصلية وهي لم تدرس من قبل. حقّا لقد نشر حسين مؤنس كتابا مفصّلا عنوانه فتح العرب للمغرب ، لكنّ هذا البحث مطوّل أكثر ممّا يلزم ، وبالتالي فهو عمل غير نقدي ويؤمن بكلّ ما تأتي به المصادر فيمطّط معلوماتها. وخلافا لذلك ، فقد كتب برانشفيك مقالا حول كتاب ابن عبد الحكم فتوح مصر والمغرب ، وأبدى تحفّظات شديدة

٥

حول هذا المصدر إلى درجة نفي كلّ قيمة عن رواياته. وكلّ هذا وذاك يصبّ في بحر الفتوحات للمغرب وليس في ما هو أهمّ ، أعني تطوّر هذا المغرب والغرب الإسلامي عامّة ـ بما في ذلك الأندلس ـ في فترة تنظيمه من طرف الفاتحين وإرساء مؤسّساتهم. فلو اعتبرنا أنّ المغرب كلّه ، من طرابلس إلى المحيط ، تمّ فتحه الكامل مع موسى بن نصير حوالى ٨٦ ه‍ ، والأندلس حوالى ١٠٠ ه‍ ، فقد بقي قرابة القرن حتّى تبرز الدولة الأغلبية ١٨٤ ه‍ ، وأقلّ بقليل حتّى ظهور الدولة الإدريسية في المغرب الأقصى.

فماذا جرى في هذه الآونة ، أي خلال قرن من التاريخ؟ لقد تمّت فيه أسلمة المغرب وإقحامه نهائيا في مجرى التاريخ الإسلامي. ولم يقم المؤرّخون في هذا المضمار بأيّة دراسة ، على أنّ مصادرنا تحوي معلومات مهمّة ومكثّفة إلى حدّ ما. والمدرسة الفرنسية التي اهتمّت بتاريخ المغرب الإسلامي في المنتصف الأوّل من القرن العشرين لم تنتج إلّا دراستين دقيقتين حول إفريقية الحفصية (Brunschvig) والمغرب الإدريسي (Le Tourneau) ، فيما أن البحوث كانت معمّقة ومتكاثرة بخصوص العهد الروماني. وقد قامت المدرسة التونسية والمدرسة المغربية بسدّ الثغرة بعد الإستقلال مع محمّد الطالبي وفرحات الدشرواي ، وفي السنين الأخيرة مع محمّد حسن الذي أعاد النظر في العهد الحفصي مع تعمّق في دراسة البنى الإقتصادية والاجتماعية. ويمكن أيضا ذكر مؤرّخ تونسي ـ فرنسي هو روجيه هادي إدريس الذي بحث قبل الإستقلال في إفريقية الزيرية ، وهو يحسب عادة على المدرسة الفرنسية. أما في المغرب الأقصى ، فعلينا بذكر عبد الله العروي الذي كتب كتابا نقديا تركيبيا لكلّ تاريخ المغرب ، ومحمد القبلي الذي تعمّق في دراسة المغرب الأقصى الإسلامي «الوسيط».

وهكذا لدينا الآن ومنذ أكثر من نصف القرن عدد من الدراسات

٦

التاريخية استهدفت الرقعة المغربية كتب أغلبها بالفرنسية وترجم البعض منها إلى العربية ، كما لدينا دراسات مكثّفة عن إسبانيا الإسلامية سواء بالفرنسية أو بالإسبانية وحتّى بالعربية. وعند ما كتبت ونشرت مقالاتي عن المغرب زمن الفتح وبعد الفتح ، لم تكن كما ذكرت توجد دراسات معمّقة حول هذه الفترة. وحقيقة الأمر أنّ المصادر كانت شحيحة في هذا المضمار ، وكان يجب على المؤرّخ أن يقوم بإعمال الفكر وأن يستنبط ويستنتج وكذلك أن يقارن بما كان يجري في القرنين الأوّل والثاني في المشرق ، أي في المركز آنذاك. وقد أسعفني الحظّ إذ كنت أشتغل كثيرا على التاريخ الأموي والعبّاسي الأوّل بهدف إعداد رسالتي عن الكوفة. وكان هذا أساسيا حيث لم يكن بالإمكان أن يتناول المؤرّخ دراسة المؤسّسات الحكومية والاجتماعية من دون سابق معرفة بالتنظيمات العربية في المشرق ، شريطة أن يجد لذلك سندا في المصادر المغربية ولو بالإشارة الطفيفة. وهكذا أعتقد أنّ دراستي للمؤسّسات لا بد وان تكون نافعة للمهتمّ بتاريخ المغرب خصّيصا ، كما للمهتمّ بالمؤسسات الإسلامية في البلاد المفتوحة بصفة عامّة. والتّاريخ ـ وهو علم الثقافة كما يقول ماكس فيبر مناقضة لعلوم الطبيعة ـ يتجه اليوم بالأساس إلى البحث في المؤسّسات والبنى الإقتصادية والاجتماعية والمعتقدات الدينية والنشاطات الثقافية بالمعنى الحصري ، من دون إهمال الدينامية السياسية ومن دون الإجحاف في التحليل التجريدي. هذا ما قمت به في هذا الكتاب ، وهذا ما قمت به في كتاب الفتنة وغيره من المؤلّفات.

إنّ المستشرقين ومن بعدهم المسلمين نشروا الكثير من المصادر ، لكن لم يستغلّوها كما يجب في استقرائهم للتاريخ الإسلامي ، خصوصا في عهوده الأولى. ومن جملة الأسباب التي قدّموها أنّ المصادر التي لدينا لا يمكن الاعتماد عليها ، فهي إمّا بعيدة عن الفترات الأولى زمنيا وإمّا منحازة. لكنّ مثل هذه النّظرة تعطّل البحث العلمي الذي عليه مع ذلك أن يتسلّح بسلاح النقد الحصيف. إنّ المستشرقين قاموا بمجهودات

٧

لا تنكر ولم تعرف بعد ، ذلك أنّ أفضلهم كانوا علماء بحّاثين اشتغلوا في زمن كان البحث التاريخي والفيلولوجي في أوروبا له مقام رفيع ، فيما بين ١٨٦٠ و ١٩٦٠. أمّا الجوّ عندنا منذ خمسين سنة مضت ، فليس مستعدا لتقبّل المجهود العلمي ، لا في التاريخ ولا في الفيزياء ولا في الكيمياء ولا في السوسيولوجيا ، والهمّة العلمية واحدة كما هو بديهي. ولذا فقد يعتبر القارئ أنّ هذا العمل دقيق ومملّ ، وهو فعلا ليس مجعولا للترفيه بل لاستكشاف حقائق موجّهة إلى الرابطة العلمية العالمية. بقي أنّ المفترض أنّ تاريخ رقعة محدّدة زمنيا وفضائيا يهتمّ به قبل كلّ أحد أبناء هذه الرّقعة من العلماء والمثقفين لأنه يمسّهم عن قرب ، ولأن التاريخ ليس كالكيمياء المحايدة والمتجهة نحو الطبيعة الجامدة ، إنما لا يكون علما إلّا بالمنهجية والصرامة والدقّة.

كلمة نهائية الآن عن مفهوم «الغرب الإسلامي». بالنسبة للمؤرّخين الأوائل ، الغرب الإسلامي يبتدئ من مصر ويحويها ، وهو يناقض مفهوم الشرق الذي يبتدئ من خراسان ويتجه صوب بلاد ما وراء النّهر الشاسعة إلى تخوم الصين. أمّا القلب فمن الواضح أنه كان يضمّ الجزيرة العربية والشام والعراق حيث انطلقت الدعوة وتركزت الخلافة الأولى والثانية والثالثة. وهكذا أقحمت مصر في دراستي للمصادر المكتوبة ، كما أقحمت إفريقية الإسلامية جنوب الصحراء التي تأسلمت قبل العصر الحديث كما هو معروف.

إن كلّ هذا الفضاء الشاسع الإفريقي يمثّل إذن الغرب الإسلامي ، وإن إسبانيا إلّا في الواقع الجغرافي والمناخي ليست إلّا جزءا من إفريقية. وهو أيضا في بعض أقسامه وقبل دخوله في بوتقة الإسلام ، كان في أخذ وردّ بين الشمال والجنوب ، بين المتوسّط والصحراء ، وله تاريخ عريق يرجع إلى خمسة آلاف سنة في مصر ، وإلى ثلاثة آلاف في المغرب. لكنّ الغزو العربي والإسلام طبعا هذه الرّقعة بطابع قوي ودائم ، ولم يكن ذلك ممكنا لو لا مؤسّسات قويّة خلقت تقليدا سياسيا متماسكا على مرّ القرون

٨

وإمبراطورية سميكة ؛ ولو لا جاذبية الإسلام بالنسبة للبربر خصّيصا ؛ وأخيرا وبعد تفكّك الإمبراطورية ، لو لا استعداد هذه البلدان لاسترجاع استقلاليتها وكيانها مع البقاء داخل حضارة كبيرة كانت ألمع حضارات العهد الوسيط فيما بين العالم القديم والعالم الحديث ، لمدّة ألف سنة من التاريخ.

٩
١٠

I

الفتح العربي للمغرب

٢٧ ـ ٨٦ ه‍ / ٦٤٧ ـ ٧٠٥ م

١١
١٢

بعد قرن من انتهاء إعادة الغزو البيزنطي (١) ، عرفت البلاد التونسية مجددا الغزو ، فدخلت منذ ذلك الوقت في مرحلة جديدة وحاسمة من تاريخها. على خلاف الاحتلال القندالي ، سيستغرق الفتح العربي ، بالفعل مدة أطول ، ويتجذّر بعمق ، ولكن ليس دون صراع مرير في البلاد ، سيوجّه أفريكاAfrica إلى مصير آخر. فلم يقع إدماج الولاية على المستوى السياسي دفعة واحدة فقط ـ بعد أن وقع اقتلاعها من الإمبراطورية البيزنطية ـ ولمدّة طويلة في فعل البناء الإمبراطوري العربي ، ولكن على المستوى الأكثر عمقا للحضارة أيضا ، إذ دعيت إلى تحمّل تحوّل كبير في بعض الأحيان وأليم ، لتدخل بذلك نهائيا في مدار الثقافة العربية الإسلامية.

إذن ، إذا تأكّدت تأثيرات هذه الفترة ـ ولمدّة طويلة ـ على التطور الحقيقي لتونس بوصفها الأكثر جوهرية ، فإنه من الخطأ الفادح ـ في نظرنا ـ أن نسقط من اعتبارنا الخلفية الكونية التي قام على أساسها الفتح العربي في إفريقية. هكذا تظهر تونس مجددا ، عمق تضامنها مع الاضطرابات الكبيرة التي يمكن أن تهز العالم المتحضر.

I ـ المرحلة الاستكشافية بعد التوسّع

(٢٢ ـ ٥٠ ه‍ / ٦٤٢ ـ ٦٧٠ م)

تنضوي حركة الفتح في انطلاقة الإسلام التوسعية التي قوّضت الدولة الساسانية ، وجردت بيزنطة ، وريثة روما ، في توجّهها الإمبراطوري ، من ولاياتها الشرقية. بالرغم من هذه الخسارة

__________________

(١) ورد في :Histoire de la Tunisie : Le Moyen Age. Tunis, S. T. D.) S. d (ch. ١

١٣

الجسيمة ، نجحت الإمبراطورية البيزنطيّة في الحفاظ على وجودها ، لكنها بقيت مع ذلك مهددة ومطوّقة ، ممّا سيجعلها تتحمل لقرون طويلة الضغط العربي الذي أرضخها ولكنه لم يقض عليها تماما. يتوجّب في إطار هذه الثنائيّة وضع جذور الفتح العربي لتونس ، انتشاره وحتى أسلوبه.

لقد ظهر بجلاء ـ أولا ـ أنّ فتح إفريقية كان النهاية المنطقية لفتح مصر ، وأن هذه هيأت لتلك.

دخل عمرو بن العاص سنة ٦٤٢ م منتصرا إلى الإسكندرية ، ثم بعث جيوشه إلى برقة وآنطابلس ، فأخضعت بسرعة قبيلة لواتة البربرية. وتقدمت هذه الجيوش في اتجاه زويلة في الصحراء ، وحتى في اتجاه طرابلس. وفي سنة ٦٤٦ م ، كان عليه ، مع ذلك ، استرجاع الإسكندرية من بين أيدي البيزنطيين الذين أطرد جيشهم الإمبراطوري بقيادة مانويل Manuel ، بعد أن هزمه. يعني أنه وفي هذا الرّدح الزمني الذي يمتد على خمس أو ست سنوات (من ٢١ إلى ٢٦ ه‍) ، كان النشاط العسكري العربي مكثّفا في مصر وعلى الساحل الليبي ، وأنه لم يمكن اعتبار الاستيلاء على مصر أمرا مؤكّدا ونهائيا إلا سنة ٦٤٦ م.

لقد حدثت ـ والحالة هذه ـ أول غارة في قلب إفريقية سنة ٢٧ / ٦٤٧ ، وهو ما يعني أن نشاط العرب العسكري في هذه الولاية جاء ليستأنف مباشرة المشروع المصري ، وبالتالي فإنه لا يوجد حد لمواصلة التمشّي العربي في اتجاه الممتلكات المتوسطية الغربية لبيزنطة.

ولكن ، لم يكن عمرو ، الذي عوّضه عبد الله بن سعد بن أبي سرح على رأس مصر ، هو الذي أولى العناية لتحضير حملة إفريقية وتنظيمها. لقد مثّلت مصر القاعدة الأساسية التي انطلقت وما زالت تنطلق منها الهجومات ، فهي توفّر أغلبية الجنود والأموال والقادة الضروريين. إلى جانب كلّ هذا ، ينضاف ـ بالنسبة إلى الحملة الأولى ـ نواة على جانب من الأهمية ، من البدو المنتمين إلى المناطق القريبة من المدينة مثل قبائل جهينة ومزينة وسليم وأسلم خاصّة ، فضلا عن حضور هائل عددا

١٤

وكيفا لأبناء الصحابة الأكثر شهرة. تحرص المصادر على إعطائنا الصورة الأكمل عن فخامة بدايات حركة الفتح ، فالخليفة عثمان سهر بنفسه على تجميع العناصر الأولى لمعسكر «الجرف» ، قرب المدينة ، بعناية كبيرة.

مع شيء من الاحتراز ، يبدو لنا أنّ هذه الرواية لا يجب استبعادها ، لأن مشروع إفريقية كان عمل عثمان الخاصّ ، ولذلك يجب أن يكون الأمر مهمّا جدا بالنسبة إليه.

من جانب آخر ، إذا بدأ فتح إفريقية كامتداد منطقي لفتح مصر ، فقد كان له ، مع ذلك ، معنى مستقلّ على الأقل باعتبار أن إفريقية ، كانت تمثل وحدة إدارية ثابتة. لقد كانت كذلك لا سيما في تلك الفترة ، التي برزت خلالها حركة استقلالية ساندتها الأرثوذوكسية المعادية بعمق للسياسة الدينية التوحيدية للحكومة الإمبراطورية. ستتجسّد هذه الحركة سنة ٦٤٦ بانفصال إكسرخس والي قرطاج غريغوار (جرجير) ، الذي ذهب إلى حد أخذ لقب الإمبراطور.

هل أوّل العرب هذه التمزقات الداخلية على أساس أنها علامة ضعف؟ وهل كانوا بالتالي محدّدين في اختيار الوقت؟ لا يوجد أي شيء مؤكّد ، لأن البطريق عرف واستطاع بحقّ كيف يكوّن حول شخصه إجماعا واسعا ، خاصّة وأن دعم القبائل البربرية لم يغب عنه ، ولكي يتقرّب منها أكثر ، عزم على التنقّل إلى سفّاطلة (سبيطلة) واستقر بها.

وليس بعيدا عن هنا حدثت المواجهة بين الجيش العربي وجيش جرجير ، وحسب المصادر العربية ، يجب أن يتموضع المكان المسمّى عقوباء ـ بالتّدقيق ـ على الطريق التي تربط حضرموت (سوسة) بسبيطلة على بضع ٨٠ كلم من العاصمة الجديدة. لقد شهدت المعركة المعروفة بمعركة سبيطلة (٢٨ ه‍) ، انسحاق البيزنطيين وجموع البربر المساندين لهم. فقد قتل جرجير هو نفسه ، ولم تفلت المدينة من النّهب. لقد وضعت هزيمة البطريق واختفاؤه من الساحة السياسية حدّا للانشقاق الإفريقي ، وجعلت أحلامه الإمبراطورية تذهب أدراج الرياح ، إذ ستعود الولاية ، في الحقيقة

١٥

عمّا قريب ثانية ـ على الأقل رسميا ـ إلى أحضان الإمبراطورية. ولكن يكمن المعنى الحقيقي لمعركة سبيطلة في تصدّع الأرض المكشوفة للجيش البيزنطي الإفريقي. إلى جانب أنّها أول مواجهة مهمّة مع العرب ، ستكون معركة سبيطلة أيضا الأخيرة. سيأخذ ، من هنا فصاعدا الصّراع بين الإمبراطوريّتين من أجل حماية الولاية مظهرا غير مباشر ، فيحوّله إلى مقاومة غير فعالة تقريبا ومتفرقة وشديدة الارتباط ـ إن لم نقل تابعة ـ للمقاومة البربرية. بعد انتصارهم ، لم يتوان العرب عن القيام بعمليّات النهب ، إذ كنست فصائلهم بلاد مزاق Byzacene ، وطالت حدود واحات الجريد الثريّة. وتوجّب أخيرا على القادة البيزنطيين أن يقدّموا ثمنا لخروج الغازي العربي تمثّل في غرامة حربيّة ثقيلة قدرت ب ٠٠٠ ، ٥٠٠ ، ٢ دينار أي ٣٠٠ قنطار من الذهب. وهكذا وبعد ١٤ شهرا من الإقامة يأخذ الجيش العربي طريقه إلى مصر.

إن حملة ابن أبي سرح ، بالرغم من أنها كانت غارة نهب ، فقد مثلث البذرة الأولى في مشروع الغزو الطويل. ممّا لا شك فيه ، كان القصد العام للفتح قد وجد في ذهن القادة العرب ، ولكن في هذا العمل الأول ، وجب عليهم الاكتفاء بالحفاظ على غنيمة ضخمة جمعوها بأنفسهم. فضلا عن ذلك ، بدأت الاختلافات تظهر في صلب هذا الجيش ، إذ ستكشف حملة إفريقية بصيغة خاصة عن العيوب العميقة لنظام عثمان العائلي ، وتسلط الضوء على المعارضة القوية ضدّ حكمه.

باختصار ، إنّ حالة عدم الاستعداد للاستقرار الحقيقي للعرب ، ووجود صعوبة في إجبار النظام الدفاعي البيزنطي الذي اهتزّ بقوة في بلاد مزاق ولكنه ظلّ قائما في مواضع أخرى ، والتمزّقات الداخلية في الجيش العربي نفسه ، كل هذا أدّى إلى إيقاف واضح لحملة إفريقية.

دام هذا التخلّي ما يقارب العشرين سنة ، لأن الإسلام دخل بالفعل في مرحلة اضطرابات مثّلت فيها أزمة الخلافة العنصر الأهم.

سيسمح صعود معاوية إلى الحكم سنة ٤١ ه‍ / ٦٦١ م بتجميع القوى

١٦

من أجل استئناف التوسّع الإسلامي على حساب بيزنطة التي وقع تهديدها جديّا من جديد. وعرفت إفريقية في غضون ذلك الوقت فترة من الاضطراب ، فقد استعاد الإمبراطور قسطان الثاني Constant II الإشراف عليها ، غير أن سياسته الدينية التي طبعت بالعنف والفظاظة ضدّ القس مكسيم ـ وهو إفريقي كبير ، وأشهر رجل دين في عصره ـ جعلت الناس ينفرون منه. كما أن الابتزاز الجبائي الذي كان يقوم به ، لم يكن كذلك ليجلب له تعاطف الناس وودّهم. ومن هنا اندلعت الثورة في قرطاج ، واستنجد الثائرون بالخليفة ـ وهو طلب غريب ـ فكانت الفرصة سانحة للعرب من أجل العودة وبقوّة.

من جديد ، تزعّم قائد عربي من مصر هو معاوية بن حديج السّكوني الذي كان من أبرز وجوه الحزب العثماني قيادة الجيش في ٤٥ ه‍ / ٦٦٦ م ، وجاء ليعسكر في بلاد مزاق ، في منطقة القرن ليشع على المناطق المجاورة. حادثان هامّان جاءا ليميّزا هذه الفترة الجديدة ، فمن جهة قاد نيسيفورNicephore إنزالا بيزنطيا إلى المنستير ووقع صدّه ، وتمّ الاستيلاء ، من جهة ثانية ، على مدينة جلولاء في منطقة القيروان. وقد جاء هذا الاستيلاء العنيف كضربة حظّ تميّزت بالمشاركة الفاعلة لعبد الملك بن مروان.

باختصار ، أعادت حملة ابن حديج الأمور إلى ما كانت عليه ـ يعني إلى نقطة البدء ـ في ٦٤٩ م. وقد وقع خلالها الاستيلاء من جديد على بلاد مزاق ونهبها ؛ ثمّ في سنة ٦٦٧ م ، كان التراجع في اتجاه مصر.

فهل هي حملة نهب أم هي سياسة مراحل حذرة؟ لقد تميّزت سياسة الخلافة العسكرية تجاه إفريقية ببطئها وتردّدها ، وبخاصيتها الاستراتيجية إلى حدّ ذلك الحين ، أكثر من البعد الاستيطاني ؛ هذا البعد الذي لم يوجد في ذلك الوقت ، إن لم يكن في الأفعال ، فعلى الأقل في النوايا.

وسيكون فضل تدقيق هذه التوجّهات ومحاولة التغلّب على القدر إلى رجل من طينة الأولياء ، هو عقبة بن نافع.

١٧

II ـ الاستقرار العربي وبدايات المقاومة البربرية

(٥٠ ـ ٦٩ ه‍ / ٦٧٠ ـ ٦٨٨ م)

تأسيس القيروان (٥٠ ـ ٥٥ / ٦٧٠ ـ ٦٧٤)

عند ما أصبح عقبة بن نافع والي إفريقية سنة ٥٠ ه‍ ، كان قد صار رجلا ناضجا ، له من العمر ما يقارب ٥٠ سنة ، ووراءه تجربة عسكرية طويلة نسبيا ، لا سيما وأنه قد قاد حملات على الجنوب الليبي وشارك في الغارات الأولى على إفريقية. لقد فهم عقبة سريعا باعتباره قائدا طموحا ، ومؤسّسا نشيطا ، أنه لا يمكن أن يحدث فتح حقيقيّ دون استقرار في مدينة ـ معسكر ، يعني «مصرا» على غرار ما تمّ إحداثه في المشرق. يمكن القول ، أن مع عقبة ، انبثقت حقا ولاية إفريقية ، حتى وإن ظلت تابعة لبعض الوقت لحكومة الفسطاط. يضاف إلى هذا ، أنّ نفس الشخص ، دشّن نمطا جديدا من العمل ، يتميّز بعزيمة شرسة وذهنية تبشيرية ، لتؤكّد ـ أكثر من ذلك ـ على التوجهات الاستراتيجية الجديدة التي تشمل بلاد المغرب بأكملها.

لقد تأسست القيروان المدينة ـ المعسكر في منطقة قمّونية ، التي مثّلت منذ الغارات الأولى المكان المفضّل لإقامة الجيوش العربية. فمن هنا انطلق الهجوم الأوّلي على سبيطلة ، وهناك عسكر معاوية بن حديج. أفلا تذكر لنا المصادر ، فضلا عن ذلك ، أن عقبة توجّه ، في التحرك الأوّل إلى معسكر مهجور ، بدون شكّ المعسكر الأول لسلفه ، وأنّ الموضع لم يرضه فغادره إلى ما سيصبح موضع القيروان ، الذي بقي مع ذلك في نفس المنطقة.

ينبغي الإشارة هنا ، إلى أن المدينة تأسست في وقت تخلّصت خلاله الزوجيتان Zeugitane ، وهي النصف الشمالي لتونس ، من نفوذ العرب ، وبالتالي فمن هذه الزّاوية ، كان موقع القيروان خاضعا للظروف العسكرية للفتح. ولكن ، ألأنّ عقبة أخذ بعين الاعتبار إخضاع كامل إفريقية لسلطته ، فهو لم يؤسّس مدينته على موقع قرطاج

١٨

المخرّبة؟ لا يمكن للقيروان أن تتطلّع إلى الجنوب والوسط أكثر من الشمال إلّا بوضعها وسط إفريقية. وقد أراد بذلك ـ على الأرجح ـ أن يدير الظّهر للتقاليد الرومانية المسيحية التي ترمز إليها قرطاج. لقد كان «المصر» الجديد إذن تأكيدا على مصير جديد ، وتوجّه جديد أيضا ، سيعبّران عن إرادة الاستقرار النهائي للعرب في أرض إفريقية ، ورفع راية الإسلام بها على قدر المستطاع.

ولكن ، وبصفة مباشرة ، تدخل في اللعبة خاصّة اعتبارات استراتيجية يعني ضرورة أن يكون للجيش العربي قاعدة عمليّات قارة ، وموقع للتراجع في نفس البلاد. لقد أخفى تأسيس القيروان إذن تهديدا ضمنيّا للقبائل البربرية في الغرب مثلما كان ذلك ضدّ الحكومة البيزنطية القائمة. وبالفعل لم يبق عقبة ـ خلال الأربع أو خمس سنوات ـ من إقامته الأولى (٥١ ـ ٥٥ ه‍) عاطلا على المستوى العسكري ، إذ استغلّ سلبيّة البيزنطيّين وضعفهم المرتبط دون شك بحصار القسطنطينية الذي قام به معاوية الأوّل (٤٩ ـ ٥٢) ، ليبعث بغزوات قصيرة المدى في فعلها على ضيعات وأرياف بلاد مزاق. ولهذا أشار الإخباريون العرب والبيزنطيون معا إلى المذابح التي أحدثت في صلب المسيحيّين ـ وخاصّة دون شك في صلب الأفارقة ـ وذكر لنا أنّ البربر ، من شدّة ما أصابهم من الرّعب اعتنق أغلبهم الدّين الجديد. كان كل شيء ، يدل إذن على أنّ قدوم عقبة تزامن مع نوع من التشدّد في الأساليب العربية التي يفسّرها بسهولة عنف الرّجل ووضوح الرّؤية التي كانت لديه عن مهمّته ودوره.

يجب إذن أن ننتظر ردّة فعل قوية من البربر ، الذين أجبروا على التعويل على إمكانياتهم الخاصّة أمام الغياب الكلي للبيزنطيّين.

أبو المهاجر دينار (٥٥ ـ ٦٢ / ٦٧٤ ـ ٦٨١)

لقد كان الرجل الذي سيواصل بنجاح مؤكّد عمل عقبة متجنّبا الاصطدام المباشر والدّموي مع البربر ، على عكس عدوّه المميت. ومن الأكيد أنّ هذه الميزة كان لها دور أكثر من صفته كمولى في إضعاف دوره

١٩

واضمحلال شهرته ، وإن كان هذا الاضمحلال أقل أهميّة في التاريخ الرّسمي منه في المصادر القديمة. وكردّ فعل على هذه النزعة ، لم يتردّد بعض المؤرخين المعاصرين من قلب الأدوار بمنح التفوّق تقريبا في عمل الفتح لأبي المهاجر على حساب عقبة.

سيكون هنا أبو المهاجر الشخص الأول ، الذي ستكون لديه إرادة واضحة في الاستيطان إن لم نقل في الفتح الحقيقي ، فقد كان أول من تجرّأ على القيام بضربات ضد المغرب الأوسط مستعملا سياسة لبقة تسعى إلى أسلمة إفريقية. فهما يتعارضان في سياساتهما وطبائعهما اللّينة من جانب والعنيفة من الجانب الآخر. وبالفعل لم يكن كل شيء خاطئا في ما تسوقه لنا المصادر. فأبو المهاجر يبدو لنا بالفعل كسياسي فطن ، ومسلم صادق. لكن من المؤكد أنه يتوجّب أن يعزى إلى عقبة التوجّه الجديد للفتح الذي لم يكن فيه أبو المهاجر سوى مواصل ليّن وناشط في نفس الوقت. إنه لذو مغزى ، مثلا أن تكون المدينة ـ المعسكر لهذا الأخير ، وهي تكروان التي أراد بفعل الكراهية أن يجعلها منافسة لقيروان عقبة هجرت بعد وقت قصير ، ولم تصمد بعده. ولكن تبقى بعد ذلك الاختلافات في الأسلوب والصراعات الشخصية بين الرجلين. لقد كان الإثنان تحرّكهما نفس النيّة المتمثلة في استقرار متين بإفريقية ، وفي فكرة توسيع الفتح على صعيد كامل المغرب.

هكذا ، نجد ـ على ما يبدو ـ أبا المهاجر في أوج العمل على عيون تلمسان حيث سيؤسّر قائد أوربة كسيلة ، وبعد ذلك وفي سنة ٥٩ ه‍ ، ستقع الإشارة إليه أمام قرطاج. وأخيرا سيتخلّى البيزنطيون في هذا العهد وبمقتضى اتفاق ، للعرب عن شبه جزيرة الوطن القبلي التي سمّوها جزيرة شريك.

حملة عقبة الثانية وظهور المقاومة البربرية (٦٢ ـ ٦٣ ه‍)

عند ما سمّي عقبة من جديد على رأس بلاد المغرب سيشرع في تنفيذ مشروعه الكبير لاختراق المغربين الأوسط والأقصى. وفي هذا الوقت المحدّد ، اندلعت مقاومة بربرية في غاية الحيوية ، فمثّلت عنصرا

٢٠